أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان13%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156742 / تحميل: 12398
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أشهد أن علياً ولي الله

في الأذان

بين الشرعية والابتداع

السيد علي الشهرستاني

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف]

تساؤل يطرح نفسه بين الحين والآخر، وهو: ما هذا الاختلاف في الأذان؟ وهل الذي تؤذّن به الشيعة الإمامية هو الصحيح أم ما يؤذّن به الآخرون؟ ولماذا نرى أذان الآخرين يختلف عن أذان الشيعة الإمامية؟ وأيّهما هو المشروع وأيّهما المبتدع؟

وهل يصح ما قاله الآخرون عن الشيعة من أن أذانهم مبتدع؟ أم أنّه شرعي؟

و إذا كان أذان الإمامية شرعياً، فهل أذّن به رسول الله والإمام علي والأئمّة من ولده أم لا؟

و إذا كانوا قد أذّنوا به، فهل قالوا:(أشهد أن عليّاً ولي الله) تحديداً بهذه الصيغة، أم قالوها بصيغ أُخرى؟

إنه تساؤل مطروح يَبْحَث عن جواب.

ولا يخفى عليك أنّ هذا التساؤل يردُ أيضاً على المذاهب الأربعة وغيرها، فلماذا اختلفت المذاهب الأربعة في صيغ الأذان وعدد فصوله مع اعتقادهم بأنّ الأذان منقول نقلَ كافَّة بمكّة والمدينة والكوفة؟

و إذا كان منقولاً ومنذ عهد الرسول الأعظم، فلماذا تربّع الشافعية التكبير(١) بخلاف المالكيّة القائلة بالتثنية(٢) ؟

بل لماذا لا ترى الحنفية التثويب (= الصلاة خير من النوم) إلاّ بعد أذان

____________________

(١) انظر المهذب لأبي إسحاق الشيرازي ١: ٥٤، والإقناع للشربيني ١: ١٣٩، المجموع ٣: ١٠٠.

(٢) انظر المدونة الكبرى ١: ٥٧، الكافي لأبي عبد البر ١: ٣٧، كفاية الطالب ١: ٣١٨.

٥

الفجر(١) ، في حين تراه المذاهب الأُخرى مشروعاً في أذان الفجر؟ وهكذا الحال بالنسبة إلى إفراد أو تثنية الإقامة عند المذاهب الأربعة، فهم مختلفون في ذلك !!

نعم، قد جمع ابن حزم بين تلك الوجوه بقوله: (... كلُّ هذه الوجوه قد كان يُؤذَّنُ بها على عهد رسول الله بلا شكّ، وكان الأذان بمكّة على عهد رسول الله يسمعه إذا حجّ، ثم يسمعه أبو بكر وعمر، ثمّ عثمان بعده.. فمن الباطل...). إلى أخر كلامه المار ذكره سابقاً(٢) .

هذا بعض الاختلاف في الأذان عند المذاهب الأربعة، وهم ليسوا من الشيعة الإماميّة، فما هو السرّ في هذا الاختلاف في شعار كان يتكرّر بمرأى ومسمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة مراراً عديدة كلّ يوم؟!

والآن فلنقرر السؤال السابق بطرح سؤال آخر، وهو: هل الإمام علي بن أبي طالب ذُكر اسمه في القرآن أم لا؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فأين ذُكِرَ؟ و إن كان بالنفي، فكيف يمكن الاستدلال على إمامته في حين لم ينصّ القرآن على هذا الموضوع المهم؟

لقد نزلت في علي أكثر من خمسمئة آية، وروي عن ابن عباس أنّه قال: ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي(٣) .

وفي آخر عنهرضي‌الله‌عنه أنه قال: نزلت في علي ثلاثمئة آية(٤) .

____________________

(١) المبسوط للسرخسي ١: ١٣٠، تحفة الفقهاء ١: ١١٠، بدائع الصنائع ١: ١٤٨.

(٢) المحلى ٣: ١٥٤، وقد كانت لنا وقفة علمية مع هذا الكلام في الكتاب الأول من هذه الدراسة، والمطبوع تحت عنوان (حي على خير العمل الشرعية والشعارية) الباب الأول ص ١٩.

(٣) تاريخ دمشق ٤٢: ٣٦٣، شواهد التنزيل ١: ٥٢، السيرة الحلبية ٢: ٤٧٤، تاريخ الخلفاء: ١٧١، بحار الأنوار ٣٦: ١١٧، عن كشف اليقين للعلاّمة الحلي: ٣٥٦.

(٤) البداية والنّهاية ٧: ٣٥٩، الصواعق المحرقة ٢: ٣٧٣.

٦

وعن مجاهد، قال: نزلت في علي سبعون آية لم يشركه فيها أحد(١) .

إنّ البحث في خصائص علي وما نزل فيه من الذكر الحكيم كانت من البحوث الشائعة في القرون الثلاثة الحسّاسة: الثالث والرابع والخامس الهجري. فقد ألَّف الحسين بن الحكم بن مسلم الحبري المتوفَّى ٢٨١ هـ كتاباً باسم(ما نزل في القرآن في علي) (٢) .

وكذا إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفَّى ٢٨٣ هـ كتاباً سماه(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) (٣) .

ولابن أبي الثلج البغدادي المتوفَّى ٣٢٥ كتاب بعنوان(أسماء أمير المؤمنين في كتاب الله عزّوجلّ) (٤) .

وكتب عبد العزيز بن يحيى الجلودي المتوفَّى ٣٣٢ هـ(ما نزل في علي من القرآن) (٥) .

ولأبي الفرج الأصفهاني المتوفَّى ٣٥٦ هـ(التنزيل في أمير المؤمنين وآله عليهم‌السلام ) (٦) .

ولمحمد بن عمران المرزباني الخراساني المتوفَّى ٣٧٨ هـ(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) (٧) .

ولأبي نُعَيْم الأصفهاني المتوفَّى ٤٣٠ هـ(ما نزل من القرآن في أمير

____________________

(١) شرح الأخبار ٢: ٥٧٠، ٥٧٤، شواهد التنزيل ١: ٥٢.

(٢) المطبوع باسم تفسير الحبري بتحقيق صديقنا المحقق السيّد محمد رضا الجلالي (حفظه الله تعالى)، وأخبرني سماحته بأنه رجّح في تحقيقه الجديد للكتاب أن وفاته سنة ٢٨١ بدل ٢٨٦ هـ كما هو موجود في تاريخ الإسلام للذهبي ٢١: ١٥٨ وغيره.

(٣) رجال النجاشي: ١٧ / ت ١٩ والذريعة ١٩: ٢٨.

(٤) الذريعة ١١: ٧٥ وانظر ج ١٩: ٢٨ و ٤: ٤٥٤ فقد ذُكر بأسماء أخرى.

(٥) رجال النجاشي: ٢٤١ ت ٦٣٩، الذريعة ١٩: ٢٨. وله كتاب آخر بعنوان:(ما نزل في الخمسة [ أصحاب الكساء ]) انظر ترجمته.

(٦) معالم العلماء: ١٤١، وانظر الذريعة ١٩: ٢٨.

(٧) معالم العلماء: ١١٨، الذريعة ١٩: ٢٩.

٧

 المؤمنين) (١) .

ولابن الفحّام النيسابوري المتوفَّى ٤٥٨ هـ(الآيات النازلة في أهل البيت عليهم‌السلام ) (٢) .

وقد نوّه النجاشي في رجاله عند ترجمته لبعض الأعلام إلى أسماء بعض تلك المصنّفات. ففي ترجمة ابن الجُحام محمد بن العَبّاس بن علي البزاز ذكر أن له كتاباً بعنوان:(ما نزل من القرآن في أهل البيت) (٣) .

وفي ترجمة الحسن بن أحمد بن القاسم ذكر أن له كتاباً بعنوان:(خصائص أمير المؤمنين من القرآن) (٤) .

وفي ترجمة محمد بن أُوْرَمة القمّي نسب إِليهِ كتاب:(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) له(٥) .

وفي ترجمة أبي موسى المجاشعي ذكر أنّ له كتاباً بعنوان(ما نزل من القرآن في علي) (٦) .

وفي ترجمة أبي العباس الإسفرائيني(المصابيح في ذكر ما نزل من القرآن في أهل البيت) (٧) .

ونحن لا نريد التفصيل في الجواب عن السؤال الثاني بقدر ما نريد الإشارة إلى تأذين الرسول والأئمّة بالولاية، إذ لم ينكر أحد صلة الإمام علي بالقرآن والقرآن

____________________

(١) معالم العلماء: ٢٥، الذريعة ١٩: ٢٨.

(٢) لسان الميزان ٢: ٢٥١، معجم المؤلفين ٣: ٢٩٢.

(٣) رجال النجاشي: ٣٧٩ ت ١٠٣٠.

(٤) رجال النجاشي: ٦٥ ت ١٥٢، وانظر الذريعة ٢: ٦٥.

(٥) رجال النجاشى: ٣٣٠ ت ٨٩١، وانظر الذريعة ١٩: ٢٩.

(٦) رجال النجاشي: ٤٣٩ ت ١١٨٢.

