الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 75839
تحميل: 5824

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75839 / تحميل: 5824
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

ذلك فالقادر على الكفر قادر على الايمان والقادر على الطاعة قادر على المعصية وانما يختار أحدهما فان اختار الكفر فبسوء اختياره، ولو كان الكافر غير قادر(١) على الايمان لما حسن تكليفه بالايمان، لان تكليف مالا يطاق قبيح وأجمعت الامة على أنه مكلف بالايمان.

وانما قلنا ان تكليف مالا يطاق قبيح، لانه مركوز في العقل قبح تكليف الاعمى نقط المصاحف والمقعد العدو والعاجز حمل الاجسام الثقال ونقلها والعلم بقبح ذلك ضروري لاجتماع العقلاء على ذلك، ولا علة لذلك الا أنه تكليف بمالا يطاق.

ومن ارتكب حسن ذلك لم يحسن منا مكالمته، وانما ينبه على غلطه بضرب الامثال كما تضرب الامثال السوفسطائية واصحاب العنود الذين دفعوا العلم بالمشاهدات والضروريات، والا فالاحتياج لا يمكن معهم لان الاحتجاج انما يصح فيما يغمض ليرد إلى ما يتضح، فمن دفع الضروريات لا يمكن احتجاجه بالرد إلى ما هو أوضح منه، لانه لا شئ أوضح من الضروريات فمن دفعها سد الباب على نفسه.

والمراد بقولنا « تكليف مالا يطاق » هو كلما يتعذر معه الفعل سواء كان ذلك لعدم القدرة أو عدم الالة، فان الكل يتساوى في قبح التكليف وان اختلفت.

فصل: (في الكلام في التكليف وجمل من احكامه)

التكليف عبارة عن ارادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة، ويقال في الامر بما فيه كلفة ومشقة انه تكليف من حيث كان الامر لا يكون امرا الا بارادة

___________________________________

(١) في ر « قادرا ».

٦١

المأمور به والرتبة معتبرة في التكليف كاعتبارها في الامر.

يدل على ذلك أن من أراد من الغير ما يلحقه فيه مشقة سمى مكلفا له، ومتى أراد من الغير مالا يلحقه فيه مشقة لم يسم « بذلك، ولذلك لم يكن الواحد منا اذا أراد من الله تعالى الفعل مكلفا له واذا أراد الله تعالى منا الفعل الذي فيه مشقة كان مكلفا سواء كان ذلك الفعل واجبا أو ندبا.

واعلام المكلف وجوب الفعل أو حسنه أو دلالته عليه شرط في حسن التكليف من الله، لانه من جملة ازاحة العلة فيما كلفه.

وليس نفس الاعلام هو التكليف، ولهذا كان مكلفا له وان لم يكن معلما له(١) .

وانما لم يسم الواحد منا اذا أراد من الغير الصوم أو الصلاة مكلفا له، لانه سبق في ذلك تكليف الله وارادته، فلذلك لم يسموه بذلك.

فاذا ثبت حقيقة التكليف فيحتاج في العلم بحسنه إلى معرفة أشياء: أولها صفات التكليف، وثانيها صفات المكلف، وثالثها صفات الفعل الذي يتناوله التكليف، ورابعها ما الغرض بالتكليف.

ونحن نبين جميع ذلك على أخصر الوجوه، وقبل ذلك نبين أولا ما وجه الحسن في ابتداء الخلق، وبيان ذلك أن نقول: لا يخلو أن يكون في ابتداء الخلق غرض أولا غرض فيه، فان كان لا غرض فيه فهو عبث، وذلك قبيح لا يجوز عليه تعالى.

وان كان فيه غرض لا يخلو أن يكون فيه غرض قبيح أو حسن، فالقبيح هو أن يقصد بخلق الخلق الاضرار بهم، وذلك قبيح لا يجوز على الحيكم، والغرض الحسن لا يكون الا بحصول النفع فيه.

وذلك النفع لا يخلو أن يكون راجعا اليه تعالى أو إلى غيره، فما يرجع اليه تعالى مستحيل لاستحالة النفع عليه، وما يرجع إلى الغير هو وجه

___________________________________

(١) في ر « وان لم يعلما له ».

٦٢

الحسن في ابتداء الخلق، سواء كان ذلك النفع راجعا إلى نفس المخلوق أو إلى غيره أو اليهما، فان جميع ذلك وجه الحسن اذا تعرى من وجوه القبح.

فاذا ثبت ذلك فالمكلف منفوع بالتفضيل ومنفوع بالثواب، وان كان المعلوم أنه يؤلم لمصلحته أو مصلحة غيره فهو منفوع أيضا بالعوض، فتجتمع فيه الوجوه الثلاثة، وغير ذلك المكلف منفوع بالتفضيل قطعا وبالعوض ان كان في ايلامه مصلحة لغيره من المكلفين.

واذا كان وجه الحسن الخلق ما فيه من النفع فينبغي أن يكون أول ما يخلقه الله تعالى حيا، لان النفع لا يصح الا على الحي، ولا بد أن يخلق فيه شهوة لمدرك يدركه فيلتذ به سواء كان هو أو غيره.

ويجوز أن يبتدئ الله تعالى بخلق الجماد اذا علم أنه يخلق فيما بعد حيا مكلفا يكون من لطفه اختياره خلق جماد قبله، فان لم يكن ذلك معلوما لم يحسن الابتداء بخلق الجماد.

