الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 75816
تحميل: 5823

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75816 / تحميل: 5823
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

على أنه يحسن ممن أحسن اليه بعض الناس واساء اليه بالاساء‌ة، لا يظهر مزية احداهما على الاخرى أن يمدحه على احداهما ويذمه على الاخرى، بأن يقول أحسنت الي بكذا وكذا ويمدحه ويشكره ثم يقول لكنك أسأت الي بكذا وكذا ويعنفه ويبكته.

وذلك يدل على اجتماع الاستحقاقين.

واذا اجتمعا في بعض المواضع علم فساد القول بالاحباط وحمل عليه المواضع المشتبهة.

على أنا نعلم أنه يحسن فعل الثواب عقيب الطاعة، ولا يدل ذلك على سقوطه.

ومتى قالوا ان ذلك لا يحسن لما قلنا، وكذلك كثير استحقاق المدح مانع من نفي استيفاء القليل من الذم وان لم يسقط.

وكذلك نعلم أن من كان له على غيره مائة ألف دينار وله عليه ربع شعير يحسن منه أن يطالبه بالربع من الشعير مع كون المال العظيم عليه ولا أحد يقول ان ذلك يسقط.

ألا ترى انه لو وفاه ماله حسن منه أن يطالب بالربع من الشعير فعلم أنه ثابت.

وكذلك لو كافأه هذا المحسن على احسانه وقام بشكره حق القيام حسن أن يذمه على كسر قلمه، فدل على أنه لم يسقط.

وتعلقهم بالظواهر نحو قوله تعالى( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) (١) وقوله( لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ ) (٢) وقوله( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (٣) إلى قوله( أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) (٤) وقوله( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٥) لا يصح لان الظواهر يجب أن تبنى على أدلة العقول، وقد بينا بطلان التحابط.

فلو كان لهذه الايات ظواهر لوجب

___________________________________

(١) سورة هود: ١١٤.

(٢) سورة البقرة: ٢٦٤.

(٣) سورة الحجرات: ٢.

(٤) سورة الحجرات: ٢.

(٥) سورة الزمر: ٦٥.

١٢١

حملها على ما يطابق ذلك، وكيف ولا ظاهر لشئ منها بل هي شاهدة لمذهبنا، لان الاحباط والبطلان في جميعها يتعلق بالاعمال دون المستحق عليها، والمخالف يقول التحابط بين المستحق عليها.

ونحن يمكننا حملها على ظاهرها، لان معنى قوله تعالى « ان الحسنات يذهبن السيئات » ان من استكثر من فعل الحسنات دعاه ذلك إلى الامتناع من القبائح وكانت لطفا له، وهذا يوافق الظاهر لا يحتاج معه إلى تقدير الحرى فيه.

وأما باقي الايات فالوجه فيها أن نقول: ابطال العمل واحباطه عبارة عن ايقاعه على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، ألا ترى أن أحدنا لو ضمن لغيره عوضا على نقل شئ من موضع إلى موضع بعينه فنقله إلى موضع غيره فأنه لا يستحق الاجرة وجاز أن يقال: أحبطت عملك وأبطلته لانك أوقعته على خلاف الوجه المأمور به به ولم توقعه على الوجه الذي تستحق عليه الاجرة.

وليس أحد يقول انه يستحق أجرة فأبطلها، بل المراد ما ذكرناه.

ولما كانت الصدقة متى قصد بها وجه الله تعالى استحق بها الثواب، ومتى فعلها لوجه المن والاذى لم يستحق جاز أن يقال انه أبطلها، وكذلك من رفع صوته اجابة للنبى عليه السلام ومسارعة إلى اجابته استحق به الثواب ومتى رفعه استخفافا به وعصيانا منه جاز أن يقال انك أبطلته، وكذلك من عبدالله مخلصا استحق الثواب فمتى أضاف إلى ذلك عبادة غيره جاز أن يقال أبطلت عملك.

فبان بجميع ذلك أنه لا متعلق للقوم في الايات في صحة التحابط والعقاب متى استحق، فانه يحسن التفضل باسقاط من غير توبة.

يدل على ذلك أنه قد ثبت بأوائل العقول حسن الاحسان وايصال المنافع إلى الغير، ومن أحسن الاحسان اسقاط المضار المستحقة، بل ربما كان اسقاط المضمرة أعظم من ايصال المنفعة، فدافع حسن أحدهما كدافع الاخر.

١٢٢

وأيضا فقد ثبت أن العقاب حق لله تعالى اليه قبضه واستيفاؤه، لا يتعلق باسقاطه اسقاط حق لغيره منفصل منه، فوجب أن يسقط [ باسقاطه كالدين فانه يسقط ] باسقاط صاحبه لاختصاصه بهذه الاوصاف.

وانما قلنا « حق لله » لئلا يلزم حق عليه من الثواب والعوض.

وقلنا « اليه قبضه واستيفاؤه » لان كل حق ليس لصاحبه قبضه ليس له اسقاطه كالطفل والمجنون لما لم يكن لهما استيفاؤه لم يكن لهما اسقاطه، والواحد منا لم يكن له استيفاء ثوابه وعوضه في الاخرة لم يسقطا باسقاطه، فعلم بذلك أن الاسقاط تابع للاستيفاء، فمن لم يملك أحدهما لم يملك الاخر.