(٧) رجال النجاشي: ٩٣ ت ٢٣١.

٨

بعلي، فعليّ مع القرآن والقرآن مع علي(١) ، لأنّه الوحيد الذي علم بتنزيل القرآن وتأويله(٢) . وعلم بنزول الآيات في ليل أو نهار، وفي سهل أو جبل(٣) . وقد ذكره رسول الله عدلاً للقرآن، وأحد الثقلين اللذين تصان بهما الأمة وتُحفظ من الضلال.

لكننا قد نواجه إشكالاً مفادُهُ: أننا لا نرى أنّ اسمه ورد صريحاً في القرآن الكريم، لماذا؟

ليس من الضرورة أن يذكر القرآن كلّ شيء، وقد أجاب عمران بن حصين لمن قاله له: تَحَدَّثْ بالقرآن واترك السنّة، قال له: أرايت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القران، أكنت تجد فيه صلاة العصر أربعاً وصلاة الظهر أربعاً، أكنتَ تجد الطواف بالبيت سبعاً والرمي سبعاً(٤) ...

فالقرآن يبين الكلّيات التي تقف عليها الشريعة أصولاً وفروعاً، فالصلاة مثلاً ذكرها الله وترك تفاصيلها للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها من الأمور الشرعية.

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٤٧٩ / ح ١٠٤٥، المعجم الصغير للطبراني ١: ٢٥٥، الجامع الصغير للسيوطي ٢: ١٧٧ / ح ٥٥٩٤.

(٢) الكافي ١: ٢١٣ / باب إن الراسخين في العلم هم الأئمّةعليهم‌السلام / ح ١، ٢، ٣. وانظر فيض القدير ٤: ٣٦٩.

(٣) انظر تفسير الصنعاني ٣: ٢٤١، طبقات ابن سعد ٢: ٣٣٨، التاريخ الكبير ٨: ١٦٥، تاريخ دمشق ٢٧: ١٠٠، ٤٢: ٣٩٨، المواقف ٣: ٦٢٧، منح الجليل ٩: ٦٤٨، ينابيع المودة ١: ٢٢٣، وانظر تفسير أبي حمزة الثمالي: ١٠٤.

(٤) انظر الكفاية في علم الرواية: ١٥، المطالب العالية ١٢: ٧٣٤.

(٥) جاء في الكافي ١: ٢٨٦ / باب ما نص الله عزّ وجلّ ورسوله على الأئمةعليهم‌السلام واحداً فواحد / ح ١، عن أبي بصير أنّه قال قلت لأبي عبد الله [ الصادق ] أن الناس يقولون: فما له لم يسم علياً وأهل بيته في كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقال:(قولوا لهم: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم...) إلى أخر الخبر.

٩

إن القولَ بعدم ذكر الشهادة بالولاية صريحاً في الأذان، هو مساوق للقول بعدم ورود اسم الإمام علي صريحاً في القرآن، مع أنّ في الأذان والقرآن الكريم ما يدل على الولاية والإمامة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟!

ونحن في دراستنا هذه لا نريد أن نذهب إلى جزئية الشهادة الثالثة في الأذان حتى يلزمنا القول بأن الرسول أو الإمام علي وأولاده المعصومين قد أذّنوا بهذا الأذان. فجملة (حي على خير العمل) في الأذان دالة على الإمامة، والرسول والصحابة كانوا يؤذنون بها، وقد سمح الإمام الكاظم بفتحها والأخذ بتفسيرها معها، بل دَعا إلى الحث عليها. كما أن هناك آيات كثيرة دالة على الإمامة، وكان من منهج بعض الصحابة أن يبيّنوا آيات الذكر الحكيم و يأتوا على تفسيرها السياقي وشأن نزولها وسرّ تشريعها معها، كما هو المشاهد في قراءة ابن مسعود التفسيرية لآية البلاغ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) أنّ عليّاً مولى المؤمنين( وإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (١) .

وقرأ كذلك:( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) بعلي بن أبي طالب(٢) .

وكان أُبيّ بن كعب يقرأ:( النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) وهو أبٌ لهم(٣) .

وقرأ ابن عباس:( مِنْ أَنفُسِهِمْ ) وهو أبٌ لهم( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (٤) .

____________________

(١) شواهد التنزيل ١: ٢٥٧، الدر المنثور ٢: ٢٩٨، وعنه في بحار الأنوار ٣٧: ١٩٠.

(٢) شواهد التنزيل ٢: ٣ الإكمال ٧: ٥٣ ورواه ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين علي من تاريخ دمشق ٤٢: ٣٦٠ الحديث ٩١٩، والدر المنثور ٥: ١٩٢، ٦: ٥٩٠، كفاية الطالب: ٢٣٤، غاية المرام: ٤٢٠.

(٣) الدر المنثور ٦: ٥٦٧، مصنف عبد الرزاق ١٠: ١٨١ / ح ١٨٧٤، وفيه: (وهو أبوهم)، وهي في قراءة ابن مسعود كذلك؛ انظر الكشاف ٣: ٥٣٢.

(٤) المحرر الوجيز ٤: ٣٧٠.

١٠

وجاء عن أُبي أنّه كان يقرأ:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ) (١) .

وعن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، أنهم قرءوا:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ورهطك المُخْلَصين(٢) .

وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ: ( وَجَاهِدُواْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) في آخر الزمان كما جاهدتم في أوّله(٣) .

قال ابن عطيّة الأندلسي (ت ٥٤٦ هـ) فيالمحرر الوجيز : روي أنّ ابن مسعود كتب في مصحفه أشياء على جهة التفسير فظنّها قوم من التلاوة فتخلط الأمر فيه، ولم يسقط فيما ترك معنى من معاني القران؛ لأنّ المعنى جزء من الشريعة، و إنّما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الذي أثبت...(٤) .

وقال ابن السرّاج القاضي القونوي الحنفي (ت ٧٧٧ هـ) فيشرح المعتمد : ومن أسباب اختلاف الفقهاء اختلافهم في الاحتجاج بالرواية الشاذة من القران الكريم، فقد كان بعض الصحابة يكتب في مصحفه كلمات على سبيل التفسير والبيان، فرواها الناس عنه على أنها قراءة، مثال ذلك زيادة ابن مسعود كلمة (متتابعات) عقب قوله تعالى:( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام ) في سورة المائدة(٥) .

وقال أبو حيّان الأندلسي (ت ٧٤٥ هـ) فيالبحر المحيط عن الآية:( وَإِذِ

____________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٢٢٥، كنز العمال ٢: ٥٦٨ و ٥٩٤، الدر المنثور ٦: ٧٩، سير أعلام النبلاء ١: ٣٩٧.

(٢) تفسير الطبري ١٩: ١٢١ في قراءة عمرو، عيون أخبار الرضا ٢: ٢٠٩ في مصحف عبد الله بن مسعود وقراءة أُبي بن كعب.

(٣) الدر المنثور ٤: ٣٧١ و ٥: ١٩٧، كنز العمال ٢: ٤٨٠.

(٤) المحرر الوجيز ١: ٤٨.

(٥) انظر شرح المعتمد، لابن السراج القاضي / القول ١١٩، من أسباب اختلاف الفقهاء.

١١

 اعْتَزَلْتمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْووا إِلَى الكَهْفِ... ) : وفي مصحف عبد الله (وما يعبدون من دوننا)... إنما أُريد به تفسير المعنى وأنّ هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله وليس ذلك قرآناً...(١) .

وفيالمحرّر الوجيز : وفي مصحف عبد الله ( ملاقوها ) مكان( مُوَاقِعُوهَا ) الواردة في الآية ٥٤ من سورة الكهف(٢) ، فقال الأندلسي فيتفسير البحر المحيط : الأَولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف(٣) .

وفيتفسير البحر المحيط أيضاً عن الآية ٣٦ سورة يوسف: وفي مصحف عبد الله:( وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي ) ثريداً( تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ) ، وهو أيضاً تفسير لا قراءة(٤) .

وبناءً على هذه التَقْدُمَة يمكننا أن نقول: إنّ الشهادة بالولاية جاءت في الأذان كناية وتفسيراً؛ وذلك لنفس الظروف التي ساقت إلى عدم ذكر اسم الإمام عليّ في القرآن. إنّها جملة (حي على خير العمل) التي تعني الولاية والإمامة، كما في روايات أهل البيت.

ونحن قد أثبتنا في الباب الأوّل من هذه الدراسة(٥) وجود هذا الفصل في الأذان على عهد رسول الله، وتأذين الصحابة وأهل البيت به، ثمّ انفراد العامّة في العهود اللاحقة بدعوى النسخ فيه، وذلك بعد إقرارهم بشرعيّته على عهد رسول الله، وقد تحدّاهم السيّد المرتضى بأن يأتوه بالناسخ ولم يفعلوا !

____________________

(١) البحر المحيط ٦: ١٠٣.

(٢) المحرر الوجيز ٣: ٥٢٤.

(٣) البحر المحيط ٦: ١٣١.

(٤) البحر المحيط ٥: ٣٠٨.

(٥) المطبوع تحت عنوان:( حي على خير العمل: الشرعية والشعارية ).

