الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 75891
تحميل: 5824

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75891 / تحميل: 5824
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

ذلك فيتغير داعيه، والقديم تعالى لا يجوز عليه البداء على حال.

والعلم باستحقاق من منع اللطف الذم ضروري كالعلم باستحقاق من منع التمكين مثل ذلك.

فان قيل: ما قولكم في الداغي إلى طعامه لو غلب في ظنه أنه لا يحضر طعامه الا بعد أن يبذل له شطر ماله أو يقتل بعض أولاده وغير ذلك مما عليه فيه ضرر عظيم.

قلنا: هذا أولا لا يطعن على ما نريده من وجوب اللطف على الله تعالى، لان جميع ذلك لا يليق به، لان كل ما يفعله تعالى يجري مجرى مالا مشقة عليه فيه من التبسم وغيره، واذا وجب التبسم وما جرى مجراه من فعلنا وجب جميع الالطاف من فعله، لانها جارية مجراه من فعلنا لانه لا مشقة عليه فيها.

ثم نقول: الواحد منا اذا كلف غيره حضور طعامه لا يخلو أن يكون غرضه نفع المدعو أو نفع نفسه وما يرجع اليه، فان كان الاول وجب عليه من اللطف مالا مشقة عليه فيه أو مالا يعتد به من المشقة اليسيرة، ومتى كانت فيه مشقة عظيمة لم يجب.

والمشاق معتبرة في وجوب الفعل أو حسنه فان كان غرضه نفع نفسه وما يعود اليه وجب أن يقابل بين الضرر الداخل وبين الضرر عليه فيما يفعله لنفع ذلك الفعل ويدفع الاكثر بالاقل.

وأما المفسدة فهي ما يقع عندها الفساد ولو لاه لم يقع، أو يكون أقرب إلى لفساد ولو لاه لم يكن أقرب أو ينصرف عنده من الواجب أو يكون إلى الانصراف أقرب ولا يكون له حظ في التمكين.

والعلم بقبح ما هذه صفته ضروري لا يلتفت إلى خلاف من يخالفه فيه.

فاما من لا لطف له - بأن يكون المعلوم من حاله أنه يطيع على حال أو يعصي - فانه يحسن تكليفه لانه متمكن من الفعل بسائر ضروب التمكنات، وليس في المعلوم ما يقوي داعيه فيجب فعله به، فينبغي أن يحسن تكليفه.

٨١

غير أنا علمنا بوجوب المعرفة ووجوب الرئاسة لجميع الخلق انهما لطفان لجميعهم، ولو لا السمع لكان يجوز أن يكون في المكلفين من يختار فعل الواجب والامتناع من القبح وان لم تجب عليه المعرفة ولا نصيب له، لكن الاجماع مانع منه ومن تعلق لطفه بفعل قبيح في مقدوره تعالى.

[ والصحيح انه لا يحسن تكليفه، لان هذا له لطف مراحم به علته، وانما لم يحسن أن يفعله تعالى لامر يرجع إلى حكمه، وفي الناس من اجازه وأجراه مجرى من لا لطف له ](١) ، والصحيح الاول.

ومتى تعلق لطفه بفعل قبيح من مقدور غير الله فلا يحسن تكليفه أيضا، لانه لا يحسن تكليف الغير ذلك الفعل لقبحه.

وأما الاصلح في باب الدنيا فهو الانفع الا الذي لا يتعلق به لطف فانه لا يجب على الله تعالى، لانه لو وجب ذلك لادى إلى وجوب مالا يتناهى وذلك محال.

او إلى أن لا ينفك القديم تعالى من الاخلال بالواجب وذلك فاسد.

وانما قلنا ذلك لان النفع اللذة وهو تعالى يقدر من جنسهما على مالا يتناهى فلو كان ذلك واجبا لادى إلى ما قلناه، ولو قلنا هربا من ذلك أنه لا يقدر الا على متناه أدى إلى القول بتناهي مقدورات الله، وذلك كفر.

ولا يلزم على ذلك أن يكون اللطف في باب الدين مثل ذلك، لان اللطف في باب الدين بحسب المعلوم، وليس يجب أن يكون المقدور منه مالا نهاية له.

ولو فرضنا ذلك لقبح المكلف وان كان ذلك بعيدا.

وليس كذلك اللذة والنفع، لانه يرجع إلى جنس المقدور فيجب أن يكون قادرا منه على مالا نهاية له.

ويدل ايضا على أن الاصلح في باب الدنيا غير واجب أنه لو كان واجبا

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٨٢

لما استحق تعالى الشكر بفعلها،لان من فعل واجبا كقضاء الدين ورد الوديعة لا يستحق الشكر وانما يستحق الشكر بالتفضل المحض، ولو لم يستحق الشكر لما استحق العبادة لانها كيفية في الشكر، وذلك خلاف الاجماع.

وهو تعالى وان استحق الشكر على الثواب والعوض الواجبين، فلان سبب الثواب التكليف وهو تفضل، وكذلك الالام التي يستحق بها العوض تابعة للتكليف الذي هو تفضل.

واما الكلام في الالام فيقع من وجوه: احدها في اثباتها: والكلام في ذلك ظاهر لا نتشاغل به، لان المعلوم ضرورة الامر الذي يتألم به الحي ويدركه مع نفار طبعه عنه، فدفع ذلك مكابرة.