وقلنا « لا يتعلق باسقاطه اسقاط حق لغيره منفصل عنه » احترازا من سقوط الدم المستحق على القبيح لقبحه باسقاطنا، لان هذا الذم تابع للعقاب، فلا يجوز زواله مع ثبوت العقاب، فلو سقط باسقاطنا لسقط العقاب [ وهو حق لغيرنا وراعينا الانفصال لان الذم يسقط باسقاط العقاب ](٢) لانه تابع له، فهو كالحقوق المتعلقة بالدين من الاجل والخيار وغيرهما عند سقوط الدين، ولا يسقط العقاب باسقاط الذم، لان العقاب ليس بتابع للذم.

على أن الذم ليس بحق خالص لنا، بل هو حق علينا، لما فيه من المصلحة في الدين ونحن متعبدون به، ولانه يردع المفعول به عن القبيح فكأنه حق له فلم يخلص كونه حقا لنا.

فان اختصرت ذلك فقلت العقاب حق لله اليه قبضه واستيفاؤه يتعلق باستيفائه ضرر فوجب أن يسقط باسقاطه كالدين، ولا يلزم على ذلك الثواب والعوض

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

(٢) الزيادة ليست في ر.

١٢٣

والمدح والشكر، لانه لا ضرر في جميع ذلك باستيفائه.

ولا يلزم الذم لانه ليس بضرر حقيقي، ولانه حق للفاعل والمفعول به على ما مضى بيانه.

فان قيل: لم لا يجوز أن يكون فيه وجه من وجوه القبح، فلا يحسن باسقاطه؟ قلنا: وجوه القبح معقولة، اما الظلم أو الكذب أو العبث أو المفسدة أو الاغراء بالقبيح، وكل ذلك منتف ههنا، فوجب أن يكون حسنا.

وانما قلنا « ليس بمفسدة ولا اغراء بالقبيح » لان العفو انما يقع في الاخرة ولا تكليف هناك ولا مفسدة فيه.

وليس لاحد أن يقول: في الاطماع به اغراء.

وذلك ان هذا باطل، لان في المكلفين من اذا ارتفع طمعه في العفو كان أقرب إلى ارتكاب القبائح وفيهم من يكون بخلافه، فالاحوال مختلفة.

ومتى قالوا: انه متى طمع خرج من كونه مزجورا.

قيل: هذا لا يجوز، لان الزجر حاصل بتجويز عقابه، وكيف لا يكون مزجورا.

ولو أخرجه ذلك عن كونه مزجورا لكان في زمان مهلة النظر وتجويزه أن لا يستحق العقاب أصلا مغرى بالقبائح ولا يكون مزجورا والمعلوم خلافه، ويلزم أن يكون غير مزجور اذا طمع في العفو بالتوبة، وكل ذلك باطل.

فاذا ثبت أن العقاب يسقط بالعفو فالعفو أن يقول: أسقطت عقاب زيد وسمحت بعقابه.

فيسقط ويقبح مؤاخذته بعد ذلك ويجري مجرى المطالبة بالدين بعد الابراء والاسقاط.

وأما التوبة فانها تسقط العقاب عندها تفضلا من الله تعالى، وأجمع المسلمون على سقوط العقاب عند التوبة، ولولا السمع لما علمنا ذلك، [ وانما نعلم

١٢٤

بالعقاب أن التوبة يستحق بها الثواب لانها طاعة والطاعة يستحق بها الثواب ](١) .

وانما قلنا انها لا تسقط العقاب عقلا أنها لو أسقطت لم يخلو أن يسقط بكثرة المستحق عليها من الثواب أو لوجه آخر، فان كان الاول فقد أفسدناه من حيث أفسدنا القول بالاحباط، وان كان اسقاطها من حيث كانت بدلا للجهود - على ما يقولونه - فما الدليل على ذلك، لانا لا نسلم.

ومتى حملوا التوبة على الاعتذار وان الاعتذار يقبح معه المؤاخذة فنحن نخالف في الاعتذار كما نخالف في التوبة.

ومتي قيل: لو لم يسقط العقاب لقبح تكليف الفاسق المستحق للعقاب، لان التكليف انما يحسن تعريضا.

والفاسق مع استحقاقه للعقاب لا يجوز أن يستحق الثواب، فيجب له أن يكون له طريق إلى اسقاط عقابه لينتفع بالثواب الذي عرض له، فليس ذلك الا التوبة.

واذا فعلها اجتمع له استحقاقان معا، والعقل غير مانع منه، وقد بيناه فيما مضى.

ولو صح لكم أنهما لا يجتمعان لصح ما قلتم، ولو صح لكم في التوبة فلا ينبغي أن يبنى الشئ على نفسه.

ولو سلمنا أنه لابد أن يكون له طريق إلى الانتفاع بما كلف فعله فقد فعل الله له ذلك، بأن بين بالسمع أنه يعفو عند التوبة، فمن أين أن ذلك بحكم العقل.

ولو خلينا والعقل لما أوجبنا التوبة ولكن لما اجمعت الامة على وجوب التوبة قلنا بوجوبها وعلمنا أن لنا فيها مصلحة ولطفا، ولولا السمع لما علمناه.

