الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 75795
تحميل: 5821

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75795 / تحميل: 5821
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

فان قيل: لو كانت المعرفة لطفا لما عصى أحد.

قلنا: اللطف لا يوجب الفعل وانما يدعو اليه ويقوى الداعي اليه ويسهله فربما وقع عنده الفعل وربما يكون معه أقرب وان لم يقع، والنوافل انما لم تكن واجبة لانها مسهلة للواجبات مؤكدة للداعي.

وعندي انها انما لم تجب لانها لطف في المندوبات العقلية، فهي تابعة لما هي لطف فيه.

ويجب أن يبقي الله تعالى المكلف قدرا من الزمان يتمكن فيه من تحصيل كمال المعارف به وصفاته وتوحيده وعدله وبعده زمانا يمكنه فعل واجب أو ترك قبيح، لان الغرض بايجاب المعرفة كونها لطفا في الواجبات العقلية فلابد من ذلك.

فصل: (في الكلام في الاجال والارزاق والاسعار)

الاجل والوقت عبارتان عن معنى واحد، والوقت هو الحادث أو ما تقديره تقدير الحادث الذي تعلق حدوث غيره به.

لانا نجعل طلوع الهلال وقتا لقدوم زيد فان كان عالما بطلوع الهلال وغير عالم بقدوم زيد فان كان عالما بقدوم زيد وغير عالم بطلوع الهلال جاز أن يوقت طلوع الهلال بقدوم زيد.

وما تقديره تقدير الحادث هو أن يقال قدم زيد حين قضى عمرو نحبه، لان « قضى نحبه » أمر متجدد فجرى مجرى حادث.

وعلى هذا لا يجوز التوقيت بالقديم والباقيات، لانها لا حادثة ولا جارية مجرى الحادث.

فاذا ثبت ذلك فأجل الدين هو وقت حلوله واستحقاقه وأجل الاجارة عند انقضاء المدة المعقود عليها، وأجل الموت هو وقت حصول الموت فيه، وأجل القتل هو وقت حصول القتل، فاذا كان لا وقت لموته وقتله الا واحدا وهو الذي

١٠١

حدث فيه موته أو قتله وكذلك الاجل.

فعلى هذا اذا علم الله تعالى أنه لو لم يقتل فيه لعاش اليه لا يسمى أجلا، لان الموت أو القتل لم يقع فيه وبالتقدير لا يسمى أجلا كمالا يسمى بالتقدير وقتا اذا لم يقع فيه الموت أو القتل.

فعلى هذا لا يكون للانسان أجلان واكثر، ولا يسمى بذلك الا مجازا كما لا يسمى بالتقدير شئ رزقا ولا ملكا اذا لم يرزق ولم يملك.

ألا ترى أنه اذا علم الله من حال زيد أنه لو بقاه لرزقه أولادا وأموالا وولي ولايات لا يقال ان له أولادا وأموالا وولايات وان كان لو وصل اليها لوصف بذلك.

وقوله( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) (١) .

لا يدل على اثبات أجلين، لانه تعالى لم يصرح بأنهما أجلان لامر واحد.

ويحتمل أن يكون اراد بالاجل الاول أجل الموت في الدنيا والاجل الاخر حياتهم في الاخرة، والحياة لهااجل كأجل الموت.

وهذا يكون عاما في جميع الخلق وما قالوه لا يكون الا خاصا لانه ليس لكل احد أجلان عند المخالف بل ذلك لبعضهم دون بعض.

وقوله تعالى( لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) وقوله( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣) لا حجة فيه لانه لا يمتنع أن يسمى المقدور بأنه أجل مجازا، وانما منعنا منه حقيقة بدلالة ما قدمناه.

فأما من قتل فالصحيح انه لو لم يقتل لكان يجوز أن يعيش ولا يقطع على بقائه ولا على موته على ما يذهب اليه طائفتان مختلفتان.

وانما قلنا ذلك لان الله تعالى قادر على احيائه واماتته، ولا دليل على القطع على أحدهما، فيجب

___________________________________

(١) سورة الانعام: ٢.

(٢) سورة المنافقون: ١٠.

(٣) سورة نوح: ٤.

١٠٢

أن يجوز كلا الامرين ويشك فيه، لانه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بكل واحد من الامرين.

ويلزم من قال بوجوب الموت لو لم يقتل ان كل من مات بسبب من جهة الله من غرق أو هدم وما أشبههما، انه لو لم يكن ذلك لمات لا محالة.

ويلزم أن يكون من ذبح غنم غيره بغير اذنه محسنا اليه ولا يكون مسيئا لانه بالذبح قد جعله بحيث ينتفع بها ولو لم يذبحها لماتت ولم ينتفع بها فكان ينبغي أن يمدحه ولا يذمه، ولا يقبل العقلاء عذره اذا قال لو لم أذبحها لماتت فما أسأت اليه، بل كلهم يذمونه ويقولون أسأت اليه.

ولا يلزمنا اذا جوزنا موتها مثل ذلك، لان بالتجويز لا يخرج عن كونه مسيئا وانما بالقطع يخرج.

ويجري ذلك مجرى تجويزنا فيمن سلب مال غيره وغصبه اياه أن يكون الفقر اصلح له في دينه من الغنى، ولا يقتضي تجويزنا ذلك حين سلب المال لاجل التجويز، وكذلك لا ينبغي أن يقطع على أنه لو لم يقتل لعاش لا محالة، لانه لولا يمتنع انه لو لم يقتل لاقتضت المصلحة اماتته، فالشك هو العرض.