وانما الكلام يقع في حسنه أو قبحه، لان في الناس من قال الالام كلها قبيحة وهم الثنوية والمجوس، ومن قال ان فيها ما هو حسن اختلفوا فمنهم من قال لا وجه لحسنها الا الاستحقاق وهم التناسخية والبكرية.

والصحيح أن في الالام ما هو حسن وفيها ما هو قبيح، فما يقبح منها يقبح لوجوه ثلاثة: أحدها لكونه ظلما، وثانيها أن يكون مفسدة، وثالثها أن يكون عبثا.

وما عداه يكون حسنا.

وان شئت قلت: الالام لم تحسن الا لنفع يوفى عليه أو دفع ضرر أعظم منه او الاستحقاق او يكون واقعا على وجه المدافعة، فمتى خلا من ذلك أجمع كان قبيحا.

فأما الظلم فهو الضرر الذي لا يقع فيه وفاء عليه ولا دفع ضرر اعظم منه

٨٣

ولا يكون مستحقا ولا حاصلا على وجه المدافعة سواء كانت هذه الوجوه معلومة أو مظنونة.

والذي يدل على أن الالم يحسن اذا كان فيه نفع يوفى عليه ما نعلمه ضرورة من حسن اخراج ما يملكه من المتاع والعقار بعوض اذا غلب في ظنونا أن النفع بالعوض اكثر منه، وانما حسن تفويت المنافع بما يخرجه لاجل النفع الذي يحصل بالعوض لا يختلف العقلاء في حسن ذلك.

ووجه حسن هذا الالم هو علمه بماله فيه من النفع أو ظنه دون حصول النفع فيه، بدلالة أنه لو كان فيه نفع ولم يعلم أن فيه نفعا ولا ظنه لما حسن منه تحمل هذا الالم، واذا علم ذلك أو ظنه حسن، فعلم أن وجه حسنه ما قلناه.

ولا يلزم أن يكون الظلم حسنا لما فيه من العوض، لانا نعتبر أن يكون النفع موفيا عليه ويكون مقصودا، أو ما هو في مقابلة الظلم انما يفعله الله ويأخذه من الظالم على وجه الانتصاف لا يكون موفيا عليه بل بحسب الالم.

وأيضا فالظالم لم يقصد نفع المظلوم، فلم يحصل القصد أيضا.

وأيضا فالمعلوم ضرورة حسن تحمل ألم الاسفار طلبا للارباح وتحمل المشاق في طلب العلم لمكان حصول العلم، فعلم أن تحمل الالم يحسن للنفع.

وأما الذي يدل على أن الالم يحسن لدفع ضرر أعظم منه ما نعلمه ضرورة من حسن عدونا على الشوك هربا من السبع أو النار أو خوفا من وقوع حائط وما أشبه ذلك، ويحسن منا شرب الدواء الكريه دفعا للامراض والخلاص منها، ويحسن الفصد وقطع الاعضاء خوفا من السراية إلى النفس.

ووجه حسن جميع ذلك ظن دفع الضرر الموفي عليه، لان العلم باندفاع الضرر ليس يكاد يحصل في موضع، لكن اذا حصل الحسن مع الظن فمع العلم أولى وأحسن.

٨٤

واما الذي يدل على ان الالم يحسن الاستحقاق فهو ما نعلمه ضرورة من حسن ذم المسئ على اساء‌ته وان غمه ذلك وآلمه واستضر به، والعلم بحسن ذلك مع تعريه من نفع أو دفع ضرر يوجب أنه حسن للاستحقاق لا غير.

وقد قيل في ذلك أيضا أنه يحسن المطالبة بتقضي الدين وان أضر ذلك بمن عليه الدين وغمه، وانما حسن ذلك للاستحقاق.

ولقائل ان يجعل وجه ذلك ما يقدمه من الانتفاع بالدين، فجرى ذلك مجرى تقدم الاجرة على الاعمال الشاقة.

وأيضا فلو كان حسن الاستحقاق لما حسن أن يبتدئ الانسان بايصاله إلى نفسه، كمالا يحسن أن يعاقب نفسه.

وأيضا فانه خال من استحقاق واهانة، وذلك واجب في العقاب.

وانما قلنا انه متى وقع على وجه المدافعة كان حسنا، لانه معلوم أن من دافع غيره عن نفسه فوقع به من جهته ضرر لم يقصده بل قصد المدافعة فقط لا يستحق به عوضها على المؤلم ولا يكون بذلك ظالما.

ولا يمكن أن يقال: ان ذلك مستحق، لان من قصد ايلام غيره ولم يؤلمه لا يستحق العقاب عليه.

وأيضا فلو كان مستحقا لقارنه استحقاق واهانة وجاز أن يقصده، وكل ذلك يدل على أنه لم يكن مستحقا.

ولا يمكن أن يقال: وجه حسنه ما فيه من العوض، لانه تعالى لما حسن ذلك في عقولنا ضمن العوض كما ضمن لما أباح لنا ذبح البهائم بالشرع، لانه لو كان الامر على ما قالوه لوجب أن يكون من لا يعرف أن الله ضمن العوض لا يعرف حسن المدافعة، كما أن من لا يعرف الشرع لم يعرف حسن ذبح البهائم.

والمعلوم خلافة.

٨٥

وأيضا كان يجب أن يحسن أن يقصد ايلامه ولا يقصد دفعه، كما يجوز ان [ يقصد ذبح البهيمة، وقد علمنا أنه لا يحسن أن ](١) يقصده.

