الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 361
المشاهدات: 191625
تحميل: 6439


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191625 / تحميل: 6439
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الولاية عند الشيعة أهمّ من التوحيد

الشبهة :

ولاية أهل البيتعليهم‌السلام عند الشيعة أهمّ من التوحيد .

الجواب :

أوّلاً : التوحيد أساس الدين

إنّ أصل التوحيد عند الشيعة الإمامية ، يأتي في الذروة ويحتل موقع الصدارة في المنظومة الدينية ، هذا ما نلمسه واضحاً عند مراجعة بسيطة لمصادر الشيعة في ذلك ، ويكفي للقارئ مراجعة سريعة لمجامعنا الحديثية ليجد الأحاديث المتضافرة والمتواترة في ذلك ، والتي تؤكّد على أنّ كل الكمالات لله تعالى ، بحيث لا يشذّ عنه كمال ، بل له من كل كمال وجودي أعلاه وأشرفه ، وهذا يعد من الأصول الأساسية عند الشيعة .

ومَن يتأمّل في حصيلة النصوص الروائية الشريفة الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام يتضح له أنّ مفتاح الولوج إلى عالم التوحيد الرحيب يكمن في معرفته تعالى معرفة حقيقية ، وهذه الفكرة لخّصها أمير المؤمنينعليه‌السلام في أوّل خطب النهج بقوله :( أوّل الدين معرفته ) (١) ، وبموازاة هذا المعنى سارت بيانات أهل البيتعليهم‌السلام ، وهذا المعنى يبرز في المحاورة التي دارت بين الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والحبر اليهودي عندما جاء إلى الإمام يسأله

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة الأُولى ، صبحي الصالح : ج ١ ص ١٤ ؛ وقد نقلها أكثر علمائنا في مجامعهم الحديثية .

٢٨١

قائلاً : ( يا أمير المؤمنين متى كان ربّك فقال له :ثكلتك أُمّك ، ومتى لم يكن حتى يقال متى كان ؟! كان ربّي قبل القبل بلا قبل ، وبعد البعد بلا بعد ، ولا غاية له ، ولا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنده ، فهو منتهى كل غاية ) ، وهنا يبهت الرجل ، وتبهره هذه الكلمات ، فيبادر الإمام بقوله : ( يا أمير المؤمنين أفنبي أنت ؟! فقال :ويلك أنا عبد من عبيد محمد )(١) أي بمعنى التلميذ الذي أخذ عنه علمه ومعرفته في أمر دينه ودنياه .

هذا مضافاً إلى أنّ الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال والتي ترشد إلى أهمية معرفة التوحيد معرفة صحيحة ، ودورها في انشراح النفوس والصدور ، وما تكتنزه من الثواب والأجر الكبير للموحّدين ، ولذا نجد أنّ أحد كبار علمائنا المحدّثين ، وهو أبو جعفر بن علي بن الحسين المشهور بالصدوق ، قد أفرد كتاباً خاصاً في التوحيد وحقيقته وفضله ، ونجده يخصص باباً خاصاً بعنوان ( ثواب الموحدين ) ، يسرد فيه عدداً كبيراً من الأحاديث الشريفة في هذا المضمار ، منها ما جاء عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ( خير العبادة قول لا إله إلاّ الله ) (٢) ، وروى أيضاً رحمه‌الله في كتابه المذكور عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ( إنّ أساس الدين التوحيد والعدل ) (٣) ، وجاء أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : التوحيد ثمن الجنّة ) (٤) ، وعن علاء بن الفضل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ :

ـــــــــــــ

(١) أصول الكافي : الكليني ، ج ١ ص ٨٧ ، باب الكون والمكان : ح ٥ .

(٢) التوحيد ، الصدوق : ص ١٨ .

(٣) المصدر نفسه : ص ٩٦ .

(٤) بحار الأنوار ، المجلسي : ج ٣ ص ٣ .

٢٨٢

( فِطْرَتَ اللهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا ) ، ( قال :التوحيد )(١) ، وما إلى ذلك من الروايات المتضافرة في هذا المجال ، كل ذلك يكشف عن صرح بناء المعرفة التوحيدية عند الشيعة ، ويكون ذلك ردّاً قاصماً لأصحاب الأفكار المغلقة التي تكيل الاتهامات للآخرين من دون روية .