ونحن نعود إلى ما وعدنا به من اعتبار شرائط حسن التكليف.

أما صفات المكلف تعالى فيجب أن يكون حكيما مأمونا منه فعل القبيح والاخلال بالواجب ليعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف، وقد مضى بيان ذلك في باب العدل.

ويجب أن يكون قادرا على الثواب الذي عرض بالتكليف له وعالما بمبلغه، وقد بينا حين بينا أنه قادر لنفسه وعالم لنفسه.

ولا بد أن يكون له غرض في التكليف، ويستدل على ذلك فيما بعد.

ويجب أن يكون منعما بما يجب له به العبادة، والعبادة لا تستحق الا بأصول النعم من خلق الحياة والشهوة والبقاء والقدرة وكمال العقل وخلق المشتهي وغير ذلك مما لا يدخل نعمة كل منعم في كونها نعمة الا بعد تقدمها،

٦٣

ولذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة وان استحق عليه الشكر، لانه لا يقدر على ما هو أصول النعم ويختص الله تعالى بالقدرة على ذلك فلذلك اختص تعالى بالعبادة.

ويجب أيضا أن يكون عالما بتكامل شرائط التكليف في المكلف من اقداره وسائر ضروب التمكين.

فاذا ثبت ذلك فالوجه في حسن التكليف أنه تعريض لمنزلة عظيمة لا يمكن الوصول اليها الا بالتكليف، والتعريض للشئ في حكم ايصاله.

فعلى هذا اذا كان التكليف تعريضا للبيع للشئ يجب أن يكون نفعا، لان من حسن منه التوصل إلى نفع حسن من الغير أن يعرضه له.

ومعنى التعريض تصيير المعرض بحيث يتمكن من الوصول إلى ما عرض له [ مع ارادة المعرض للفعل الذي عرضه له ](١) وعرض للمستحق عليه أو التوصل به اليه.

ألا ترى أن الانسان انما يكون معرضا لولده للعلم اذا مكنه من التعلم وأزاح علته فيه وأراد منه التعلم، ومتى لم يرد منه ذلك أو لم يزح علته فيه لا يكون معرضا له.

ومن شرط المعرض أن يكون عالما أو ظانا بوصول المعرض إلى ما عرضه له متى فعل ما وصله اليه.

ألا ترى أن الواحد منا لو عرض ولده للتجارة وأمره بالسفر وغلب في ظنه أنه متى فعل جميع ما رسمه لا يحصل له شئ من الربح لا يكون الوالد معرضا له، فعلى هذا القديم تعالى عالم بأن المكلف متى فعل ما كلفه أنه يثيبه ويوصله إلى مستحقه.

واعتبرنا الارادة لان بها يختص بما عرض له دون مالم يعرض له، والتمكين والاقدار يصلح للامرين.

ألا ترى أن من أعطى سيفا لغيره ليجاهد به انما يكون

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٦٤

معرضا له بأن يقتل به كافرا دون مؤمن اذا أراد قتل الكافر دون المؤمن، والا فالسيف يصلح للامرين.

فعلى هذا اذا أقدر القديم تعالى المكلف ومكنه وخلق فيه الشهوة ويمكنه أن ينال بها المشتهي كما يمكنه أن يختلقه على وجه يشق عليه، فانما يتخصص بأحد الوجهين دون الاخر بالارادة.

وانما قلنا في التكليف انه تعريض للثواب لانه لا يخلو أن يكون فيه غرض أولا غرض فيه، فان لم يكن فيه غرض كان عبثا وذلك لا يجوز عليه تعالى، وان كان فيه غرض لم يخل أن يكون الغرض نفعه أو مضرته، ولا يجوز أن يكون الغرض مضرته لان ذلك قبيح، فلم يبق الا أن يكون غرضه نفعه.

وينبغي أن يكون ذلك النفع مما يستحق بالتكليف، ولا يمكن الوصول اليه الا بالافعال التي يتناولها التكليف، لان الابتداء بالثواب لا يحسن لانه يقارنه تعظيم وتبخيل، والمعلوم ضرورة قبح ذلك بمن لا يستحقه، ولا يمكن استحقاق الثواب الا بما تناوله التكليف من واجب أو ندب.

فعلى هذا متى حسن التكليف وجب، لان المكلف متى تكاملت شروط تكليفه في وجوه جميع التمكين وجعل الفعل شاقا عليه وكان متردد الدواعي وزال عنه الالجاء وجب تكليفه، ومتى نقص بعض هذه الشروط قبح تكليفه، لانه لو لم يكلفه لكان اما مغريا بالقبيح أو عابثا، وكلاهما لا يجوزان عليه.

يبين ذلك انه اذا كان تعالى قادرا على اغنائه بالحسن عن القبيح فلم يفعل وأحوجه بالشهوات المخلوقة فيه والتخلية بينه وبينه فان لم يكن له غرض كان [ عابثا وان كان فيه غرض ](١) فلا غرض فيه الا التكليف، وان يكون ملزما له بحسب المشتهى وان شق عليه ذلك للمنفعة العظيمة بالثواب، وان لم يكن ذلك فالاغراء بتقوية

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٦٥

الدواعي إلى نيله حاصل.

ولا يلزم أن تكون البهائم مغراة بالقبح، لان ذلك معتبر فيمن يتصور العواقب وذلك منتف عن البهائم.