ولا يخرج هذا التجويز القاتل من كونه ظالما، لانه أدخل ضررا غير مستحق على غيره لا لدفع ضرر ولا اجتلاب نفع، وهذا حقيقة الظلم.

والقديم تعالى اذا أماته لا يقطع على أنه أدخل عليه ألما، ومتى أدخله عوضه عوضا يخرجه من كونه ظلما.

وليس كذلك اذا قلناه، لان ذلك الالم قبيح لا محالة.

والعوض الذي ينتصف الله منه في مقابلته يعذر ولا يخرجه من كونه ظلما.

فان قيل: فيمن قتل خلقا عظيما او ذبح غنما كثيرة في حالة واحدة فهل تجوزون موتهم في حالة واحدة أو بقاء‌هم، فان أجزتم موتهم في حالة واحدة فالعادة بخلاف ذلك وان لم تجيزوه بطل قولكم في التجويز.

١٠٣

قلنا: لا يجوز أن يتفق قتل الخلق العظيم في وقت يعلم الله تعالى أن الصلاح احترام جميعهم لولا القتل، وليس ذلك بمبطل لما قلناه، لان الكلام في كل مقتول معين أن يجوز بقاؤه وموته على حد واحد، لان الواحد ومن يجري مجراه يجوز أن يتفق مثله في وقت كان يجوز أن تقتضي المصلحة اماتته لولا القتل كما يجوز اتفاق الصدق من الواحد والاثنين في خبر بعينه وان لم يكن ذلك في الجماعة جائزا.

واما الرزق فهو ما صح الانتفاع به للمرزوق على وجه ليس لاحد منعه أو ما هو بالانتفاع به أولى.

والدليل على ذلك: ان ما اختص بهذه الصفة سمي رزقا ومالا يكن كذلك لا يسمى رزقا.

ولا يصح الرزق عليه تعالى، لاستحالة المنافع عليه.

والبهائم مرزوقة لجواز الانتفاع عليها، وكل شئ ليس لنا منعها منه فهو رزقها نحو شرب الماء من النهر الكبير أو ما تأخذ بفيها من الكلا المباح.

وقيل ذلك لا يسمى زرقا لها، لان لنا منعها منه بالسبق لها اليه، ومتى سمي الكلا والماء قبل التناول بأنه رزق لانسان أو بهيمة كان مجازا، ومعناه أنه يصير رزقا له اذا تناوله.

والملك والرزق يتداخلان في الشاهد ولا ينفصلان، والقديم يوصف بأنه مالك ولا يوصف بأنه مرزوق، لما قلناه من استحالة المنافع عليه، فصار من شرط تسميته رزقا صحة الانتفاع به، وليس ذلك من شرط تسميته بالملك.

وفي الناس من قال الملك منفصل من الرزق لانهم يقولون في الكلا والماء انه رزق للبهائم ولا يسمونه بأنه ملك لها.

١٠٤

والصحيح الاول، وانما لا يسمى رزق البهيمة ملكا لان من شرط تسميته بالملك أن يكون عاقلا أو في حكم العاقل من الاطفال والمجانين.

وقالوا أيضا: من أباح طعامه لغيره يوصف بأنه رزق له ولا يقال أنه ملكه قبل تناوله.

قلنا: لا فرق بينهما، لان قبل تناوله فهو رزقه وملكه وليس له منعه منه كالكلا والماء، ويجوز تسمية الولد بأنه رزق، وكذلك العقل لا يمتنع أيضا تسميته بأنه ملك والمعنى ان له الانتفاع بولده وبعقله، فلا فرق بينهما.

وحقيقة الملك أن من يقدر على التصرف في شئ ليس للاخر منعه منه فهو مالك له، ويسمى الله تعالى بأنه مالك يوم الدين لهذا المعنى، ولذلك يوصف الانسان بأنه يملك داره وعبده لانه يقدر على التصرف فيهما وليس لاحد منعه فيه، ولذلك لا تسمى دار غيره بأنها ملكه وان كان قادرا على التصرف فيها لان للغير منعه منها.

فاذا ثبت ذلك فالحرام ليس برزق لنا، لان الله تعالى منع عنه بالحظر ويجب علينا المنع منه مع الامكان، ولو كان الحرام رزقا للزم أن يكون أموال الناس رزقا للغاصبين والظالمين ويلزم فيمن وطئ زوجة غيره أن يكون ذلك رزقا له كما أنه اذا وطئ زوجة نفسه يكون كذلك.

وقد أمر الله تعالى بالاتفاق من الرزق في قوله( وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم ) (١) ومدح عليه بقوله( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (٢) ولا خلاف في أنه ليس له أن ينفق من الحرام، واذا أنفق لا يستحق المدح بل يستحق الذم.

ويصح أن يأكل الانسان رزق غيره كما يصح أن يأكل مال غيره.

___________________________________

(١) سورة المنافقون: ١٠.

(٢) سورة البقرة: ٣.