١٢

وهذا يعرّفنا بأنّ من يقول بالحيعلة الثالثة (حيّ على خير العمل) يمكنه الاعتقاد برجحان الشهادة بالولاية في الأذان، لأنّها جاءت مفسَّرة من قبل المعصومين بذلك، فالنبيُّ والإمامُ عليٌّ والأئمّة من ولده كانوا يؤذّنون بحيّ علي خير العمل بلا أدنى ريب، فلا يستبعد اعتقادهم بجواز الإتيان بتفسيرها معها لا على الشطرية، وهو الملاحظ اليوم عند المسلمين، فالذي يعتقد بشرعية الحيعلة الثالثة يمكنه أن يُخرج الشهادة الثالثة مخرجاً شرعيّاً، والذي لا يقول بالحيعلة الثالثة فهو لا يقبل الشهادة بالولاية من باب الأَوْلى.

نعم، نحن لو قلنا بتأذين الرسول وأهل البيت بها لصارت جزءاً، وهذا ما لا نريد قوله، وإن عدم ورودها في الروايات البيانية الصادرة عن المعصومين في الأذان أو عدم فعلهمعليهم‌السلام لها يؤكد عدم جزئيتها لا عدم محبوبيتها، وأن الأئمةعليهم‌السلام قد يكونوا تركوا أموراً جائزة أو مستحبة تقية، فالذي نريد أن نقوله أنّه قد ثبت بالقطع واليقين أن الأئمّة كانوا يقولون: (حيّ على خير العمل) في أذانهم، وثبت عنهم أيضاً بما لا يقبل الترديد أنّهم فسّروها بمعنى الولاية كما في كلام الأئمّة المعصومين كالباقر(١) والصادق(٢) والكاظم(٣) عليهم‌السلام . والإمام الكاظم قد أجاز

____________________

(١) علل الشرائع ٢: ٣٦٨ الباب ٨٩ ح ٥، معاني الأخبار: ٤٢ وفيهما: قال: أتدري ما تفسير (حي على خير العمل)، قلت: لا. قال: دعاك إلى البر. أتدري بر من؟، قلت: لا. قال: دعاك إلى بر فاطمة وولدها.

(٢) التوحيد للصدوق:٢٤١، فلاح السائل:١٤٨ - ١٥٠ مناقب بن شهرآشوب ٣: ١٠٧.

(٣) علل الشرائع ٢: ٣٦٨ وعنه في وسائل الشيعة ٥: ٤٢٠.

قال الشيخ يوسف البحريني في رسالته (الصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين ولد علي وفاطمة) المطبوعة في الدرر النجفية: (ولا يخفى على العارف بطريقة الصدوق في جملة كتبه ومصنفاته أنه لا يذكر من الأخبار إلا ما يعتمده، ويحكم بصحته متناً وسنداً ويفتي به، وإذا أورد خبراً بخلاف ذلك ذيله بما يشعر بالطعن في سنده أو دلالته ونبه على عدم قبوله

١٣

الإتيان بتفسيرها وبيان معناها معها، وهو دليل على محبوبيتها عندهمعليهم‌السلام ، ونحن نأتي بها بهذا العنوان لا غير.

بل في كلام الإمام علي بن الحسين (أنّه كان في الأذان الأولّ)(١) ما يؤكد تشريع (حيّ على خير العمل) في الإسراء والمعراج، ودلالته على وجود عنوان الولاية في السماء وعلى ساق العرش، لكنّ الآخَرين حرّفوه وغيّروه، ومن هنا حدثت المشكلة بين نهج علي ونهج الصحابة في الأذان.

هذا، وإنّ في معتبرة(٢) الفضل بن شاذان المرويّة فيعلل الشرائع عن الإمام الرضاعليه‌السلام ، ما يؤكد وجود عنوان الولاية في الأذان، إذ جاء فيها:... ويكون المؤذّن بذلك داعياً إلى عبادة الخالق ومرغّباً فيها، مقراً بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام...(٣) .

وحين سأل إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله الإمامَ السجاد لما قدم وقد قتل الحسين بن علي (صلوات الله عليه)، قائلاً: يا علي بن الحسين من غَلَب؟ أجابه

____________________

بمضمونه وهذه طريقته المألوفة وسجيته المعروفة، وهذا المعنى وإن كان لم يصرح به إلا في صدر كتابه(من لا يحضره الفقيه) إلا أن متتبع لكلامه في كتبه، والواقف على طريقته لا يخفى عليه صحة ما ذكرناه).

وبما أن الصدوق لم يذيل ما رواه في العلل وغيره بالطعن في متن أو سند الحديث نعلم أن مضمون تلك الأخبار مقبولة عنده.

(١) لا يخفى عليك بأنّ ليس للشيعة أذانان كما هي للعامة في أذان الفجر، وبذلك فلا معنى للأذان الأول في كلام الإمامعليه‌السلام إلاّ ما قلناه.

(٢) لاحظ السيد الحكيم في المستمسك ٨: ٣٤٤ - ٣٤٦، والسيد الخميني في المكاسب المحرمة ٢: ٥٥، والشيخ حسين آل عصفور في تتمة الحدائق ٢: ١٤٣، ومستند الشيعة ٥: ٤٣٥، ومسالك الأفهام ٢: ٢٣، وذخيرة المعاد ١: ٥١٠.

(٣) علل الشرائع ١: ٢٥٨، وسائل الشيعة ٥: ٤١٨، الفقيه ١: ٢٩٥ / ح ٩١٤، والذي أحتمله في كلام الإمامعليه‌السلام هو التقديم والتأخير في كلمة الإسلام والإيمان فيه، وتكون العبارة: مجاهراً بالإسلام ومعلناً بالإيمان، وهذا ما يؤكده ذيل الخبر.

١٤

الإمامعليه‌السلام : إذا أردت أن تعلم من غَلَبَ، ودَخَلَ وقت الصلاة، فأذِّنْ ثمَّ أقِمْ(١) .

وهذا يعني أَنَّ الإمام السجاد أراد أن يقول لإبراهيم إِنَّ الأئمّة هم امتداد للشهادة بالرسالة وكما قال رسول الله: حسين مني وأنا من حسين(٢) .

وكذا في كلام الإمام الهادي الآتي، وبيانه لمعنى (نداء الصوامع) المذكور في شعر الحِمّاني، للمتوكل العباسي(٣) .

وقد يكون قبل ذلك في مرسلة القاسم بن معاوية فيالاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام ما يدل على ذلك، لأنّ العارف بلسان وظروف الأئمّة وما كانوا يعيشون فيه من التقيّة، يعرف بأنّ الإمام قد يأتي بالعموم ويريد الخصوص، والأذان هو الأهم إن سنحت الظروف للجَهْر به.

إن مبحث (حيّ على خير العمل) هو النافذة التي نريد الإطلالة من خلالها على الشهادة الثالثة، وهو الميدان الأساسيّ الذي كتبنا عنه سابقاً(٤) ، كما أنّه الانطلاقة العلمية والتأسيسية التي نريد الدخول عبرها إلى الشهادة الثالثة؛ لنُشيد به هذا الصرح العقائدي والفقهي، وذلك للتقارب والتجانس الملحوظ بينهما حسبما سيتّضح لاحقاً؛ لأنّ الكلام في الحيعلة الثالثة يوصلنا إلى رجحان الشهادة الثالثة، والذي جئنا به تقوية لما استدلّ به الفقهاء من مرسلة الاحتجاج، والعمومات، وقاعدة التسامح في أدلة السنن، وما يماثلها.

إنّ موضوع الشهادة الثالثة في الأذان من المواضيع الحسّاسة والهامّة التي لم

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٦٧٧ / ح ١٤٣٢، وعنه في بحار الأنوار ٤٥: ١٧٧ / ح ٢٧.

(٢) سنن الترمذي ٥: ٦٥٨ / ح ٣٧٧٥، قال الترمذي: هذا حديث حسن ورواه غير واحد عن عبد الله بن عثمان، سنن ابن ماجه ١: ٥١ / ح ١٤٣، مسند أحمد ٤: ١٧٢ / ح ١٧٥٩.

(٣) الأمالي، للشيخ الطوسي ٢٨٧ / ح ٥٥٧، وانظر ديوان علي الحمّاني: ٨١، ومناقب ابن شهرآشوب ٣: ٥١٠.

(٤) تحت عنوان:(حي على خير العمل: الشرعية والشعارية) المطبوع في بيروت، مؤسسة الأعلمي، وهو يقع في ٤٩٦ الصفحة.

١٥

تحظ بعناية الباحثين والمحقّقين بالشكل المطلوب، وهي لم تكن من المواضيع المُحْدَثة والوليدة في العصور اللاّحقة حسب ما صوّره بعض الكتّاب، بل هي قديمة بقدم تاريخ التشيّع، سارت معه جنباً إلى جنب، فما قاله البعض من أنّها قد شرعت في عهد الشاه إسماعيل الصفوي المتوفَّى ٩٣٠ هـ، وكذا قول الأخر: إنّها بدعة محدثة، هو جُرأةٌ على العلم وتجاوز على الحقائق التاريخية(١) ، خصوصاً وأنّ نصوص هذه المسألة مذكورة وموجودة في كتب القدماء والمتأخّرين، لكنّها متناثرة بين طيات كتب الحديث، والفقه، والتاريخ، تحتاج إلى بحث وتتبّع ومثابرة واسعة، والسابرُ لكلمات الفقهاء، وأخبار المؤرّخين، وروايات المحدّثين، يقف على هذا الكمّ الهائل الدال على هذه الشهادة، إمّا تصريحاً، أو تلميحاً، أو إيماءً، أو إشارة.