وأما الفعل الذي يتناوله التكليف فلابد أن يصح ايجاده من المكلف على الوجه الذي كلفه، لان ذلك يمكن لا يحسن التكليف من دونه.

ومن شروطه تقوية دواعيه بفعل اللطف ممالا ينافي التكليف، ولا بد أن يكون ما تناوله التكليف مما يستحق به المدح والثواب، لان وجه حسن التكليف اذا كان هو التعريض للثواب لم يجز أن يتناول الا ما يستحق به الثواب، وما يستحق به الثواب هو اما واجب أو ندب فلا يخرج التكليف عنهما.

والمباح لا مدخل له في ذلك، لانه لا يستحق به مدح ولا ثواب، وانما حسن التكليف الندب من حيث كان الندب مستهلا للواجب ومقويا له، فلا يصح أن يقتصر بالمكلف على تكليفه، لانه تابع لا يستقل بنفسه.

فأما الكلام في صفات المكلف فانه فرع على العلم من المكلف، لان الكلام في صفة الذات فرع على العلم بالذات.

فاذا ثبت ذلك فالمكلف هو الحي، لان من ليس بحي لا يحسن تكليفه.

ويسمى الحي » انسانا « وفي الملائكة والجن بأسماء أخر، والفلاسفة تسميه » نفسا «.

والحي هو هذه الجملة المشاهدة دون أبعاضها، وبها يتعلق جميع الاحكام من الامر والنهي والمدح والذم.

وقال معمر وأبناء نوبخت وشيخنا ابوعبدالله: الحي هو غير هذه الجملة وهو ذات ليس بجوهر ولا عرض ولا حال في هذه الجملة.

وقال ابن الراوندي وهشام الفوطي: هو جوهر في القلب.

وقال الاسواري: هو ما في القلب من الروح.

٦٦

وقال النظام: هو الروح، وهو الحياة الداخلة لهذه الجملة.

وقال ابن الاخشيذ: هو جسم رقيق منساب في هذه الجملة.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه أولا ان الاحكام الراجعة إلى الحي تظهر في هذه الجملة من المدح والذم والنهي وغير ذلك.

وأيضا فان الادراك يقع بأعضائها والتألم والتلذذ للادراك، ولو أنها هي الجهة لما وقع الادراك بأبعاضها.

وأيضا الفعل المبتدأ يظهر في أطرافنا كحركة أيدينا وأرجلنا وغير ذلك، فلابد من اسناد ذلك اليها أو إلى ماله به تعلق معقول، فاذا أفسدنا جميع ما ادعي من وجوه التعلق لم يبق الا ما ذكرناه.

ولا يجوز أن يكون الفاعل في هذه الجملة غيرها، لانه لو كان كذلك لاقتضى أن يخترع الافعال في هذه الجملة، لان القدرة قائمة بذلك الغير على هذا القول.

وهذا باطل بما يعلم ضرورة من أن أحدنا اذا تعذر عليه حمل شئ باحدى يديه اذا استعان باليد الاخرى تأتى ذلك أو يسهل، ولا وجه لهذا الحكم المعلوم مع القول بالاختراع، وانما يصح ذلك على قول من يقول القدر في اليد اليمنى مقدار لا يتأتى بها حمل الثقيل، فاذا انضاف اليها القدر الذي في الشمال تأتي ذلك أو سهل، وان الفعل لا يصح الا باستعمال محل القدرة.

وبمثل ذلك يبطل قول من قال انه جزء في القلب، لان اليدين على هذا القول ليسا بمحلين للقدرة اصلا، لانها تحل الجزء الذي في القلب.

وأيضا فلو كان الفعل يفعل في هذه الجملة اختراعا لم يكن بعض الجملة بذلك أولى من بعض، وكان يجب أن يصح أن يفعل فيهاكلها لفقد الاختصاص المعقول.

ومما يدل أيضا على أن الفعال هذه الجملة أن الادراك يقع بكل عضو منها، فلو لم يكن في الاعضاء حياة لما أدرك بها كما لا يدرك بالشعر والظفر.

٦٧

فأما من قال الانسان هو الروح، فليس يخلو أن يريد بالروح الحياة التي هي وغرض أو يريد به الهواء المتردد، والاول باطل من حيث أن الحياة يستحيل أن تكون حية قادرة، وان أراد الثاني فذلك أيضا باطل، لانه لا يصح أن تحل الحياة الهواء ولا يدرك الالم واللذة وهو على صفته، وان أراد غيرهما فذلك غير معقول.

فأما مذهب ابن الاخشاذ(١) فانه أيضا يبطل بمثل ما أبطلنا به مذهب النظام وكان يجب أن لا تبطل الجملة بقطع وسطها وبقطع رأسها.

واذا قال بالتقلص في قطع اليد أو الرجل فلم لا [ يتقلص في قطع الرأس والوسط ولم ](٢) يتقلص بقطع اليد تارة فيبقى حيا وتارة لا يتقلص فيموت، وما الموجب لذلك الفرق.

فاذا ثبت أن الحي هذه الجملة فالصفات التي تجب أن يكون عليها المكلف شيئان: أولهما: أن يكون قادرا ليتمكن من فعل ما كلفه ولا يكون مكلفا لمالا يطيق، وقد بينا فساده.