ثانياً : ترابط أُصول الدين

إنّ الشيء الذي يسترعي الالتفات إلى أنّ المنظومة الدينية عبارة عن مركّب ذي حلقات مترابطة : التوحيد ، النبوّة ، العدل ، المعاد ، الإمامة ، فهي كالصلاة التي يُعبّر عنها بالمركّب الارتباطي ، بتحقّقها مجتمعة يتحقق الكل .

وعلى هذا الأساس فإنّ التوحيد الحق والمطلوب المرضي عند الله تعالى لا يتحقق إلاّ اعتقد الإنسان بهذه الأصول الخمسة ، وأنّ الإخلال بأيّ حلقة من حلقات هذا المركّب يؤدّي إلى الإخلال بالتوحيد المطلوب المرضي عند الله تعالى ، الذي هو غاية الغايات وليس وراءه غاية .

ومن هنا فإنّ الروايات المختلفة لدى السنّة والشيعة تشير إلى أنّ كفر إبليس ليس كفر شرك ؛ لأنّه لم يعبد غير الله ، وإنّما كان جحوده واستكباره على الله عزّ وجلّ في توحيده في مقام الطاعة ، وقد ورد في بعض الروايات أنّه طلب من الله تعالى إعفاءه من السجود لآدمعليه‌السلام ،

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار المجلسي : ج ٣ ص ٢٧٧ .

٢٨٣

وسوف يعبده عبادة لا نظير لها ، وما كان الجواب من الحق تعالى هو : ( إنّي أحب أن أطاع من حيث أريد )(١) ، وفي رواية أخرى : ( إنّما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تُريد )(٢) .

وبناءً على ما سبق وتأسيساً عليه ، فإن التوحيد الحق والمطلوب والمرضي عند الله تعالى لا يتحقق إلاّ من خلال الطريق الذي رسمه الله لنا ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٣) ، وقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٤) ، فأهمية الإمامة تكمن في دورها الأساسي في رسم معالم التوحيد المرضي عند الله عزّ وجلّ .

وبعد هذه الإطلالة السريعة اتضح لنا أهمية التوحيد عند الشيعة ، وزيف قول صاحب الشبهة : إنّ الإمامة أهم من التوحيد لدى الشيعة .

ثالثاً : الولاية فرع التوحيد

إنّ الروايات التي جاءت في تعظيم شأن الولاية جعلتها في قِبال الصلاة والصوم والزكاة والحج ، وذكرت أنّ الولاية أعظم منها ، ولم تجعل الولاية في قِبال التوحيد ، فضلاً عن تفضيلها عليه ، كما جاء ذلك :

١ ـ عن أبي جعفرعليه‌السلام :( بُني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ، المجلسي ، ج ٢ : ص ٢٦٢ ، ج ١١ ص ١٤٥ .

(٢) المصدر نفسه : ج ١١ ص ١٤١ .

(٣) النساء : ٥٩ .

(٤) الحشر : ٧ .

٢٨٤

والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ) (١) .

٢ ـ عنه أيضاًعليه‌السلام :( بُني الإسلام على خمس : إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان ، والولاية لنا أهل البيت ، فجعل في أربعة منها رخصة ، ولم يجعل في الولاية رخصة ) (٢) .

وأين هذا من تفضيل الولاية على التوحيد ؟!!

بل لعلّ هذه الروايات صريحة في أنّ الولاية ليست بمستوى التوحيد ، بل هي فرع هذه الشجرة الطيّبة ، وهي شجرة التوحيد .

الخلاصة

١ ـ إنّ التراث الشيعي الضخم يشهد على مكانة وعظمة التوحيد عند الشيعة ، وهذا واضح لمَن كان له أدنى اطلاع على روايات أهل البيتعليهم‌السلام وكيفية تعظيمهم وتقديسهم للذات الإلهية ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :( أوّل الدين معرفته ) .

٢ ـ إنّ التوحيد المرضي عند الله تعالى إنّما يتحقق من حيث يريد هو عزّ وجلّ لا من حيث يريد العبد ، وقد رسم الله تعالى الطريق في قوله :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وقد تضافرت الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجوب مودّة أهل البيتعليهم‌السلام وموالاتهم واتباعهم والتمسّك بهم ، كما هو مقتضى حديث الثقلين والسفينة والغدير ونحوها .

