الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 361
المشاهدات: 191652
تحميل: 6441


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191652 / تحميل: 6441
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهذا ما أقرّ به الألباني أيضاً في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج اليوم ، فوجد المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وعلمائهم ـ إلاّ القليل منهم ـ اتخذهم الناس رؤوساً ! ، لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلاّ بعد أن يوحّد كلمتهم ، ويجمعهم في صف واحد ، وتحت راية واحدة ، وهذا بلا شك يحتاج إلى زمن مديد ، الله أعلم به )(١) .

هوية الغيبة

إنّ غيبة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) تعني خفاء عنوانه غالباً ، وليس اختفاء شخصه عن الأنظار ، وإن كان خفاء المعنون قد يتحقق أيضاً في بعض الأحيان ، كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات على ما سيأتي لاحقاً ، ولكي يتضح هذا المعنى يتعيّن التذكير بأنّ الإمامة لطف من الله تعالى ، ولو لا خليفة الله في الأرض لساخت بأهلها .

دوام الإمامة واستمرارها لطف إلهي

لا شك أنّ النبوّة وبعثة الأنبياء من أعظم الألطاف الإلهية في حق البشرية ؛ وذلك من أجل إيصالها إلى كمالها اللائق بها ، وإلى مصالحها والأهداف التي خُلقت من أجلها ، والتي لا يمكن لعقول البشر القاصرة أن تدركها أو تقف على كنهها ، فالنبوّة جاءت في ضمن سياق هداية الله عزّ وجلّ للبشر وتوجيههم الوجهة التي خُلقوا من أجلها .

ومن أعظم تلك الألطاف الإلهية بعثة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة الخاتمة والدين الإسلامي ، ليظهره على الدين كلّه ، ولو كره المشركون .

وممّا لا ينبغي الشك فيه أيضاً أنّ الإمامة ، وقيادة الأمّة ـ في الجوانب الفكرية والدينية والسياسية ـ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمرار لذلك اللطف الإلهي ، وإتمام لتلك النعمة ؛ وذلك من أجل الإبقاء والحفاظ على روح الإسلام ومعالمه ، وضمان استمرارها ورشدها ونموّها إلى قيام الساعة .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : ج ٤ ص ٤٢ .

١٤١

فاستمرار وجود الإمام في كل زمان لطف من الله تعالى من أجل حفظ الدين وصلاحه ورفعته وعِزّته ، وكذلك لأجل الحفاظ على كرامة الأمة الإسلامية ، والإبقاء على هويتها وكيانها ، فهو أمان للأمّة من الهلاك والضلال والغواية ، بل هو أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب ذهب أهل الأرض ، ولولاه لساحت الأرض وماجت بأهلها ، وقد أكّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تلك الحقيقة الخطيرة والمحورية في حياة الأمة عندما قال :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) (١) ، وقد أمرنا بالتمسّك بهم في حديث الثقلين ، وأنبأ عن عدم افتراقهم عن القرآن الكريم ، حتى يردا عليه الحوض ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ) (٢) .

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : ص ١٧ ؛ وانظر المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ٤٥٧ ج ٢ ص ٤٨٨ ، حيث قال في ذيل الحديث : ( صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) .

(٢) صحيح مسلم ، مسلم : ج ٧ ص ١٢٣ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٤ ص ٣٦٧ ؛ سنن الدارمي ، الدارمي : ج ٢ ص ٤٣٢ ؛ سنن البيهقي ، البيهقي : ج ٢ ص ١٤٨ ؛ وغيرها من المصادر .

١٤٢

لو لا الحجّة لساخت الأرض بأهلها

إذن فالحجّة باقية ومستمرّة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة ، ولو لا تلك الحجّة التي نصبها من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأمر من الله عزّ وجلّ ـ لساخت الأرض بأهلها ، وقد تواتر هذا المضمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألسنة مختلفة من الروايات ، منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يوعدون ) (١) .

مضافاً إلى تأكيد أهل البيتعليهم‌السلام على هذه الحقيقة ، كقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :( اللّهمّ وإنّك لا تخلي الأرض من قائم بحجّة ؛ إمّا ظاهر مشهور ، أو خائف مغمور ، لئلاّ تبطل حجج الله ، وبيّناته ) (٢) .