وإن ما حكاه الشيخ الطوسي بورود شواذ الأخبار فيها كافية لإثبات المحبوبية والمشروعية؛ لأن صحة عمل ما لا يتوقف على فعلهمعليهم‌السلام له، بل يكفي تصريحهم بجوازه وصحته، أو تقريرهم لفاعله.

إن دعوى كونها بدعة لترك المعصوم لها كلامٌ غير واقعي وغير صحيح، فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل فالنفي هو الأخر يحتاج إلى دليل، فليأتِنا القائل بالحرمة على أن النبي أو الأئمة لم يفعلوها على نحو الجزم واليقين، أو ليأتونا بدليل عن نهي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في القول بالشهادة الثالثة، في حين أن الأمر عكس ذلك، فهناك أدلة كثيرة صدرت عن النبي والأئمة من ولده على محبوبية الشهادة بالولاية في الأذان وفي غيره، لكن ظروف التقية لم تسمح لهم بالإجهار بها مما جعلتها أخباراً

____________________

(١) انظر: كلام الدكتور حسين المدرسي الطباطبائي في ( تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى ) صفحة ٧٣، والسيّد موسى الموسوي في ( الشيعة والتصحيح ): ١٠٥، و( المتآمرون على المسلمين الشيعة ): ١٧٠، والسيّد حسن الأمين في ( مستدركات أعيان الشيعة ) ٢: ٦٤. بهذا الصدد وقارنه بما قلناه في الفصل الأول من هذه الدراسة.

١٦

شاذة في الأذان لا يعمل بها.

نعم، إنّ تلك النصوص مذكورة في كتبنا وكتب الآخرين، لكن لا يستدلّ بها الفقهاء على الشهادة الثالثة لكونها نصوصاً غير صريحة، بل مذكورة بصورة كنائية أو تفسيرية، وذلك في مثل (حيّ على خير العمل) الدالة على الإمامة، كما جاء في روايات أهل البيت، والتي ذكرها الشيخ الصدوقرحمه‌الله في معاني الأخبار(١) والتوحيد(٢) وهذا ما نريد توضيحه في دراستنا هذه(٣) .

كما أن هناك نصوصاً صريحة في إقرار الإمام، وأنّهعليه‌السلام لا يترك الأمة سدى، بل يقف أمام ما يزيده الناس أو ينقصونه، قد يمكن التمسك به عند البعض كدليل لإثبات القول بجواز الشهادة الثالثة، وهذا ما لم يوظف من قبل فقهاءنا في مبحث الشهادة الثالثة، فقد جاء في العلل بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: (إن الله لم يدع الأرض إلاّ وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان في الأرض، و إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم، و إذا نقصوا أكمله لهم فقال: خذوه كاملاً، ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمورهم، ولم يفرقوا بين الحق والباطل)(٤) .

وهناكطائفة ثالثة هي نصوص صريحة ذكرت متناً دون إسناد، كما هو المشاهد في كلام الشيخ الصدوقرحمه‌الله في(الفقيه) (٥) ، والسيّد المرتضى في(المسائل الميافارقيات) ، وابن البرّاج في(المهذَّب)، والشيخ الطوسي في(النّهاية) و(المبسوط) ، وهي متون معتمدة، لأنّ كتب القدماء - وحسب تعبير السيّد البروجرديرحمهم‌الله وغيره - هي متونُ روايات وبمنزلة الأُصول المتلقّاة عن

____________________

(١) معاني الأخبار: ٤١ / باب معنى حروف الأذان والإقامة / ح ١، و ٤٢ / ح ٣.

(٢) التوحيد، للصدوق: ٢٤١ / باب تفسير حروف الأذان والإقامة / ح ٢.

(٣) بحثنا ذلك في القسم الأول من الفصل الأول ( الدليل الكنائي ): ١٨٣ من كتابنا هذا.

(٤) انظر بحار الأنوار ٢٣: ٢٧، ٢١، ٣٩.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٩٠ / ح ٨٩٧.

١٧

المعصومينعليهم‌السلام ، وهو ما نبحثه في القسم الثالث من الفصل الأول من هذا الباب(١) .

ورابعة: هي عمومات بعض الأخبار، وقواعد في الرواية والحديث، يستعين بها الفقيه في الاستنباط، كروايةالاحتجاج : (فإذا قال أحدكم: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، فليقل: علي أمير المؤمنين)(٢) ، أو قاعدة التسامح في أدّلة السنن، أو استدلالهم ببيان الحيثيات الثلاث للأذان (الذكر + الشعار + الدعاء)، أو أنّه استحباب ضمن استحباب إلى غيرها من المؤيّدات التعضيدية الموجودة في الآيات والأخبار وهو ما يبحث في ضمن كلمات الفقهاء.

وخامسة: بيان سيرة المتشرّعة، وربط هذه السيرة بسيرة الشارع المقدّس...

إلى غير ذلك من التقسيمات والوجوه التي يمكن أن تلحظ و يستدل بها للشهادة الثالثة.

نحن لا نريد أن نُفَصِّل هذه المحاور كلَّ محور على حدة، بل نريد أن ندرسها متمازجة بشكل لا يحس المطالع بالضجر والملل إن شاء الله.

وبهذا سيأخذ البحثتارة بعداً تاريخياً، وأخرى فقهياً، وثالثةً درائياً وحديثياً، وهكذا يتغيّر من شكل إلى آخر حَسَب الحاجة العلمية، وبذلك تكون هذه الدراسة مترابطة ومتجانسة بين أجزائها، للخروج بوجه فقهي يقبله الجميع، أو يحدّ من استقباحه عند من يراه بدعة، بدعوى أنّها لم تكن في النصوص الصادرة عن المعصومين، أو أنَّها زُجَّتْ في الدين لظروف خاصة.

ومن المؤسف أن غالب الشبهات المطروحة حول الشهادة الثالثة تدور مدار الجزئية وبتصور أنّا نأتي بها على أنّها جزء الأذان، في حين أن فقهاء الطائفة ومنذ

____________________

(١) انظر الصفحة ٢٧٩ من هذا الكتاب.

(٢) الاحتجاج ١: ٢٣١، من رواية القاسم بن معاوية، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم....

 

١٨

عصر السيّد المرتضى والشيخ الطوسي إلى يومنا هذا يؤكدون على عدم جزئيتها، بل يأتون بها لمحبوبيتها، وأنّ الآتي بها للمحبوبية غير مأثوم، وأن فعلهم لم يكن بدعة كما يريد الآخرون تصويره، لكن الآخرين لا يريدون أن يقبلوا هذا الأمر أو تراهم يتناسوه في كلامهم، وإني في هذه الدراسة أريد أن أؤكد على وجه محبوبية هذا الأمر عندنا لا جزئيته، عسى أن أكون قد ساهمت في رفع بعض الشبهات المطروحة في هذا الصدد وسعيت في تحكيم هذا الصرح وتثبيت العقيدة.

وبما أنّ غالب البحوث المطروحة حول الشهادة الثالثة لم تشف غليلي ولم تف بمطلوبي - لأنّ فقهاءنا الأقدمين وحتى المعاصرين منهم لم يُولوا البحث الأهمية القصوى، ولم يفردوا له دراسة معمّقة مستقلة، ولم يدرسوا الروايات فيه دراسة شاملة، مكتفين ببعض التعليقات والتوضيحات، مع أنّهم قد كتبوا رسائل مستقلّة وبحوثاً مشبعة في مسائل دونها في الأهمية - رأيت أن أكتب دراسة مستقلّة وافية فيه؛ لأنّ بحثاً بهذه الأهمية لا يمكن الاكتفاء فيه ببعض الأسطر والتعليقات المتناثرة بين ثنايا الكتب، بل يجب أن يقف الواقف عنده وقفة فقيه متأمّل متدبّر، فلا يأخذ نصوص السابقين على ظاهرها، ويحكم بأنّ فلاناً منع من الشهادة الثالثة، أو أن فلاناً لا يستسيغها، أو أنّ ثالثاً يقول ببدعيّتها، دون دراسة للظروف التي كان يعيش فيها أولئك الفقهاء والمحدّثين، والأماكن التي كانوا يسكنون فيها، فإنّ مراعاة الزمان والمكان، والشروط المحيطة بالراوي، يساعد الفقيه على فهم شروط وظروف صدور النصّ عن الشيخ الصدوق والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، وابن البراج، وأمثالهم (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

كما لابدّ من ملاحظة أنّ مبنى كلامهم: هل هو صدفة وأمر اجتهادي لا يجب اتّباعه، أم أنّه نصّ تعبدي شرعي يجب الإيمان والأخذ به؟

فالفقهاء يأخذون بإطلاق مرسلةالاحتجاج للطبرسي: (من قال محمد رسول

١٩

الله فليقل عليٌ أمير المؤمنين) مع أنّ الطبرسي متأخّر عن الشيخ الصدوقرحمه‌الله بعدّة قرون، ويتركون مرسلة الصدوقرحمه‌الله فيالفقيه الخاصّة بالأذان، والتي ذكر فيها الصيغ الثلاث للشهادة الثالثة، وكذا تراهم يتركون ما يمكن أن يستند عليه في الاستنباط من إقرار الإمام المعصوم مقرونة بسيرة المتشرعة.