إذن الجحود بحق أهل البيتعليهم‌السلام وعدم موالاتهم ونصب العداوة لهم تعني عدم طاعة الله ورسوله ، وبالتالي لا يتحقق التوحيد المرضي عنده تعالى .

ـــــــــــــ

(١) الكافي : الكليني : ج ٢ : ص ١٨ .

(٢) الخصال : الصدوق : ص ٢٧٨ .

٢٨٥

٣ ـ الروايات التي اعتنت بالولاية إنّما جعلتها قِبال الصلاة والصوم والحج ونحوها ، ولم تجعلها في قبال التوحيد .

علم أهل البيتعليهم‌السلام بالغيب غلو

الشبهة :

إنّ علم الغيب مختص بالله تعالى لقوله تعالى :( فَقُلْ إِنّمَا الْغَيْبُ للهِ ) فكيف يدّعي الشيعة أنّ أهل البيت يعلمون الغيب ؟

تمهيد :

لكي تتضح الصورة في هذه المسألة ، ينبغي أن نتوقّف قليلاً عند حقيقة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتعرّف على مقدار وحدود ونوع هذا العلم ، وما هي نوع العلاقة بين أهل البيتعليهم‌السلام وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل توارث أهل البيتعليهم‌السلام علمهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا ؟

وسوف نخوض في تحقيق هذه المعاني بشكل إجمالي مكتفين بالإشارة المفهمة ، التي من خلالها يمكن إيصال المطلوب ، وسيتجلّى إن شاء الله تعالى ، أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العلم اللدني الخاص من الله تعالى .

علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ولكي نصل إلى معرفة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ينبغي الإجابة على تساؤل مسبق ، يثار على ضفاف هذه المسألة يسهم في بناء الرؤية الفكرية الصحيحة حول العلم بالغيب .

٢٨٦

والسؤال هو : ما هي حقيقة وجوهر علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وفي مقام الجواب على ذلك نقول :

إنّ علم النبي هو سنخ علم خاص يختلف عن علوم سائر البشر المتعارفة ، التي تسمّى بالاصطلاح العلمي بالعلوم الحصولية ، وقد سجّل القرآن الكريم هذه الحقيقة ، كما في قوله تعالى :

( وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (١) إلى أن قال تعالى :( قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (٢) ، ثم انعطف بتوجيه الخطاب إلى آدمعليه‌السلام ، فقال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، حيث نجد أنّ المشهد القرآني استبدل صيغة التعبير من ( التعليم ) الذي استخدمه مع آدم إلى التعبير ( بالإنباء ) الذي استخدمه مع الملائكة ، وتغيّر التعبير لم يكن بسبب التفنن الأدبي فحسب ، لأنّنا بإزاء كلام الله تعالى ، الذي وصفه في قرآنه بأنه :( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٣) ، إذن التعبير بهذه الصيغة يحمل في طياته مغزى يتمثّل في أنّ ما حصل لآدم هو تعليم ، وأنّهعليه‌السلام كان فيه القابلية والاستعداد لتحمل هذا العلم الإلهي الذي لم يتحمله غيره ، أمّا الملائكة فلم يتجاوز تحمّلهم سوى الإنباء لهم بالواسطة ، لعدم استعدادهم لتلقّي الفيض من الله تعالى بالمباشرة ؛ لأنّ نشأتهم الوجودية لا تؤهّلهم لتعلّم ذلك العلم وحمله بتمامه وبالمباشرة ، وإنّما ما يمكنهم هو الإنباء والاطلاع على الواقعة بعد تمامها بالواسطة .

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ٣١ .

(٢) البقرة : ٣٢ .

(٣) هود : ١ .

