أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان10%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156853 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عنّي من اللبس، بأنّهم هم، وحمدت الله على ما قدرت عليه. فلمّا كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متكئ وبين يديه حنطة مقلوّة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان في خَلَدِي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفة، والإمامُ غيرُ مَؤُوف(١) ، فقال: اجلس يا فتح، فإنّ لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون و يشربون و يمشون في الأسواق، وكلُّ جسم مَغْذُوٌّ بهذا إلاّ الخالق الرازق.. والحديث طويل(٢) .

وعن ابن المغيرة، قال: كنت عند أبي الحسنعليه‌السلام أنا و يحيى بن عبد الله بن الحسنعليه‌السلام ، فقال يحيى: جعلت فداك، إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب، فقال: سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلاّ قامت، قال: ثمّ قال: لا والله ما هي إلاّ رواية عن رسول الله(٣) .

وعن سدير، قال: قلت لأبي عبد الله: إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهةٌ... قال: يا سدير، سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء بُراءٌ، برئَ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، والله لا يجمعني الله و إيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو عليهم ساخط.

قال: قلت: فما أنتم جعلت فداك؟

قال: خزّان علم الله، وتراجمةُ وحي الله، ونحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا، ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض(٤) .

وعليه، فإنّ مسألة وجود الغلوّ والغلاة والتفويض والمفوّضة كانت موجودة

____________________

(١) أي لا يصاب بآفة.

(٢) كشف الغمة ٣: ١٧٩ - ١٨٢، وعنه في بحار الأنوار ٥٠: ١٧٧ / الرقم ٥٦.

(٣) انظر رجال الكشي ٢: ٥٨٧ / ٥٣٠.

(٤) انظر رجال الكشي ٢: ٥٩٤ / ٥٥١.

٦١

عند الطرفين، و إنّها نشأت من المتطرّفين لا المعتدلين والمتفهّمين، وكذا الأمر بالنسبة إلى المقامات، فقد يُرمَى بعضُ العارفين بالتفويض أو الغلو لعدم تحمّل الآخرين سماع تلك المقامات، وقد تستغلّ تلك المقامات وتُعطَى للآخرين زوراً وبهتاناً، كل هذه الأمور جعلت من الغلو والمعرفة سلاحاً ذا حدَّين، وخلاصة كلامنا هو: إنّ فكرة الغلو لا تختص بها الشيعة، فهناك فرق ومذاهب فيها اتّجاهات مغالية كذلك.

فقد روى ابن الجوزي في مناقب أحمد، قال: حدّثني أبو بكر بن مكارم ابن أبي يعلى الحربي وكان شيخاً صالحاً قال: قد جاء في بعض السنين مطر كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام، فنمت ليلة في رمضان، فرأيت في منامي كأنّي جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار ساف أي صف من الطين أو الَّلبِن أو سافين، فقلت: إنّما تمّم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث، فسمعته من القبر وهو يقول: لا بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ قد زارني، فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام، فقال عزّ وجلّ: يا أحمد ! لأنّك نصرت كلامي فهو يُنشَر ويُتلى في المحاريب.

فأقبلت على لحده أقبّله، ثمّ قلت: يا سيّدي، ما السرّ في أنّه لا يُقَبَّل قبرٌ إلاّ قبرك؟

فقال لي: يا بُنيّ ليس هذا كرامة لي ولكن هذا كرامة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ معي شعرات من شعرهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا ومَن يحبّني يزورني في شهر رمضان، قال ذلك مرّتين(١) .

وقال ابن الجوزي في(الياقوت في الوعظ) : إنّ الله خصّ أبا حنيفة بالشريعة والكرامة، ومن كرامته أنّ الخضرعليه‌السلام كان يجيء إليه كل يوم وقت الصبح، و يتعلّم منه أحكام الشريعة إلى خمس سنين، فلمّا توفي أبو حنيفة، دعا الخضرعليه‌السلام ربّه

____________________

(١) مناقب أحمد: ٤٥٤.

٦٢

فقال: يا رب، إن كان لي عندك منزلة فَأْذَن لأبي حنيفة حتّى يعلّمني من القبر على عادته، حتّى أعلّم الناس شريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله على الكمال ليحصل لي الطريق، فأجابه ربّه إلى ذلك، وتمّت للخضرعليه‌السلام دراسته على أبي حنيفة وهو في قبره في مدّة خمسة وعشرين سنة(١) .

وقد حدّث المقدسي في(أحسن التقاسيم) دخوله إلى أصفهان بقوله: وفيهم بَلَهٌ وغلوٌّ في معاوية، ووصف لي رجل بالزهد والتعبّد، فقصدته وتركت القافلة خلفي، فبتّ عنده تلك الليلة، وجعلت أسائله إلى أن قلت: ما قولك في الصاحب؟ فجعل يلعنه.

قلت: ولِمَ؟

قال: إنّه أتى بمذهب لا نعرفه.

قلت: وما هو؟

قال: إنّه يقول أنّ معاوية لم يكن مرسلاً.

قلت: وما تقول أنت؟

قال: أقول كما قال الله عزّ وجلّ:( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) ، أبو بكر كان مرسلاً، وعمر كان مرسلاً، حتّى ذكر الأربعة، ثمّ قال: و معاوية كان مرسلاً.

قلت: لا تفعل ! أمّا الأربعة فكانوا خلفاء، ومعاوية كان مَلِكاً، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : (الخلافة بعدي إلى ثلاثين ثمّ تكون مُلكاً) فجعل يُشنّع عليَّ، وأصبح يقول للناس: هذا رجل رافضيّ.

قال المقدسي: فلو لم أهرب وأدركت القافلة لبطشوا بي(٢) .

وعليه إنّ القول باختصاص الشيعة بالغلوّ دون الآخرين فيه مجازفة وبهتان

____________________

(١) الياقوت في الوعظ، لأبي فرج علي بن الجوزي: ٤٨. وهذا الكلام مصداق لقول القائل: حدّث العاقل بما لا يليق فإن صدقك فلا عقل له.