١٠٥

والرزق يضاف إلى الله تعالى تارة وأخرى إلى العباد، فاذا أريد بالرزق الجسم الذي يصح الانتفاع به أو بطعمه أو رائحته فمعلوم أن ذلك من خلق الله تعالى فيضاف اليه لامحالة، ومتى عبر به عن تصرفنا فيه على الوجه الذي ينتفع به فانه أيضا يضاف اليه تعالى، لانه لولاه لما صح منا التصرف والانتفاع به، لانه مكن منه بالقدرة والالات، ولو لم يكن الا خلق الحياة والشهوة لكفى لانهما الاصل في المنافع، فاضافته اليه تعالى من هذا الوجه واجبة.

وأما ما يضاف إلى الواحد منا فيجوز أن يهبه له أو يوصى له وما يجري مجراه، فانه يقال رزقه.

ومن ذلك قولهم ان رزق السلطان جنده ولا يقال فيما يملك بالمعاوضة بالبيع انه رزق من البائع، لانه قد أخذ عوضه، ولا يقال في الميراث انه رزق من الميت لان سبب ذلك من غير جهته وبغير اختياره، وكذلك لا يقال ان الغنائم رزق من الكفار لانها بغير اختيارهم، بل كل ذلك رزق من الله تعالى الذي حكم به.

واما السعر فانه عبارة عن تقدير البدل فيما يباع به الاشياء، ولا يسمى نفس البدل بأنه سعر، فلا يقولون فيمن معه دراهم ودنانير ان معه أسعارا وان كانت اثمانا للمبيعات وبوصف تقديرها بذلك فيقال هذا المتاع بكذا وكذا درهما.

ولا يلزم على ذلك قيم المتلفات أن يسمى سعرا، لانا تحرزنا منه بقولنا « فيما يباع به الاشياء ».

وفي الناس من شرط في حد السعر أن يكون ذلك على جهة التراضي، احترازا من قيم المتلفات.

وذكر البيع على ما قلناه يغني عن ذلك.

والسعر يكون غالبا ويكون رخيصا، فالرخص هو انحطاط السعر عما جرت

١٠٦

به العادة في وقت ومكان مخصوص، لان انحطاط سعر الثلج في الجبال الباردة لا يسمى رخيصا وكذلك في زمان الشتاء، فلذلك اعتبرنا الوقت والمكان.

والغلاء هو زيادة السعر على ما جرت به العادة والوقت والمكان واحد لمثل ما قلناه في الرخص.

ويضاف الرخص والغلاء إلى من فعل سببهما، فان كان سسببهما من جهة الله أضفنا اليه، وان كان سببهما من جهة العباد أضيفا اليهم، فما يكون سببه من الله تعالى في الرخص فهو تكثير الحبوب وتقليل الناس وتنقيص شهواتهم للاقوات فيرخص عند ذلك فيضاف إلى الله تعالى، وسبب الغلاء عكس ذلك من تقليل الحبوب وتكثير الناس وتقوية شهواتهم للاقوات، فيغلو فيضاف عند ذلك إلى الله.

وما يكون سببه من العباد في الرخص فنحو جلب الغلات وبيعها أو حمل الناس على ذلك والزامهم اياهم بنقصان من السعر، وعكس ذلك الغلاء بأن يحتكروا الغلات ويمنعوا من جلبها ويسعروها بأثمان غالية على العباد، فتنسب عند ذلك الغلاء والرخص إلى العباد الذين سببوا ذلك.

فصل: (في الكلام في الوعد والوعيد وما يتصل بهما)

الوعد عبارة عن الاخبار بوصول نفع إلى الموعود له، والوعيد عبارة عن الاخبار بوصول ضرر اليه.

والمستحق بالافعال ستة أشياء مدح وذم وثواب وعقاب وشكر وعوض: فالمدح عبارة عن القول المتضمن لعظم حال الممدوح، ولا يصير مدحا الا بثلاثة شروط: أحدها أن يقصد به التعظيم، وثانيها أن يكون اللفظ موضوعا للتعظيم في تلك اللغة، وثالثها أن يكون عالما بعظم حال الممدوح.

١٠٧

والظن والاعتقاد لا يقوم [ مقام العلم في ذلك، لان المدح لا يكون الا مستحقا ولا يصح ](١) ذلك الا مع العلم بالاعظام، اما بأن يكون ثابتا نحو من يمدحه ويعلم من حاله ما يقتضي تعظيمه نحو الانبياء والمعصومين، أو يكون مشروطا كمدح من غاب عنا بشرط بقائه على الحال الموجبة لتعظيمه.

والفعل لا يسمى مدحا حقيقة ويجوز أن بسمى بذلك مجازا.

والتعظيم يدخل في القول والفعل حقيقة كقيام الانسان لغيره مع القصد إلى تعظيمه أو تقبيل رأسه.

والمدح لا يكون الا خبرا يحتمل الصدق أو الكذب: كقولك فلان عالم فاضل مع القصد إلى تعظيمه.

والذم هو القول المنبي عن اتضاع حال المذموم وشروط كونه ذما مثل شروط المدح سواء من القصد إلى ذلك والعلم بحاله وان كان اللفظ موضوعا له، وما يرجع إلى الفعل يسمى ذما مجازا.

والاستخفاف والاهانة يكونان بالقول والفعل، لان من لا يقوم لمن يجب أن يقام له يسمى مستخفا به.

والثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال، فبكونه نفعا يتميز مما ليس بنفع، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل، وبمقارنة التعظيم والتبجيل يتميز من العوض.

والعقاب هو الضرر المستحق، ومن شروطه أن يقارنه استخفاف واهانة، فبكونه ضررا يتميز من النفع، وكونه مستحقا يتميز من الالم الذي يفعل لمصلحة، ويتميز أيضا بمقارنة الاستخفاف له والاهانة له.

والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ولا يكون كذلك الا بالقصد.

والشكر حقيقة ما يرجع إلى اللسان، وقد يسمى ما يرجع إلى القلب

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

١٠٨

من التفرقة بين المحسن والمسئ شكرا، وهو مجاز.

والعوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل، فبكونه نفعا يتميز من الالم، وبكونه مستحقا من النفع المتفضل به، وبكونه خاليا من تعظيم وتبجيل يتميز من الثواب على ما بيناه.

ويستحق المدح بفعل الواجب والندب وبالامتناع من القبيح وباسقاط الحقوق المستحقة كاسقاط العقاب من الله تعالى، وكذلك من أسقط دينه عن غيره استحق المدح.

ولا يستحق المدح الا بهذه الاربعة أشياء، لان فعل المباح والقبيح لا مدخل له في استحقاق المدح.

ولا يستحق المدح بفعل الواجب الا اذا فعل لوجه وجوبه أو لوجوبه، لانه لو فعله ساهيا لما استحق المدح، ولو فعله اتباعا للشهوة لما استحق عليه المدح أيضا.

والندب لا يستحق به المدح الا اذا فعل لكونه ندبا، ومتى فعل لنفع عاجل أو شهوة لم يستحق المدح.

فعلى هذا لا يصح فعل الواجب والندب على الوجه الذي يستحق به المدح الا ممن كان عالما بوجوبه أو وجه وجوبه وبكونه ندبا أو وجه كونه ندبا.

والقبيح لا يستحق المدح بتركه الا اذا كان تركه لكونه قبيحا، ولابد من أن يكون عالما بالقبيح أو وجه القبيح حتى يصح منه تركه لذلك.

وكلما يستحق به المدح يستحق به الثواب، بشرط حصول المشقة فيه أو في سببه أو ما يتصل به، لان الواطي لزوجته يستحق المدح والثواب، وان كان فعل لذة لكن قصر النفس عليه والتزام النفقة والمؤنة عليه فيه مشقة.

ولولا المشقة لجاز أن يستحق المدح والثواب على فعل اللذات والمنافع، والمعلوم خلافه.

وأيضا لو لم يعتبر حصول المشقة في استحقاق الثواب للزم أن يستحق القديم تعالى الثواب اذا فعل الواجب أو التفضل ولم يفعل القبيح، وذلك باطل.

١٠٩

والدليل على أن الفعل الشاق من الواجب والندب يستحق به الثواب هو أنه لا فرق في العقول بين الالزام المشاق وبين ادخال المضار، فلما كان الزام المضار لم يحسن الا للنفع - ولابد في ذلك النفع من أن يكون عظيما وافرا حتى يحسن الزام المشاق لاجله ولا يجوز أن يكون ذلك النفع مدحا ولا عوضا لان نفس المدح ليس بنفع وانما ينتفع بالسرور الذي يتبعه، وما يتبعه من السرور لا يبلغ الحد الذي مقابل ما في فعل الواجب والامتناع من القبح من المشاق العظيمة، وذلك معلوم ضرورة.

على أن السرور هو اعتقاد وصول المنافع اليه في المستقبل، سواء كان علما أو ظنا أو اعتقادا، ومتى رفعنا المنافع عن أوهامنا فلا سرور يعقل.

وأما العوض هو خال من تعظيم وتبجيل، ويحسن الابتداء بمثله، ومن حق ما يستحق على الطاعة أو يقارنه التعظيم، على أن من حق العوض أن يستحق بفعله من يستحق عليه العوض.

وهذا لا يصح ههنا، لان الطاعة من فعلنا والثواب يستحق عليه تعالى.

ولا يجوز أن يكون المستحق عوضا، واذا كان الملزم للواجب وجاعله شاقا هو الله تعالى وجب أن يستحق الثواب عليه دون غيره.

واذا ثبت استحقاق الثواب فليس في العقل ما يدل على أنه يستحق دائما، وانما يرجع في ذلك إلى السمع، وأجمعت الامة على أن الثواب يستحق دائما لا خلاف بينهم فيه.

وكل دليل يستدل به على دوام الثواب عقلا فهو معترض، قد ذكرنا الاعتراض عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.

وجملته أنهم قالوا الثواب يستحق بما يستحق به المدح، واذا كان المدح يستحق دائما وجب في الثواب مثله.

وقوى ذلك بأن قالوا ما أزال المدح أزال الثواب، فدل على أن جهة الاستحقاق واحدة، فاذا كان أحدهما دائما وجب أن يكون الاخر مثله.

وهذا غير صحيح، لانا لا نسلم أن جهة الاستحقاقين واحدة.

١١٠

ألا ترى أن القديم يستحق المدح بفعل الواجب والتفضل وان لم يستحق الثواب، ولو فعل أحدنا الواجب على وجه لا يشق عليه لاستحق المدح وان لم يستحق الثواب، ان الثواب يستحق بالمشقة والمدح يستحق بوجه الوجوب، فكيف يستحقان على وجه واحد.

ومتى قيل المشقة شرط والوجه هو كونه واجبا أو ندبا، قيل بعكس ذلك ولقائل أن يقول: الوجه هو المشقة وكونه واجبا شرط.