وثانيهما: أن يكون عالما أو متمكنا من العلم به فيما يحتاج إلى العلم به من جملة ما كلفه من أحكام الافعال أو ايقاعه على وجه مخصوص ليستحق به الثواب ولا بد من العلم به، وكذلك يستحق الثواب على ترك القبيح اذا تركه لقبحه، وذلك لا يتم الا مع العلم بقبحه أو التمكن من العلم به بنصب الادلة عليه يقوم مقام خلق العلم الضروري في قلبه.

ولذلك قلنا ان الكفار مكلفون للشرائع لتمكنهم من العلم بها بالنظر في معجزات الانبياء.

___________________________________

(١) كذا في النسختين يريد « ابن الاخشيذ » الذى مضى ذكره في الصفحة السابقة، وهو احمد بن على بن بيغجور ابوبكر ابن الاخشيذ المعتزلى المتوفى سنة ٣٢٦.

(٢) الزيادة ليست في ر.

٦٨

ولما كانت علومه لا يصح حصولها الا مع كمال عقله وجب أن يخلق فيه العقل، والعقل هو مجموع علوم اذا اجتمعت كان الحي عاقلا، واذا حصل بعضها أو لم يحصل شي اصلا لم يكن عاقلا.

والعلوم التي تسمى عقلا تنقسم ثلاثة أقسام: أولها العلم بأصول الادلة، وثانيها مالا يتم العلم بهذه الاصول الا معه، وثالثها مالا يتم الغرض المطلوب الا معه.

فالاول كالعلم بأحوال الاجسام التي تتغير من حركة وسكون، والعلم باستحالة خلق الذات من النفي والاثبات المتقابلين، والعلم بأحوال الفاعلين وغير ذلك.

وليس يصح العلم الا ممن يجب أن يكون عالما بالمدركات اذا أدركها وارتفع اللبس عنها وممن اذا مارس الصنائع بعلمها، والعلم بالعادات من أصول الادلة الشرعية، فلابد منه، فهو نظير القسم الثاني.

والقسم الثالث العلم بجهات المدح والذم والخوف وطرق المضار حتى يصح خوفه من اهمال، النظر، فيجب عليه النظر والتوصل به إلى العلم.

والذي يدل على أن ذلك هو العقل لا غير أنه متى تكاملت هذه العلوم كان عاقلا، ولا يكون عاقلا الا وهذه العلوم حاصلة، ولو كان للعقل معنى آخر لجاز حصول هذه العلوم، ولا يحصل ذلك المعنى فلا يكون عاقلا وان لم يكن له هذه العلوم، والمعلوم خلاف ذلك.

وسميت عقلا لان لمكانها يمتنع من كثير من المقبحات، فشبهت بعقال الناقة التي تمنعها من السير.

ولان العلوم المكتسبة مرتبطة بها ولا يصح حصولها من دونه، فسميت به عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة، ولذلك لا يجوز وصف الله تعالى بأنه عاقل وان كان عالما بجميع المعلومات.

ويجب أن يكون المكلف متمكنا من الالات التي يحتاج اليها في الافعال

٦٩

التي تتعلق بتكليفه، لان فقد الادلة كفقد القدرة في قبح التكليف.

والالات على ضربين: أحدهما لا يقدر على تحصيلها الا الله تعالى كاليد والرجل، فيجب أن يخلقها له في وقت الحاجة اليها.

والثاني يتمكن المكلف من تحصيلها كالعلم في الكتابة والقوس في الرمي وغير ذلك، فالتمكين من تحصيلها له وايجاب تحصيلها عليه يقوم مقام خلقها.

ولابد من تمكينه من الارادة في كل فعل يقع على وجه بالارادة اذا كلف ايقاعه على ذلك الوجه، نحو صيغة الامر والنهي والخبر وايقاع الفعل على وجه العبادة وغير ذلك.

وما يقع على وجه لا تؤثر فيه الارادة جاز أن يكلف ذلك وان لم يكن متمكنا من الارادة، وذلك نحو رد عين الوديعة ورد عين المغصوب.

ويجب أن يكون المكلف مشتهيا ونافرا، لان الغرض اذا كان التعريض للثواب فلا يصح استحقاق الثواب الا على ما يلحق فيه المشقة، فلا يصح ذلك الا بأن يكون نافر الطبع عما كلف فعله ومشتهيا لما كلف الامتناع منه، ولهذا نقول لابد أن يكون على المكلف مشقة في نفس الفعل أو شبهه أو امر يتصل به، وأمثلة ذلك معروفة لا نطول بذكرها.

ويجب أن تكون الموانع مرتفعة، لان مع المنع يتعذر الفعل كتعذره مع فقد القدرة.

ولا فرق بين أن يكون المنع من جهته تعالى أو من جهة غيره في قبح تكليفه اذا لم يكن المكلف قادرا على ازالة المنع عن نفسه.

ولا يحسن أن يكلفه تعالى بشرط ارتفاع الموانع، لان ذلك انما يحسن فيمن لا يعرف العواقب.

ويجب أيضا أن لا يكون ملجأ فيما كلف، لان الغرض بالتكليف استحقاق المدح والثواب، والالجاء لا يثبت معه استحقاق مدح.

ألا ترى أن الانسان لا يمدح

٧٠

على أن لا يقتل نفسه وأولاده ولا يحرق ماله وداره، لانه ملجأ ألى أن لا يفعله مع زوال الشبهة واللبس، لان مع دخول الشبهة يجوز أن يفعل ذلك كما يفعل الهند من قتل نفوسهم واحراقها لما اعتقدوا في ذلك من أنه قربة إلى الله.