فاذا ثبت أن بالسمع يعلم زوال العقاب عند التوبة فيجب أن نقول التوبة التي يسقط العقاب بها ما أجمعت الامة على سقوط العقاب عندها دون المختلف فيه، والذي أجمعت عليه هو أنه اذا ندم على القبيح لكونه قبيحا وعزم على

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١٢٥

أن لا يعود إلى مثله في القبح فانه لا خلاف بين الامة أن هذه التوبة يسقط العقاب عندها.

وأما غيرها ففيه خلاف، لان التوبة من القبيح لوجه القبح أو عظم المستحق عليه فيه خلاف بين الامة، والخلاف في ذلك فرع على وجوب سقوط العقاب عندها عقلا، وقد بينا ما في ذلك.

فأما من جمع بين الايمان والفسق فانا لا نقطع على عقابه بل يجوز العفو عنه وأن يسقط الله عقابه تفضلا.

وانما قلنا ذلك لانا دللنا على حسن العفو عنه من حيث عدمنا الدليل المانع منه، وليس في السمع ما يمنع أيضا منه، لانا سبرنا أدلة السمع أيضا فلم نجد فيها ما يمنع منه، فيجب أن يكون التجويز باقيا على ما علمناه بالعقل، ولا يلزم على ذلك الشك في عقاب الكفار، لان السمع منع منه.

والمسلمون أجمعوا على أن الكفار معاقبون لامحالة، ومعلوم ذلك من دينه عليه السلام، فلذلك قلنا به.

وأيضا فلا خلاف بين الامه أن للنبي عليه السلام شفاعة وأنه يشفع، والشفاعة حقيقتها في اسقاط المضار المستحقة، فوجب من ذلك القطع على جواز العفو عن مستحق العقاب من أهل الضلالة، بل على وقوع ذلك بجماعة غير معينين من حيث علمنا وقوع شفاعته وأنها حقيقة في اسقاط المضار دون زيادة المنافع.

والذي يدل على حقيقتها ما قلناه أنها لو كانت حقيقة في زيادة المنافع لكان الواحد منا اذا سأل الله تعالى أن يزيد في كمالات النبي(١) عليه السلام ورفع درجاته أن يكون شافعا فيه، وأحد من المسلمين لا يطلق ذلك لا لفظا ولا معنى.

وليس لاحد أن يقول: انما لم يطلق ذلك لان الشفاعة يراعى فيها الرتبة كما يراعى في الامر والنهي، وذلك أن الخطاب على ضربين: أحدهما يعتبر

___________________________________

(١) في ر « كرامات النبى ».

١٢٦

فيه الرتبة، والاخر لا يعتبر فيه الرتبة.

فما يعتبر فيه الرتبة يعتبر بين المخاطب والمخاطب دون ما يتعلق به الخطاب، لان الواحد منا يقول لغلامه الق الامير والق الحارس ويكون أمرا في الحالين، وان كان من يتعلق به الامر أحدهما عال الرتبة والاخر دني الرتبة، وكذلك لو اعتبر في الشفاعة الرتبة لوجب اعتبارها بين السائل والمسؤول دون من تناوله الشفاعة.

وليس لهم أيضا أن يقولوا: انما لم يطلق ذلك لانا لا نعلم أن سؤالنا فيه مجاب على كل حال.

وذلك أن هذا باطل بقولهم « شفاعة مقبولة » و « شفاعة مردودة »، [ فيسمونها شفاعة سواء قبلت أو ردت.

وأيضا وكل خطاب يعتبر فيه الرتبة ](١) لا يدخل بين الانسان وبين نفسه كالامر والنهي، ويصح أن يكون الانسان شافعا لنفسه كما قال الشاعر: * فهل لا نفس ليلى شفيعها * وانما يدخل بين الانسان وبين نفسه مالا يعتبر فيه الرتبة أصلا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله حين قال لبريرة: تصالحي زوجك وارجعي اليه.

فقالت له: أتأمرني يا رسول الله.

فقال: لا وانما أنا شافع(٢) .

فبين أنه شافع إلى بريرة(٣) وان كانت دونه، فدل على أن الشفاعة لا يعتبر فيها الرتبة أصلا.

وأما تناولها لاسقاط المضار فلا خلاف أنها حقيقة في ذلك، ولو سلمنا أنها حقيقة في الامرين فخصصناهما باسقاط الضرر بقوله: أدخرت شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي.

وفي خبر آخر: اعددت شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي(٤) .

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

(٢) انظر القصة في أسد الغابة ٥ / ٤٠٩.

(٣) في ر « إلى بريدة » وهو خطأ.

(٤) البحار ٨ / ٣٤، ولفظه فيه « انما شفاعتى لاهل الكبائر من أمتى ».

١٢٧

وهذا خبر تلقته الامة بالقبول، فلا يمكن ان يقال انه خبر واحد.

وليس لهم أن يحملوا الخبر على زيادة المنافع لمن تاب لامرين: أحدهما أنا بينا أن حقيقة الشفاعة في اسقاط المضار، الثاني أنه لا يخلو أن يشفع فيهم بعد التوبة، فلا يمكنهم الانتفاع بالمنافع مع أنهم في النار.