ثم يقال: ولم اذا تساويا في الشرط والوجه وجب أن يتساويا في الدوام، لانه اذا جاز أن يتساويا في هذين مع اختلافهما في الجنس جاز أن يختلفا أيضا في الدوام والانقطاع.

وقولهم « ما أزال أحدهما أزال الاخر » لا نسلمه، لان عندنا لا يزيل ما يستحق منها شئ على وجه على ما نبينه في بطلان التحابط.

وهذا أقوى دليل استدلوا به، وما عداه من أدلتهم ذكرناها بحيث أومأنا اليه لا نطول بذكره ههنا.

وأما الذم فانه يستحق بفعل القبيح والاخلال بالواجب، لان ما عدا ذلك من أفعال المكلف من الواجب والندب والمباح لا يستحق به ذم على حال.

ولا يستحق فاعل القبيح والمخل بالواجب الذم الا بعد أن يكون متمكنا من التحرز منه، بأن يكون عالما بقبح القبيح ووجوب الواجب، أو متمكنا من العلم بقبحه.

وفي الناس من قال لا يستحق الذم الا على فعل، وادعوا أن من أخل بواجب لابد أن يكون فاعلا لترك قبيح يستحق به الذم، لانهم حدوا الواجب بأنه ماله ترك قبيح.

وهذا غير صحيح، لان حد الواجب هو ما يستحق بالاخلال به الذم على بعض الوجوه، لان قبح الترك تابع لوجوب الوجوب فوجوب الواجب هو الاصل.

وما ذكروه يؤدي إلى أن يتعلق وجوبه بقبح تركه وقبح تركه يتعلق بوجوبه

١١١

وفي ذلك تعلق كل واحد منهما بصاحبه.

على أن في الواجبات مالا ترك له أصلا.

ولا يدخل الترك أيضا في فعل الله تعالى وان كان الوجوب يدخلها.

على أنه قد يعلم الواجب واجبا من لا يعلم أن له تركا قبيحا، لانا نعلم وجوب رد الوديعة على من طولب بها ومتى لم يردها استحق الذم مع التمكن وان لم يعلم أنه فعل تركا، وان علمناه أنه فاعل ترك علمناه بدليل وكان يجب أن من لا يعلم أنه فعل الترك أن لا يذمه، والمعلوم خلافه.

وللترك والمتروك له شروط: منها أن يكون القادر عليها واحدا والوقت الذي يفعلان فيه واحدا، أو يكونا مفعولين بالقدرة ويكونا ضدين مبتدأين.

وذلك أن تقول حد الترك ما ابتدئ بالقدرة بدلا من ضد له يصح ابتداؤه على هذا الوجه.

فيكون قولنا « بدلا من ضده » مغنيا عن أن نشرط فيه كون الوقت واحدا لان مع تغاير الوقت لا يوصف بالبدل، لان الفعل الواقع في وقت لا يمنع من وقوع فعل في وقت آخر وان تضادا، ومن شأن الترك والمتروك أن لا يدخلا(١) في الوجود.

وقولنا « ابتدئ بالقدرة » يغني عن شرط أن يكون مباشرا، لانه لا يبتدئ بالقدرة الا المباشر، وأغنانا عن أن نقول ما ابتدئ بالقدرة في محلها، لان القدرة لا يبتدئ بها الفعل الا في محلها، وأغنى ذلك عن أن نقول والمحل واحد، لان قولنا بدل لا يصح الا والمحل واحد والجملة واحدة، فما يتضاد على المحل فكالاكوان والالوان، وما يتضاد على الحي فكالارادة والكراهة، لان أحدنا لو فعل أرادة في جزء من قلبه لكانت بدلا من ضدها من الكراهة وتركا لها وان كانت في محل آخر من أخرى القلب.

___________________________________

(١) كذا في ج، وفى ر « ان يدخلا ».

١١٢

ولا اعتبار بأن تكون القدرة واحدة على الترك والمتروك، لانا قلنا ما ابتدئ بالقدرة ولم نقل بقدرة واحدة، لان القدرة التي يفعل بها الارادة في جزء [ من قلبه غير القدرة التي يفعل بها الكراهة في جزء آخر ](١) من القلب وان كانت الارادة تركا للكراهة.

وعلى هذا التقدير لا يدخل الترك في أفعال الله تعالى، لانا شرطنا فيه الابتداء بالقدرة.

ولا يدخل أيضا فيه المتولدات، لانا شرطنا في الترك والمتروك أن يكونا مبتدأين.

ويدل أيضا على أن الاخلال بالواجب يستحق به الذم أن العقلاء يذمون من لم يفعل الواجب مع التمكن وان لم يعلموا أنه فعل تركا له، فيجب أن يكون ذلك كافيا في حسن الذم، لان العلم بحسن الشئ أو قبحه تابع للعلم بماله حسن أو قبح جملة أو تفصيلا فلولا أن كونه غير راد الوديعة جهة يستحق بها الذم لما حسن ذمه عند العلم بما ذكرناه، ولو وجب أن يكونا عالمين بحسن الذم وان لم يعلم جهته، وذلك باطل نبين ذلك أنا اذا علمناه فاعلا لقبيح وجه يستحق به الذم وكذلك في كونه مخلا بواجب سواء.

ويدل أيضا على ذلك أنه يحسن من كل عاقل أن يعلق الذم بأن القادر لم يفعل ما وجب عليه، لان من لم يرد الوديعة مع حصول شروط وجوبها يذمونه ويقولون انه لم يرد الوديعة، فلو لا أن كونه غير راد لها جهة يستحق بها الذم لما قالوا ذلك، كما لا يحسن أن يعلقوا الذم بوجه لا يستحق به ذلك من كونه عرضا وحالا في محل وغير ذلك.