(٢) أحسن التقاسيم: ٣٣٩، طبعة القاهرة ١٤١١ هـ ١٩٩١م، (مكتبة مدبولي).

٦٣

وابتعاد عن الحقيقة والواقع.

نعم، توجد مجموعة مغالية دسّت نفسها بين الشيعة، وأخرى مالت إلى التفويض، وعندما أراد الإمام عليّ إحراق الغلاة، خنقاً بالدخان، قالوا: هذه من وظائف الرب، إذ لا يعذب بالنار إلاّ ربّ النار(١) . لكنّ الأئمة كانوا يعارضون تلك الأفكار الفاسدة ويصحّحون لمَن التبس الأمر عليهم.

فعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: إنّ عليّاً لمّا فرغ من قتال أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزطّ فسلّموا عليه وكلّموه بلسانهم، فردّ عليهم بلسانهم، ثم قال لهم: إنّي لست كما قلتم. أنا عبد الله مخلوق. فأبوا عليه وقالوا له: أنت هو.

فقال لهم: لئن لم تنتهوا وترجعوا عما قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله عزّ وجلّ لأقتلنّكم ، فأبوا أن يرجعوا و يتوبوا، فأمر أن يُحفَرَ لهم آبار، فحفرت، ثمّ خرق بعضها إلى بعض ثمّ قذفهم [ فيها ]، ثمّ خَمَّر رءوسها، ثمّ أُلِهبت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم، فدخل الدخان عليهم فيها فماتوا(٢) .

وروي عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال في جواب من سأل عن معنى ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) : بأنّ من تجاوز بأمير المؤمنين العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين.

____________________

(١) جاء في رجال الكشي ١: ٣٢٣ / الرقم ١٧٠، عن الإمام الباقر أنه قال: إن عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوّة ويزعم أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام هو الله تعالى عن ذلك. فبلغ ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام فدعاه وسأله فأقرّ بذلك، وقال: نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنّك أنت الله وأنّي نبيّ.

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أُمك وتب، فأبى، فحبسه واستتابه ثلاثة أيّام فلم يتب، فأحرقه بالنّار، وقال: إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه و يلقي في روعه ذلك.

(٢) الكافي ٧: ٢٥٩ / ح ٢٣ / من باب حد المرتد، من لا يحضره الفقيه ٣: ١٥٠ / ٣٥٥٠، وانظر مناقب بن شهرآشوب ١: ٢٢٧، وبحار الأنوار ٢٥: ٢٨٥ / ح ٣٨ عن المناقب، و ٢٥: ٢٨٧ / ح ٤٣ عن الكشي، و ٤٠: ٣٠١ / ح ٧٧ عن الكافي.

٦٤

ثمّ راح الإمام يصف ربَّ العالمين، فقال الرجل: بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله، فإنّ معي من ينتحل موالاتكم و يزعم أنّ هذه كلّها صفات عليّعليه‌السلام ، وأنّه هو الله ربّ العالمين.

قال: فلمّا سمعها الرضاعليه‌السلام ارتعدت فرائصه وتصبّب عرقاً، وقال: سبحان الله سبحان الله عمّا يقول الظالمون، والكافرون، أو ليس كان عليّعليه‌السلام آكِلاً في الآكلين، وشارِباً في الشاربين، وناكحاً في النّاكحين، ومُحْدِثاً في المحدثِين؟ وكان مع ذلك مصلّياً خاضعاً بين يدي الله ذليلاً، و إليه أوّاهاً منيباً، أفمن كان هذه صفته يكون إلهاً؟!

فإن كان هذا إلهاً فليس منكم أحد إلاّ وهو إله، لمشاركته له في هذه الصفات الدالاّت على حدث كلّ موصوف بها...

فقال الرجل: يابن رسول الله إنّهم يزعمون أنّ عليّاً لمّا أظهر من نفسه المعجزات الّتي لا يقدر عليها غير الله تعالى دلّ على أنّه إله، ولمّا ظهر لهم بصفات المحدَثِين العاجزين لبّس بذلك عليهم وامتحنهم ليعرفوه، وليكون إيمانهم به اختياراً من أنفسهم.

فقال الرضاعليه‌السلام : أوّل ماههنا أنّهم لا ينفصلون ممّن قَلَبَ هذا عليهم فقال: لمّا ظهر منه الفقر والفاقة دلّ على أنّ مَن هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون لا تكون المعجزات فعله، فعلم بهذا أنّ الّذي ظهر منه من المعجزات إنّما كانت فعل القادر الّذي لا يشبه المخلوقين، لا فعل المحدَث المحتاج المشارك للضعفاء في صفات الضعف...

ثمّ قال الرضاعليه‌السلام : إنّ هؤلاء الضُّلاّل الكفرة ما أُتُوا إلاّ من جهلهم بمقادير أنفسهم حتّى اشتدّ إعجابهم بها، وكثر تعظيمهم لما يكون منها، فاستبدّوا بآرائهم الفاسدة، واقتصروا على عقولهم المسلوك بها غير سبيل الواجب، حتّى استصغروا قدر الله، واحتقروا أمره، وتهاونوا بعظيم شأنه، إذ لم يعلموا أنّه القادر

٦٥

بنفسه، الغنيّ بذاته الّذي ليست قدرته مستعارة، ولا غناهُ مستفاداً، والّذي من شاء أفقره، ومن شاء أغناه، ومن شاء أعجزه بعد القدرة وأفقره بعد الغنى.