٢٨٧

وتشير الآية المباركة الآنفة الذكر إلى نقطة بالغة الأهمية ، تتمثّل فيموقع ومنزلة العلم الذي تعلّمه آدم عليه‌السلام ، فلأهمية وعظمة هذا العلم ؛ حاز عليهم‌السلام به الموقع الوجودي الذي أهّله ليكون مسجوداً للملائكة ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ ) ، ولا يخفى أنّ لفظة الملائكة المحلاّة بالألف واللام تفيد العموم والشمول ، ولفظة كلّهم لزيادة التأكيد ، ثم عاد ليؤكّده بالمزيد في قوله تعالى : ( أجمعون ) ممّا يفيد عدم تخلّف أحد من الملائكة في السجود إلى هذا الخليفة الإلهي الأرضي ؛ ولذا نجد الكثير من المفسرين ذهبوا لذلك ، كما يومئ إليه قول الفخر الرازي في تفسيره : ( قال الأكثرون إنّ جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم ) (١) ثم ذكر الأدلة التي احتجّوا بها على رأيهم .

أفضلية نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر الأنبياء

اتفقت كلمة المسلمين على أفضلية نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بقيّة الأنبياء من أُولي العزم من الرسل وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، وجاء هذا الإجماع على ضوء أدلّة قرآنية وروائية ، منها قوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏ وَعِيسَى‏ ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً ) (٢) فمع أنّ نبيّنا آخر النبيين مبعثاً ، إلاّ أنّ القرآن الكريم يقدّمه في أخذ الميثاق على نوحعليه‌السلام الذي هو أوّل أنبياء أُولي العزم ، ثم يأتي مَن يليه من أُولي العزم ، ولم يأتِ هذا التقديم جزافاً ؛ إذ لا موضع للجزاف في القرآن الكريم ، الذي هو كتاب الله وكلماته ، وقد ذكر الآلوسي في تفسير الآية

ـــــــــــــ

(١) التفسير الكبير : الفخر الرازي ، مج ١ ، ج ٢ ص ٢٥٩ ، دار الفكر ـ بيروت ، ١٤١٥ هـ .

(٢) الأحزاب : ٧ .

٢٨٨

قائلاً : ( تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجاً بيّناً للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع ، واشتهر أنّهم أُولو العزم صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ، وأخرج البزاز عن أبي هريرة أنّهم خيار ولد آدمعليه‌السلام ثم أضاف : ( وتقديم نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أضاف : ( وتقديم نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل ، أو لتقدّمه في الخلق )(١) .

والأحاديث المشهورة في هذا المضمار كثيرة ، لا سيّما الأحاديث التي تركز على حقيقة مهمّة ، وهي أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل مخلوق خلقه الله سبحانه وأنّه المصداق الأتم ، والتجسيد الأكمل للخلافة الإلهية ، وقد أشار الآلوسي لهذا المعنى بقوله : ( فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمّل للخليقة ، والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة ، وكل مَن تقدّمه عصراً من الأنبياء وتأخّر عنه من الأقطاب والأولياء ، نوّاب عنه مستمدّون منه )(٢) .

وقد جاء في العديد من الروايات أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأوّلين والآخرين ، ومن هنا نجد القرآن الكريم بيّن عظمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدّة من آيات أخرى ، منها : قوله تعالى :( لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سْكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٣) ، وقال القاضي عياض في ذيل هذه الآية : ( اتفق أهل التفسير في هذا أنّه قسم من الله جلّ جلاله بمدّة حياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف ، قال ابن عباس : ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة غيره ، وقال أبو الجوزاء : ما أقسم الله بحياة أحد غير

ـــــــــــــ

(١) روح المعاني ، الآلوسي : ج ٢١ ص ١٥٤ ، نشر : دار إحياء التراث العربي .

(٢) روح المعاني ، الآلوسي : ج ٢٢ ص ٢٠ .

(٣) الحجر : ٧٢ .

٢٨٩

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه أكرم البرية عنده )(١) .

وقد تضافرت الروايات في هذا المعنى :

منها : ما جاء عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا سيّد ولد آدم ولا فخر ، وأوّل مَن تنشق عنه الأرض ، وأوّل شافع وأوّل مشفّع ) (٢) .

ومنها : ما روته عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أتاني جبرائيل فقال : قلّبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أرَ رجلاً أفضل من محمد ، ولم أرَ بني أب أفضل من بني هاشم ) (٣) .

ومنها : ما ورد عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأوّل مَن ينشق عنه القبر ، وأوّل شافع وأوّل مشفّع ) (٤) .