وكذا ما أخرجه القندوزي الحنفي ، عن الحموي المصري في كتابه ( فرائد السمطين ) عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، عن جدّه علي بن الحسينعليه‌السلام قال :( نحن أئمّة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، ونحن أمان لأهل الأرض ، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، وبنا يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه ، وبنا ينزّل الله الغيث ، وتنشر الرحمة ، وتخرج بركات الأرض ، ولولا ما على الأرض منّا لساخت بأهلها .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٢ ص ٤٤٨ ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ وانظر الجامع الصغير ، السيوطي : ج ٢ : ص ٦٨٠ ، وانظر فيض القدير ، المناوي : ج ٦ ص ٣٨٧ ؛ وقال المناوي : ( لكن تعدّد طرقه ربّما يصيّره حسناً ) ؛ النزاع والتخاصم ، المقريزي ص ١٣٢ ، مع اختلاف في اللفظ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ، تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ ؛ وقريب منه في تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ١ ص ١٢ ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ، الحلواني : ص ٥٧ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٠ ص ٢٦٣ ، ( أخرجها عن ابن الأنباري في المصاحف ، والمرهبي في العلم ونصر في الحجّة ) ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ص ٨١ ، مناقب أمير المؤمنين : محمد بن سليمان القاضي : ج ٢ ص ٢٧٥ ، دستور معالم الحكم : ابن سلامة : ص ٨٤ ، وقريب منه في ينابيع المودّة : القندوزي الحنفي : ج ١ ص ٧٥ .

١٤٣

ثم قال :ولم تخل الأرض منذ خلق الله الأرض من حجّة فيها ؛ إمّا ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، ولا تخلو الأرض إلى أن تقوم الساعة من حجة فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ) (١) .

قال سليمان الأعمش : فقلت ، لجعفر الصادقعليه‌السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور ؟ قال :( كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب ) (٢) ، فنجد أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام يشير بقوله هذا إلى ما ذكره جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقوله :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا بمَن توفدون ) (٣) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتقدم :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) (٤) وأولئك العدول من أهل بيته ـ الذين هم أمان لأهل الأرض ـ هم الاثنا عشر خليفة الذين نصبهم خلفاء من بعده ، وجعلهم قيّمين على هذا الدين ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧٥ وج ٣ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ .

(٢) المصدر نفسه : ج ١ ص ٧٦ ج ٣ ص ٣٦١ .

(٣) الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي ، باب الأمان ببقائهم : ص ٣٥٢ ؛ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٤) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ، ونحوه النزاع والتخاصم ، المقريزي : ص ١٣٢ .

١٤٤

في حقّهم :( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) (١) .

إذن ، لابد في كل زمان من إمام عادل ، معصوم ، لا يفترق عن القرآن ، من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يكون أماناً لأهل الأرض ، به تتحقق عزّة الإسلام وصلاح الأمّة .

الغيبة لطف إلهي

أمّا في زماننا هذا ، فإنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من أهل البيت هو خليفة الله في أرضه ، كما هو واضح من الروايات المستفيضة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منها قوله : ( فإنّ فيها خليفة الله المهدي )(٢) ؛ ولذا نجد المناوي في كتابه ( فيض القدير ) في ذيل هذه الرواية يشير إلى أنّ الإمام المهدي هو الإنسان الكامل ، وهو خليفة الله في أرضه ، حيث قال : ( فإن قلت ما حكمة إضافته إلى الله ، وهلاّ قال الخليفة ؟ قلت : هو إشارة إلى أنّه إنسان كامل قد تجلّى عن الرذائل ، وتحلّى بالفضائل ، ومحل الاجتهاد والفتوّة ، بحيث لم يفته إلاّ مقام النبوّة )(٣) .

إلاّ أنّ الأمر المهم الذي ينبغي الالتفات إليه ، هو أنّهعليه‌السلام غائب مستور ، إذ إنّ الإمام المهديعليه‌السلام يمتاز عن بقيّة آبائهعليهم‌السلام بخصوصية إضافية ، وهي أنّ الإرادة الإلهية شاءت أن يقام العدل في هذه الأرض على يده المباركة ، وشاءت أيضاً أن لا يكون قيام العدل إلاّ في ضمن الشروط الطبيعية ، لا بالطريق الإعجازي ـ كما تقدّم ـ وحيث إنّ شرائط الظهور وإقامة العدل ـ من طرقها الطبيعية التي أرادها الله تعالى لها ـ غير متوفّرة إلى يومنا الحاضر ، فلا بد من استمرار الغيبة ، والخفاء حتى توفّر شرائط الظهور ويأذن الله عزّ وجلّ بالظهور ، هذا من جهة .