فنظروا إلى عبد قد اختصّه الله بقدرته ليبيّن بهذا فضله عنده، وآثره بكرامته ليوجب بها حجّته على خلقه، وليجعل ما آتاه من ذلك ثوابا على طاعته، وباعثاً على اتّباع أمره، ومؤمناً عباده المكلّفين مِنْ غلط مَنْ نصبه عليهم حجّة ولهم قدوة...(١)

بلى، إنّ الكرامات التي ظهرت من الأئمّة هي التي دعت هؤلاء أن يغلوا فيهم، لأنّهم لم يكونوا أُناساً عاديين، لأنّ الله قد منحهم وأعطاهم أشياءً لم يعطها لآخرين، فتصوّروا أنّها من فعلهم على نحو الاستقلال، في حين أنّ هذه الأمور لم تكن من فعلهم على وجه الاستقلال، بل هي فعل القادر المتعال، الذي لا يشبه فعله فعل أحد من الناس. فتصوروا أنّهم آلهة في حين أنّهم( عِبَادٌ مُكرَمُون * لا يسبِقُونَه بَالقَولِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعمَلُونَ ) (٢) .

وأمّا أهل التفويض فإنّهم لا يذهبون إلى كون النبيّ أو الإمام إلهاً كالغلاة، لكنّهم يضفون عليه بعض صفات الألوهية، كالخالقية والرازقية والغافرية وتدبير أمر الخلق وما شابه ذلك على نحو الاستقلال.

فالغلاة كفرة، والمفوِّضة مشركون، والغلاة حسب تعبير الأئمّة: يصغّرون عظمة الله و يدّعون الربوبية لعباد الله(٣) ، والمفوِّضة ليسوا بأقلّ من أُولئك.

____________________

(١) تفسير العسكري: ٥٢ - ٥٨، وعنه في الاحتجاج للطبرسي ٢: ٢٣٢ - ٢٣٤، وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٧٣ ح ٢٠.

(٢) الأنبياء: ٢٦، ٢٧.

(٣) أمالي الطوسي: ٦٥٠ / ح ١٣٤٩ وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٦٥ ح ٦ / باب نفي الغلو...

٦٦

الشهادة الثالثة بين التفويض والتقصير

لا يسعنا إلاّ أن نؤكّد أنّ ثمة صراعاً قد حدث بين بعض المحدِّثين والمتكلّمين في هذه المسألة في العصور اللاحقة، حيث نسب المحدّثون بعض الأُمور إلى أنّها نحوُ من أنحاء الغلوّ، في حين ذهب المتكلّمون إلى أنّ عدم الاعتقاد بها من التقصير بمقامات هؤلاء الخُلّص من عباد الله، وليست هي من الغلو والتفويض في شيء، لكونها ليست إلاّ ملكات خاصة أعطاها الله للنبي والأئمة المعصومين من ذريته، وقالوا للآخرين: إنّ ما تقفون عليه في بعض الأخبار ما هو إلاّ ذرّة من بحر، وحيثما لا يمكنكم استيعاب ما منح الله للمعصومين من أشياء في عالم الوجود والخلق، أنكرتموها وقلتم إنّها موضوعة أو ضعيفة(١) .

إنّ الصراع الدائر بين بعض المحدِّثين من جهة، وبعض المتكلّمين من جهة أُخرى، حول مسألة الغلو والتفويض، تعود إلى القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث، وهو ليس بالأمر الهيِّن، إذ يمتاز بالعمق والحسَّاسية، ولا ينبغي التعامل معه بهامشيّة، والبحث فيه بحاجة ماسَّة إلى دراسة مستفيضة لمدرسة القميّين والبغداديين الكلامية، ثمّ الإشارة إلى المعايير الرجالية في الجرح والتعديل عندهما، وبيان حدود وخصائص كلّ واحد منهما على انفراد.

وذلك لأنّ جملة الشيخ الصدوقرحمه‌الله في الشهادة الثالثة: (هذا من عمل المفوّضة) يجب النظر إليها بشيء من التحليل مع بيان ملابسات الظروف المحيطة به عند بياننا لكلامهرحمه‌الله .

فهل هذه المفردة هي من وضعهم حقّاً، أم أنّه ادَّعاء، إذ إنّهم عملوا بشيء صحّ صدوره أو تقريره عن الشارع المقدس، فاتُّهِموا بالوضع؟

مما لا شكّ فيه أنّهم لو قالوا في أذانهم: أشهد أن عليّاً محيي الموتى ورازق

____________________

(١) انظر ذلك في بحار الأنوار ٢٥: ٣٤٥ - ٣٥٠، مستدرك سفينة البحار ٨: ١٧، وكتب الشيخ المفيد والسيّد المرتضى.

 

٦٧

العباد وأشباههما لصحّ كلام الصدوقرحمه‌الله ، لكنّ الحال لم يكن كذلك. فكل ما نقف عليه هو الشهادة بالولاية والإمرة لعلي، وهذا بنحو عام يقبله الجميع ولا يختلف فيه اثنان؛ فالاختلاف والبحث وقع في معناها الخاص وورودها أو عدم ورودها في خصوص الأذان. بل ما الذي يستفيده المفوّضة من وضع هكذا أخبار:

١ - محمد وآل محمد خير البرية.

٢ - عليٌّ أمير المؤمنين حقاً.

٣ - عليٌّ ولي الله.

فهل نَقْلُ هكذا روايات تساعدهم لإثبات فكرة التفويض؟ وهل فيها ما يثبت بأنّ الله قد فّوض أمر الخلق إلى عليٍّ وأولاده المعصومين؟ فلو كان في هذه الجمل ما يدل على التفويض، لكان لقائل أن يقول: إنّ الشهادة للنبي بالرسالة هي الأخرى من علائم التفويض؟ لأن فيها جعْله أميناً على الرسالة؟

ولو صحّ كلام الصدوقرحمه‌الله فلماذا لا تكون الروايات الأخرى والتي أفتى بها هو(١) ، وما جاء في الكتاب المنسوب إلى والده(٢) في دعاء التوجّه إلى الصلاة، والتشهد والتسليم، وخطبة الجمعة، وكلّها فيها ما يدلّ على الإقرار بالشهادة بالولاية هي من وضع المفوّضة؟

إنّها تساؤلات يجب بحثها لاحقاً بكلّ هدوء وتروٍّ، مراعين التجرّد والإنصاف.