وانما قلنا ان الا لم يقبح لكونه عبثا، لان العبث مالا غرض فيه أو لا غرض مثله فيه، والا لم يكون عبثا اذا فعل لنفع يمكن الوصول اليه من دون الالم ولا غرض له فيه زائدا على ذلك بدل على قبح ذلك انا نعلم أنه يقبح من أحدنا أن يواطئ غيره ويوافقه على أن يضربه لعوض يدفعه اليه يرضى بمثله في تحمل ذلك الضرب، لانه بالعوض خرج من كونه ظلما، وانما قبح لانه لا غرض فيه حكمي.

وأما الالم اذا كان فيه مفسدة فمعلوم قبحه ضرورة لا شبهة فيه، ولا يجوز أن يكون الالم قبيحا لكونه ألما على ما قالت الثنوية، لما بيناه من أن ههنا آلاما حسنة للنفع ولدفع الضرر والاستحقاق، فبطل قولهم.

ولا يجوز أن يقبح الالم لكونه ضررا، لانه لو كان كذلك لقبح العقاب لان فيه ضررا لقبح العقاب، وقد علمنا حسنه لكونه مستحقا.

ومن قال العقاب ليس بضرر كان مكابرا.

والالم اذا كان فيه نفع يوفى عليه أو دفع ضرر أعظم منه لا يكون ضررا، ومن قال انه ضرر فقد أخطأ، لانه يلزم أن يكون من خدش جلد غيره باخراجه من العرق وتخليصه من الهلاك أن يكون مضرا به، وهذا معلوم خلافه.

ولو كان العقاب لا يسمى ضررا لما جاز أن يقال في الله تعالى انه ضار، وأجمع المسلمون على اطلاق ذلك، والقديم تعالى لا يحسن أن يفعل الالم الا للنفع أو الاستحقاق لا غير، فأما لدفع الضرر فلا يجوز.

والظن لا يجوز عليه لانه عالم لنفسه.

وانما قلنا ذلك لان من شرط حسن الالم لدفع الضرر أن يكون ذلك الضرر

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

٨٦

لا يمكنه دفعه الا بادخال بعض الالام عليه، والقديم تعالى يقدر على دفع كل ضرر من غير أن يدخل عليه الما، فلم يحسن لذلك.

والصحيح أن القديم تعالى لا يفعل ألما لا في المكلفين ولا في غيرهم في دار التكليف الا اذا كان فيه غرض يخرجه من كونه ظلما أو عوض يخرجه من كونه عبثا، ولا يجوز أن يفعل الالم لمجرد العوض، لان مثل العوض يحسن الابتداء به ولا يجوز أن يفعله لاجل العوض.

ويفارق ذلك الثواب، لان الثواب يستحق على وجه من التعظيم والاجلال ولا يحسن الابتداء بمثله، وليس كذلك العوض لانه مجرد المنافع.

ولذلك لا يحسن منا أن نستأجر غيرنا لينقل الماء من نهر إلى نهر ولا عوض لنا فيه غير ايصال الاجرة اليه، وكذلك لا يحسن أن يوافقه على أن يضربه [ ويعطيه عوضا من ضربه ](١) لا لغرض غير ايصال العوض اليه، ومعلوم ضرورة قبح ذلك.

وليس لاحد أن يقول: الاستحقاق له مزية على التفضل في الشاهد فجاز أن يفعل لذلك الالم، لان الاستحقاق انما يكون له مزية في الشاهد لما يلحق المتفضل عليه من الانفة وان تميز المتفضل عليه بذلك أو يلحقه بعض الغضاضة، ولذلك يختلف باختلاف أحوال المتفضل من جلاله وعظم قدره، وكل ذلك مفقود مع الله تعالى، فلا مزية للاستحقاق على التفضل من جهته.

فأما من قال الالم لا يحسن الا للاستحقاق من البكرية والتناسخية، حتى قالت البكرية ان الاطفال والبهائم لا تألم أصلا لما رأت انها غير مكلفة، وقالت التناسخية انه قد كان لهم فيما مضى زمان تكليف، فما ينالهم من الالام في هذا الوقت فباستحقاقهم لما عصوا في ذلك الوقت.

والذي يدل على فساد قول الفريقين ما قدمناه من أنه يحسن الالام للمنافع الموفية عليها ولدفع ضرر أعظم منها،

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

٨٧

وذلك يبطل قول الفريقين على كل حال.

ويبطل قول البكرية أيضا ما نعلمه ضرورة انا كنا نتألم في حال الطفولة بالامراض والجراحات والدماميل التي لا يقدر عليها غير الله تعالى، فمن دفع ذلك كان مكابرا.

وأيضا فانا نعلم أن البهيمة تجوع وتعطش فتتألم بذلك، وذلك من فعل الله تعالى.

على أن ما نعلمه ضرورة من هرب البهيمة من الالام والضرب، يبطل قول من قال انهم لا يألمون.

ومما يبطل مذهب التناسخية أن من شرط ما نفعل من الالام المستحقة أن يقارنها استخفاف واهانة، ومعلوم قبح ذلك بالبهائم والاطفال، ومن استحسن ذلك كان جاهلا مكابرا للعقول.

وأيضا فالانبياء تألم بالالام، ولا يجوز أن يكونوا مستحقين للعقاب لا قبل النبوة ولا بعدها، لقيام الدليل على عصمتهم.