ـــــــــــــ

(١) كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ٣٤ ، المعجم الكبير : الطبراني : ج ٢ ص ١٩٦ ( بألفاظ أخرى ) .

(٢) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل ، ج ٥ ص ٢٧٧ ، ونحوه في المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٤ ص ٤٦٤ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ١٠٠ ح ٦٤٨ .

(٣) فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ١ ص ٤٦٦ ح ٦٤٨ .

١٤٥

ومن جهة أخرى إنّ وجود الإمام المهديعليه‌السلام ظاهراً بين الناس يجعله عرضة للقتل ـ كما سيأتي ـ ومن هنا كانت الغيبة للإمام ، وحفظه من كيد الأعداء ، لطفاً من الله تعالى بعباده ، من أجل تحقيق الهدف الإلهي وثمرة الأديان بإقامة العدل والقسط في الأرض ، كما قال الله تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ ) (١) .

وممّا تقدّم يتبين أنّ غيبة الإمام والحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) إنّما هي حالة استثنائية في حياة البشرية ، وبالخصوص في حياة الأُمّة الإسلامية ـ لأنّ الحالة الطبيعية هي وجوده بين أشياعه وأتباعه يتعاطى معهم بشكل معلن ومباشر ـ وذلك من أجل الحفاظ عليه ، وادّخاره لذلك اليوم الموعود .

حقيقة الغيبة : خفاء الهوية والعنوان لإخفاء الشخصية

لا شك أنّ الحالات الاستثنائية يقتصر فيها على ما ترتفع به الضرورة ، وحيث إنّ الضرورة هي احتجابهعليه‌السلام عن الناس ، بما يوجب نجاته والمحافظة عليه من براثن الظلم والعدوان ، فمقدار الغيبة حينئذ يقتصر فيه على خفاء العنوان ، واستتار الهوية ليس أكثر ، وإن كانت الضرورة قد تقتضي خفاء المعنون أيضاً على ما أشارت إليه بعض الروايات ؛ لأنّ هذا المقدار من الغيبة كافٍ لرفع حالة الاستثناء ، فهو (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) موجود بشخصه الكريم في وسط الناس ، وليست غيبته باختفاء جسمه عن الأنظار ، كاختفاء الجن ، أو الملائكة أو غير ذلك ، بل إنّ الناس يرون الإمام المهديعليه‌السلام بشخصه المبارك ، ولكن من دون أن يكونوا عارفين له أو ملتفتين إلى حقيقته وشخصه وهويته ، وهذا ما نصّت عليه جملة من الروايات :

ـــــــــــــ

(١) الحديد : ٢٥ .

١٤٦

منها : ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، حيث قال :( إذا غاب المتغيّب من ولدي عن عيون الناس ، وماج الناس بفقده ، أو بقتله ، أو بموته ، اطلعت الفتنة ، ونزلت البليّة فو ربّ عليّ إنّ حجّتها عليها قائمة ، ماشية في طرقها ، داخلة في دورها وقصورها ، جوّالة في شرق هذه الأرض وغربها ، تسمع الكلام ، وتسلّم على الجماعة ، ترى ولا تُرى ، إلى الوقت والوعد ، ونداء المنادي من السماء ، ألا ذلك يوم فيه سرور ولد عليّ وشيعته ) (١) وهذه الرواية أكّدت على خفاء العنوان كما هو واضح وإن أشارت في الأثناء إلى خفاء العنوان والمعنون معاً أيضاً في بعض الأحيان .

ومنها : ما جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، حيث قال: ( فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله يفعل بحجّته ما فعل بيوسف ، وأن يكون صاحبكم المظلوم ، المجحود حقّه ، صاحب الأمر يتردّد بينهم ، ويمشي في أسواقهم ، ويطأ فرشهم ، ولا يعرفونه ، حتى يأذن الله له أن يعرفهم نفسه ، كما أذن ليوسف ، حين قال له إخوته :( أَءِنّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ ) (٢) ،(٣) .

ـــــــــــــ

(١) الغيبة : محمد بن إبراهيم النعماني : ص ١٤٣ .