وان كان بعد التوبة فلا يسمون أهل الكبائر كمالا يسمى من تاب من كفره كافرا، فعلم أن المراد ما قلناه في اسقاط الضرر.

ولا يعارض ذلك قوله تعالى( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (١) وقوله( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) (٢) وقوله( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَـضَىٰ ) (٣) وقوله «وَلَا تقبل لهمشَفَاعَةٌ »(٤) من وجوه: أحدها أن العموم لا صيغة له على مذهب كثير من أصحابنا، فمن أين انه أراد العموم دون الخصوص، والكلام في ذلك مذكور في مواضع كثيرة لا نطول بذكره ههنا.

فعلى هذا تكون الايات مختصة بالكفار، وقد سمى الله تعالى الشرك ظلما في قوله( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٥) .

على أنه نفى في الاية الاولى شفيعا مطاعا، ونحن لا نقول ذلك ولم ينف شفيعا مجازا.

ولا يمكن الوقف على قوله( وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) ، لان ذلك خلاف جميع القراء.

ثم لا يمكن البدأة بقوله( يُطَاعُ ) لان الفعل لا يدخل على الفعل بعده قوله( يَعْلَمُ ) ، وان قدر يطاع الذي يعلم كان ذلك تركا للظاهر، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى تقدير.

___________________________________

(١) سورة غافر: ١٨.

(٢) سورة البقرة: ٢٧٠.

(٣) سورة الانبياء: ٢٨.

(٤) الصحيح في الاية( وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) سورة البقرة: ٤٨.

(٥) سورة لقمان: ١٣.

١٢٨

والاية الثانية انما نفي فيها أن يكون للظالمين أنصار، والنصرة غير الشفاعة، لان النصرة هي الدفع عن الغير على وجه الغلبة، والشفاعة هي مسألة يقترن بها خضوع وخشوع.

وقوله( لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَـضَىٰ ) (١) فمعناه ارتضى أن يشفع فيه، ونظيره قوله( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (٢) وقوله( لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) (٣) ، وليس هذا تركا للظاهر، لان المرتضى محذوف بلا خلاف، فهم يقدرون الا لمن ارتضى أفعاله ونحن نقدر الا لمن ارتضى أن يشفع فيه، واستوى التقديران وسقطت المعارضة بها.

على أن الفاسق الملي يجوز أن يكون مرتضى، بمعنى ارتضى ايمانه وكثير من طاعاته، كما يقول « هذا البناء مرتضى عندي » يريدون في البناء دون غيره من أفعاله.

وقوله( وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ) (٤) متروك الظاهر، لان عند الجميع ههنا شفاعة نافعة مقبولة، فان منعوا من نفعها في اسقاط الضرر منعنا نفعها في زيادة المنافع.

أو نقول: لا تقبل الشفاعة ولا تنفع الشفاعة للنفس الكافرة.

فأما حسن رغبتنا في أن يجعلنا الله تعالى من أهل شفاعة النبى عليه السلام فهو كرغبتنا في أن يجعلنا من التوابين والمستغفرين، فكما لا تكون الرغبة في التوبة والاستغفار رغبة في فعل الكبائر [ فكذلك الرغبة في الشفاعة لا تكون رغبة في الكبائر ](٥) ، ولا فرق بينهما.

والوجه في الامرين هو الرغبة في

___________________________________

(١) سورة الانبياء: ٢٨.

(٢) سورة البقرة: ٢٥٥.

(٣) سورة النجم: ٢٦.

(٤) سورة البقرة: ١٢٣.

(٥) الزيادة ليست في ر.

١٢٩

الشفاعة والتوبة.

والاستغفار ان اتفق منا أو وقع ما يحتاج معه إلى التوبة والشفاعة فذلك جائز مشروط.

ومتى قالوا: السمع منع من جواز العفو في آي كثيرة من القرآن نحو قوله تعالى( وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ) (١) وقوله( وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ) (٢) و( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (٣) و( إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) (٤) وما أشبه ذلك من الايات.

قلنا: لنا في ذلك ثلاثة أوجه من الكلام: (أحدها) أن نبين أن العموم لا صيغة له، بل الظاهر أنه يحتمل الخصوص والعموم، فاذا احتمل ذلك جاز أيراد بها الكفار دون فساق أهل الصلاة، والكلام في ذلك ذكرناه في شرح الجمل وغير ذلك لا نطول بذكره ههنا.

(والثاني) ان يعارض هذه الايات بآيات مثلها تتضمن القطع على الغفران، كقوله تعالى( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٥) وقوله( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) (٦) وقوله( إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٧) وغير ذلك.

(وثالثها) أن نبين أن الايات متروكة الظاهر وانهم شرطوا فيها كبير المعصية وعدم التوبة، فاذا شرطوا هذين الشرطين شرطنا شرطا ثالثا، وهو من لا يعفو عنه ابتداء‌ا أو بالشفاعة ويسلم باقي عمومها.

___________________________________

(١) سورة النساء: ١٤.

(٢) سورة الفرقان: ١٩.

(٣) سورة النساء: ١٢٣.

(٤) سورة الانفطار: ١٤.