ونحوها من الروايات التي تؤكّد وتثبت أفضلية نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر الأنبياءعليهم‌السلام ، وهذه الحقيقة ممّا لا خلاف فيها بين المسلمين ، فهي محل اتفاق الجميع .

ـــــــــــــ

(١) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ، القاضي عياض : ج ١ ص ٣١ ـ ٣٢ ؛ فتح القدير ، الشوكاني : ج ٣ ص ١٣٨ ؛ وانظر : تفسير القرطبي : ج ١ ص ٣٩ .

(٢) صحيح ابن حبان ، ابن حبان : ج ١٤ ص ١٣٥ .

(٣) تفسير ابن كثير ، ابن كثير : ج ٢ ص ١٧٩ ـ ١٨٠ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير: ج ٢ ص ٣١٧ ؛ الجامع الصغير ، الطبراني : ج ٢ ص ٢٤٧ ؛ دلائل النبوة ، البيهقي : ج ١ ص ١٧٦ ؛ الشفاء ، القاضي عياض ، ج ١ ص ١٦٦ الباب الثالث الفصل الأول .

(٤) تفسير ابن كثير ، ابن كثير : ج ٣ ص ٦٢ ؛ صحيح مسلم ، مسلم النيسابوري : ج ٧ ص ٥٩ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ٥٤٠ ؛ سنن ابن ماجة : ج ٢ ص ١٤٤٠ ؛ سير أعلام النبلاء : ج ٨ ص ٢٩٤ وج ١٠ ص ٢٢٣ ؛ وغيرها .

٢٩٠

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم الأنبياء على الإطلاق

اتضح ممّا تقدم آنفاً أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأولين والآخرين ، وأفضل الأنبياء على الإطلاق ، فمن البديهي أن يكونصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم الأنبياء جميعاً ؛ وإلاّ فلا يكون هناك معنى للأفضلية والقرب والرفعة والمقام المحمود عند الله تعالى .

وقد تبيّن أنّ علم الأنبياء والمرسلين سيما نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو سنخ علم خاص ليس من العلم الاكتسابي المتعارف عند سائر الناس ، كما هو الحال في علم التلميذ الذي يأخذ علمه من المعلم ، فعلم الأنبياء هو علم يلقيه الله سبحانه في قلب مَن يشاء ، وهو مفاد قوله تعالى :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لدُنّا عِلْماً ) (١) وكذلك العلم الذي أفاضه تعالى على آدمعليه‌السلام وألقاه في قلبه مرة واحدة ، بقوله تعالى :( وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلّهَا ) (٢) .

إذن علم الأنبياء هو علم خاص يلقيه الله تعالى في قلب مَن يشاء وعلى هامش هذا المعنى تنبثق إثارة أخرى ، محصّلها : هل الأنبياء يعلمون الغيب أم لا ؟

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٦٥ .

(٢) البقرة : ٣١ .

٢٩١

الأنبياء يعلمون الغيب

إنّ المتأمّل في هذه الإثارة يجد أنّ منشأها من قِبَل البعض الذين يجمدون على ظواهر بعض الآيات القرآنية ، التي تنفي العلم للغيب لغير الله تعالى ، كقوله تعالى :( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ) (١) ، وكذا قوله تعالى :( قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ ) (٢) وقوله تعالى :( قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوءُ ) (٣) .

إلاّ أنّ الملاحظة التي تستدعي الالتفات ، والتي غفل عنها أصحاب الشبهة ، وأخذوا ينظرون إلى القرآن بعين واحدة ، هي أنّ القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً ، فقد ورد في آية واحدة بيان شافٍ لذلك ، وهو قوله تعالى :( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى‏ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى‏ مِن رسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى‏ كُلّ شَي‏ءٍ عَدَداً ) (٤) نعم( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ ) (٥) .

إذن على ضوء هذه الآية المباركة( إِلاّ مَنِ ارْتَضَى‏ مِن رّسُولٍ ) يتضح تخصيص الأنبياء والرسل المرضيين عند الله تعالى ، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم ، بأنّ الله تعالى أوصى إلى الأنبياء والرسل وأطلعهم على

ـــــــــــــ

(١) الأحقاف : ٩ .

(٢) الأنعام : ٥٠ .