والالجاء يكون بشيئين: احدهما بأن يخلق الله فيه العلم الضروري بأنه متى رام فعلا منع منه، والثاني أنه متى فعل تخلص من ضرر عظيم أو ينال منافعا عظيمة، كمن يعدو من السبع والنار وغير ذلك.

وليس من شرط التكليف أن يعلم المكلف أن مكلفا كلفه اذا علم وجوب الواجب عليه وقبح القبيح منه ويتمكن من أدائه على الوجه الذي وجب عليه وان لم يعلم مكلفه، وكذلك اشتراك العقلاء في العلم بوجوب رد الوديعة والامتناع من الظلم وان اختلفوا في المكلف.

وليس من شرط المكلف أن يعلم قبل الفعل أنه مكلف للفعل لا محالة وأنه أوجب عليه قطعا، لانه لو كان كذلك لقطع على بقائه إلى وقت الفعل، وفي ذلك اغراء بالقبيح في ذلك الوقت.

وأيضا فلا مكلف الا وهو يجوز احترامه في الثاني فكيف يكون مع ذلك قاطعا على بقائه.

ولا يلزم أن يكون الانبياء والمعصومون مغرين بالقبائح اذا قطعوا على بقائهم زمانا طويلا، لان الاغراء لا يصح في المعصوم الموثق بأنه لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، فعلى هذا لا يقطع على أن المكلف مكلف للصلاة الا بعد أن يفعل الصلاة وقبل ذلك بتجويز الاحترام يجوز أن يكون غير مكلف لها، وانما يقول له يجب عليك التشاغل بالصلاة مع ضيق الوقت لانك لا تأمن أن تبقى على ما أنت عليه، فاذا خرج الوقت تبين أنها كانت واجبة عليك، وانما يحصل التحرز بفعل الصلاة فلذلك يجب عليه فعلها.

وتكليف من علم الله أنه يكون، ممكن حسن صحيح، ومن قال ان ذلك

٧١

غير ممكن لان التكليف هو الارادة على بعض الوجوه وما علم انه لا يكون لا يصح أن يراد.

فقوله باطل، لان الارادة تتعلق بما يصح حدوثه في نفسه سواء علم يحدث أو لا يحدث.

ألا ترى أن الواحد منا يصح أن يريد من جميع الكفار الايمان وان علم أن جميعهم لا يؤمن.

وأيضا فان النبي عليه السلام كان يريد من ابي لهب الايمان وان كان الله تعالى أعلمه أنه لا يؤمن.

وأيضا فقد يريد الواحد منا من الغير تناول طعامه وان غلب في ظنه أنه لا يتناوله.

وما يستحيل مع العلم يستحيل مع الظن على حد واحد، والمعلوم أن ذلك لا يستحيل مع الظن، فيجب ان لا يستحيل مع العلم.

فأما من قال ان ذلك ممكن غير انه لا يحسن، فالذي يدل على بطلان قوله ما قدمناه من أن التكليف تعريض لنفع لا ينال الا به، والتعريض للشئ في حكم ايصاله وان كل من حسن منه التوصل إلى امر من الامور حسن من غيره تعريضه له اذا انتفت عنه وجوه القبح، وعكسه كل شئ يقبح لنا التعرض له يقبح من غيرنا تعريضنا له أيضا، ونحن نعلم انه يحسن من الواحد منا التعرض للثواب والتوصل اليه بفعل ما يستحق به ذلك، فيجب أن يحسن منه تعالى تعريضه له.

فاذا حسن منا أن يتعرض لمنافع منقطعة من أرباح التجارات بتكليف المشاق والاسفار وحسن من غيرنا أن يعرضنا لها فيجب أن يحسن التعرض للمنافع الدائمة والتعريض لها.

والكافر انما استضر في ذلك بفعل نفسه وسوء اختياره، لانه أقدم على ما يستحق به العقاب وقد نهاه الله وحذره وتوعده عليه ورغبه في خلافه، فهو الذي ضر نفسه دون الذي كلفه، بل مكلفه نفعه بغاية النفع، من حيث عرضه

٧٢

لمنافع لا تنال الا بفعل ما كلفه وحثه على ذلك.

ويدل على حسن ذلك أيضا أنه قد ثبت حسن تكليف من علم الله أنه يؤمن، وقد فعل الله تعالى بالكافر جميع ما فعله بالمؤمن من اقداره وخلق الشهوة فيه والنفار ونصب الادلة وخلق العلم والتمكين وغير ذلك من الشرائط التى تقدم ذكرها، فينبغي أن يكون تكليفهما جميعا حسنا أو قبيحا.

فاذا حكمنا بحسن تكليف من علم الله انه يؤمن وجب مثل ذلك في تكليف من علم أنه يكفر، وأما من منع من حسن التكليف اصلا فلا تكلم في هذه المسألة بل تكلم بما تقدم من الكلام في حسن التكليف.

والفرق بين التكليفين لا يرجع إلى اختيار الله بل إلى اختيار المؤمن للايمان فيحصل نفعه، واختيار الكافر الكفر فاستضربه، فأتى في ذلك من قبل نفسه.