(٥) سورة النساء: ٤٨.

(٦) سورة الرعد: ٦.

(٧) سورة الزمر: ٥٣.

١٣٠

ووجه المعارضة بقوله( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) أنه تعالى لم ينف غفران الشرك على كل حال، بل نفى أن يغفره تفضلا، فكأنه قال لا يغفر أن يشرك به تفضلا بل استحقاقا، فيجب أن يكون المراد بقوله( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) أي يغفره بغير استحقاق بل تفضلا، لان موقع الكلام الذي يدخله النفي والاثبات وينظم اليه التعظيم والدون أن يخالف الثاني الاول.

ألا ترى أنه لا يحسن ان يقول القائل « أنا لا أركب إلى الامير الا اذا ركب الي وأركب الي من هو دونه وان لم يركب الي » وكذلك اذا قال « لا أتفضل بالكثير من مالي وأعطي اليسير اذا استحق علي » وانما يحسن أن يقول « وأعطي اليسير تفضلا من غير استحقاق ».

على أن قوله( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ) يقتضي عمومه أنه يغفر كل ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا تاب منه أو لم يتب، لان عموم ما يقتضي ذلك على مدعاهم وليس لهم أن يخصوا عموم هذه الاية لتسلم عموم آياتهم، لانا نعكس ذلك فنخص عموم آيات الوعيد بالكفار لتسلم آيات العفو.

والشبهة انما دخلت في الاية في أعيان المغفور لهم دون الغفران، وانما كانت تكون في الغفران لو قال يغفر ما دون ذلك ان شاء، والامر بخلافه.

ونحن لا نقطع على أنه يغفر لكل أحد بل ذلك متعلق بمشيئته.

على أنه تعالى علق الغفران في الاية بالمشيئة، وظاهر ذلك أنه تفضلا، لان الواجب لا يتعلق بالمشيئة، لانه لا يجوز أن يقول القائل: أنا أرد الوديعة ان شئت.

ويجوز أن يقول: أنا أتفضل ان شئت.

والاية الثانية الوجه فيها أنه تعالى أخبر أنه يغفر الذنوب على ظلمهم، ومعناه في حال كونهم ظالمين.

ويجري ذلك مجرى قولهم: لقيت فلانا على اكله وأوده على عذره.

ومتى شرطوا فيها التوبة كان ذلك تركا للظاهر.

١٣١

والاية الثالثة تقتضي أنه يغفر جميع الذنوب الا ما أخرجه الدليل من الكفر والتوبة ليس لها ذكر في الاية، فمن شرطها فقد ترك الظاهر.

وقوله( وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) (١) كلام مستأنف لا يجب أن يشرط ذلك في الاية الاولى، لان عطف المشروط على المطلق لا يقتضي أن يصير مشروطا.

وأما الطريقة الثالثة فهي أن يقال: انما شرطتم التوبة وكبر المعصية، لان التوبة تسقط العقاب وعظم الطاعة أيضا يسقط صغير المعصية، فما اقتضى هذين الشرطين اقتضى شرط العفو، وكلامنا مع من يحسن العفو عقلا فأما من منع منه وقال لا يحسن العفو عقلا فقد مضى الكلام عليه، واذا كان العفو جائزا عقلا مسقطا للعقاب وجب أن يشرط أيضا كما شرطنا الشرطين الاخرين.

وليس لهم أن يقولوا: العقل يقتضي اسقاط العقاب بالتوبة وزيادة الثواب، وليس في العقل ما يدل على حصول العفو، وذلك ان العقل كما اقتضى سقوط العقاب بالثواب وزيادة الثواب كذلك يقتضي سقوطه عند العفو، كما يجوز أن يعفو مالك العقاب [ يجوز أن لا يعفو، وكذلك يجوز أن يختار العاصي التوبة و](٢) يجوز أن لا يختارها.

وكذلك القول في عظم الطاعة، فينبغي أن يقابل بين وقوع التوبة ووقوع العفو وبين الجواب في حصولها وحصول العفو، فانهما سواء لا ترجيح لاحدهما على الاخر.

ومتى قالوا عموم آيات الوعيد يدل على أنه تعالى لا يختار العفو.

قلنا: هلا منع ذلك من اختيار العاصي التوبة المسقط للعقاب أو عظيم الطاعة، لانكم انما تمنعون بالظاهر اختيار العفو ليسلم وقوع العقاب، وهذا بعينه قائم في التوبة وزيادة الثواب، فيبغي أن تقولوا الظواهر تمنع من وقوعها.

وقد فرغنا

___________________________________

(١) سورة الزمر: ٥٤.

(٢) الزيادة من ر.

١٣٢

ما يسأل على ذلك في شرح الجمل، وفيما قلناه ههنا كفاية انشاء الله.

فان قيل: القول بجواز العفو يؤدي إلى أن لا يقام حد لا في السرقة ولا في الزنا على وجه العقوبة.

وذلك ينافي قوله( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّـهِ ) (١) وقوله( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) فبين أنه عذاب ونكال، ولو كان عقابا لبطل ذلك.