وأيضا فلو كان ذلك مستحقا لوجب أن يذكر تلك الاحوال مع التذكر الشديد وانهم عصوا فيها، لان العاقل لا يجوز أن ينسى مثل ذلك مع قوة التذكر، وان نسي بعضه فلا يجوز أن ينسى جميعه، ولو جاز أن ينسى بعض العقلاء ذلك لم يجز أن ينساه جميعهم، ولو جاز أن ينسى كذلك لجاز أن ينسى أحدنا انه ولي ولاية في بلد بعينه سنين كثيرة وكثر فيه أعوانه وأتباعه ورزق فيه أولادا لكنه نسي، وذلك تجاهل وطول المدة كقصرها، ولهذا نقول: ان أهل الجنة لابد أن يذكروا أحوال الدنيا أو أكثرها، وما يتخلل بين ذلك من زوال العقل ليس بأكثر مما يتخلل بين ذلك بالنوم المزيل للعقل وأنواع الامراض المزيلة للعقل، والزمان الطويل في هذا الباب كالزمان القصير.

وليس لهم أن يقولوا كان زمان التكليف يسيرا.

ألا ترى أن من دخل ساعة

٨٨

من اننهار بلدا لا فيلة ورأى أفيلة(١) وخرج منها وطالت مدته لا يجوز أن ينسى ذلك ولا يذكره مع شدة تذكره.

على أن هذا المذهب يؤدي إلى قبح التكليف الذي لم يتقدمه تكليف آخر لابد أن يكون فيه مشقة والا لم يصح التكليف، فبأي شئ استحقت تلك المشقة فلابد من المناقضة أو القول بتكليفات لا نهاية لها، وكل ذلك باطل.

فأما الكلام في العوض فأول ما نقول: ان العوض هو النفع [ المستحق ](٢) الخالي من تعظيم وتبجيل.

فبكونه نفعا يتميز مما ليس بنفع، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل وبخلوه من تعظيم وتبجيل يتميز من الثواب.

فاذا ثبت ذلك فكل ألم يفعله الله تعالى أو يفعل بأمره كالهدايا والاضاحي وغير ذلك أو فعل باباحة كاباحة ذبح البهائم فان عوض ذلك أجمع على الله تعالى، لانه لو لم يكن فيه عوض لكان ظلما وذلك لا يجوز عليه تعالى، ولو كان على المؤلم منا لما حسن الالم، لان ما في مقابلته من الانتصاف لا يحسن الالم وانما تحسنه المنافع العظيمة الموفية عليه، وفي علمنا بحسن ذلك أجمع دليل على أن عوضه عليه، وما يفعله الله تعالى من الالام ويأمر به وجوبا أو ندبا فلابد فيه من العوض، والاعتبار على ما بيناه.

فأما ما يبيحه فوجه حسنه أنه لطف لغير الذابح، لان الواحد منالا يجب عليه لطف الغير على ما بيناه، فاذا كان في ذلك لطف لغير الذابح فان علم الله

___________________________________

(١) كذا في ج وفى ر « بلدا لا قبله وراى البلد وخرج منها ».

(٢) الزيادة ليست في ر.

٨٩

تعالى أنه يفعل حصل الغرض وان علم أنه لا يفعل فعل ما يقوم مقامه في باب اللطف.

وقيل وجه الحسن في ذلك ما فيه من العوض والانتفاع به بالاكل، لان الغرض الديني والدنياوي يخرج ذلك من كونه عبثا، ومتى الجأ الله تعالى غيره، إلى الاضرار بحي فعوضه عليه تعالى، لان الالجاء آكد من الامر والاباحة.

فعلى هذا متى ألجأ بالبرد الشديد إلى العدو على الشوك طلبا للخلاص كان العوض عليه تعالى فيما يناله من الالم بالشوك، وأما اذا ألجأه إلى الهرب من السبع أو اللص أو العدو على الشوك فالعوض على الملجئ دون الله تعالى، لانه فعل السبب الموجب للهرب دون علمه بوجوب الهرب، لان علمه بوجوب ذلك كان حاصلا ولما الجأه، فعلم أن السبب الملجئ هو وقوف السبع أو اللص أو العدو دون الله تعالى الخالق للعلم بوجوب التحرز.

فركوب البهائم والحمل عليها طريق حسنه السمع والعوض عليه تعالى، لانه المبيح لذلك، وفي الناس من قال طريق حسن ذلك العقل، لما في مقابلة ذلك من التكفل بمؤنتها من العلف وغيره.

ولا يلزم القديم تعالى العوض من حيث مكن من الالم، لانه لو لزمه للزمنا اذا دفعنا سيفا إلى غيرنا ليجاهد به العدو متى قتل مؤمنا، لانه لولا دفع السيف لما تمكن منه وكان يلزم الحدادين وصناع السيوف العوض، وكل ذلك باطل.

وكان يجب أن يقبح منا استرجاع ما غصبه الغاصب، لانه بالتمكن قد ضمن العوض وذلك باطل.

والعوض على الواحد منا اذا فعله على وجه الظلم ويجب أن يكون المعلوم من حاله أنه يستحق في الحال كمثل ما يستحق عليه لمكن الانتصاف منه والانتصاف واجب.

وفي الناس من قال يجوز أن يتفضل الله عليه بذلك ويتقل عنه.