(٢) يوسف : ٩٠ .

(٣) الغيبة ، النعماني : ص ١٦٤ .

١٤٧

ومنها : ما جاء أيضاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال :( في القائم سنّة من موسى ، وسنّة من يوسف ، وسنّة من عيسى ، وسنّة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا سنّة يوسف فإنّ إخوته كانوا يبايعونه ، ويخاطبونه ، ولا يعرفونه ) (١) .

وفي رواية أخرى :( وسنّة من يوسف بالستر ، يجعل الله سبحانه بينه وبين الخلق حجاباً يرونه ، ولا يعرفونه ) (٢) .

ومنها : ما ورد كذلك عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :( يفقد الناس إمامهم ، وإنّه يشهد الموسم ، فيراهم ولا يرونه ) (٣) والمراد من عدم الرؤية عدم معرفته (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بشخصه وعنوانه ، بقرينة ما يأتي وما تقدّم من الروايات .

ومنها : قول محمد بن عثمان العمري ، وهو أحد سفراء ووكلاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في غيبته الصغرى : ( والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة ، يرى الناس ويعرفهم ، ويرونه ولا يعرفونه )(٤) .

ما الفائدة من الإمام الغائب ؟

بعد الوقوف على حقيقة وهوية الغيبة ، وأنّها ليست إلاّ استتار العنوان فقط وإن كان استتار المعنون قد يحصل أيضاً كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات ، وهو ما يقع لأجل تقدير بعض الظروف والضرورات المقتضية لذلك ، يتضح أنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حاضر بوجوده المبارك بين

ـــــــــــــ

(١) كمال الدين ، الصدوق : ص ٢٨ .

(٢) المصدر نفسه : ص ٣٥١ ؛ الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي : ج ٢ ص ٩٣٧ .

(٣) أصول الكافي ، الكليني : ج ١ ص ٣٣٨ .

(٤) مَن لا يحضره الفقيه ، الصدوق : ج ٢ ص ٥٢٠ ؛ كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ص ٤٤٠ ؛ الغيبة ، الطوسي : ص ٣٦٤ .

١٤٨

الناس ، ولكن ـ بعد أن أثبتنا ضرورة وجوده (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ـ قد لا يمكننا أن نشعر أو نحيط بفوائد وجوده المبارك ، كما أشار إلى ذلك الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما سأله جابر بن عبد الله الأنصاري عن فائدة الإمام في غيبته ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( والذي بعثني بالحق إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ) (١) .

ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى بعض وجوه الانتفاع منه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في غيبته ، وما يقوم به من أعمال وأدوار ، نذكرها على سبيل الإجمال والاختصار :

إدارة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في زمن الغيبة

قد تقدّم آنفاً ضرورة وجود الحجّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، واستمراره إلى قيام الساعة ، ولولاه لساخت الأرض بأهلها ، ونضيف إلى ذلك القول : بأنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يمارس أدواره التي لا تتقاطع مع غيبته ، فهوعليهم‌السلام يمارس دوره الاجتماعي والسياسي بالمباشرة ، أو بتوسّط مجموعة من رجال الغيب الذين يُصطلح عليهم بالأبدال ، والسيّاح الذين يديرون حكومته الخفيّة ، ويتصرفون في مقادير الأُمّة ، بل البشرية جمعاء ، من أجل درئها عن الانحراف ، وحفظها عن الزيغ والضلال ، والوقوع في الهاوية ، وهذا ما تشير إليه الروايات الواردة من طرق الفريقين :

١ – قال السيوطي في ( الدرّ المنثور ) : ( وأخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن ، عن أنس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً ، مثل خليل الرحمان ، فبهم تسقون وبهم تنصرون ، ما مات منهم أحد إلاّ أبدل الله مكانه آخر ) .

ـــــــــــــ

(١) كشف الغمّة ، الإربلي : ج ٢ ص ٣١٥ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٣٩ .

١٤٩

وأخرج الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله (ص) :الأبدال في أُمّتي ثلاثون ، بهم تقوم الأرض ، وبهم تُمطرون وبهم تُنصرون .

وأخرج أحمد في ( الزهد ) والخلال في ( كرامات الأولياء ) بسند صحيح عن ابن عباس قال : ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض ...

وأخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال : لم تبق الأرض إلاّ وفيها أربعة عشر ، يدفع الله بهم عن أهل الأرض ، ويخرج بركتها إلاّ زمن إبراهيم فإنّه كان وحده .

وأخرج أحمد في الزهد عن كعب قال : لم يزل بعد نوح في الأرض أربعة عشر يدفع الله بهم العذاب .

وأخرج الخلال في كرامات الأولياء عن زاذان قال : ما خلت الأرض بعد نوح من اثني عشر فصاعداً يدفع الله بهم عن أهل الأرض(١) .

٢ ـ ما أخرجه الهيثمي ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال :( الأبدال في هذه الأمة ثلاثون ، مثل خليل الرحمان عزّ وجلّ ، كلّما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجل ) (٢) ، قال الهيثمي : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، غير عبد الواحد بن قيس ، وقد وثّقه العجلي ، وأبو زرعة(٣) .

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ١ ص ٧٦٥ ـ ٧٦٦ .

(٢) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ ؛ عون المعبود ، العظيم آبادي : ح ٧ ص ١٥١ ج ١١ ص ٢٥٣ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ١٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ .

١٥٠

٣ ـ وعن عبادة بن الصامت أيضاً ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا يزال في أُمّتي ثلاثون ، بهم تقوم الأرض ، وبهم تُمطرون ، وبهم تُنصرون ) (١) ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن(٢) ، وقد صحّحه العزيزي ، والمناوي ، في شرحيهما على الجامع الصغير للسيوطي(٣) .

وقال المناوي في فيض القدير : ( وهذه الأخبار وإن فُرض ضعفها جميعها ، لكن لا ينكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدّد مخرّجيه ، إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية ، أو معاند متعصّب ، والظن به ـ أي بابن تيمية ـ أنّه من قبيل الثاني )(٤) .

ثم إنّ أولئك الأبدال مستترون عن أعين الناس ، كما نصّ على ذلك الغزالي ، حيث قال : ( إنّما استتر الأبدال عن أعين الناس والجمهور ؛ لأنّهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت ؛ لأنّهم جهّال بالله ، وهم عند أنفسهم ، وعند الجهلاء علماء )(٥) .

وبعض من الأبدال من أصحاب الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، يخرجون معه حين يخرج ، كما أخرج ذلك نعيم بن حمّاد المروزي في ( كتاب الفتن ) عن عليّعليه‌السلام قال : ( إذا سمع العائذ الذي بمكّة بالخسف خرج مع اثني عشر ألفاً ، فيهم الأبدال )(٦) .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ ـ ٦٣ ؛ عون المعبود ، العظيم آبادي : ج ٨ ص ١٥١ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ٣ ص ٢١٧ .

(٢) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ ـ ٦٣ .

(٣) نقلاً عن عون المعبود : ج ٨ ص ١٥٢ .

(٤) فيض القدير ، المناوي : ج ٣ ص ٢٢٠ .

(٥) نقلاً عن فيض القدير : ج ٣ ص ٢٢٠ .

(٦) كتاب الفتن ، المروزي : ص ٢١٥ .

١٥١

إذن فهناك أوتاد وأبدال ، على درجة عالية من الإيمان والإخلاص والتضحية في سبيل الإسلام ، مستترون عن أعين الناس بخفاء عنوانهم الذي هم عليه ، يقومون بإنجاز أدوار مهمّة في الأمّة ، وقد ذكرت بعضها الروايات ـ كما تقدم ـ فلا غرابة حينئذٍ أن يستعين بهم الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في إدارة حكومته المستترة أثناء غيبته ، لا سيّما وأنّ الروايات ذكرت أنّ بعضهم من أنصاره (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) عند ظهوره ، لإقامة دولة العدل والقسط .

ولا يخفى أنّ الإدارة الخفيّة أقوى وأشد تأثيراً في الواقع من الإدارة الظاهرة ، كما هو الحال في ما نشاهده اليوم من التحكّم بمقادير الأمور ، وإدارة العالم بواسطة أجهزة المخابرات التي تعمل خلف الكواليس ، وكذا ما في السياسات الماليّة الخفيّة ، كالبنك الدولي الذي بيده مقادير سياسة العالم الاقتصادية ، ولكن بصورة مبطّنة غير معلنة .