وممّا يؤسف له حقّاً أنّ بعض الكتّاب الجُدُد أرادوا الخدش والطعن في بعض الروايات الصحيحة المعتبرة، باتّهام رواتها بالغلوّ والتفويض والوضع؛ لأنّهم رووا بعض العقائد التي لا تتحملها عقولهم(٣) ، جرياً مع من سبقهم، في حين أنّ

____________________

(١) المقنع: ٩٣، ٩٦ الفقيه ١: ٣٠٤ / ح ٩١٦، والصفحة ٣١٩ / ح ٩٤٥.

(٢) فقه الرضا: ١٠٤، ١٠٨، ١٠٩.

(٣) انظر كلام الدكتور حسين المدرسي الطباطبائي في (المباني الفكرية للتشيع) الفصل الثاني.

٦٨

بيان هكذا مقامات لهؤلاء العباد المخلصين لا تقتصر على الشيعة، فثمّة مجموعة لا يستهان بها من الفرق الأخرى كأتباع ابن العربي أو غيره، لهم عقائد في الأولياء والصالحين، قد يعدّها من يخالفهم غلواً، وهم يروون نصوصاً يستدلّون بها على عقائدهم، ولو رجعت إلى كتب الصوفية لرأيتهم يعتبرون آل البيت هم الأقطاب والأولياء الحقيقيين لهذه الأمّة.

نحن لا نريد أن نصحّح أعمال الصوفية أو أن نوحي بأنّا مؤمنون بها، بقدر ما نريد الإشارة إليه من سموّ مكانة هؤلاء الأئمة المنتجبين الصالحين عند جميع المسلمين. ولا يخفى عليك بأن بعض الكُتَّاب ذهبوا إلى أنَّ ما رواه الصدوق (خُلِقُوا من فضل طينتنا)(١) وما يشابهها، ما هي إلاّ من وضع المفوّضة !

إنَّ إثبات صحّة أو بطلان مثل هذه العقائد بحاجة إلى دراسة شاملة، لأنَّه ليس من الصواب الانصياع إلى حكم عائم كهذا دون مراجعة مجموعة أقوال المعصومين، فالعقل يدعو إلى تبيان الدليل في حال نسبة هذا العمل إلى المفوّضة وذاك إلى الغلاة، و إلاَّ فالأمر سوف لا يتعدَّى سياق المهاترات، والحال هذه.

لقد أكدنا قبل قليل بأن الله اصطفى واجتبى بعض عباده، وأنّ علم الغيب يختص به تعالى، لكنّه منح ذلك لمن ارتضاهم، لقوله:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٢) ، وقوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ا لْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) (٣) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٦٦ / المجلس الرابع / ح ٣٢، عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانظر فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق: ١٠٥ / ح ٩٥، عن أبي الحسنعليه‌السلام . روضة الواعظين: ٢٩٦، وفيه: (من فاضل طينتنا)، وسائل الشيعة ٢٥: ١٣٦ / ح ٣١٤٣٨، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام وفيه: (من طينتنا).

(٢) الجن: ٢٦ - ٢٧.

(٣) آل عمران: ١٧٩.

٦٩

وقد أعطى بالفعل لوطاً(١) وسليمان(٢) وداود(٣) علماً، وهو سبحانه القائل:( وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) (٤) ، وقال سبحانه:( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٥) ، وقال سبحانه:( وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ) (٦) .

وكلّ ذلك يوصلنا إلى أنّ الله سبحانه قادر على أن يعطي علمه للأنبياء والأوصياء والصالحين من عباده، وحتى إنّه يمكنه أن يعطيها لبعوضة، والأنبياء والأئمّة هُم أكرم عند الله من بعوضة(٧) ، وقد أعطى هذا العلم بالفعل لكثير من الأنبياء والأوصياء وعباده المصطفين.

وعليه، فإنّ ما قلناه هو إعلام من الله وليس عِلْمَ غيب استقلاليّاً كما يتخيّله بعض الناس، وهو ليس شرطاً في نبوتهم أو إمامتهم، بل هو لطف من الله تعالى في طاعتهم.

فقد قال بعض أصحاب الإمام عليعليه‌السلام له: لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب.

فضحكعليه‌السلام ، وقال للرجل وكان كلبياً: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، و إنّما هو تَعَلُّمٌ من ذي علم، و إنّما علم الغيب علم الساعة وما عَدَّدَ الله سبحانه بقوله:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (٨) ... فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر وأنثى،

____________________

(١) الأنبياء: ٧٤.

(٢) الأنبياء: ٧٩، النمل: ١٥.

(٣) النمل: ١٥.

(٤) الكهف: ٦٥.

(٥) النمل: ٤٠.

(٦) لقمان: ١٢.

(٧) ورد هذا المعنى عن الإمام الجواد، انظر بحار الأنوار ٥٠: ١٠٠ / ح ١٢، عن عيون المعجزات.

(٨) لقمان: ٣٤.

٧٠

 وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله، وما سوى ذلك فعلم عَلَّمهُ الله نبيَّهُ فعلَّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطَّم عليه جوانحي(١) .

وقد أكّد نبيّ الله هود لقومه بأنّه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يقول إنّه ملك، كما في قوله تعالى:( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) (٢) .

وقد قال عيسى لقومه:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣) .

فإذا كان بين البشر من يطلعه الله على الغيب، و يحيي الموتى ويُبرئُ الأكمه بإذنه، فهو إعلام من الله للناس بذلك، وفضل منه إليه، فلا غرابة أن يكلّم النبيُّ أو الإمامُ الحيوانات بفضل الله كما في نبي الله سليمانعليه‌السلام .

وما جاء فيالكشي عن الفضل بن شاذان(٤) من أنّه كان ينكر علم الإمام بضمائر الناس وتكلّمه مع الحيوانات بلغاتهم وغيرها، إنّما كان إنكارهم لعلمهم بتلك الأمور على نحو الاستقلال لا من باب اللُّطف والفضل، فإنّ هذا ممّا لا يمكن لأحد إنكاره.