كما أنّهم يجهدون أنفسهم لتصحيح الشهادة الثالثة بالعمومات، وقاعدة التسامح بأدلة السنن، والشعارية، ورجاء المطلوبية، في حين أن في حيازتهم روايات صحيحة دالة - بنحو من أنحاء الدلالة - على الولاية في الأذان بالخصوص كـ (حي على خير العمل) المصرَّح فيها من قبل الأئمّة على ذلك، كما في رواية الصدوق في(التوحيد) ، و(معاني الأخبار).

ألم يكن فيما رواه ابن أبي عمير فيالتوحيد ومعاني الأخبار عن الإمام الكاظم ما يفيدنا للاستدلال في الشهادة الثالثة؟ ألم يكن نص الصدوق فيالتوحيد ومعاني الأخبار أقدم من نصالاحتجاج تاريخياً، وأثبت منه روائياً؟ فلماذا يترك هذا النص و يؤخذ بمرسلةالاحتجاج ؟

إن هذه الأمور لم تبحث بشكلها الدقيق في كتب القدماء فضلاً عن كتابات فقهائنا المتأخّرين. وحتى متأخّري المتأخرين.

وأمّا كتابات العقود الخمسة الماضية، فهي الأُخرى لا تُسمن ولا تغني من جوع؛ لأن أغلب أولئك المؤلّفين اكتفوا بنقل فتاوى الأعلام دون ذكر أدلتهم.

نحن لا ننكر بأنّ الفتاوى كافية للمكلّفين، لكنّها لا تُرضي الباحثين والمحقّقين. نعم، صدر أخيراً كتابان يمكن أن تصنفا ضمن الكتابات المقبولة، لكنّ ذلك لا يدعو إلى وقف حركة البحث العلمي عند العلماء، لان التوسّع في هكذا دراسات يَفتح آفاق البحث العلمي عندهم، ويدعو الأساتذة والطلاب إلى الحركة والنشاط لكشف المجهول، و إثراء المكتبة الإسلامية بما يُحتاج إليه من

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وإن أراد البيع ولا حاكم هناك ، استقلّ به ، فإن كان فوجهان لهم ، أحدهما : جواز الاستقلال ؛ لأنّه نائب عن المالك في الحفظ ، فكذا في البيع(١) .

مسألة ٣٩٤ : لو وجد بعيراً في أيّام منى في الصحراء مقلَّداً كما يُقلَّد الهدي ، لم يجز أخذه ؛ لأنّه لا يجوز مع عدم التقليد فمعه أولى.

وقال الشافعي : يأخذه ويُعرّفه أيّام منى ، فإن خاف أن يفوته وقت النحر نحره ، والأولى عنده أن يرفع إلى الحاكم حتى يأمره بنحره(٢) .

ونقل بعضهم قولاً آخَر : إنّه لا يجوز أخذه(٣) ، كما ذهبنا إليه.

ثمّ بنوا القولين على القولين فيما إذا وجد بدنة منحورة غمس ما قُلّدت به في دمها وضرب صفحة سنامها ، هل يجوز الأكل منها؟ فإن منعنا الأكل ، منعنا الأخذ هنا ، وإن جوّزنا الأكل اعتماداً على العلامة ، فكذا التقليد علامة كون البعير هدياً ، والظاهر أنّ تخلّفه كان لضعفه عن المسير ، والأُضحية المعيّنة إذا ذُبحت في وقت النحر وقع في موقعه وإن لم يأذن صاحبها(٤) .

قال الجويني : لكن ذبح الضحيّة وإن وقع في موقعه لا يجوز الإقدام عليه من غير إذنٍ(٥) .

وجوّز بعض الشافعيّة الأخذ والنحر(٦) .

ولهذا الإشكال ذهب القفّال تفريعاً على هذا القول أنّه يجب رفع

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٦.

(٢) البيان ٧ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦.

٣٠١

الأمر إلى الحاكم لينحره(١) .

وهذا ليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ الأخذ الممنوع منه إنّما هو الأخذ للتملّك ، ولا شكّ أنّ هذا البعير لا يؤخذ للتملّك.

المطلب الثاني : في الملتقط.

مسألة ٣٩٥ : يصحّ أخذ الضالّة في موضع الجواز لكلّ بالغٍ عاقلٍ.

ولو أخذه في موضع المنع ، لم يجز ، وضمنه ، إماماً كان أو غيره ؛ لأنّه أخذ ملك غيره بغير إذنه ، ولا أذن الشارع له ، فهو كالغاصب.

وهذا الفرض في الإمام عندنا باطل ؛ لأنّه معصوم.

أمّا عند العامّة الذين لم يوجبوا عصمة إمامهم فإنّه قد يُفرض.

وكذا يُفرض عندنا في نائب الإمام.

وكذا يجوز للصبي والمجنون أخذ الضوالّ ؛ لأنّه اكتساب ، وينتزع الوليّ ذلك من يدهما ، ويتولّى التعريف عنهما سنةً ، فإن لم يأت له مالك تملّكاه وضمناه بتمليك الوليّ لهما وتضمينهما إيّاه إن رأى الغبطة في ذلك ، وإن لم يكن في تمليكهما غبطة ، أبقاها أمانةً.

مسألة ٣٩٦ : الأقرب : عدم اشتراط الحُرّيّة ، فيجوز للعبد القِنّ والمدبَّر والمكاتَب وأُمّ الولد والمعتق بعضه التقاطُ الضوالّ في موضع الجواز ؛ لأنّه اكتساب وهؤلاء من أهله وهُمْ أهلٌ للحفظ.

والأقرب : إنّه لا يشترط الإسلام ولا العدالة ، فيجوز للكافر أخذ الضالّة ، وكذا للفاسق ؛ لأنّه اكتساب وهُما من أهله.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

٣٠٢

وقال الشافعي : لا يجوز لغير الإمام وغير نائبه أخذ الضوالّ للحفظ لصاحبها ، فإن أخذها غير الامام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لزمه الضمان ؛ لأنّه لا ولاية له على صاحبها(١) .

ولأصحابه وجهٌ آخَر : إنّه يجوز أخذها لحفظها قياساً على الإمام(٢) .

واحتجّ بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنَع من أخذها من غير أن يفرّق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ، والقياس على الإمام باطل ؛ لأنّ له ولايةً ، وهذا لا ولاية له(٣) .

ونحن نقول بموجبه في موضع المنع من أخذها.

أمّا لو وجدها في موضعٍ يخاف عليها فيه ، مثل أن يجدها في أرض مسبعة يغلب على الظنّ افتراس الأسد لها إن تركها فيه ، أو وجدها قريبةً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها ، أو في موضعٍ يستحلّ أهله أخذ أموال المسلمين ، أو في برّيّة لا ماء بها ولا مرعى ، فالأولى جواز الأخذ للحفظ ، ولا ضمان على آخذها ؛ لما فيه من إنقاذها من الهلاك ، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حرقٍ ، وإذا حصلت في يده سلّمها إلى بيت المال ، وبرئ من ضمانها ، وله التملّك مع الضمان ؛ لأنّ الشارع نبّه على علّة عدم التملّك لها بأنّها محفوظة ، فإذا كانت في المهلكة انتفت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٥ - ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦٠ - ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٣ و ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٣) راجع : المغني ٦ : ٣٩٩ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

٣٠٣

العلّة.

مسألة ٣٩٧ : لو ترك دابّة بمهلكةٍ فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلّصها ، تملّكها - وبه قال الليث والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق(١) - إلّا أن يكون تركها بنيّة العود إليها فأخذها ، أو كانت قد ضلّت منه ؛ لما رواه العامّة عن الشعبي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له »(٢) .

وفي لفظٍ آخَر عن الشعبي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مَنْ ترك دابّةً بمهلكةٍ فأحياها رجل فهي لمَنْ أحياها »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها لـمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال ومن الموت فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنّما هي مثل الشي‌ء المباح »(٤) .

ولأنّ القول بملكها يتضمّن إحياءها وإنقاذها من الهلاك ، وحفظاً للمال عن الضياع ، ومحافظةً على حرمة الحيوان ، وفي القول بعدم الملك‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٠ - ١٦١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٧ / ٣٥٢٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٦٨ / ٢٥٩ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٨ / ٣٥٢٥ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٤)

٣٠٤

تضييع ذلك كلّه من غير مصلحةٍ تحصل ، ولأنّ مالكه نبذه رغبةً عنه وعجزاً عن أخذه ، فمَلَكه آخذه ، كالمتساقط من السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبةً عنه وزهداً فيه.

المطلب الثالث : في الأحكام.