وجه التشابه بين الخضرعليه‌السلام والإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)

وقد ضرب الله تعالى مَثَلاً لنا في قصة الخضرعليه‌السلام مثلاً لما يقوم به الإمام المهديعليهم‌السلام ، حيث استعرض القرآن الكريم هذه القصة في وسط سورة الكهف ، هذا مع علمنا بأنّ القرآن الكريم لم يكن هدفه من طرح هذه القصة تسطير الحكايات الخياليّة التي لا واقع لها ـ والعياذ بالله ـ فالقرآن الكريم منزّه عن ذلك .

١٥٢

قصّة الخضر

قال تعالى :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى‏ هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَى‏ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى‏ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) (١) .

فقد أمر الله عزّ وجلّ نبيّه موسىعليه‌السلام بالذهاب إلى الخضرعليه‌السلام المتخفّي المستتر ، حيث لم يكن أحد يعلم بمكانه إلاّ الله وموسى ، بعد أن أعلمه الله تعالى بمحلّ تواجده ؛ وذلك للتعلّم والأخذ منه ، والاطلاع على معالم الإدارة الإلهية الخفية ، التي تدار بعيداً عن أعين الناس ، فالخضرعليه‌السلام مع كونه متستراً ، كما نقل ذلك النووي عن الثعلبي ، قوله : ( الخضر نبيّ معمّر على جميع الأقوال ، محجوب عن الأبصار ، يعني عن أبصار أكثر الناس )(٢) .

فهوعليه‌السلام منتدب من الله تبارك وتعالى لإنجاز الأوامر الإلهيّة ، يعمل ضمن مجموعة خاصّة من البشر ، لا يعلمها أحد من عامة الناس ، وهم أوتاد الأرض وأبدالها كما تقدم ذكرهم ، وكما تصرّح بذلك الآية المباركة ، حيث جاء فيها قوله عزّ وجلّ :( عبداً مّن عبادنا ) .

ثم إنّ الخضرعليه‌السلام بنفسه قد صرّح لموسىعليه‌السلام بأنّ كل ما فعله لم يكن عن أمره ، وإنّما هو بأمر من الله تعالى ، حيث قال :( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً ) (٣) .

إذن هذه السورة المباركة تشير إلى وجود منظومة ومجموعة من البشر على وجه الأرض ، هم عباد الله ، اختصهم لنفسه ، يقومون بإنجاز المهامّ الإلهية الخطيرة والمحورية التي لها الأثر البالغ والمهم على مسار البشرية ،

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٦٥ ـ ٦٨ .

(٢) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٥ ص ١٣٦ .

(٣) الكهف : ٨٢ .

١٥٣

ولم يحظ موسىعليه‌السلام من ذلك ، إلاّ بعد عدّة وقائع ، استعرضها القرآن الكريم ، ولم يصبر على تلقّي المزيد من تلك الأدوار والمهام ؛ ولذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رحمة الله علينا ، وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ) (١) .

فكان الخضرعليه‌السلام ، ومجموعة من عباد الله الصالحين يديرون هذا العالم بطور وطراز آخر ، على غير ما هو المألوف عندنا ، بحسب الأسباب الظاهرة والإدارة المعلنة ، وهذا ما صرّح به الكثير من المفسّرين ، كالمراغي في تفسيره تبعاً للفخر الرازي وغيره ، حيث قال : ( وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وهذه لا يطلع الله عليها إلاّ بعض خواصّ عباده )(٢) .

ثم إنّ السورة المباركة تستعرض في هذه القصّة ثلاث قضايا مهمّة وأساسية في الحياة البشرية مارسها الخضرعليه‌السلام .

الأُولى : وهي قضية سفينة المساكين التي خرقها الخضرعليه‌السلام حتى لا يغصبها الملك ، قال تعالى :( أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم ملِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) (٣) .

فلو صادرها الملك لأثّر ذلك سلباً على معيشة أولئك المساكين ، حيث كانت السفينة مصدر رزقهم ؛ لذا قال الفخر الرازي في تفسيره : ( إنّ تلك

ـــــــــــــ

(١) جامع البيان ، ابن جرير الطبري : ج ١٥ : ص ٣٥٦ ؛ السنن الكبرى ، النسائي : ج ٦ : ص ٣٩١ ؛ تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ج ٦ ص ٣٩٧ ؛ تفسير القرآن العظيم : ابن كثير : ج ٣ ص ١٠٣ .