(٣) الأعراف : ١٨٨ .

(٤) الجن : ٢٦ ـ ٢٨ .

(٥) البقرة : ٢٥٥ .

٢٩٢

الغيب :( إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً ) (١) .

مضافاً إلى ما صرّحت به الروايات من اطلاع الأنبياء على الغيب ، وبعبارة أخرى : إنّ الآيات التي تنفي بظاهرها علم الغيب عن الأنبياء واختصاصه بالله تعالى ، إنّما يكون المقصود منها هو نفي علم الغيب من الأنبياء بالاستقلال والأصالة ومن دون الإذن الإلهي ، وليست هذه الآيات في مقام نفي العلم بالغيب عن الأنبياء إذا كان بنحو التبعية والتعليم من قِبل الله وبإيحاء منه تعالى ، كما قال تعالى حكاية عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ ) (٢) ، مضافاً لحكم العقل القاضي باستلزام موقع الخلافة الإحاطة والعلم بكلّ شيء .

إذن لا إشكال في علم الأنبياء بالمغيبات إذا كان بإذن الله تعالى ، وإليك جملة من الشواهد القرآنية على ذلك :

شواهد من علم الأنبياء بالغيب

ثمّة عدد من النصوص الأخرى القرآنية التي تشهد على علم الأنبياء بالغيب ، منها :

١ ـ ما قاله وبيّنه نبي الله صالح لقوله ، كما في قوله تعالى :( فَعَقَرُوهَا فَقَالَ

ـــــــــــــ

(١) النساء : ١٦٣ .

(٢) هود : ٣١ .

٢٩٣

تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (١) .

٢ ـ كلام نبي الله عيسىعليه‌السلام وأخباره لبني إسرائيل بما يأكلون وما يدخرون ، كما في قوله تعالى:( وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٢) .

٣ ـ ما ورد في القرآن من مواعيد الأنبياء بالملاحم والإخبار بالغيب ، وقد وقع ذلك كلّه كوعيد نوح بحدوث الطوفان ، وإنذار هود وشعيب ولوط بوقوع العذاب ، وغير ذلك .

إخبار نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغيب

ونجد في هذا الحقل إخبارات غيبية كثيرة ، سطّرها القرآن الكريم منها :

١ ـ إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانهزام الفرس على يد الروم ، كما في قوله تعالى :( الم * غُلِبَتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى‏ الأَرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ‏ِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) (٣) .

٢ ـ إخباره لأصحابه بأنّهم سيدخلون المسجد الحرام في مكة ، كما في قوله تعالى :( لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ ) (٤) ، وقد تحقق الأمر بذلك الدخول كما أخبر به الله تعالى ، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) هود : ٦٥ .

(٢) آل عمران : ٤٩ .

(٣) الروم : ١ ـ ٤ .

(٤) الفتح : ٢٧ .

٢٩٤

٣ ـ ما أخبر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغيب في مقام التحدّي وإعجاز القرآن ، وأنّه لم يستطع أحد أن يأتي ولو بسورة واحدة ، كما قال تعالى :( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) (١) ، وكذا قوله تعالى :( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) (٢) .

٤ ـ إخباره بالفتوحات والمغانم الكثيرة ، كما في قوله تعالى :( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) (٣) .

٥ ـ إخباره تعالى أنّه يحفظ نبيّه من أذى المنافقين ، كما في قوله تعالى :( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (٤) هذا وإن كان إخبار بالغيب من قِبل الله تعالى على لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ذلك لا ينافي أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم الغيب بالتبع عن طريق إعلام الله تعالى له .

علم أهل البيتعليهم‌السلام

بعد أن تبيّن أنّ علم الأنبياءعليهم‌السلام هو سنخ علم خاص يتلقّاه النبي من الله تعالى سواء أكان عن طريق الإلهام أم التلقين ، ينبغي الالتفات إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو العالم وحده بالاستقلال ولا يشاركه غيره ، نعم قد يفيض الله تعالى من علمه على بعض المخلوقات كالأنبياءعليهم‌السلام على وفق حكمته تعالى ، ومَن ثمّ قد تتفاوت درجات إفاضة هذا العلم من قِبله تعالى حسب ما تقتضيه حكمته .