مسألة ٣٩٨ : يجوز للإمام ونائبه أخذ الضالّة على وجه الحفظ لصاحبه ، ثمّ يرسله في الحمى الذي حماه الإمام لخيل المجاهدين والضوالّ ؛ لأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب ، وفي أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك ، ثمّ يُعرّفها حولاً ، فإن جاء صاحبها ، وإلّا بقيت في الحمى.

وقال أحمد : لا يلزمه تعريفها ؛ لأنّ عمر لم يكن يُعرّف الضوالّ(١) .

وفعل عمر ليس حجّةً.

وإذا عرف إنسان دابّته ، أقام البيّنة عليها وأخذها ، ولا يكفي وصفها ؛ لأنّها ظاهرة بين الناس يعرف صفاتها غير أهلها ، فلا تكون الصفة(٢) لها دليلاً على ملكه لها ، ولأنّ الضالّة قد كانت ظاهرةً للناس حين كانت في يد مالكها ، فلا يختصّ هو بمعرفة صفاتها دون غيره ، ويمكنه إقامة البيّنة عليها ؛ لظهورها للناس ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إيّاها.

مسألة ٣٩٩ : الأقرب عندي : إنّه يجوز لكلّ أحدٍ أخذ الضالّة ، صغيرةً كانت أو كبيرةً ، ممتنعةً عن السباع أو غير ممتنعةٍ ، بقصد الحفظ لمالكها ، والأحاديث(٣) الواردة في النهي عن ذلك محمولة على ما إذا نوى بالالتقاط‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٩٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) في « ث ، خ ، ر » : « الصفات ».

(٣) منها : ما تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦٦.

٣٠٥

التملّك إمّا قبل التعريف أو بعده ، أمّا مع نيّة الاحتفاظ فالأولى الجواز ، كما أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه أخذ ما لا يجوز أخذه على وجه التملّك.

مسألة ٤٠٠ : ما يحصل عند الإمام من الضوالّ فإنّه يُشهد عليها ويَسِمها بوَسْم أنّها ضالّة.

ثمّ إن كان له حمى ، تركها فيه إن رأى المصلحة في ذلك ، وإن رأى المصلحة في بيعها أو لم يكن له حمى ، باعها بعد أن يصفها ويحفظ صفاتها ، ويحفظ ثمنها لصاحبها ، فإنّ ذلك أحفظ لها ؛ لأنّ في تركها ضرراً على مالكها ؛ لإفضائه إلى أن تأكل جميع ثمنها.

وأمّا غير الإمام ونائبه إذا التقط الضالّة ولم يجد سلطاناً يُنفق عليها ، أنفق من نفسه ، ويرجع مع نيّة الرجوع.

وقيل : لا يرجع ؛ لأنّ عليه الحفظَ ، ولا يتمّ إلّا بالإنفاق(١) .

والأوّل أقرب ؛ دفعاً لتوجّه الضرر بالالتقاط.

ولا يبعد من الصواب التفصيلُ ، فإن كان قد نوى التملّك قبل التعريف أو بعده ، أنفق من ماله ، ولا رجوع ؛ لأنّه فَعَل ذلك لنفعه ، وإن نوى الحفظ دائماً ، رجع مع الإشهاد إن تمكّن ، وإلّا فمع نيّته.

ولو كان للّقطة نفعٌ كالظهر للركوب ، أو الحمل أو اللبن أو الخدمة ، قال الشيخرحمه‌الله : يكون ذلك بإزاء ما أنفق(٢) .

والأقرب : أن ينظر في قدر النفقة وقيمة المنفعة ، ويتقاصّان.

مسألة ٤٠١ : لا يضمن الضالّة بعد الحول إلّا مع قصد التملّك.

ولو قصد حفظها دائماً ، لم يضمن ، كما في لقطة الأموال ، إلّا مع‌

____________________

(١) كما في شرائع الإسلام ٣ : ٢٩٠.

(٢) النهاية : ٣٢٤.

٣٠٦

التفريط أو التعدّي.

ولو قصد التملّك ، ضمن ، فإن نوى الحفظ بعد ذلك ، لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّه قد تعلّق الضمان بذمّته ، كما لو تعدّى في الوديعة ثمّ نوى الحفظ.

ولو قصد الحفظ ثمّ نوى التملّك ، لزمه الضمان من حين نيّة التملّك.

مسألة ٤٠٢ : لو وجد مملوكاً بالغاً أو مراهقاً ، لم يجز له أخذه ؛ لأنّه كالضالّة الممتنعة يتمكّن من دفع المؤذيات عنه.

ولو كان صغيراً ، كان له أخذه ؛ لأنّه في معرض التلف ، والمال إذا كان بهذه الحال جاز أخذه ، وهو نوع منه.

وإذا أخذ عبداً صغيراً للحفظ ، لم يدفع إلى مدّعيه إلّا بالبيّنة ، ولا تكفي الشهادة على شهود الأصل بالوصف ؛ لاحتمال الشركة في الأوصاف ، بل يجب إحضار شهود الأصل ليشهدوا بالعين ، فإن تعذّر إحضارهم لم يجب نقل العبد إلى بلدهم ولا بيعه على مَنْ يحمله ، ولو رأى الحاكم ذلك صلاحاً جاز ، ولو تلف قبل الوصول أو بعده ولم يثبت دعواه ، ضمن المدّعي قيمة العبد وأجره.

مسألة ٤٠٣ : لو ترك متاعاً في مهلكةٍ فخلّصه إنسان ، لم يملكه ؛ لأنّه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف كالخشية على الحيوان ، فإنّ الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع ، والمتاع يبقى إلى أن يعود مالكه إليه.

ولو كان المتروك عبداً ، لم يملكه آخذه ؛ لأنّ العبد في العادة يمكنه التخلّص إلى الأماكن التي يعيش فيها ، بخلاف البهيمة.

وله أخذ العبد والمتاع ليخلّصه لصاحبه.

وهل يستحقّ الأُجرة عن تخليص العبد أو المتاع؟ الوجه : إنّه لا يستحقّ إلّا مع الجُعْل ؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير جُعْلٍ ، فلم يستحق شيئاً ، كالملتقط.

٣٠٧

وقال أحمد : يستحقّ الجُعْل(١) . وليس بجيّدٍ.

مسألة ٤٠٤ : ما يلقيه رُكْبان البحر فيه من السفينة خوفاً من الغرق إذا أخرجه غير مالكه ، فالأقرب : إنّه للمُخرج ، وبه قال الليث بن سعد والحسن البصري [ قال : ](٢) وما نضب عنه الماء فهو لأهله(٣) .

وقال ابن المنذر : يردّه على أربابه ، ولا جُعْل له(٤) ، وهو مقتضى قول الشافعي(٥) .

ويتخرّج على قول أحمد : إنّ لمن أنقذه أُجرة مثله(٦) .

والأقرب : ما قدّمناه ؛ لأنّه مال ألقاه أربابه فيما يتلف بتركه فيه اختياراً منهم ، فمَلَكه مَنْ أخرجه ، كالمنبوذ بنيّة الإعراض عن تملّكه.

ولو انكسرت السفينة في البحر فأُخرج بعض المتاع الذي فيها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، روى الشعيري فيه أنّ الصادقعليه‌السلام سئل عن ذلك ، فقال : « أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم وهُمْ أحقّ به »(٧) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني والشرح الكبير ، وهو مقتضى ما في الإشراف على مذاهب أهل العلم.

(٣ و ٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦١ ، المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٥) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٦) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٧ ، الهامش (٣)

٣٠٨

وقال الشافعي وابن المنذر : إذا انكسرت السفينة فأخرجه قوم ، يأخذ أصحاب المتاع متاعهم ، ولا شي‌ء للّذين أصابوه(١) .

وعلى قياس قول أحمد يكون لمستخرجه أُجرة المثل ؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى تحصيله(٢) وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق ، فإنّ الغوّاص إذا علم أنّه يُدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص ، وإن علم أنّه يؤخذ منه بغير شي‌ءٍ لم يخاطر بنفسه في استخراجه(٣) .

مسألة ٤٠٥ : قد بيّنّا أنّه يجوز للإنسان أن يلتقط العبد الصغير وكذا الجارية الصغيرة ، ويُملك كلٌّ منهما بعد التعريف.

وقياس مذهب أحمد : إنّه لا يُملكان بالتعريف(٤) .

وقال الشافعي : يملك العبد دون الجارية ؛ لأنّ التملّك بالتعريف - عنده - كالقرض ، والجارية - عنده - لا تُملك بالقرض(٥) .

واستشكل بعض العامّة ذلك ؛ فإنّ الملقوط محكوم بحُرّيّته ، وإن كان ممّن يعبّر عن نفسه فأقرّ بأنّه مملوك لم يُقبل إقراره ؛ لأنّ الطفل لا قول له ، ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريف سيّده(٦) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦ - ٣٥٧.

(٢) الظاهر : « تخليصه ».

(٣) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٠٢ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، البيان ٧ : ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٧ ، المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

٣٠٩

الفصل الثالث : في اللقيط‌

وفيه مطالب :

الأوّل : الأركان.