(٢) تفسير المراغي ، المراغي : ج ٦ ص ٦ ، وكذا انظر : تفسير الفخر الرازي : ج ١١ ص ١٦٠ .

(٣) الكهف : ٧٩ .

١٥٤

السفينة كانت لأقوام محتاجين ، متعيّشين بها في البحر ، والله تعالى سمّاهم مساكين )(١) .

وقال المراغي في تفسيره ، حكاية عن الخضرعليه‌السلام : ( أما فعلي ما فعلته بالسفينة ، فلأنّها كانت لقوم ضعفاء ، لا يقدرون على دفع الظلمة ، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها وخلاصة ذلك : إنّ السفينة كانت لقوم مساكين عجزة ، يكتسبون بها ، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ، ويعجزون عن دفعه ، من غصب ملك قدّامهم ، من عادته غصب السفن الصالحة )(٢) .

الثانية : قصّة الغلام ، وأنّه لو بقي حيّاً لكان في ذلك مفسدة لوالديه ، في دينهما ودنياهما ، و( لو بقي كان فيه بوارهما ، واستئصالهما )(٣) ، بل قد جاء في روايات الفريقين : أنّ الله تعالى أبدل أبويه ـ رحمة بهما ـ بجارية ولدت سبعين نبيّاً ، فالسنّة الإلهية اقتضت أن لا يُرزقا تلك الجارية المباركة ، إلاّ بعد فقدانهم ذلك الغلام .

ولا يخفى ما في الدور الكبير لوجود سبعين نبياً في حياة البشر ، وهدايتهم ورقيّهم ، كما نصّت على ذلك بعض الروايات ، فقد أخرج ابن حجر ، عن تفسير ابن الكلبي : ( ولدت [ أم الغلام ] جارية ، ولدت عدّة أنبياء ، فهدى الله بهم أمماً ، وقيل : عدّة مَن جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيّاً )(٤) .

الثالثة : قصة إصلاح الخضرعليه‌السلام للجدار ؛ لأنّه لو انهار ذلك الجدار لضاع

ـــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ، الفخر الرازي : ج ١١ ص ١٦١ .

(٢) تفسير المراغي ، المراغي : ج ٦ ص ٧ .

(٣) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٥ ص ٤٢٩ .

(٤) فتح الباري ، ابن حجر : ج ٨ ص ٣٢٠ ؛ ونحوه تفسير القرطبي : ج ١١ ص ٣٧ ؛ وانظر فتح القدير ، الشوكاني ، ج ٣ ص ٣٠٦ .

١٥٥

مال اليتيمين اللذين كان أبوهما صالحاً ، كما في قوله تعالى :( وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً ) (١) .

خصائص الحكم الإلهي

لا يخفى أنّ العبر والمعطيات التي ضمّنها الله تعالى في قصة الخضرعليه‌السلام كثيرة ومهمّة جدّاً ، ولكن نستعرض منها ما يتعلّق ببحثنا وموضوعنا ، وهي كالآتي :

١ ـ دوام الحاكمية الإلهية

إنّ حاكمية الله تعالى في الأرض لا تنقطع أبداً إلى يوم القيامة ، والذي يقوم بأداء وتنفيذ حكم الله في الأرض هو خليفته في أرضه ، فخليفة الله هو الواسطة المباشرة لإجراء حاكميته تعالى .

وقد جاء ذلك في قوله عزّوجلّ :( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٢) سواء كان ذلك الخليفة رسولاً أم نبيّاً أم وليّاً ووصيّاً من الأوصياء .

وقال تعالى أيضاً :( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ ) (٣) .

وقال عزّ وجلّ :( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنَا ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٨٢ .

(٢) البقرة : ٣٠ .

(٣) يوسف : ٤٠ .

(٤) النور : ٥١ .

١٥٦

وقال تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .

فحاكمية الله تعالى ـ التي لا تقتصر على سلطته في التشريع فقط ، بل يداه مبسوطتان في كل المجالات القضائية والسياسية والاقتصادية ـ يجريها على أيدي خلفائه من الرسل والأنبياء والأولياء والأوصياء .

هذا وقد أرشدنا الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم إلى خلفائه الذين جعلهم أئمّة وقادة للبشرية جمعاء ، ابتداءً من آدمعليه‌السلام أبي البشر ، وأوّل خليفة لله على أرضه ، ومروراً بنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، وانتهاء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء ، وأوصيائهعليهم‌السلام الهداة المهديين ، حيث قال تبارك وتعالى :

( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٢) .