ويدل أيضا على ذلك أنا لو فرضنا أن القديم تعالى لم يفعل الواجب من

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١١٣

الثواب والعوض واللطف لا يستحق به الذم، يتعالى عن ذلك.

ولا يجوز الترك عليه على ما مضى، فيجب أن يكون الاخلال بالواجب جهة يستحق بها الذم كفعل القبيح، لان جهات استحقاق القبح لا تختلف باختلاف الفاعلين على ما يقوله المجبرة من نسبتهم القبائح إلى الله تعالى مع نفيهم عنه استحقاق الذم، ومتى لم يراعى هذا الاصل أدى إلى الفساد.

وأما العقاب فيستحق بما يستحق به الذم من فعل القبيح والاخلال بالواجب بشرط أن يكون فاعل القبيح أو المخل بالواجب اختاره على ما فيه منفعته ومصلحته من فعل الواجب أو الاخلال بالقبيح.

واعتبرنا هذا الشرط لئلا يلزم أن يستحق القديم تعالى العقاب ان فرضناه فاعلا للقبيح أو مخلا بالواجب، يتعالى الله عن ذلك.

ومن شرط من يستحق منه العقاب أن يكون عالما بقبح القبيح ووجوب الواجب أو متمكنا من العلم بذلك، لان مع كل واحد من الامرين يمكنه التحرز منه، والعقل لا يدل عندنا على استحقاق العقاب وانما نعلم ذلك سمعا، وأجمع المسلمون على أن القبيح يستحق به العقاب وان اختلفوا في دوامه وانقطاعه.

وقال أكثر أهل العدل ان العقل دال على استحقاق فاعل القبيح والاخلال بالواجب العقاب، قالو: لان الله تعالى أوجب علينا الواجبات على وجه يشق علينا مع امكان تعديه من المشقة وغرضنا للمشقة للثواب العظيم، ومجرد النفع لا يحسن له ايجاب الفعل وانما يؤثر في ايجابه حصول الضرر في الاخلال به فيجب من ذلك أن يكون فاعلا لقبيح، والاخلال بالواجب مستحقا لضرر عليه وهو العقاب.

وانما قلنا ان مجرد النفع لا يكفى في ايجاب الفعل، لان النوافل لا يحسن ايجابها وان كان في فعلها ثواب لانه لم يكن في الاخلال بها ضرر، وكذلك

١١٤

المكاسب والتجارات لا يحسن ايجابها لمجرد النفع ويحسن ذلك اذا كان في تركها ضرر.

وهذا ليس بجيد، لان لقائل أن يقول: انه يكفى في حسن الايجاب وجه وجوب الافعال، لانه تعالى بالايجاب فعلمنا وجوب الافعال علينا وانما يجب علينا لوجه وجوبها، فالايجاب انما حسن لهذه الوجوه بأعيانها، فأما جعل الفعل شاقا فبأزائه الثواب والايجاب انما حسن لوجه الوجوب.

والنوافل انما لم يحسن ايجابها لانه ليس لها وجه وجوب كما أن للواجبات وجه وجوب معقول يجب لاجلها، نحو كونها ردا للوديعة وقضاء الدين وما أشبه ذلك.

والتجارات مثل النوافل لا وجه لوجوبها فلذلك لم يحسن ايجابها.

والواحد منا وان أوجب على غيره ما ليس له وجه وجوب نحو أن يهدده بالقتل ان لم يدفع ماله اليه، فيجب عليه الدفع وان لم يكن له وجه وجوب انما كان كذلك لانه لم تثبت حكمته، والحكيم تعالى لا يحسن منه ايجاب ما ليس له وجه وجوب، فبان الفرق بينهما.

فان قيل: لو لم يستحق العقاب لكان مغرى بالقبيح مع حصول شهوته، وانما ينزجر لمكان العقاب، والذم لا ينزجر به العقلاء حتى يتركوا له المشتهيات العاجلة.

قلنا: يخرج من الاغراء بتجويزه استحقاق العقاب على فعل القبيح والاخلال بالواجب دون القطع عليه، كما يخرج بالتجويز عن الاغراء في زمان مهلة النظر، لانه لا طريق له هناك إلى القطع على استحقاق العقاب.

وقيل أيضا انه يخرج عن الاغراء بفوت المنافع اذا فعل القبيح، لانه يعلم أنه يفوته الثواب بفعل القبيح والاخلال بالواجب، وفوت المنافع يجري مجرى حصول المضار في باب الزجر.

١١٥

والمستحق للعقاب هو الله تعالى دون العباد، لاجماع الامة على أن الله تعالى هو المستحق، مع انا بينا أن نفس استحقاق العقاب لا يعلم عقلا وكيف يعلم من المستحق له، ولو استحق بعضنا على بعض العقاب لكان ذلك عاما في العقلاء وكان يجب أن يستحق عقاب فاعل القبيح جميع العقلاء وكل من يمكن خلقه حتى لا يستقر على قدر.

وليس لاحد أن يقول يختص الاستحقاق بالمساء اليه، وذلك أن العقاب انما يستحق لكونه قبيحا كما يستحق الذم لذلك، واذا كان استحقاق الذم شائعا وجب أن يكون استحقاق العقاب شائعا، وقد بينا فساده.