وعليه فلا يستبعد أن يكون هؤلاء الأئمّة هم الذين يحيون الموتى و يطّلعون

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ١١، من كلام لهعليه‌السلام فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة، وعنه في بحار الأنوار ٢٦: ١٠٣ / ح ٦، و ٣٢: ٢٥٠، و ٤١: ٣٣٥.

(٢) هود: ٣١.

(٣) آل عمران: ٤٩.

(٤) الكشي ٢: ٨١٨ / الرقم ١٠٢٦،انظر بحار الأنوار / الباب ١٦ وإنهم يعلمون منطق الطير والبهائم وقارنه بما قاله الدكتور حسين المدرسي في (تطور المباني الفكرية للتشيع).

٧١

على ضمائر الناس، لكن لا على نحو الاستقلال، ولا من باب استجابة الدعاء الذي يلحظ للصالحين والأبرار من عباد الله، بل لأنَّ مرتبتهم المفاضة فوق تلك المراتب، وإن الله تعالى يمكنه أن يسلبهم ما أفاض عليهم بطرفة عين؛ لأنّه منبع القدرة، ولا إله غيره.

وفي الجملة: إنّا لا ننكر وجود الغلاة والمفوّضة بين عموم المسلمين، ولكنْ ما هو الدليل على أنّ الروايات الفلانية هي من وضعهم؟ وكيف يتسنَّى لنا معرفة كون هذا القول أو العمل أو ذاك من الغلوّ والتفويض، أو ليس منهما؟ فهذه مسألة حسّاسة، وليس من الصحيح ما يعمله البعض من إلصاق الحديث الفلانيّ بابن سبأ والسبئيّة وأنّه موضوع، مع أنّه ثابت في الأصول الحديثية، فالوصية لعلي والرجعة وغيرها من العقائد الإسلامية الحقّة هي ثابتة بالقرآن والسنة، ولا يمكن نفيها بدعوى أنّها قريبة لأفكار ابن سبأ المزعوم. كلّ ذلك دون امتلاك أيّ دليل أو حجَّة قاطعة عليه.

إنّ المتحاملين بنوا صرح مواقفهم المضادّة ضدّ الشيعة والتشيُّع على شفا جرف هار من الادّعاءات والتخرّصات التي تطلق على عواهنها، في حين أنَّ نظرة الشيعة مخالفة لتلك الأمور الملصقة بهم تماماً، إذ أقوالهم وعقائدهم مبتنية على الذكر الحكيم، والسنة المطهرة، والعقل السليم، والإجماع، والتاريخ الصحيح. فصحيح أنّهم يقولون: قال جعفر بن محمد الصادق، لكن الإمامعليه‌السلام لا يتقاطع مع القرآن ف (علي مع القرآن والقرآن مع علي)، والأئمة من ولده هم عدل القرآن كما في حديث الثقلين، فلا يقولون بشيء يخالف آيات القرآن الكريم، وما أقرّته وصدَّقته السُّنَّة النبويَّة، و إنّ منهجيّة أهل بيت النبوّة كانت مبتنية على هذه الأُصول، ولذلك فإنّ الإمام محمد بن علي الباقر، والإمام جعفر بن محمد الصادق وباقي الأئمة أمروا شيعتهم بعرض ما يدّعى أنّه كلامهم على الكتاب العزيز فما

٧٢

وافقه أخذوا به وما خالفه طرحوه(١) ، وقالوا: ما خالف كتاب الله فهو زخرف(٢) . وهذا منهج يقبله العقل والفطرة السليمة.

وعليه، فالشيعة ترفض الأقوال العائمة من قبل المغرضين أياً كان قائلها، لأنّها لا تستند إلى آية مباركة أو حديث صحيح أو عقل عملي أو إجماع محصَّل. و إذا كنّا نريد التعامل مع البحث بموضوعيّة فلابدّ من النظر إليه وفق الأُصول الشرعيّة، لأنَّه لا يمكننا القول بأن كلَّ ما رواه وعمل به الغلاة فهو من وضعهم حتّى لو كان له أصل في القرآن أو السنة !

لقد كان للغلاة والمفوّضة وجود، في عصر الأئمّة ثم من بعدهم، وكان المحدِّثون القميّون تبعاً لأئمتهم يخالفونهم بشدّة، و يصرُّون على عدم نقل أيّ حديث أو رواية عنهم، ويأسفون لوجود طائفة من الروايات منقولة عنهم، حتّى وصل الحدّ بأهل قم لأَنْ يخرجوا من مدينتهم عدَّة من جهابذة الحديث المعتبرين، كأحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ صاحب كتابالمحاسن لروايته أحاديث لا تحتملها عقولهم(٣) ، في حين نرى تلك الروايات منذ ذلك اليوم مدوّنة في كتبنا المعتبرة ك"الكافي" و"التهذيب" ، ودَلَّ على صحتها القرآن والسنة.

إذاً ينبغي دراسة هذه المسألة وما يماثلها بدقّة، لنرى ما هو مدى صواب موقف الأعلام القمّيّين في تخطئة هؤلاء، وهل حقاً أنّهم من الغلاة أو المفوّضة أم لا؟ ولو بحثت عن ترجمة سهل بن زياد مثلاً، أو حسين بن عبيد، أو أبي سهيل محمّد بن عليّ القرشيّ، وآخرين ممَّن طُعِنُوا في اعتقاداتهم بالتفويض أو الغلوّ،

____________________

(١) انظر المحاسن ١: ٢٢٦ / ح ١٥٠، الكافي ١: ٦٩ / ح ١ / باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، الأمالي للصدوق: ٤٤٩ / ح ٦٠٨.

(٢) انظر المحاسن ١: ٢٢١ / ح ١٢٨، الكافي ١: ٦٩ / ح ٣، وسائل الشيعة ٢٧: ١١١ / ح ٣٣٣٤٧، مستدرك الوسائل ١٧: ٣٠٤ / ح ٢١٤١٧ و ٢١٤١٨، بحار الأنوار ٢: ٢٤٢ / ح ٣٧.