اللقيط كلّ صبي ضائع لا كافل له ، ويُسمّى منبوذاً باعتبار أنّه يُنبذ ، أي يرمى ، ويُسمّى لقيطاً ، أي ملقوطاً ، واللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كما يقال : دهين وخضيب وجريح وطريح ، وإنّما هو مدهون ومخضوب ومجروح ومطروح ، ويُسمّى ملقوطاً باعتبار أنّه يُلقط.

إذا عرفت هذا ، فالأركان ثلاثة :

الأوّل : الالتقاط.

وهو واجب على الكفاية ؛ لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك ، وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، وقد قال الله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١) .

ولأنّ فيه إحياء النفس فكان واجباً ، كإطعام المضطرّ وإنجائه من الغرق ، وقد قال الله تعالى :( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٢) وقال تعالى :( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٣) .

ووجد سُنَين أبو جميلة منبوذاً فجاء به إلى عمر بن الخطّاب ، فقال :

____________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة المائدة : ٣٢.

(٣) سورة الحجّ : ٧٧.

٣١٠

ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال : وجدتُها ضائعةً فأخذتُها ، فقال عريفه : إنّه رجل صالح ، فقال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : اذهب فهو حُرٌّ ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته(١) .

وهذا الخبر عندنا لا يُعوّل عليه ، والولاء عندنا لمن يتولّاه الملتقط ، فإن لم يتوال أحداً ، كان ميراثه للإمام.

وليس أخذ اللقيط واجباً على الأعيان بالإجماع وأصالة البراءة ، ولئلّا تتضادّ الأحكام ، ولأنّ الغرض الحفظ والتربية ، وذلك يحصل بأيّ واحدٍ اتّفق ، بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولو تركه الجماعة بأسرهم أثموا بأجمعهم إذا علموا به وتركوه مع إمكان أخذه.

مسألة ٤٠٦ : ويستحبّ الإشهاد على أخذه ؛ لأنّه أصون وأحفظ ، لأنّه يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ، ولا تعريف في اللقيط.

وللشافعيّة طريقان ، أحدهما : إنّه على وجهين أو قولين كما قدّمنا في اللّقطة ، والأصح : القطع بالوجوب ، بخلاف اللّقطة ، فإنّ الأصحّ فيها الاستحباب ؛ لأنّ اللقيط يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، فجاز أن يجب الإشهاد عليه كما في النكاح(٢) .

والأصل عندنا ممنوع.

وحكى الجويني وجهاً ثالثاً هو : الفرق ، فإن كان الملتقط على ظاهر العدالة لم يكلّف الإشهاد ، وإن كان مستور العدالة كُلّف ليصير الإشهاد قرينةً‌

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٣٨ / ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٧.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، البيان ٨ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

٣١١

تغلب على الظنّ الثقة(١) .

وإذا أوجبنا الإشهاد فلو تركه لم تسقط ولاية الحضانة.

وقال الشافعي : تسقط ولاية الحضانة ، ويجوز الانتزاع(٢) .

وإذا أشهد فليشهد على الملتقط وما معه من ثيابٍ وغيرها إن كان معه شي‌ء.

الركن الثاني : اللقيط.

وقد ذكرنا أنّه كلّ صبي ضائع لا كافل له ، والتقاطه من فروض الكفايات ، فيخرج بقيد الصبي البالغ ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة والتعهّد ، فلا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وقع في معرض هلاكٍ ، أُعين ليتخلّص.

أمّا الصبي الذي بلغ سنّ التمييز فالأقرب : جواز التقاطه ؛ لحاجته إلى التعهّد والتربية ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّه لا يلتقط ؛ لأنّه مستقلٌّ ممتنع ، كضالّة الإبل ، فلا يتولّى أمره إلّا الحاكم(٣) .

وقولنا : « ضائع » نريد به المنبوذ ؛ لأنّ غير المنبوذ يحفظه أبوه أو جدّه لأبيه أو الوصي لأحدهما ، فإن لم يكن أحد هؤلاء ، نصب القاضي له مَنْ يراعيه ويحفظه ويتسلّمه ؛ لأنّه كان له كافل معلوم ، وهو أبوه أو جدّه أو وصيّهما ، فإذا فقد قام القاضي مقامه ، كما أنّه يقوم لحفظ مال الغائبين والمفقودين ، أمّا المنبوذ فإنّه يشبه اللّقطة ولهذا يُسمّى لقيطاً فلم يختصّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩.

(٢) الوسيط ٤ : ٣٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٤.

٣١٢

حفظه بالقاضي.

وقولنا : « لا كافل له » نريد به مَنْ لا أب له ولا جدّ للأب ومَنْ يقوم مقامهما ، والملتَقَط ممّن هو في حضانة أحد هؤلاء لا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وُجد في مضيعةٍ أُخذ ليُردّ إلى حاضنه.

الركن الثالث : الملتقِط.

مسألة ٤٠٧ : يعتبر في الملتقِط التكليف والحُرّيّة والإسلام والعدالة ، فلا يصحّ التقاط الصبي ولا المجنون.

ولو كان الجنون يعتوره أدواراً ، أخذه الحاكم من عنده ، كما يأخذه لو التقطه المجنون المطبق أو الصبي.

وأمّا العبد فليس له الالتقاط ؛ لأنّ منافعه ملك سيّده ، فليس له صَرفها إلى غيره إلّا بإذنه ، ولأنّ الالتقاط تبرّعٌ والعبد ليس من أهله ؛ إذ أوقاته مشغولة بخدمة مولاه.

ولو أذن له السيّد أو علم به فأقرّه في يده ، جاز ، وكان السيّد في الحقيقة هو الملتقِط ، والعبد نائبه قد استعان به عليه في الأخذ والتربية والحضانة ، فصار كما لو التقطه سيّده وسلّمه إليه.

وإذا أذن له السيّد ، لم يكن له الرجوع في ذلك.

أمّا لو كان الطفل في موضعٍ لا ملتِقط له سوى العبد ، فإنّه يجوز له التقاطه ؛ لأنّه تخليصٌ له من الهلاك ، فجاز ، كما لو أراد التخليص من الغرق.

ولو التقط العبد مع وجود ملتقطٍ غيره ، لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّه المنصوب للمصالح ، إلّا أن يرضى مولاه ويأذن بتقريره في‌

٣١٣

يده ، فيقدَّم على الحاكم.

ولا فرق بين القِنّ والمدبَّر وأُمّ الولد والمكاتَب والمحرَّر بعضه في ذلك كلّه ؛ لأنّه ليس لأحد هؤلاء التبرّعُ بماله ولا بمنافعه إلّا بإذن السيّد.

وقال الشافعي : المكاتَب إذا التقط بغير إذن السيّد انتُزع من يده ، كالقِنّ ، وإن التقط بإذن السيّد جاء فيه الخلاف في تبرّعاته بالإذن ، لكنّ الظاهر عندهم المنع ؛ لأنّ حقّ الحضانة ولاية ، وليس المكاتَب أهلاً لها(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما.

وللشافعيّة وجهان في الـمُعتَق نصفه إذا التقط في يوم نفسه هل يستحقّ الكفالة؟(٢) .

مسألة ٤٠٨ : لا يجوز للكافر أن يلتقط الصبي المسلم ، سواء كان الكافر ذمّيّاً أو معاهداً أو حربيّاً ؛ لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم ، قال الله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه ويُعلّمه الكفر ، بل الظاهر أنّه يُربّيه على دينه وينشأ على ذلك كولده ، فإن التقطه لم يُقرّ في يده.

أمّا لو كان الطفل محكوماً بكفره ، فإنّه يجوز للكافر التقاطه ؛ لقوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٤) .

وللمسلم التقاط الطفل الكافر.

مسألة ٤٠٩ : الأقرب : اعتبار العدالة في الملتقِط ، فلو التقطه الفاسق‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٣) سورة النساء : ١٤١.

(٤) سورة الأنفال : ٧٣.

٣١٤

لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّ الفاسق غير مؤتمنٍ شرعاً ، وهو ظالم ، فلا يجوز الركون إليه ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ) (١) ولا يؤمن أن يبيع الطفل أو يسترقّه ويدّعيه مملوكاً له بعد مدّةٍ ، ولا يؤمن سوء تربيته له ولا يوثق عليه ويخشى الفساد به ، وهو قول الشافعي(٢) أيضاً.

ويفارق اللّقطة - حيث أُقرّت في يد الفاسق عندنا وفي أحد قولَي الشافعي(٣) - من ثلاثة أوجُه :

الأوّل : إنّ في اللّقطة معنى التكسّب ، والفاسق من أهل التكسّب ، وهاهنا لا كسب ، بل هو مجرّد الولاية.

الثاني : إنّ في اللّقطة وجوب ردّها إليه لو انتزعناها منه بعد التعريف حولاً ونيّة التملّك ليتملّكها ، فلم ننتزعها منه واستظهرنا عليه في حفظها وإن كان الانتزاع أحوط ، وهنا لا يردّ اللقيط إليه ، فكان الانتزاع أحوط وأسهل.