على أن العقاب يستحق بما ليس باساء‌ة من القبائح كالجهل والعبث والكذب وغير ذلك، فلا يمكن في ذلك الاختصاص.

واعتماد المخالف في ذلك على أن ولي الدم يستحق القود وهو عقاب، باطل لان طريق ذلك الشرع، واستيفاء الولي لذلك بمنزلة استيفاء الامام وان لم يكن الامام مستحقا لعقابه بلا خلاف.

ثم كيف يستحق الولي العقاب والجناية إلى غيره، واسقاط ولي الدم حقه من القود لا يدل على أنه حقه لان طريق ذلك أيضا السمع.

واذا بينا أن استحقاق العقاب لا يعلم عقلا فمالا يعلم دوامه عقلا أولى وأحرى لان الدوام كيفية، واذا كان نفس الاستحقاق لا يعلم فكيفيته أولى بذلك.

ومتى حملوا العقاب على الذم في دوامه فالكلام عليه مثل الكلام على دوام الثواب حين حملوه على استحقاق المدح سواء، وقد تكلمنا عليه فالطريقة واحدة.

ومتى قالوا لو جاز انقطاع العقاب للحق المعاقب راحة اذا تصور ذلك، ومثل ذلك قالوا في الثواب انه يتبعض على المثاب اذا تصور انقطاعه، وانا

١١٦

نتكلم عليه عند الكلام في الاحباط انشاء الله.

والمعاصي على ضربين كفر وغير كفر، فالكفر يستحق به العقاب الدائم اجماعا لا خلاف بين الامة فيه، وما ليس بكفر ليس على دوامه دليل بل دل الدليل على انقطاعه على ما سنبينه انشاء الله.

ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ولا بين المستحق عليها من ثواب وعقاب، ومتى ثبت استحقاق الثواب فانه لا يزيله شئ من الاشياء، والعقاب اذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شئ من الاشياء عندنا الا التفضل.

ومن خالفنا يقول الثواب يزول بالندم على الطاعة والعقاب كثيرة يوفي على الثواب.

والعقاب يزول بالتفضل وبالندم الذي هو التوبة، وتكثر الطاعة اذا زاد ثوابها على العقاب الحاصل.

والذي يدل على بطلان التحابط أنه لا تنافي بين الطاعة والمعصية ولا بين المستحق عليهما من الثواب والعقاب ولا ما يجري مجراه التنافي، والشئ ينافي غيره لتضاد بينهما أو ما يجري مجرى التضاد.

وانما قلنا لا تضاد بين الطاعة والمعصية لانهما قد ثبت أنهما من جنس واحد، بل نفس ما يقع طاعة كان يجوز أن يقع معصية.

ألا ترى أن قعود الانسان في دار غيره غصبا معصية، وهو من جنس قعوده فيها باذنه، وهو جنس مباح، وهما من جنس واحد.

وكذلك لا تضاد بين المستحق عليهما لمثل ذلك بعينه، لان الثواب من جنس العقاب، بل نفس ما يقع ثوابا كان يجوز أن يقع عقابا، لان الثواب هو النفع الواقع على بعض الوجوه، ولا شئ يقع نفعا الا وكان يجوز أن يقع ضررا وعقابا، بأن يصادف نفارا.

ولو كان بينهما تضاد على تسليمه لما تنافى الثواب والعقاب وهما معدومان، لان الضد الحقيقي لا ينافي ضده في حال عدمه، لان السواد والبياض قد يجتمعان في العدم.

١١٧

والتحابط عندهم بين المستحقين من الثواب والعقاب، وهما لا يكونان الا وهما معدومان، لانهما اذا وجدا خرجا عن كونهما مستحقين.

وان شئت قلت: قد ثبت استحقاق الثواب على الطاعة، فلا وجه يقتضي ازالته، فيجب أن يكون ثابتا على ما كان، فان ادعوا أن بينهما تنافيا تكلمنا عليه فيما بعد.

وايضا فالقول بالاحباط يؤدي إلى من جمع بين الاحسان والاساء‌ة أن يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يحسن ولم يسئ اذا نساوى المستحقان من المدح والذم أو يكون بمنزلة من لم يحسن اذا كان المستحق علي الاساء‌ة اكثر أو بمنزلة من لم يسئ ان كان المستحق على الطاعة اكثر، والمعلوم خلافه.

وقولهم « ان من شأن الثواب أن يقارنه تعظيم واجلال ومن شأن العقاب أن يقارنه استخفاف واهانة، ومعلوم ضرورة استحالة تعظيم أحدنا لغيره مع استحقاقه به في حالة واحدة اذا كان الذام والمادح واحدا والمذموم والممدوح واحدا والوقت واحدا، واذا تعذر فعله تعذر استحقاقه لان الاستحقاق تابع لصحة الفعل » باطل، لانا نخالف في استحالة ذلك، فلا يمكن ادعاء الضرورة فيه.

وان ادعوا أنه معلوم بدليل فينبغي أن يذكروه.

ثم لا يخلو ما ادعوا تنافيه من المدح والذم والتعظيم والاستحقاق أن يريدوا ما يرجع إلى اللسان أو ما يعتقد بالقلب، فان كان الاول فمعلوم أنه جائز، لانه لا يمتنع أن يمدح أحدنا غيره بلسانه على فعل ويذمه على فعل آخر بما يكتب بيده، ولو خلق له لسانان لتأتي أن يمدح بأحدهما ويذم بالاخر.