قلنا: لا يقطع أحد من السراق نكالا على وجه القطع والثبات، بل انما يقطعه بشرط كونه مستحقا للعقاب، ومتى فرضنا العفو عنه قطعناه امتحانا ولابد لكل أحد من ذلك، لان شروط استحقاق العقاب ليست معلومة بالظاهر، لانه يحتاج أن يكون السارق عاقلا والشبهة مرتفعة ولا أن يكون ثابتا فيما بينه وبين الله تعالى وأن يكون الشهود صادقين أو اقراره صحيحا، لانه متى لم يحصل له ذلك أو بعضه فانما يقطعه امتحانا وكذلك اذا فرضنا حصول العفو فانما يقطعه امتحانا، ومتى فرضنا حصول جميع الشرائط وارتفاع العفو قطعناه عقوبة فلابد من الشرط.

ولا يمكن القطع على اقامة الحد عقوبة على القطع والثبات الا في الكفار وعلى ما بيناه من بطلان التحابط من كفره بعد ايمانه فانه يدل على أن ما كان أظهره لم يكن ايمانا، لانه لو كان ايمانا لاستحق عليه الثواب الدائم، واذا كفر استحق على كفره العقاب الدائم بالاجماع وكان يجتمع الاستحقاقان، وذلك خلاف الاجماع.

فاذا علم بذلك أن ما أظهره لم يكن ايمانا ولا يمكن أن يقال لم لا يجوز أن يقال انما أظهره من الكفر لم يكن كفرا ليسلم له الايمان، لان اظهار الايمان ليس

___________________________________

(١) سورة المائدة: ٣٨.

(٢) سورة النور: ٢.

١٣٣

بايمان بلا خلاف واظهار الكفر اختيار كفر بلا خلاف.

وفي أصحابنا من أجاز أن يكفر المؤمن كفرا لا يوافى به.

وهذا ليس بصحيح لان هذا يؤدي إلى تجويز أن يكون من الكفار المرتدين من يستحق نهاية التعظيم والتبجيل بما كان أظهره من الايمان، وذلك خلاف الاجماع.

فاذا الصحيح أن المؤمن لا يكفر أصلا بل لا كفر يوافى به ولا بكفر لا يوافى به.

فأما الكافر فانه يجوز أن يؤمن، لان الايمان يسقط عقاب الكفر اجماعا سواء قلنا انه دائم أو منقطع.

ولا يحتاج أن يقسم بأن يقول: الكفر الذي يوافي به يستحق عليه العقاب الدائم المنقطع، لان مع حصول الاجماع على سقوط عقابه بالايمان والتوبة من الكفر لا يحتاج إلى ذلك.

فاذا ثبت فقوله( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (١) معناه ان الذين أظهروا الايمان ثم كفروا.

وجاز أن يسمى من أظهر الايمان مؤمنا كما قال( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ) (٢) يعني من أظهر الايمان منهن، وقوله( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (٣) يعني على الظاهر.

فعلى هذا من أظهر الكفر أو الفسق مختارا بلا تقية ولا أمر يحتمل التأويل قطعنا على كونه كافرا وفاسقا، وليس كذلك من أظهر ألايمان أو الطاعة، لانه يجوز أن يكون في باطنه بخلافه.

واذا ثبت ذلك فكل من كان مظهرا للكفر قطعنا على ثبوت عقابه وان كان فاسقا مصرا قطعنا على ارتفاع التوبة عنه وجوزنا أن يكون الله تعالى أسقط عقابه تفضلا وان لم نقطع به ونذمه عليه بشرط عدم العفو.

ومتى غاب عنا من

___________________________________

(١) سورة النساء: ١٣٧.

(٢) سورة الممتحنة: ١٠.

(٣) سورة النساء: ٩٢.

١٣٤

قطعنا على عقابه وذمه من الكفار والفساق فانا نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو، ومن غاب من الفساق نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو، ويشترط الامرين في خبره.

وليس ههنا من يقطع على ثبوت ثوابه باظهار الايمان والطاعة الا من أدل دليل على عصمته وأمنا فعل القبيح والاخلال بالواجب من جهته.

فصل: (في ذكر أحكام المكلفين في القبر والموقف والحساب وغير ذلك مما يتعلق بالوعيد)

أجمعت الامة على عذاب القبر لا يختلفون فيه، وما يحكى عن ضرار بن عمرو من الخلاف فيه لا يعتد به لانه سبقه الاجماع وتأخر عنه وان اختلفوا في وقت عذاب القبر: فقال جمهور الامة من أصحاب الحديث أنه حين الدفن، وقال قوم يجوز أن يكون عند قيام الساعة.

والظواهر لا يمكن الاستدلال بها على ثبوت عذاب القبر، لانها مجملة نحو قوله( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) (١) وغير ذلك، وقد بينا القول فيها في شرح الجمل.

وأنكر قوم عذاب القبر، فقالوا هو محال، ومنهم من قال هو قبيح.

وقولهما يبطل بحصول الاجماع على ثبوته وانه واقع، وذلك يدل على جوازه وحسنه أيضا، فالميت اذا أعيد حيا جاز أن يعاقب، فلا وجه لاحالته.

فأما من أحاله ربما ظن أنه يعاقب وهو ميت، وهذا لا يقوله أحد.

___________________________________

(١) سورة غافر: ١١.