الثالث : المقصود في اللّقطة حفظ المال ، ويمكن الاحتياط عليه بالاستظهار في التعريف ، أو بنصب الحاكم مَنْ يُعرّفها ، فيزول خوف الخيانة ، ولا يحتاج إلى أن ينتزعها الحاكم ، وهنا المقصود حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولا سبيل إلى الاستظهار عليه ؛ لأنّه قد يدّعي رقّه في بعض البلدان وبعض الأحوال.

____________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٢ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥ ، المغني ٦ : ٤١٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢ و ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

٣١٥

وقيل : لا يشترط العدالة ، ولا ينتزع اللقيط من يد الفاسق ؛ لإمكان حفظه في يده بالإشهاد عليه ، ويأمر الحاكم أميناً يشارفه عليه كلّ وقتٍ ويتعهّده في كلّ زمانٍ ، ويشيع أمره فيعرف أنّه [ لقيط ](١) فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته ؛ جمعاً بين الحقّين ، كما في اللّقطة(٢) .

مسألة ٤١٠ : مَنْ ظاهر حاله الأمانة إلّا أنّه لم يختبر حاله ، لا ينتزع من يده ؛ لأنّ ظاهر المسلم العدالة ، ولم يوجد ما يعارض هذا الظاهر ، ولأنّ حكمه حكم العَدْل في لقطة المال والولاية في النكاح وأكثر الأحكام ، لكن يوكل الإمام مَنْ يراقبه من حيث لا يدري لئلّا يتأذّى ، فإذا حصلت للحاكم الثقة به صار كمعلوم العدالة.

وقبل ذلك لو أراد السفر به ، مُنع وانتُزع منه ؛ لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه وأن يكون إظهاره العدالة لمثل هذا الغرض الفاسد ، وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني له : إنّه يُقرّ في يده ويسافر به ؛ لأنّه يُقرّ في يده في الحضر من غير مشرفٍ يُضمّ إليه ، فكذا في السفر ، كالعَدْل ، ولأنّ الظاهر الستر والصيانة(٣) .

فأمّا مَنْ عُرفت عدالته وظهرت أمانته فيُقرّ اللقيط في يده في سفرٍ وحضرٍ ؛ لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة ، ولها وجهان.

مسألة ٤١١ : يعتبر في الملتقِط الرشد ، فلا يصحّ التقاط المبذِّر‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « لقطة ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) المغني ٦ : ٤١٣ - ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠.

(٣) الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦ ، المغني ٦ : ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١١ ، وفيها القول الأوّل فقط.

٣١٦

المحجور عليه ، فلو التقط لم يُقر في يده وانتُزع منه ؛ لأنّه ليس مؤتمناً عليه شرعاً وإن كان عَدْلاً.

ولا يشترط في الملتقِط الذكورة ، فإنّ الحضانة أليق بالإناث.

ولا يشترط كونه غنيّاً ؛ إذ ليست النفقة على الملتقط.

والفقير يساوي الغني في الحضانة.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر ، وهو : إنّه لا يُقرّ في يد الفقير ؛ لأنّه لا يتفرّغ للحضانة ؛ لاشتغاله بطلب القوت(١) .

مسألة ٤١٢ : لو ازدحم على لقيطٍ اثنان ، فإن كان ازدحامهما عليه قبل أخذه وقال كلّ واحدٍ منهما : أنا آخذه وأحضنه ، جعله الحاكم في يد مَنْ رآه منهما أو من غيرهما ؛ لأنّه لا حقّ لهما قبل الأخذ.

وإن ازدحما بعد الأخذ بأن تناولاه تناولاً واحداً دفعةً واحدة ، فإن لم يكن أحدهما أهلاً للالتقاط مُنع منه ، وسلّم اللقيط إلى الآخَر ، كما لو كان أحدهما مسلماً حُرّاً عَدْلاً والآخَر يكون كافراً أو فاسقاً أو عبداً لم يأذن له مولاه ، أو مكاتَباً كذلك ، فإنّ المسلم العَدْل الحُرّ يُقرّ في يده ، ولا يشاركه الآخَر ، ولا اعتبار بمشاركته إيّاه في الالتقاط ؛ لأنّه لو التقطه وحده لم يُقرّ في يده ، فإذا شاركه مَنْ هو من أهل الالتقاط كان أولى.

وأمّا إن كان كلّ واحدٍ منهما أهلاً للالتقاط ، فإن سبق أحدهما إلى الالتقاط ، مُنع الآخَر من مزاحمته.

ولا يثبت السبق بالوقوف على رأسه من غير أخذٍ ، وهو أظهر وجهي‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣١٧

الشافعيّة ، والثاني : إنّه يثبت(١) .

وإن لم يسبق أحدهما ، فإن اختصّ أحدهما بوصفٍ يوجب تقدّمه قُدّم ، وكان أولى من الآخَر.

وإن تساويا من كلّ وجهٍ ، فإن سلّم أحدهما لصاحبه ورضي بإسقاط حقّه جاز ؛ لأنّ الحقّ له ، فلا يُمنع من الإيثار به ، وإن تشاحّا أُقرع بينهما - وبه قال الشافعي(٢) - لقوله تعالى :( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (٣) .

ولأنّه أمر مشكل ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم أولويّة أحدهما ، وكلّ مشكلٍ ففيه القرعة بالنصّ عن أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

ولأنّه لا يمكن أن يُخرج عن أيديهما ؛ لاشتماله على إبطال حقّهما الثابت لهما بالالتقاط ، أو يُترك في أيديهما إمّا جمعاً ، والاجتماع على الحضانة مشقٌّ أو متعذّر ، ولا يمكن أن يكون عندهما في حالةٍ واحدة ، وإمّا بالمهايأة ، وهو يشتمل على الإضرار باللقيط ؛ لما في تبدّل الأيدي من قطع الأُلفة واختلاف الأغذية والأخلاق ، أو يختصّ به أحدهما لا بالقرعة ، ولا سبيل إليه ؛ لتساويهما ، فلم يبق مخلص إلّا القرعة ، كالزوج يسافر بإحدى زوجاته بالقرعة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ - ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) سورة آل عمران : ٤٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣.

٣١٨

وقال بعض الشافعيّة : يرجّح أحدهما باجتهاد القاضي ، فمَن رآه خيراً للّقيط أقرّه في يده(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يستوي الشخصان في اجتهاد القاضي ولا سبيل إلى التوقّف ، فلا بدّ من مرجوعٍ إليه ، وليس سوى القرعة.

وقال بعض الشافعيّة : يخيّر الصبي في الانضمام إلى مَنْ شاء منهما(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد لا يكون مميّزاً بحيث يفوّض إليه التخيير ، ولو كان مميّزاً فإنّه لا يخيّر ، كما يخيّر الصبي بين الأبوين عند بلوغه سنّ التمييز - عندهم(٣) - لأنّه هناك يعوّل على الميل الناشئ من الولادة ، وهذا المعنى معدوم في اللقيط.

مسألة ٤١٣ : هذا إذا تساويا في الصفات ، فإن ترجّح أحد الملتقطين بوصفٍ يوجب تخصيصه به دون الآخَر وكانا معاً ممّن يثبت لهما جواز الالتقاط ، أُقرّ في يده ، وانتُزع من يد الآخَر.

والصفات المرجّحة أربعة :

أ : الغنى ، فلو كان أحدهما غنيّاً والآخَر فقيراً ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّهما يتساويان - وهو قول بعض علمائنا(٤) - لأنّ الفقير أهل للالتقاط ، كالغني.

وأظهرهما عند الشافعيّة : أولويّة الغني ؛ لأنّه ربما يواسيه بمالٍ وينفعه في كثيرٍ من الأوقات ويؤاكله أحياناً ، ولأنّ الفقير قد يشتغل بطلب القوت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٤٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٦ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤.

(٤) لم نتحقّقه.

٣١٩

عن الحضانة(١) .

فإن رجّحنا الغني على الفقير وكانا معاً غنيّين إلّا أنّ أحدهما أكثر غنىً من الآخَر ، فللشافعيّة وجهان في تقديم أكثرهما مالاً(٢) .

ب : أن يكون أحدهما بلديّاً والآخَر قرويّاً ، أو كان أحدهما بلديّاً أو قرويّاً والآخَر بدويّاً ، تساويا عند بعض علمائنا(٣) ، ورجّح البلديّ على القرويّ ، والقرويّ على البدويّ ؛ لما فيه من حفظ نسبه وإمكان وصول قريبه إليه.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ج : مَنْ ظهرت عدالته بالاختبار يُقدّم على المستور على خلافٍ بين علمائنا.

وللشافعيّة وجهان :

أحسنهما : إنّه يقدّم احتياطاً للصبي.

والثاني : يستويان ؛ لأنّ المستور لا يسلّم ثبوت المزيّة للآخَر ويقول : لا أترك حقّي بجهلكم بحالي(٥) .

د : الحُرّ أولى من العبد والمكاتَب وإن كان التقاطه بإذن السيّد ؛ لأنّه في نفسه ناقص ، وليست يدُ المكاتَب يدَ السيّد.

مسألة ٤١٤ : لا تُقدّم المرأة على الرجل ؛ لأنّ المرأة وإن كانت

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٣) لم نتحقّقه.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧ - ٤٨٨.

(٥) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595