وهذا غير

٩٠

صحيح، لان التفضل غير واجب والانتصاف واجب فكيف تعلق بما ليس بواجب، وعلى هذا يجب أن يكون مستحقا في الحال لمثل ما يستحق عليه دون أن يكون المعلوم من حاله أنه لا يخرج من دار الدنيا الا وهو مستحق له على ما ذهب اليه أبوهاشم، لمثل ما قلناه من أن الانتصاف واجب والتقية ليست واجبة.

وأما ما يفعله الواحد منا بنفسه من الالام فانه لا يستحق عليها العوض، لان من شرط المستحق أن يكون غير المستحق عليه، وذلك لا يصح فيما بين الانسان ونفسه، غير أنه يستحق ذما ان كان قبيحا ومدحا ان كان حسنا له مدخل في استحقاق المدح.

وليس من شرط من يستحق عليه العوض أن يكون عاقلا، لان البهائم تستحق عليها الاعواض، لانا بينا أن العوض على المؤلم دون الممكن، ومن ألجأ غيره إلى الاضرار استحق عليه العوض سواء أضر بنفسه أو بغيره، لانه في حكم ما فعله الملجئ بنفسه.

ومن وضع طفلا تحت البرد حتى هلك فالعوض على الواضع دونه تعالى لانه بتعريضه للهلاك كأنه فعل نفس الهلاك، ولذلك يذمه العقلاء على هلاك الصبي وان كان ذلك من فعل الله، لانه بتعريضه للهلاك كأنه فعل نفس الهلاك وقد ورد الخبر بأن الله تعالى ينتصف للشاة الجماء من الشاة القرناء(١) ، فدل ذلك على أن العوض على المؤلم وان لم يكن عاقلا.

والعوض يستحق منقطعا، لانه لو استحق دائما لما حسن تحمل ألم في الشاهد لمنافع منقطعة كما لا يحسن منها تحمله من غير عوض وقد علمنا حسنه،

___________________________________

(١) ورد في بحار الانوار ٧ / ٢٤٥ حديث عن النبى صلى الله عليه وآله انه قال « ينتصف للجماء من القرناء ».

٩١

فدل على أن ما يستحق من العوض منقطع.

ثم انه ينظر فان أمكن توفيته في دار الدنيا توفت عليه كما توفت على الكفار، وان تأخر إلى الاخرة فعل به مفرقا على وجه اذا انقطع لا يحس بفقده فيغتم له.

وأيضا فلو كان المستحق دائما لما صح فعله بالكفار، والاحباط لا يدخل فيه عندنا وعند أكثرهم في العوض، فدل على أنه منقطع.

ويجوز أن يوصل العوض إلى مستحقه وان لم يعلم أنه مستحق لذلك، [ بخلاف الثواب الذي من شرطه أن يعلم المستحق أنه مستحق لذلك ](١) .

وكل عوض يستحقه الواحد منا على غيره مماله المطالبة به في الدنيا وله استيفاؤه، فانه متى أسقطه بهبة أو ابراء فانه يسقط كسائر حقوقه.

فأما العوض الذي يستحق على الله تعالى أو بعضنا على بعض على وجه يتأخر استيفاؤه إلى الاخرة فليس يسقط باسقاطه، لان الله تعالى هو المستوفى له وهو كالمحجور عليه، فالاسقاط تابع للمطالبة، فمن ليس له المطالبة ليس له الاسقاط.

فعلى هذا يؤثر التحليل والابراء في الحقوق التى لها المطالبة بها دون مالتس لها المطالبة به.

ولما كان اللطف واجبا في التكليف على ما مضى القول فيه وكان من جملة الالطاف معرفة الله على صفاته وجب أن نبين الكلام في المعارف على وجه الاختصار، وانا أذكر من ذلك جملة مقنعة في هذا الباب.

واعلم أن المعرفة هي العلم بعينه، والعلم هو ما اقتضى سكون النفس إلى ما يتناوله، ولا يكون كذلك الا وهو اعتقاد للشئ على ما هو به مع سكون النفس، غير أنه لا يجب ذكره في الحد كما لا يجب ذكر كونه عرضا ومحدثا وحالا في محل وغير ذلك، لان الذي يتميز به سكون النفس فيجب أن يقتصر عليه.

والعلم على ضربين: ضروري، ومكتسب.

فالضروري ما كان من فعل

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٩٢

غيرنا فينا على وجه لا يمكننا دفعه عن نفوسنا.

والعلم الضروري على ضربين: أحدهما يحصل في العاقل ابتداء، والثاني يحصل عند سبب.

فالاول كالعلم بأن الموجود لا يخلو من أن يكون له أول أو لا أول له، والمعلوم لا يخلو من أن يكون ثابتا أو منتفيا، وما شاكل ذلك مما هو مذكور في أول العقل وقد بيناه.

وما يحصل عند السبب على ضربين: أحدهما يحصل وجوبا كالعلم بالمشاهدات مع ارتفاع اللبس، والثاني يحصل عند سببه بالعادة.

وهو على ضربين: أحدهما العادة فيه مستمرة غير مختلفة كالعلم بالبلدان والوقائع عند من قال هو ضروري، والثاني العادة فيه مختلفة كالعلم بالصنائع عند الممارسة والعلم بالحفظ عند تكرار الدرس.

والمكتسب هو كل ما كان من فعلنا من العلوم، وهو على ضربين: احدهما يحصل متولدا عن نظر، والاخر يحصل من غير نظر.