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٣) .

( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٤) .

( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٥) .

ومن حصيلة هذه النصوص القرآنية وغيرها ممّا يشاركها في المضمون ؛ يتضح أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل خلفاء له في الأرض ، ينفّذون حاكميته في الأرض ، ويمثّلون مظهراً وتجلياً لسلطنته على الخلق .

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) السجدة : ٢٤ .

(٣) الأنبياء : ٧٣ .

(٤) القصص : ٥ .

(٥) البقرة : ١٢٤ .

١٥٧

٢ ـ شمولية الحاكمية الإلهية

ثم إنّ الحاكمية لله تعالى شاملة لكل المجالات ، ولجميع الأمور مهما كان حجمها ، وهذا ما نلمسه واضحاً من النصوص القرآنية ، حيث نجد أن الله تبارك وتعالى هو الحاكم في جميع الأمور ، وكان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا النّبِيّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الأَسْرَى‏ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرَاً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (٢) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) (٣) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً ) (٤) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللهُ لَكَ ) (٥) .

وقوله :( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٧٠ .

(٢) التوبة : ٧٣ .

(٣) الأنفال : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٢٨ .

(٥) التحريم : ١ .

١٥٨

وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) .

وقوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى :( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٣) .

وقوله تعالى :( وَإِن جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللهِ إِنّهُ هُوَ الْسّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٤) .

وغيرها من النصوص القرآنية الأخرى .

وقد خاطب الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم بـ ( قل كذا ) و ( قل كذا ) في أكثر من ( ٣٥٠) مورداً ، وكانت الأوامر الإلهية تنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل صغيرة وكبيرة ، بدءاً من بيته وشؤونه الخاصة ، ومروراً بقضايا الحكومة والدولة وإدارة شؤون المسلمين ومسائل الحرب وقضايا الجهاد وغيرها ، فلا يُعقل أنّ هذه الحاكمية الحيّة والفعّالة من قِبل الله تعالى تجاه قضايا الإسلام والمسلمين والتي تجري وتُنفّذ عن طريق خليفته المعصوم عن الخطأ ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنقطع بين ليلة وضحاها ، ويوكل الأمر إلى عامّة المسلمين ، الذين يجهلون أبسط المسائل الفقهية ، فضلاً عن غيرها من القضايا المهمّة في حياة المسلمين ، والبشرية بصورة عامة .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) النحل : ٤٤ .

(٣) آل عمران : ٦١ .

(٤) الأنفال : ٦١ .

١٥٩

إذن لابد من وجود مَن ينفّذ حاكميته تعالى بعد رسوله الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك هو الخليفة الحقّ الذي يحمل مزايا الأنبياء والأوصياء والرسل ؛ ليكون قادراً على تحمل الأمانة ، وتنفيذ تلك الحاكمية بالنحو الذي أراده الله عزّ وجلّ ، منذ بدء الخلق إلى قيام الساعة ، وقد نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأمر من الله تعالى ذلك الخليفة من بعده ، وهم أهل بيته ، عليّ وبنوهعليهم‌السلام ، وهم الخلفاء الاثنا عشر ، كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها .

ثم إنّ هذا المعنى من الحاكمية المستمرة لله تعالى في الأرض يلتقي مع مقولة الخضر لموسىعليه‌السلام :( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) (١) ، أي أنّ هذه الأفعال التي قمت بها ليست بمحض إرادتي ، بل هي بأمر من الله تعالى ، وإجراء لحاكميته .

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ خليفة الله في الأرض ، القائم بهذا الدور في هذا العصر ، هو الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، فهو الذي يقوم بتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى ، ولكن في الخفاء ، لأجل الحكمة والأسباب التي اقتضت ذلك ، إلى أن يأتي أمر الله سبحانه بالظهور ، وإقامة دولة العدل والقسط ، فيكون الحق معلناً ، والباطل ضامراً خاسئاً .

وقد جاء ذكر ذلك الدور الفاعل للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في عصر الغيبة في كثير من الروايات على لسانهعليه‌السلام ، منها قولهعليه‌السلام :( فإنّا نحيط علماً

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٨٢ .

١٦٠