(دليل آخر) ويدل أيضا على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر ويموت على كفره أنه لو لم يحسن ذلك لوجب أن يكون للمكلف طريق إلى العلم بقبح ذلك، ولو علم قبحه لوجب أن يكون قاطعا على أنه لا يخرج من دار الدنيا الا وهو يستحق الثواب، ولا يتم ذلك الا بأمرين: أحدهما أن يعلم أنه متى رام القبيح منع منه وذلك الجاؤنا في التكليف، أو يعلم أنه سيتوب في المستقبل وذلك ويؤدي إلى الاغراء وكلاهما فاسدان، فاذا يجب ان يكون ممن يجوز الخروج من الدنيا وهو مستحق للعقاب وهو ما أردناه.

ومتى ادعي في ذلك وجه قبح فالكلام عليه قد استوفيناه في شرح الجمل يرجع اليه انشاء الله.

ومما يدل على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر أنه ثبت انه تعالى كلف من هذه صورته، لانا نعلم أن كثيرا من العقلاء المكلفين يموتون على كفرهم، ولو لم يكن الا ما علمناه من حال فرعون وهامان وابي جهل وأبي لهب وغيرهم لكفى، ولو كان ذلك قبيحا لما فعله الله تعالى، لانا قد دللنا على أنه تعالى لا يفعل القبيح على حال.

٧٣

ولا يلزم على ذلك بعثة نبي يعلم انه لا يؤدي ما حمله، لان بعثة نبي لا يؤدي الينا مالنا فيه مصلحة يمنع من ازاحة علتنا في التكليف ويوجب منع اللطف والتمكين، فلهذا لم يجز، لا لانه تكليف من علم الله أنه يكفر.

ولسنا ننكر أيضا أن يعرض في تكليف من علم الله أنه [ يكفر وجه قبح يقبح تكليفه، بل لا ينكر ذلك في تكليف من علم الله أنه ](١) يؤمن، لانه لو عرض فيه وجه المفسدة لقبح تكليفه وان آمن.

فاذا ثبت حسن التكليف بمن علم أنه يؤمن ومن علم أنه يكفر وجب أن يكون منقطعا، لان الغرض بالتكليف اذا كان هو الثواب فلو لم يكن التكليف منقطعا لانتقض الغرض بالتكليف، لان الثواب بالتكليف لا يمكن أن يكون مقترفا، لان من شأنه أن يكون خالصا صافيا من الشوب والتكدير حتى يحسن الزام المشاق.

وذلك لا يصح مع التكليف، لان التكليف لا يعرى من مشقة، وذلك يؤدي إلى حصول الثواب على خلاف الوجه المستحق ويصرف به الغموم والمضار.

وأيضا لو اقترن الثواب بالتكليف لادى إلى أن يكون المكلف ملجأ، لان المنافع العظيمة تلجئ إلى فعل ما ضمنت عليه، ولذلك قلنا لابد أن يكون بين زمان التكليف وبين حال الثواب زمان متراخ يخرج المكلف من حد الالجاء.

وانما كانت المنافع العظيمة العاجلة ملجئة لانه يقتضي أن يفعل الطاعة لاجلها دون الوجوه التي يستحق عليها الثواب، وذلك يخرجها من أن يستحق لها الثواب أصلا، وذلك ينقض الغرض.

وأما القدر الذي يكون بين زمان التكليف وبين الثواب فليس بمحصور عقلا بل بحسب ما يعلمه الله تعالى، وانما يعلم على طريق الجملة انه لابد من تراخ ومهلة.

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٧٤

فاذا ثبت وجوب انقطاع التكليف فليس الوقت وقت انقطاعه بزمان بعينه بل نوجبه على سبيل الجملة.

ولا يمتنع أن يحسن الشئ أو يقبح على طريق الجملة.

ولا يعلم عقلا انقطاع التكليف عن جميع المكلفين بل انما يعلم ذلك سمعا والاجماع حاصل على ذلك.

وكان يجوز عقلا انقطاع التكليف عن بعضهم وبقاؤه على بعض، لكن الاجماع مانع منه.

ومتى حصل انقطاع التكليف بفعل غير الله فقد حصل الغرض، ومتى لم يحصل فانه تعالى يزيله.

ويجوز انقطاع التكليف بازالة العقل أو الموت أو الفناء، وأما فناء الجواهر فليس في العقل ما يدل على جوازه ولا على احالته، والمرجع في ذلك إلى السمع، فاذا علم بالسمع أنه تفنى الجواهر ثم علمنا أن الباقي لا ينتفي الا بضد يطرأ عليه علمنا ان الفناء (مغني يغنى)؟ الجواهر.

وما يسأل على ذلك من الشبهات فقد بينا الجواب عنه في شرح الجمل.

والطريق الذي به يعلم فناء الجواهر هو السمع، وقد أجمعوا على أن الله تعالى يفنى الاجسام والجواهر ويعيدها، فلا نعتد بخلاف من خالف فيه.

ويدل عليه أيضا قوله( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (١) فكما أنه كان أولا ولا شئ معه موجود فكذلك يجب أن يكون آخرا ولا شئ معه موجود.

وقد استدل بغير ذلك من الايات عليها اعتراضات والمعتمد ما ذكرناه.

واذا ثبت أن الجواهر تفنى فالله تعالى يعيدها اجماعا.