فما يحصل عن نظر فسنذكر أوصافه، والثاني فنحو ما يفعله المنتبه من نومه وقد كان عالما بالله وصفاته، فاذا انتبه وتذكر نظره فعل اعتقادا لما كان له معتقدا فيكون ذلك الاعتقاد علما.

ولابد أن يفعل هذا الاعتقاد عند التذكر لانه ملجأ إلى فعله، ولا يمكن أن يكون واقعا عن نظر، لانه لو كان كذلك لترتبت فحسن ترتب النظر في زمان متراخ، والمعلوم خلافه.

والعلوم الكسبية من فعلنا، لوجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا، ففارقت بذلك العلوم الضرورية التي تحصل من فعل الله تعالى.

وسكون النفس الذي اعتبرناه هو ما يجده الانسان من نفسه عند العلم بالمشاهدات وأنه لا يضطرب عليه ولا يشك فيه، وان كان طريقة الاستدلال أمكنه حل كل شبهة تدخل عليه.

فأما ما يحكى عن السوفسطائية من الخلاف فيه فلا اعتبار

٩٣

به، لان المعلوم ضرورة خلاف قولهم.

على أن القوم انما خالفوا في صفة العلم وظنوا أن ذلك ظن وحسبان دون أن يكون ذلك علما يقينا.

والعلم بالفرق بين العلم والظن طريقه الدليل وان كان في العلوم ما يقع عن نظر فيحتاج أن نبين حقيقة النظر.

والنظر هو الفكر، ويجد الواحد منا نفسه كذلك ضرورة، ويفصل بين كونه مفكرا وبين كونه مريدا أو كارها.

والفكر هو التأمل في الشئ المفكر فيه والتمثيل بينه وبين غيره، وبهذا يتميز من سائر الاعراض من الارادة والاعتقاد.

وليس في المتعلقات بأغيارها شئ يتعلق بكون الشئ على صفة أو ليس عليها غير النظر.

والناظر من كان على صفة مثل ما قلناه في كونه عالما ومريدا، وليس الناظر من فعل النظر، بدلالة أنه يجد نفسه ناظرة ولا يجد نفسه فاعلة.

ومن شأن الناظر أن لا يكون ساهيا ويكون اما عالما أو ظانا أو معتقدا.

ومن شرط الناظر أن يجوز كون المنظور فيه على ما ظنه وأنه ليس عليه.

وهذا التحرير يحصل مع الشك والظن واعتقاد ليس بعلم، وانما يرتفع مع العلم أو الجهل الواقع عن شبهة، لان الجاهل يتصور نفسه تصور العالم، فلا يجوز كون ما اعتقده على خلاف ما اعتقده، وان كان السكون لا يكون معه وانما يكون مع العلم.

ومن شأن النظر اذا كان مولدا للعلم أن يكون واقعا في دليل، واذا كان مقتضيا للظن أن يكون واقعا في أمارة ومتعلقا بها.

ومن حق النظر المولد للعلم أن يكون الناظر عالما بالدليل على الوجه الذي يدل ليصح أن يولد نظره العلم.

ومتى كان معتقدا للدليل غير عالم به صح أن يقع منه النظر، غير أنه لا يولد نظره العلم، لانه لو لم يكن عالما بالدليل لم يمتنع أن يكون عالما بأن زيدا قادر

٩٤

من حيث صح منه الفعل مع ظنه أن الفعل يصح منه وهو غير عالم ومع الظن تجويز كونه على خلاف ما ظنه، فلا يصح أن يكون قاطعا على كونه قادرا مع تجويز أن يتعذر منه الفعل.

ومتى ولد النظر العلم وانما يولده في الثاني ولا يصح ان يولده في الحال، لانه لا يجوز أن يكون في حال كونه ناظرا عالما بالمدلول على ما بيناه، فجرى مجرى الاعتماد سواء.

والذي يدل على أنه يولد العلم، ما علمناه من أنه متى نظر في الدليل من الوجه الذي يدل وتكاملت شروطه وجب حصول العلم، فلو لم يكن مولدا له لما وجب ذلك.

وانما قلنا ان ذلك واجب، لانه محال أن ينظر في صحة الفعل من زيد وتعذره على عمرو ولا يعلم أنه مفارق له، وفي وجوب حصول ذلك دليل على أنه متولد.

ويدل أيضا على أنه مولد للعلم أنه يقع العلم بحسنه، لان من نظر في حدوث الاجسام علم حدوثها دون الطب والهندسة، وكذلك اذا نظر في صحة الفعل من زيد علمه قادرا دون أن يعلم أن عمرا بتلك الصفة.

ولا يلزم على ذلك الادراك وانه يحصل العلم بحسنه، لان الادراك ليس معنى.

وأيضا فلو كان معنى فانه يحصل في البهيمة والعلم مرتفع، فلو كان مولدا لحصل على كل حال.

وأيضا فانا نعلم أن العلم يكثر بكثرة النظر ويقل بقلته، فجرى مجرى الصوت والالم، فكلما أن الضرب مولد للالم فكذلك النظر.

فان قيل: لو ولد النظر العلم لولده لمخالفيكم مع أنهم ينظرون كنظركم.

قلنا: لو نظروا كنظرنا لولد لهم العلم كما ولدنا، فاذا لم يحصل لهم العلم

٩٥

علمنا أنهم أخلو بشرط من شرائطه، ومتى فرضنا أنهم لم يخلوا بشئ من ذلك فهم عالمون الا أنهم مكابرون.