فعلم أنه متى تعذر فلفقد آلة الكلام، ولذلك لا يصح أن يمدح زيدا أو يذم عمرا في حالة واحدة وان جاز اجتماع ذلك في الاستحقاق لما قلناه من فقد الالة.

وان أرادوا ما يرجع إلى القلب ففيه الخلاف.

١١٨

والمعلوم عندنا خلافه، لانا نجد من نفوسنا صحة اجتماع اعتقاد المدح على فعل مع استحقاقه الذم على فعل آخر ولا تعذر في ذلك.

اللهم الا أن يريدوا أنه لا يصح اجتماع الاستحقاقين على فعل واحد بوجه واحد، فيكون ذلك صحيحا لكنا لا نقول ذلك.

وكل ما يسأل على هذا ويفرع عليه فقد استوفيناه في شرح الجمل، وهو مستقصى أيضا في مسألة الوعيد للمرتضى رحمة الله عليه.

واعتمادهم أيضا على ان من حق الثواب والعقاب أن يكونا صافيين من كل شوب فلو استحقا في حالة واحدة وفعلا في حالة واحدة خرجا عن الصفة اللازمة لهما وان فعلا على البدل فمثل ذلك، لان أيهما قدم على الاخر فالمفعول به منتظر لوقوع الاخر، وذلك يوجب نفي الخلوص ويقتضي الشوب، لانه ان كان في عقاب وعلم انقطاعه استراح إلى ذلك، وان كان في ثواب وتصور انقطاعه تنغص عليه، واذا امتنع فعلهما امتنع استحقاقهما أيضا.

باطل، لان أول ما نقوله انا لا نعلم بالعقل أن من شرط الثواب أو العقاب أن يكون خالصا صافيا، وانما علمنا ذلك بالسمع، وقد علمنا بالاجماع أنه لا يمتزج الثواب والعقاب، وعلمنا بالاجماع ان الثواب لا يتعقبه عقاب.

فأما العقاب فلا دلالة على أنه لا يتلوه ثواب الا في الكفار، فانهم أجمعوا على انه لا يتلو عقابهم ثواب، وأما فساق أهل الصلاة فليس على ذلك دلالة.

ثم ليس الامر على ما قالوه من أنه اذا تلا العقاب الثواب أن تلحقه راحة لانه يجوز أن يلهيه الله عن ذلك ويشغله عن الفكر فيه، لان ما هو فيه من أليم العقاب وعظيم موقعه يشغل بعضه عن الفكر في العاقبة، ولو علم انقطاعه لما اعتد بذلك مع ما فيه من أنواع العقاب، وجرى ذلك مجرى ما يقوله من أن أهل النار يعرفون الله ضرورة ويسقط عنهم مشاق النظر لكن لا يعتد به، وكذلك يعلمون أولادهم وأعزاهم في الثواب وحصول أعدائهم في النار ومع ذلك لا يعتد بسرورهم في ذلك.

١١٩

وكل شئ يقولون في ذلك فهو قولنا فيما قالوه بعينه.

وقولهم « ما استحال فعله استحال استحقاقه » ان أرادوا استحال استحقاقه على الوجه الذي يستحيل فعله كان صحيحا، وانما يستحيل فعل الثواب والعقاب على وجه الجمع، ونحن لا نقول ذلك ولا يستحقان كذلك.

وان أرادوا أن ما يصح فعله على البدل يستحيل استحقاقه على الجمع.

فباطل، لانه لا يصح أن يكون القادر قادرا على الضدين وان كان يستحيل فعلهما على الجمع وانما يصح فعل كل واحد منهما بدلا من صاحبه.

وليس لهم أن يقولوا: كيف يكون معاقبا في حال هو فيها يستحق الثواب.

لان ذلك ليس بأبعد من أن يكون مستحقا للثواب في حال هو فيها مكلف وميت وتراب وفي القبر والى أن يحييه الله، لان الثواب يستحق عقيب الطاعة وان تأخر إلى زمان الفعل بأوقات كثيرة.

وقولهم « معلوم ضرورة قبح الذم على الاساء‌ة الصغيرة نحو كسر قلم لمن له احسان عظيم وانعام جليل نحو تخليص النفس من الهلاك والاغناء بعد الفقر والاعزاز بعد الذل، ولم يقبح ذلك الا لبطلانها في جنب ذلك الاحسان، بدلالة أنها لو انفردت عنه لحسن ذمه على كسر القلم، واذا ثبت ذلك في المدح والذم ثبت مثله في الثواب والعقاب ».

غير مسلم، لان عندنا يجوز أن يذم بالاساء‌ة الصغيرة وان استحق المدح بالاحسان الكثير.

ألا ترى أنه لو ندم هذا المسئ بالاساء‌ة الصغيرة على احسانه الكثير لحسن ذمه على الاساء‌ة الصغيرة فلو كان الحبط لما حسن ذلك، لان ما انحبط لا يرجع عند المخالف.

واذا قالوا « معلوم ضرورة أن حال هذا المسئ منفردا من الاحسان بخلاف حاله اذا قارنه الاحسان العظيم ».

قلنا: ذلك صحيح، لانه اذا انفرد بالاساء‌ة استحق الذم لا غير واذا جمع بينهما استحق المدح والذم، فافترق الحالتان.

١٢٠