وأيضا فلو لم يعدها لما لامكن ايصال المستحق اليها من الثواب، وقد علمنا وجوب ذلك، فاذا لابد من اعادتها.

___________________________________

(١) سورة الحديد: ٣.

٧٥

[ وكل من مات وله حق لم يستوفه في دار الدنيا فانه يجب اعادته على كل حال، لان الثواب دائم لا يمكن توفيره في دار الدنيا ](١) .

وأما من يستحق العوض فانه يجوز أن يوفر عليه في الدنيا ولا يجب اعادته، لان الغرض منقطع.

وأما من يستحق العقاب فلا يجب اعادته، لان العقاب يحسن اسقاطه عقلا فاذا سقط لم يحسن استيفاؤه فيما بعد فلم يجب اعادته.

فاذا علمنا أنه يعاقب الكافر لامحالة علمنا أنه يعيد المستحق للعقاب، ومن كان عقابه منقطعا فلا يكون كذلك الا وهو مستحق الثواب الدائم بطاعاته، واذا أعيد ربما استوفى عقابه ثم نقل إلى الثواب، وربما عفي عن عقابه وفعل به الثواب، فاعادته واجبة عقلا لما يرجع إلى استحقاق الثواب دون العقاب.

وقد أجمعت الامة على أن الله تعالى يعيد أطفال المكلفين والمجانين وان كان ذلك غير واجب عقلا، والقدر الذي يجب اعادته هو بنية الحياة التي متى انتقصت خرج الحي من كونه حيا.

ولا معتبر بالاطراف واجزاء السمن لان الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا.

ألا ترى ان أحدنا قد يستحق المدح والذم ثم يسمن فلا يتغير حاله فيما يستحقه وكذلك يهزل واستحقاقه للمدح أو الذم كما كان، فعلم بذلك أنه لا اعتبار بهذه الاجزاء.

ومن قال يجب اعادة الحياة دون الجواهر فقوله باطل، لان المستحق للثواب والعقاب هى الجملة التي تركبت من الجواهر وكيف يجوز التبدل بها فيؤدي إلى ايصال الثواب والعقاب إلى غير المستحق، والصحيح ما قلناه أولا.

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٧٦

واما

الكلام في اللطف: (فيحتاج أن نبين أولا ما اللطف وما حقيقته)

واللطف في عرف المتكلمين عبارة عما يدعو إلى فعل واجب أو يصرف عن قبيح، وهو على ضربين: أحدهما أن يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع فيسمى يوفيقا، والاخر ما يكون عنده أقرب إلى فعل الواجب أو ترك القبيح وان لم يقع عنده الواجب ولا أن يقع القبيح فلا يوصف بأكثر من أنه لطف لا غير، وما كان المعلوم أنه يرتفع عنده القبيح ولولاه لم يرتفع يسمى عصمة، وان كان عنده أقرب إلى ان لا يقع عنده القبيح سمي لطفا لا غير، واللطف منفصل من التمكين، ويوصف اللطف بأنه صلاح في الدين(١) وأما ما يدعو إلى فعل قبيح فيقع عنده الصحيح قبيح ولولاه لما يقع يسمى مفسدة واستفساد.

واللطف اذا كان داعيا إلى الفعل أو صارفا فلابد أن يكون بينه وبين ما هو لطف فيه مناسبة، ولا يلزم أن تكون تلك المناسبة معلومة تفصيلا.

ويجب أن يكون اللطف معلوما على الوجه الذي هو لطف فيه، لانه داع إلى الفعل، فهو كسائر الدواعي.

والمعتبر في الدواعي حال الداعي من علم أو ظن أو اعتقاد، ولذلك قد يعتقد أن في الشئ نفعا فيكون ذلك داعيا له إلى فعله وان لم يكن فيه نفع.

واذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن يدعوه إلى الفعل ما ليس بمدرك بعد أن يكون معلوما.

ويجب أن يكون اللطف متقدما للملطوف فيه ليصح أن يكون داعيا اليه وباعثا عليه، والداعي لا يكون الا متقدما، وأقل ما يجب تقدمه وقت واحد،

___________________________________

(١) في ج « بأنه صلاح واصلاح في الدين ».

٧٧

ويجوز تقدمه بأوقات بعد أن لا يكون منسيا قديما.

وربما كان في تقديمه فضل مزية، لان رفق الوالد بولده في طلب العلم وحثه عليه بأوقات كثيرة ربما كان أدعى له إلى التعليم.

واللطف على ثلاثة اقسام: احدها من فعل الله تعالى، والثاني من فعل من هو لطف له، والثالث من فعل غيرهما.

فما هو من فعل الله تعالى على ضربين: أحدهما يقع بعد التكليف للفعل الذي هو لطف له فيوصف بأنه واجب، والثاني ما يقع مع التكليف للفعل الذي هو لطف فيه فلا يوصف بأنه واجب، لان التكليف ما اوجبه ولم يتقدم له سبب وجوب لكن لابد أن يفعل به لانه كالوجه في حسن التكليف.

وأما ما كان من فعل المكلف فهو تابع لما هو لطف فيه، فان كان واجبا فاللطف واجب وان كان لطفا في فعل نفل فهو نفل.

واذا كان اللطف من فعل غيرهما فلابد من أن يكون المعلوم من حاله انه يفعل ذلك الفعل على الوجه الذي هو لطف في الوقت الذي هو لطف فيه ومتى لم يعلم ذلك لم يحسن التكليف الذي هذا الفعل لطف فيه.