والنظر لا يولد الجهل، لانه لو ولده لقبح النظر كله، لان ما يؤدي إلى القبيح قبيح، وقد علمنا حسن كثير من الانظار.

وانما قلنا يؤدي إلى ذلك لان الناظر لا يفصل بين النظر المؤدي إلى العلم وبين النظر المؤدي إلى الجهل، وكان ينبغي أن يقبح كله.

والتقليد قبيح في العقل، لانه لو كان صحيحا لم يكن تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد مع ارتفاع النظر.

ولا يمكن أن يرجح قول الاكثر أو قول من يظهر الورع والزهد، لان جميع ذلك يتفق في المحق والمبطل، وقد استوفينا ذلك في أول الكتاب.

وأيضا فلو حسن التقليد لقبح اظهار المعجزات على أيدي الانبياء، لانها كانت تكون عبثا، لان التقليد على هذا المذهب جائز من دونها.

فان قيل: كيف يكلف الله المعرفة وهي تجري مجرى الحدس والتخمين لان الناظر لا يدري أن نظره يولد علما أو غيره وانما يعلم ذلك بعد حصول العلم.

قيل له: اذا علمنا حسن النظر بل وجوبه علمنا أنه لا يثمر جهلا ولا قبيحا فيأمن من عاقبته أن تكون غير محمودة، ولو قدح ذلك في وجوب المعرفة لقدح في كل نظر، والمعلوم خلافه.

وبمثله نجيب من قال: كيف يجب علينا مالا نعرفه ولا نميزه.

بأن نقول: تميز السبب ومعرفته تغني عن تميز المسبب على التفصيل، والعاقل يميز النظر فكأنه ميز المعرفة.

ووجه وجوب النظر خوف المضرة من تركه وتأميل زوالها بفعله، فيجب

٩٦

النظر تحرزا من الضرر كسائر الافعال التي تجري هذا المجرى.

ولا فرق بين أن تكون المضرة معلومة أو مظنونة في وجوب التحرز منها، لان جميع المضار في الشاهد مظنونة ومع هذا يجب التحرز منها.

ولا يبلغ الخوف من ترك النظر إلى حد الالجاء المسقط للوجوب، لان المضرة انما تلجئ اذا كانت عاجلة كبيرة والمضرة المخوفة بترك النظر دينية آجلة فلا تكون ملجئة، فعلى هذا المحرك على النظر والمخوف من تركه بينه على جهة الخوف وأمارته على ما سنذكره، فاذا خاف العقاب بتركه وامل زواله بالنظر وجب النظر وان كثر وشق، لان الذي يأمل زواله بالنظر أعظم وأغلظ.

والعلم بوجوب النظر عند الخوف بالخاطر وغيره ضروري عام للعقلا، وكل عاقل يعلم ذلك من نفسه.

ولا يلزم على ذلك ما تقوله المقلدة وأصحاب المعارف من أنا لا نخاف من ترك النظر على ما يدعونه، وذلك أن أول ما فيه انا لا نعرف من اصحاب المعارف من لا يجوز على مثل ادعاء ما يعلم من نفسه خلافه.

فأما من ذهب إلى التقليد فانما ينكر المناظرة دون النظر، والمناظرة غير النظر، ومع هذا ربما التجؤا إلى المناظرة في كثير من الاحوال.

على أنا نقول العلم بوجوب النظر للفصل في طريق المعرفة انما يحصل عند الخوف في ابتداء التكليف ويحصل لبعض العقلاء في حال لا يحصل فيها لجميعهم لاختلاف أحوالهم فلا يمتنع أن يدخل بعضهم على نفسه شبهة فيزول هذا الخوف.

فلا يعلم وجوب النظر عليه، لان العلم بوجوب هذا النظر انما هو علم بوجوب ماله صفة مخصوصة يجوز أن يعترض شبهة فيها.

وجرى ذلك مجرى ادخال الخوارج شبهة على نفوسهم في قتل مخالفهم الذى هو ظلم على الحقيقة حتى اعتقدوا حسنه لما جهلوا صفته المخصوصة.

٩٧

وقيل أيضا: ان الخوف اذا كان مغمورا ببعض الامور فلا يجده الانسان من نفسه، كما ان من أشرف على الموت وعليه حقوق ومظالم لابد أن يخاف من ترك الوصية واهمالها، ومع هذا ربما ذهب عنها لبعض ما يغمره من الامراض.

فاذا ثبت ذلك فأول فعل يجب على المكلف مما لا يخلو مع كمال عقله منه النظر في طريق معرفة الله، فقلنا « اول » لئلا يلزم ما يتقدمه أو يقارنه: وقلنا « فعل » تحرزا من الامتناع من القبائح، لان ذلك ليس بفعل.

ولا يحتاج أن يقال « مقصودا » تحرزا من ارادة النظر، لان العاقل عند الخوف ملجأ إلى فعل الارادة كما هو ملجأ إلى الخوف عند التنبيه على الامارة وذلك خارج عن التكليف.

وقلنا « مما لا يخلو مع كمال عقله » لان جميع الواجبات العقلية التي هي وجوب رد الوديعة والانصاف وقضاء الدين وشكر النعمة قد يخلو العاقل من جميع ذلك وان لم يخل من وجوب النظر.

وأما الواجبات الشرعية

فانها فرع على معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله، فهي متأخرة لا محالة.