(٣) رجال ابن الغضائري: ٣٩ / ت ١٠، وعنه في الخلاصة للعلاّمة: ٦٣ / ت ٧.

٧٣

كأبي جعفر محمّد بن أُرومة القمّيّ، لرأيت أن تجريحهم لأولئك يبتني على أُمور أثبت التحقيق أنّها باطلة.

ونموذج ذلك أنّهم كانوا يتعقَّبون (ابن أرومة القمي) وأمثاله كي يقتلوه، اعتقاداً منهم بأنّه كغالب الغلاة والمفوّضة الذين لا يُؤَدُّون الصلاة، ولكن حين أتوا إليه ورأوه يؤدي الصلاة تركوه وشأنه، ووقع مثل ذلك في غير ابن أرومة، حيث كانوا يتّهمونهم بالغلوّ والتفويض، لكنهم إذا رأوا صلاتهم وعبادتهم، رجعوا عن ذلك الاتّهام وتركوهم وشأنهم(١) .

وعلى هذه الحالة والمِنوال اتُّهمَت طائفة بالتفويض وأُخرى بالغلو تبعاً لمتبنَّيات خاطئة، وربّما كان بين أُولئك من يعتقد بعض الاعتقادات الخاصّة، ولكن ليس بذلك الحدّ الذي يستحقّون فيه تلك الشدَّة من تعامل القمّيّين معهم أو إخراجهم من المذهب، لأنَّ اعتقاداتهم تلك يقرّها أو لا تنافي القرآن والسنة المطهرة، فكيف يجوز والحال هذه إخراجهم من المذهب، وعلى الأخص إذا علمنا أنّ عقائدهم تلك لم تكن في حدود الغلوّ أو التفويض، بل من المعرفة والإيمان، وهؤلاء الرجال وقعوا بين مطرقة الإفراط وسندان التفريط، ولكنّ شدّة حساسية القميّين إزاء هذا الموضوع جعلتهم عرضة لأُمور قد أثّرت على تاريخهم وحياتهم فيما بعد.

____________________

(١) رجال ابن الغضائري: ٩٦ / ت ١٥٨، رجال النجاشي: ٣٢٩ / ت ٨٩١، الخلاصة للعلاّمة: ٣٩٧ / ت ٢٨، رجال ابن داود: ٢٧٠ / ت ٤٣١، معجم رجال الحديث ١٦: ١٢٤ / ت ١٠٣١٤. قال المير داماد في الرواشح السماوية: ١٨٢ ثم إن ابن الغضائري مع أنّه في الأكثر مسارع إلى التضعيف بأدنى سبب قال في محمد بن أورمة: اتهّمه القميّون بالغلوّ وحديثه نقيّ لا فساد فيه، ولم أرَ شيئاً ينسب إليه تضطرب فيه النفس إلاّ أوراقاً في تفسير الباطن وأظنّها موضوعة عليه، ورأيت كتاباً خرج عن أبي الحسن إلى القميين في براءته مما قذف به.

٧٤

٢ - منهج القُمِّيين والبغداديين في العقائد والرجال

بغداد وقم مدينتان مستحدثتان بنيتا في العهد الإسلامي، إذ بنى المنصور (١٣٦ هـ - ١٥٨ هـ) بغداد عام ١٤٤ هـ بعد أن كانت سوقا للأديرة التي حولها، ونقل عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قد مر بها لما رجع من وقعة الخوارج كاشفاً فيها عن العين التي نبعت لمريمعليها‌السلام (١) .

وارتباط بغداد بالتشيع قديم قِدَم وجودها، ونزول الإمام علي فيها مرجَعهُ من النهروان، وقد نما فيها التشيع وازدهر عند قيام الدولة العباسية واطمئنان الشيعة في بادئ الأمر، ثم ترسّخ فيها التشيع عند حلول الإمام الكاظمعليه‌السلام والإمام الجوادعليه‌السلام ، مضافاً إلى قربها من النجف وكربلاء حيث فيها الإمام علي والإمام الحسينعليهما‌السلام وسامراء التي شرفت بالعسكريينعليهما‌السلام ، ولوجود النواب الأربعة فيها إلى غير ذلك من السمات والمميزات التي اختصت بها بغداد دون غيرها.

وأما قم، فقيل: إنّها مصّرت قبل ذلك التاريخ عند فتح الجبل و إصفهان، إذ كان سعد بن عامر الأشعري مع أبي موسى الأشعري في تلك الغزوة، فبقي سعد بن عامر في منطقة الجبل والتي كانت من ضمنها مدينة قم الحالية مع أولاده، وهؤلاء توالدوا مع القادمين والسكان الأصليين، وقيل: إنّها مُصِّرت في أيّام الحجّاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٣ هـ بعد أن أخفقت ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس على الحجّاج، فرجع عبد الرحمن إلى كابل منهزماً، وكان معه في جيشه خمسة أخوة من أولاد سعد بن عامر الأشعري وقعوا إلى ناحية قم

____________________

(١) لمعرفة المزيد انظر: أمالي الطوسي: ٢٠٠، مناقب ابن شهرآشوب ٢: ١٠١، عنه وفي بحار الأنوار ١٤: ٣١٠، ٣٣: ٤٣٨، ٩٩: ٢٨.

 

٧٥

واستوطنوها، واجتمع إليهم بنو أعمامهم والهاربون من جور بني أُمية.

وكان كبير هؤلاء الأخوة: عبد الله بن سعد، وكان لعبد الله ولد قد تربّى بالكوفة، فانتقل منها إلى قم وكان إمامياً، وقيل عنه: إنّه هو الذي نقل التشيع إلى قم(١) .

وهناك أقوال أُخرى في تمصير قم، لا نرى ضرورة لذكرها.

والأشعريون هم قوم من أهل اليمن من ولد نبت بن أُدد، سُمِّي بالأشعر لأنّ أُمه ولدته وهو أشعر، منهم رجال كثيرون، كالصحابي أبي موسى الأشعري.