هذا اذا لم يكن له بدل من فعل الله يقوم مقامه، فان كان له بدل من فعل الله تعالى جاز التكليف لذلك الفعل اذا فعل الله تعالى ما يقوم مقامه.

ولا يجب على الغير أن يفعل ماهو لطف للغير الا اذا كان له في ذلك لطف، كما نقول في الانبياء عليهم السلام أنه يجب عليهم تحمل الرسالة لما لهم في ذلك من اللطف دون مجرد ما يرجع إلى أممهم ولولا ذلك لما وجب عليهم الاداء.

واللطف على ثلاثة أقسام: أحدها: من فعل الله، فيجوز أن يكون له بدل، ولا مانع يمنع منه، فيكون مخيرا في ذلك.

٧٨

والثاني: أن يكون من فعل المكلف نفسه، فان كان له بدل وجب اعلامه ذلك، فيكون من باب التخيير كالكفارات الثلاث، ومتى لم يعلمه ذلك قطعنا على أنه لا بدل له من فعله ولا من فعل الله تعالى، لانه لو كان له بدل من فعل الله لما وجب عليه الفعل على كل حال.

والثالث: ما كان من فعل غير الله وغير المكلف، فان كان مع كونه لطفا لغيره لطفا له جاز أن يكون واجبا أو ندبا، وان لم يكن فيه له لطف أصلا وانما هو لطف للغير كان مباحا الا انه لا يحسن تكليف هذا الا بعد أن يعلم أنه فعله.

فعلى هذا ذبح البهائم التي ليست نسكا ولا ندبا(١) وانما هو مباح فوجه حسنه أنه لطف لغير الذابح، وقيل وجه حسنه أن فيه عوضا للمذبوح ونفعا لغيره بأكله، وكلاهما جائزان.

فعلى هذا الافعال الشرعية ما هو واجب منها فوجه وجوبها كونها مصالح في الواجبات العقلية ويقبح تركها لانها ترك لواجب، وما هو قبيح فوجه قبحها كونها مفسدة في الواجبات العقلية أو داعية إلى القبائح العقلية، ويجب تركها لانه ترك لقبيح، وما هو مباح فلانها مصالح لغير فاعلها على ما مضى القول فيه.

ومتى كانت المفسدة من فعله تعالى لم يحسن فعلها وان كانت من فعل المكلف نفسه، ويجب أن يعلمه وجوب ترك ما هو مفسدة له، وان كانت من فعل غيرهما لا يخلو المكلف من أن يكون قادرا على منعها أو لا يكون كذلك، فان كان قادرا جاز أن نوجب عليه المنع منها وحسن تكليفه، [ وان لم يكن في مقدوره المنع منها ](٢) فان كان المعلوم ان ذلك الغير لا يختارها حسن أيضا تكليفه، وان لم يكن ذلك معلوما وجب عليه تعالى المنع منها أو اسقاط

___________________________________

(١) في ج « ولا نذرا ».

(٢) الزيادة ليست في ر.

٧٩

تكليف ما تلك المفسدة مفسدة فيه والا ادى إلى أن علة المكلف غير مزاحة.

فعلى هذا دعاء ابليس واغواه الخلق هل هو مفسدة أم لا؟ قيل فيه شيئان: احدهما ان كل من فسد بدعاء ابليس كان يفسد ولم ان يدعه فلم يكن حد المفسدة قائمة فيه، والثاني أن التكليف مع دعاء ابليس أشق والتعريض للثواب(١) أكثر، فدخل ذلك في باب التمكين وخرج من باب المفسدة.

وكلاهما جائزان.

والذي يدل على وجوب فعل اللطف هو أن أحدنا لو دعا غيره إلى طعامه وأحضر الطعام وغرضه نفع المدعو دون ما يعود اليه من مسرة أو غيرها، وعلم أو غلب على ظنه أنه متى تبسم في وجهة أو كلمه بكلام لطيف أو كتب اليه رقعة أو انفذ غلامه اليه وما أشبه ذلك مما لا مشقة عليه ولا حط له عن مرتبته حضر ومتى لم يفعل ذلك لم يحضر، وجه عليب أن يفعل ذلك مالم يتغير داعيه عن حضور طعامه، ومتى لم يفعله استحق الذم من العقلاء كما يستحق لو غلق بابه في وجهة، فلهذا صار منع اللطف كمنع التمكين في القبح.

وهذا يقتضي وجوب فعل اللطف عليه تعالى، ولان العلة واحدة.

فان قيل: كيف يجب على من دعا غيره إلى طعامه أن يلطف له واصل دعائه له ليس بواجب وانما هو تفضل.

قيل: الاصل وان كان تفضلا فهو سبب لوجوب التمكين ورفع الموانع كالاقدار والتمكين وغير ذلك، واذا كان سبب وجوب اللطف يختص بالداعي إلى طعامه دون غيره فكذلك يجب أن يكون فعل المكلف يختص بالداعي إلى طعامه دون غيره، كما لا يجب على غير الداعي إلى طعامه التبسم في وجهه ولا غير ذلك من الافعال المقوية لداعيه كما لا يجب تمكينه واقداره.

وانما شرطنا استمرار الارادة لانه يجوز على الواحد منا أن يبدو له من

___________________________________

(١) في ر « للسواد ».

٨٠