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الله تعالى خصّ أهل البيتعليهم‌السلام أيضاً بهذا النوع من العلم ؛ لكونهم ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم الثقل والعِدْل الآخر للقرآن الكريم ، وسوف نلج في هذا المبحث من خلال بوّابة العقل ، وبوّابة القرآن الكريم ، والروايات الخاصة بذلك وبعض الشواهد الأخرى .

ـــــــــــــ

(١) يونس : ٣٨ .

(٢) هود : ١٣ .

(٣) الفتح : ٢٠ .

(٤) المائدة : ٦٧ .

٢٩٥

الدليل العقلي على علم الإمام

بما أنّه ثبت في محلّه أنّ الأئمّةعليهم‌السلام خلفاء الله في أرضه ، ومقام الخلافة الإلهية في الأرض هو سنخ مقام لحكم الله في أرضه ، وهو ما تسجّله الأبحاث التفسيرية على هدي قوله تعالى :( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١) ومن هنا نجد الآلوسي يقول : ( ومعنى كونه خليفة أنّه خليفة الله تعالى في أرضه ، وكذا كل نبي ، استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى ، ولكن لقصور المستخلف عليه ؛ لما أنّه في غاية الكدورة والظلمة والجسمانية ، وذاته تعالى في غاية التقدس ، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية ، فلابدّ من متوسّط ذي جهتي تجرّد وتعلّق ؛ ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى )(٢) .

إذن تبيّن أنّ الخليفة موجود أرضي له بعدان : أحدهما روحي ، والآخر معنوي وبشري يؤهّله للنهوض بدوره في العالم ليمثّل سلطان الله في أرضه ، وعلى هذا الأساس فلابدّ من أن يتمتع بمواصفات ومزايا خاصة ، فينبغي أن يكون أعلم ممّا سواه ليمثّل علم الله تعالى ، وأن يكون قادراً على تحمّل منصب الخلافة في القدرة والسمع والبصر الإلهي على هذه الأرض ، ومن هنا نجد نصوصاً روائيةً وافرةً تشهد على أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام لهم هذه القدرة بإذن الله تعالى .

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ٣٠ .

(٢) روح المعاني ، الآلوسي : ج ١ ص ٢٢٠ .

٢٩٦

ففي الحديث ، عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم وإنّي لأراكم من وراء ظهري ) (١) .

وقد ذكر ابن حبان: ( بأنّ المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرى من خلفه كما يرى بين يديه فرقاً بينه وبين أُمّته )(٢) .

ولا غرابة في ذلك ، كما يحدثنا القرآن عن كثير من الأنبياء بامتلاكهم مثل هذه القدرة ، فهذا نبي الله عيسىعليه‌السلام له قدرة على الخلق وإحياء البشر وشفاء المرضى ، قال تعالى :( وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ أَنّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللهِ ) (٣) .

ومن هنا نجد أنّ ابن كثير يقول في تفسيره في ذيل الآية : ( وكذلك كان يفعل : يصوّر من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه ، فيطير عياناً بإذن الله عزّ وجلّ الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنّ الله أرسله )(٤) .

ـــــــــــــ

 (١) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ٣٠٣ ؛ صحيح ابن حبان ، ابن حبان ج ١٤ ص ٢٥٠ .

(٢) صحيح ابن حبان ، ابن حبان : ج ١٤ ص ٢٥٠ .

(٣) آل عمران : ٤٩ .

(٤) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ص ٤٨٥ .

٢٩٧

وقد جاء في روايات الخلفاء الاثني عشر ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ولا ريب أنّ مَن يعمل بالهدى لا بد أن يكون على علم خاص من الله سبحانه وتعالى ، وإلاّ فوقوعه في الخطأ لا شك فيه .

إذن تبيّن أنّ الإمام ( الخليفة ) لابدّ أن يتوفّر على علم خاص منه تعالى ليؤهّله لأداء مسؤوليته وتمثيله في الأرض .

الأدلة القرآنية على علم الإمام

نستعرض فيما يلي جملة من الآيات القرآنية الواردة بشأن اختصاص أهل البيتعليهم‌السلام بنوع خاص من العلم يختلف عن علم سائر الناس .