وقد ذكر النجاشي في رجاله اسم خمسة وثلاثين رجلاً من ضمنهم ستة عشر من أصحاب الأئمّة: الصادق، والكاظم، والرضا، والجواد، والهادي، والعسكريعليهم‌السلام كلّهم من أهل قّم، وغالبهم من الأشعريين.

فالقمّيّون كانوا على اتّصال بأئمّة أهل البيت، وقد وردت روايات كثيرة عنهمعليهم‌السلام في مدح قمّ وأهلها وأنّها من البلدان التي سبقت إلى قبول الولاية، وأنّها عشّ آل محمد ومأوى شيعتهم(٢) ، وأنّه إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقمّ وحواليها فإنّ البلاء مدفوع عنها(٣) ، وأنّ الملائكة لتدفع البلايا عن قم وأهلها(٤) ، وما قصدها جبّار بسوء إلاّ قصمه قاصم الجبّارين(٥) ، وأنّه لولا القمّيّون لضاع الدين(٦) ، وأنّ قمّ بلدنا وبلد شيعتنا(٧) ، وغيرها من الروايات.

إن مفاخر أهل قمّ كثيرة منها: أنّهم وقفوا المزارع والعقارات على الأئمّة، وهم

____________________

(١) معجم البلدان ٤: ٣٩٧، اللباب في تهذيب الأنساب ٣: ٥٦، وانظر بحار الأنوار ٥٧: ٢٢٠، أعيان الشيعة ١: ١٩٤، تاريخ الكوفة للبراقي: ٢٢٨.

(٢) بحار الأنوار ٥٧: ٢١٤ / الباب ٣٦ / ح ٣١.

(٣) بحار الأنوار ٥٧: ٢١٤، ٢١٥، ٢١٧، ٢٢٨ / الباب ٣٩ / ح ٢٦، ٣١، ٤٤، ٦١.

(٤) مستدرك سفينة البحار: ٥٩٧.

(٥) مستدرك سفينة البحار: ٥٩٧.

(٦) بحار الأنوار ٥٧: ٢١٧ / الباب ٣٦ / ح ٤٣.

(٧) الكنى والألقاب ٣: ٨٧، مستدرك سفينة البحار ٨: ٦٠٠.

٧٦

أوّل من بعثوا الخمس إليهم، وأنّ الأئمّة أكرموا جماعة منهم بالهدايا والأكفان، كأبي جرير زكريا بن إدريس، وزكرّيا بن آدم، وعيسى بن عبد الله بن سعد وغيرهم مما يطول ذكرهم، وهذا فضل لا يحصل عليه إلاّ المؤمنون المخلصون(١) .

وقد كانت قم لتشيّعها الأصيل واستعصائها على الأمويين والعباسيين خير مأوى للطالبيين وغيرهم من المجاهدين.

ولا يخفى عليك بأنّ إحدى سمات الفكر الشيعي هي عدم ارتضائه جور السلطان وذهابه إلى وجوب الخروج عليه أمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر عند تهيّؤ الظروف(٢) ، بخلاف الآخرين الذين يحرّمون الخروج على السلطان الجائر حتّى ولو كان ظالماً فاسقاً(٣) ، وقد جاء في تاريخ قم أنّهم كانوا لا يسمحون للولاة الظلمة أن يستقرّوا في البلدة، فكان الولاة يحكمونها من الخارج(٤) .

وقد ذكرت كتب السير والتواريخ بعض أخلاقيّاتهم، وأنّهم كانوا يماطلون الحكومة في إعطاء الخراج، حتى قيل عنهم إنّهم طلبوا من المأمون أن يقلل نسبة الخراج عنهم كما فعل مع أهل الري، لكنّه ردّ ذلك، فامتنعوا من إعطائه الأموال، وهو مما أَدَّى إلى إرسال المأمون جيشه لمواجهتهم فخرّب الجيش السور وقتل الناس وكان من بينهم: يحيى بن عمران وكيل الإمام الجواد هناك(٥) .

____________________

(١) ذكره المجلسي في بحار الأنوار ٥٧: ٢٢٠ / الباب ٣٦ عن تاريخ قم. ونقله أيضاً الأمين عن تاريخ قم في أعيان الشيعة ١٠: ١٥٩.

(٢) انظر وسائل الشيعة ١٥: ٥٠ / أبواب جهاد العدو / الباب ١٣.

(٣) شرح النووي على صحيح مسلم ٢: ٣٨، الإبانة ١: ٣١، التيسير بشرح الجامع الصغير ١: ٤٢٦.

(٤) نشوار المحاضرة ٨: ٢٦٠.

(٥) تاريخ الطبري ٧: ١٨٣ حوادث سنة ٢١٠ هـ، الكامل في التاريخ ٦: ٣٩٩، مناقب ابن شهرآشوب ٤: ٣٩٧ وانظر تاريخ الموصل للدكتور جاسم حسين: ٣٦٧.

٧٧

وعلل بعض الكُتّاب تزويج المأمون ابنته من الإمام الجوادعليه‌السلام لأجل الحدّ من ثورة القميّين عليه في مسألة الخراج.

ونقل مؤلّف كتابتاريخ قم عن أحد ولاة قمّ قوله: إنّي وليت عليها لعدة سنوات ولم أر امرأة فيها(١) ، وهذا دليل على عفّة نساء الشيعة في قمّ وشدّة غَيْرَة رِجالها، وهو يشبه ما جاء في كتابآثار البلاد وأخبار العباد عن المدائن وأن أهلها فلاحون، شيعة إمامية، ومن عادتهم أنّ نساءهم لا يخرجن نهاراً أصلاً(٢) وقريب من هذا الكلام ورد في نساء الشيعة في سجستان(٣) والديلم(٤) .

وقد روى الكليني فيالكافي خبراً يؤكّد على أنّ قمّ كانت معروفة ومشهورة بالرفض عند النّاس، بعكس همدان المعروفة بالتسنن(٥) .