١٣٥

وأما ضيق القبر عن العقاب فانه يجوز أن يوسعه الله تعالى حتى يمكن ذلك، وان كان المتولي لذلك الملائكة فلا يحتاجون إلى سعة موضع.

واذا كان العقاب مستحقا فانه يجوز أن يكون في تقديم بعضه مصلحة للمكلفين من البشر والملائكة، فيقدم منه بعضه في الدنيا كالحدود وبعضه في القبر، لما في الاخبار به من المصلحة في دار التكليف.

ومتى قال لا حال ينبش فيها الميت الا ويوجد على ما هو عليه، فأما من قال ليس لعذاب القبر وقت لا يلزمه ذلك، ومن قال هو عقيب الدفن يقول لا يمتنع أن لا يعقل اذا أردنا نبش القبر لما فيه من المصلحة.

ومتى قيل: لو عوقب لوجب أن يكون عاقلا قادرا على الكلام فكان يسمع كلامه.

قلنا: كمال العقل لابد منه، فلا يجب أن يكون قادرا على الكلام اما بأن لا يكون فيه قدرة أصلا أو يكون ممنوعا منه.

وأما الملكان النازلان عليه فانما سميا منكرا ونكيرا اشتقاقا من استنكار المعاقب لفعلهما أو نفوره عنهما، وليس بمشتق من الانكار.

وأما المحاسبة والمسألة في الموقف - وان كان الله تعالى عالما بأحوالهم لانه عالم لنفسه - لا يمتنع أن يكون في تقديمه غرض، لان بالمحاسبة والمسألة وشهادة الجوارح يظهر الفرق بين أهل الجنة والنار ويتميز بعضهم من بعض فيسر بذلك أهل الجنة ويكثر بذلك نفعهم، ويكون لنا في العلم به مصلحة في دارا التكليف.

والاجماع حاصل على المحاسبة والقرآن يشهد به لقوله تعالى( وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) (١) .

وكذلك شهادة الجوارح ونشر الصحف مجمع عليه، والقرآن شاهد به،

___________________________________

(١) سورة الانبياء: ٤٧.

١٣٦

لكن المسألة وان كانت عامة فهي على المؤمنين سهلة وعلى الكافرين صعبة، لما فيها من التبكتب والمناقشة.

وأما كيفية شهادة الجوارح فقال قوم بينها الله تعالى متى يشهد، وقيل ان الله تعالى يفعل فيها الشهادة وأضافها إلى الجوارح مجازا، وكلا الامرين مجاز.

وقيل ان الشاهد هو العاصي نفسه يشهد على نفسه بما فعله ويقربه ويكون ذلك حقيقة، وقيل انه تظهر فيه أمارة تدل على الفرق بين العاصي والمطيع.

وكل ذلك جائز.

فأما الميزان فقال قوم انه عبارة عن العدل والتسوية والقسمة الصحيحة كما يقولون كلام فلان موزون وأفعاله موزونة.

وهذا وجه حسن يليق بفصاحة الكلام.

وقال قوم: المراد به الميزان والكفتين، وان الاعمال وان لم يصح وزنها والصحف التي فيها هذه الاعمال يصح وزنها.

وقيل: انه يجعل النور في احدى الكفتين والظلمة في الاخرى، ويكون لنا في الاخبار عن ذلك مصلحة في التكليف.

وأما الصراط فقد قال قوم انه طريق أهل الجنة والنار، وانه يمهد لاهل الجنة ويتسهل لهم سلوكه ويضيق على أهل النار ويشق عليهم سلوكه.

وقال آخرون المراد به الحجج والادلة المفرقة بين أهل الجنة والنار المميزة بينهم.

فأما اهل الاخرة فالتكليف عن جميعهم زائل مثابين كانوا أو معاقبين، وانما كان كذلك لانهم لو كانوا مكلفين لجاز منهم وقوع التوبة فيسقط عقابهم، وذلك يمنع منه الاجماع.

ويمنع أيضا من استحقاق ثواب أو عقاب لاجماعهم على أنه ليس بدار استحقاق، ولان من شأن الثواب أن يكون خالصا صافيا من أنواع الشوب والكدر، والتكليف ينافي ذلك، فعلى هذا قوله( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) (١) صورته

___________________________________

(١) سورة البقرة: ٦٠.

١٣٧

صورة الامر والمراد به الاباحة المحضة.

وقال قوم: انه أمر لا يزيد في سرورهم اذا علموا أن الله يريد منهم ذلك، الا أنهم لا يختلفون ان ذلك ليس على وجه التكليف وانه لا مشقة عليهم في ذلك.

وأما شكرهم لنعم الله تعالى فما يرجع إلى الاعتقاد فهم مضطرون اليه، لان معارفهم ضرورية فهي خارجة عن التكليف، وما يرجع إلى اللسان فيجوز ان يكون لاهل الجنة فيه سرور، ومعارف أهل الاخرة ضرورة، وهم ملجأون إلى أن لا يفعلوا القبيح، ولابد أن يعرفوا الله تعالى، لان المثاب لابد أن يعلم ان الثواب واصل اليه على الوجه الذي يستحقه، ولا يصح ذلك الا مع كمال العقل والمعرفة بالله تعالى وحكمته، ليعلم أن ما فعله به هو الذي استحقه.