الدليل الأوّل :

قوله تعالى :( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لنَفْسِهِ وَمِنْهُم مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (١) وتقريب الاستدلال بهذه الآية يتطلّب منّا أن نمكث قليلاً لمعرفة حقيقة الوراثة القرآنية واختلافها عن الوراثة الترابية ( المادية ) ، لا سيّما مع ملاحظة أنّ أوّل ما يطالعنا القرآن به من الوراثة هي وراثة الإمامة المستمرّة إلى يوم القيامة التي نلمسها بوضوح من خلال دعوة النبي إبراهيم لذرّيته .

دعوة النبي إبراهيم لذرّيته

إنّ منصب الإمامة وما يمثّله من حالة تكاملية للإنسان الذي يعد من أرقى درجات التكامل الإنساني ، شاء الله تعالى بلطفه وكرمه وفضله على الأنبياء ، أن يجعل من ذريتهم أئمة وهداة يؤدون الواجب الإلهي تكريماً لهم ونعمة ومنة منه تعالى على أنبيائهعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) فاطر : ٣٢ .

٢٩٨

وفي الوقت نفسه كان هذا التكريم يمثّل رغبة وأمنية من أمنيات الأنبياء ، تفصح عن حالة فطرية عند الإنسان في الرغبة والبقاء والاستمرار من خلال ذريته الصالحة ، وهذا بحث اجتماعي مهم يرتبط بدراسة علاقة الإنسان بذريته وشعوره بالبقاء من خلالها .

فالقضية إذاً ترتبط بكلا الجانبين : الجانب الإلهي ، وهو تعالى الجواد المتفضّل على أنبيائه المجيب لدعائهم ، والجانب الإنساني العبودي المتمثّل بهؤلاء الأنبياء الذين أخلصوا لله تعالى في العبودية .

وهذا ما نشاهده واضحاً على لسان نبي الله إبراهيمعليه‌السلام الذي هو شيخ الأنبياء ، عندما امتحنه الله تعالى ، ونجح في ذلك الابتلاء والاختبار ، كان أوّل شيء طلبه من الله تعالى هو أن تكون هذه الإمامة التي حمّله الله مسؤوليتها ، أن تكون في ذرّيته أيضاً ، كما في قوله تعالى :( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١) ، وكذا وقوله تعالى :( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنّكَ أَنْتَ التّوّابُ الرّحِيمُ ) (٢) حيث طلبا من الله تعالى في البداية قبول هذا العمل العظيم ، ثم دعيا أيضاً أن يشرك معهما في إسلامهما لله عزّ وجلّ ذريتهما من المسلمين المهتدين المقبولين لديه ، ولم يقتصرا على ذلك وإنّما طلبا من الله تعالى أن تكون هذه الذرية ذرية تتحمّل مسؤولية النبوّة والرسالة أيضاً ، كما بيّنته الآية الشريفة ، حيث جاء فيها :( رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : ( فَهَبْ لِي مِن لّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي ) .

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ١٢٤ .

(٢) البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٩ .

٢٩٩

ولذلك نلاحظ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر ويقول :( أنّا دعوة إبراهيم ) (١) أي في جعله من ذرية إبراهيمعليه‌السلام ، وأنّه الرسول الذي يتلو الآيات ، ويعلّم الناس الكتاب والحكمة ويزكّيهم .

الإمامة في الذرّية سنّة قرآنية

عندما نرجع إلى القرآن ومفاهيمه وتصويره لحركة الأنبياء والرسالات الإلهية ، نجد أنّ هذا التكريم الإلهي للأنبياء ، وهو أن يجعل من ذريتهم أنبياء وأئمّة يقومون بالواجب الإلهي ، فصار ذلك سنّة من السنن الإلهية الواضحة في تاريخ الرسالات والأنبياء ، كما في قوله تعالى :( وَتِلْكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَن نَشَاءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى‏ وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَى‏ وَعِيسَى‏ وَإِلْيَاسَ كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) .

ـــــــــــــ

(١) الجامع الصغير ، الطبراني : ج ١ ص ٤١٤ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ٣ ص ٥٩٠ ؛ كنز العمال : ج ١١ ص ٣٨٤ ـ ص ٤٠٥ .

(٢) الأنعام : ٨٣ ـ ٨٧ .

٣٠٠