وقد حكى السبكي في الطبقات عن أبي سعيد الإصطخري قاضي قم أنّه ترك قمّ هارباً إلى همدان على أَثر واقعة حدثت له، وهي: أنّه مات بها رجل وترك بنتاً وعمّاً فتحاكموا إليه في الميراث، فقضى على رأي العامة للبنت النصف والباقي للعم فقال أهل قم: لا نرضى بهذا القضاء، اعْطِ البنت كلّه، فقال أبو سعيد: لا يحلّ هذا في الشريعة، فقالوا: لا نتركك هنا قاضياً، قال: فكانوا يتسوّرون داري باللّيل و يحوّلون الأَسِرَّة عن أماكنها وأنا لا أشعر، فإذا أصبحت عجبت من ذلك.

فقال أوليائي: إنّهمُ يُرُونَكَ أنّهم إذا قدروا على هذا قدروا على قتلك،

____________________

(١) تاريخ قم: ٢٨٥ باللّغة الفارسية.

(٢) آثار البلاد وأخبار العباد: ٤٥٣، المقدمة الثالثة في أقاليم الأرض / الإقليم الرابع: المدائن.

(٣) آثار البلاد وأخبار العباد: ٢٠٢، المقدمة الثالثة في أقاليم الأرض / الإقليم الثالث: سجستان.

(٤) أحسن التقاسيم ٢: ٤٥٧.

(٥) الكافي ١: ٥٢١ - ٥٢٢.

٧٨

فخرجت منها هارباً(١) .

ومما يمكن أن ننقله في هذا السياق كذلك هو تعليقة الوحيد البهبهاني على صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله [ الصادق ]، وما قاله لزكريا بن آدم، إذ قال البهبهاني: إنّ أهل قمّ ما كانوا مبتلين بذبيحة المخالف(٢) أصلاً حتّى تتحقق لهم التقية أو عسر رفع اليد عن الأكل، لأنّ ذبيحتهم كلّها كانت من الشيعة(٣) ، وهذا يعني أنّ كلّ أهلها كانوا شيعة.

قال المقدسي فيأحسن التقاسيم : وأهل قم شيعة غالية(٤) .

وقال الشريف الإدريسي: والغالب على أهل قم التشيع، وأهل قاشان الحشوية(٥) .

وقال ابن الأثير الجزري: وهي بلدة بين إصفهان وساوة كبيرة، وأكثرها شيعة(٦) .

وممّا يمكن أن يقال في سبب انتقال مدرسة أهل البيت من الكوفة وبغداد إلى قمّ هو الضغط الشديد الذي كان يلاقيه فقهاء الشيعة وعلماؤهم من الحكّام الأمويّين والعباسيين في العراق وغيرها، وقد تغيّر الحال زمن البويهيين، فصارت بغداد ملتقى العلماء والمحدّثين، فسافر إليها ابن داود القمّي، وابن قولويه، وابنا بابويه، والكليني وغيرهم من أعلام المحدّثين.

هذا عرض سريع لتاريخ هاتين المدينتين، قم وبغداد، ولا بدّ من التمهيد إلى ما نريده بهذا الصدد، وهل هنالك منهجان عند قدماء محدثي وفقهاء الشيعة أم هما منهج واحد يختلفان في بعض النقاط؟

____________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ٣: ٢٣٣.

(٢) المقصود من المخالف هنا الناصبي، للإجماع على جواز أكل ذبيحة المخالف من أهل السنة.

(٣) حاشية مجمع الفائدة والبرهان: ٦٥٣.

(٤) أحسن التقاسيم ١: ٢٦٧.

(٥) نزهة المشتاق ٢: ٦٧٦.

(٦) اللباب في تهذيب الأنساب ٣: ٥٥.

 

٧٩

التشيع في العراق وقم

التشيع في اللّغة هو المحبّة والموالاة والاتّباع لمنهج معيّن، وكانت تطلق هذه الكلمة على شيعة علي وشيعة عثمان، ثم اختصت اللفظة بشيعة عليعليه‌السلام ومؤ يديه والقائلين بامامته ثم اتخذ العامّة في الأزمنة اللاحقة مصطلحي ( الرفض ) و ( التشيع ) للتميز بينهما، فأطلقوا الأوّل على الذين يقدّمون علياً على أبي بكر وعمر وعثمان مع اعتقادهم عدم استحقاق الشيخين وعثمان للخلافة، والثاني على الذين يقدّمون علياً على عثمان مع عدم مساسهم بالشيخين.

ففي « مسائل الإمامة »: أن أهل الحديث في الكوفة مثل: وكيع بن الجراح، وفضل بن دكين يزعمون أنّ أفضل الناس بعد النبي أبو بكر ثم عمر ثمّ علي ثم عثمان، يقدّمون علياً على عثمان، وهذا تشيّع أصحاب الحديث من الكوفيّين و يثبتون إمامة علي... بخلاف أصحاب الحديث من أهل البصرة الذين يقولون أن أفضل الأمة بعد النبي أبو بكر ثمّ عمر ثم عثمان ثم علي، ثم يساوون بين بقية أهل الشورى(١) .

وقال الذهبي بعد أن اتّهم محمد بن زياد من مشايخ البخاري بالنصب: (بلى، غالب على الشاميين فيهم توقّف عن أمير المؤمنين عليرضي‌الله‌عنه .. كما إنّ الكوفيّين إلاّ من شاء ربك فيهم انحراف عن عثمان وموالاة لعلي وسلفهم شيعته وأنصاره... ثم خلقٌ من شيعة العراق يحبّون عليّاً وعثمان، لكن يفضّلون عليّاً على عثمان ولا يحبّون من حارب علياً مع الاستغفار لهم، فهذا تشيّع خفيف(٢) .

وهو يشير إلى أنّ التشيع في الأعم الأغلب في بغداد والكوفة لم يكن ولائيّاً عصمتياً كما هو المصطلح اليوم، بل كان فيهم من يحب، أبا بكر وعمر كذلك،

____________________

(١) مسائل الإمامة، المنسوب إلى الناشئ الأكبر ( ت ٢٩٣ هـ ) تحقيق فان اس ط ١٩٧١ م.

(٢) ميزان الاعتدال ٦: ١٥٣.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595