والخوف الذي يقف وجوب النظر عليه يحصل بأشياء: (أحدها) ان ينشأ بين العقلاء ويسمع اختلافهم وتخويف بعضهم لبعض فلا بد أن يخاف من ترك النظر في أقوالهم اذا ترك حب الشوق التقليد وأنصف من نفسه وعمل بموجب عقله، أو يتنبه على ذلك من قبل نفسه اذا رأى امارات لائحة وجهات الخوف معترضة فلا بد أن يخاف.

وهذا يجوز أن يكون حكم الذي خلقه الله وحده، فان لم يتفق ذلك أخطر الله تعالى ما يتضمن جهة الخوف وامارته والتنبيه عليها اما بكلام يسمعه داخل أذنه او يفعله في الهواء أو يبعث اليه من يخوفه، وكل ذلك جائز.

فاذا حصل الخوف وجب النظر.

٩٨

والذي يتضمن الخاطر هو التخويف من اهمال النظر، ولابد أن يتنبه على امارة الخوف، لان الخوف الذي لا أمارة له لا حكم له، غير أنه يجب تنبيهه على جهة وجوب المعرفة ليعلم الحسن بهذا التخويف، لان من هدد غيره على أكل طعام بعينه بالقتل يجب عليه الامتناع من اكله ولا يعلم قبح الامتناع ولا حسنه فاذا قال لا تأكله فان فيه سما وينبهه على جهة امارة كون السم فيه علم حسن ايجاب الامتناع من الاكل.

فعلى هذا يجب أن يتضمن الخاطر انك تجد في نفسك آثار الصنعة، فلا تأمن أن يكون لك صانع صنعك ودبرك أراد منك معرفته لتفعل الواجب عليك في عقلك وتنتهى عن القبيح وأنت تجد في عقلك قبح أفعال فيها لك نفع عاجل ووجوب أفعال عليك فيها مشقة عاجلة، وتعلم استحقاق الذم على القبيح فان الذم مما يضرك ويغمك فلا تأمن من أن تستحق مع الذم زائدا على العقاب والالم، ومعلوم أن استحقاق أحدهما أمارة لاستحقاق الاخر.

ثم نقول: متى لم تعرف الله بصفاته وأنه قادر على مجازاتك على القبيح بالعقاب كنت إلى فعل القبيح أقرب ومن تركه أبعد، واذا عرفته تكون من فعل القبيح أبعد والى فعل الواجب أقرب، فيجب عليك حينئذ النظر مع هذا التنبيه على ما ذكرناه.

وكل خاطر يعارض هذا الخاطر ويؤثر فلابد أن يمنع الله منه وما لا يعارضه ولا يؤثر فيه لا يجب المنع منه، لان للعاقل طريقا إلى دفعه بعقله.

ومعرفة الله تعالى واجبة على كل مكلف، لان ما هو لطف للمكلف من العلم باستحقاق الثواب والعقاب لا يتم الا بها، وذلك عام في جميع المكلفين، فيجب أن يكون معرفته واجبة على كل مكلف.

وانما قلنا ان اللطف في التكلف لا يتم الا معها لان من المعلوم ضرورة أن من

٩٩

علم استحقاق العقاب على المعاصي زائدا على استحقاق الذم كان ذلك صارفا له عن فعل القبيح، وكذلك من علم استحقاق الثواب على الطاعة زائدا على المدح كان ذلك داعيا إلى فعله، واذا كان العلم باستحقاق الثواب والعقاب لا يتم الا بعد العلم بالله تعالى على صفاته من كونه قادرا عالما وجبت معرفته بهذه الصفة.

فيعلم كونه قادرا ليعلم أنه قادر على عقابه وثوابه، ويعلم أنه عالم ليعلم بمبلغ المستحق، ويعلمه حكيما ليعلم أنه لا يخل بواجب من الثواب ولا يفعل القبيح من عقاب غير مستحق.

فاللطف في الحقيقة هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب.

ألا أنه لا يتم ذلك الا بعد معرفته تعالى على صفاته وجبت معرفته على صفاته، ولما كانت معرفته لا يوصل اليها الا بالنظر وجب النظر.

والمعرفة الضرورية لا تقوم في ذلك مقام الكسيبة، لانها لو قامت مقامها لفعلها في الكافر، ونحن نعلم أن كثيرا من الكفار يموت على كفره، فعلم أن الضرورية ليست لطفا.

ومن ادعى أن الكفار عارفون كابر، لان المعلوم ضرورة موت كثير من الخلق كأبي جهل وأبي لهب على كفرهم.

وأيضا كان يجب أن يفعل فينا ونحن نعلم من أنفسنا انا لسنا مضطرين إلى معرفة الله، فبطل أن تكون الضرورية لطفا.

وقيل انها لو كانت لطفا لكانت الكسبية آكد، لان من تكلف مشقة ليبلغ بها غرضا لا يكون تمسكه بذلك الشئ اذا وصل اليه كتمسكه اذا حصل له الشئ من غير مشقة، وشبه ذلك بمن تكلف بناء دار وأنفق عليها ماله وأفنى زمانه لا يكون في تمسكه بها كمن وهبت له تلك الدار، وكذلك من سافر في طلب العلم وتحمل المشاق لا يكون حكمه في التعليم حكم من يقصده العلماء ويقعدون قدامه، والعلم بذلك ضروري.

واذا كانت المكتسبة آكد وجبت دون الضرورية.

١٠٠