والقول في المعاقب مثله، لان من شرط الثواب أن يصل إلى مستحقه مع الاعظام والاكرام من فاعل الثواب [ لان الاعظام من غير فاعل الثواب ](١) لا يؤثر فيه، والاعظام لا يعلم الا مع القصد إلى التعظيم، ولا يجوز أن يعلم قصده من لا يعلمه.

وكذلك القول في العقاب، ووصوله على سبيل الاستخفاف والاهانة.

ولان المثاب يجب ان يعلم أن ما فعل به يستحقه، ومتى لم يعلم ذلك جوز أن يكون تفضلا فيعتقده فيكون معرضا لجهل، وكذلك لا يتم الا بعد معرفة الله تعالى.

وكذلك أهل النار متى لم يعلموا أن ما يصل اليهم يستحقونه جوزوا أن يكون ظلما، وربما اعتقدوه كذلك، فيكونون معرضون للجهل، وذلك لا يجوز ولقائل أن يقول: العاقل يعلم قبح اعتقاد لا يأمن كونه جهلا فهو اذا لم يعلم الثواب مستحقا أو العقاب وجب عليه التوقف ولا يقدم.

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

١٣٨

فاذا وجبت معرفة الله تعالى فلا يخلو أن يعرفه ضرورة، أو يكون عن نظر مختار، [ أو ملجأ إلى فعله، أو تذكر نظر، أو بأن يلجأ الفاعل إلى نفس المعرفة من غير تقدم نظر ](١) .

ولا يجوزأن تكون واقعة عن نظر مبتدأ، لان ذلك تكليف ومشقة، وقد بينا أنه ليس هناك تكليف.

ولا يجوز أن يكونوا ملجئين إلى النظر، لان الالجاء إلى النظر مع امكان الالجاء إلى المعرفة عبث، ولان ذلك أيضا فيه مشقة.

وما يمنع من الالجاء إلى نفس المعرفة يمنع من الالجاء إلى سبب المعرفة.

ولا يجوز أن يقع عن تذكر نظر، لان المتذكر يجوز ان يدخل عليه شبهة فيلزمه حلها، وفي ذلك رجوع إلى التكليف الذي بينا فساده.

وليس لاحد أن يقول: لا تعترض الشبهات في الاخرة مع مشاهدة تلك الايات والاحوال، وذلك أن جميع ذلك لا يمنع من دخول الشبهة وان تكون المعرفة مكتسبة، كما أن من شاهد المعجزات لم يمنع من ذلك في دار الدنيا.

ولا يجوز أن يقع الالجاء إلى نفس المعرفة، لان الالجاء إلى افعال القلوب التي لا يعلمها الا الله لا يجوز أن تقع الا من الله.

واذا وجب أن يكون الملجأ إلى العلم عارفا بالله فقد استعصى بتقدم المعرفة عن الالجاء اليها.

وقد قيل: ان الالجاء إلى العلم انما يكون بأن يعلم أنه متى خاف اعتقادا غيره منع منه، فاقدامه على الاعتقاد الذي وصفنا حاله لا يكون لاجله الاعتقاد علما، فلم يبق من الاقسام الا أن تكون المعرفة ضرورية.

ولا يجوز أن يكون أهل الاخرة مضطرين إلى أفعالهم على ما حكي عن أبى الهذيل، لان الاضطرار إلى الافعال ينقص من لذتها، لان التخير في الافعال أبلغ في باب اللذة والسرور.

وأيضا فان الترغيب في الثواب هو على الوجه المألوف

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١٣٩

وذلك يكون مع التخير في الافعال.

واذا ثبت ذلك في المثاب وجب مثله في المعاقب، لان أحدا لا يفرق بينهما.

على أن الله تعالى أخبر بأنهم يأكلون ويشربون ويفعلون، فأضاف الفعل اليهم، وذلك يوجب اختيارهم.

وقال( وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) (١) ، وذلك صريح بما قلناه.

فاذا ثبت أنهم مخيرون ولم يجز أن يكونوا مكلفين لما مضى فيهم، فهم ملجأون إلى ترك القبيح، بأن يخلق الله فيهم العلم بأنهم متى راموا القبيح منعوا منه.

ويمكن أن يقع الالجاء بأن يعلمهم الله بأنهم مستغنون بالحسن عن القبيح فلا يكون لهم داع له إلى فعل القبيح ملجأ، وذلك ان الالجاء لا يجوز الا على من يجوز عليه المنافع والمضار، واذا لم يجز على القديم لم يصح فيه معنى الالجاء.

فصل: (في الايمان والاحكام)

الايمان هو التصديق بالقلب، ولا اعتبار بما يجري على اللسان، وكل من كان عارفا بالله وبنبيه وبكل ما أوجب الله عليه معرفته مقرا بذلك مصدقا به فهو مؤمن.

والكفر نقيض ذلك، وهو الجحود بالقلب دون اللسان مما أوجب الله تعالى عليه المعرفة به، ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير.

وفي المرجئة من قال: الايمان هو التصديق باللسان خاصة وكذلك الكفر هو الجحود باللسان، والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى إلى

___________________________________

(١) سورة الواقعة: ٢٠.

١٤٠