الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 122243
تحميل: 5690


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122243 / تحميل: 5690
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علموه، ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي‏ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويستحون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي‏ء من دين اللَّه، فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه، ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعَلِمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا.

لا واللَّه ما حسد موسى عليه‌السلام العالم، وموسى نبيّ اللَّه، يوحي اللَّه إليه حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما عَلِمناه وما ورثناه عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رغب موسى عليه‌السلام إلى العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِم ذلك، عَلِم العالم أنّ موسى عليه‌السلام لا يستطيع صُحبته، ولا يحتمل عِلْمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: ( كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (1) .

فقال موسى عليه‌السلام له - وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله -: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (2) ، وقد كان العالِم يعلم أنّ موسى عليه‌السلام لا يصبر على عِلمه، فكذلك واللَّه، يا إسحاق بن عمّار، حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون واللَّه عِلْمَنا، لا يقبلوه، ولا يطيقونه، ولا يأخذون به، ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى عليه‌السلام على عِلم العالِم حين صَحبه ورأى ما رأى من عِلمه، وكان ذلك عند

____________________

1) سورة الكهف: 68.

2) سورة الكهف: 69.

٣٨١

موسى عليه‌السلام مكروهاً وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند اللَّه الحقّ) (1) .

يشير الإمام عليه‌السلام في هذه الرواية إلى أنّ العلم بالكتاب المبين ليس هو مجرّد العلم بالمصحف الشريف كي يظنّ مَن ألَمَّ بالمصحف الشريف أنّه قد استغنى عن علم أهل البيت عليهم‌السلام ، مع أنّ الإحاطة بكلّ المصحف ومحتملاته وتناسبات الآيات مجموعها ضمن منظومة مترامية لا تقف عند حدٍّ مفاداً وعدداً.

وبعبارة أُخرى: أنّه وصف القرآن في أُمّ الكتاب، وفي اللوح المحفوظ، والكتاب المبين، وروح القدس، بأوصافٍ تختلف عن أوصاف المصحف الشريف، ومن ذلك يتبيّن أنّ نعت الأكبرية للثقل إنّما هي بلحاظ الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، لا بِلحاظ مجرّد المصحف الشريف.

ومن الواضح أنّه لا سبيل للناس في الوصول إلى ما في الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ إلاّ عن طريق أهل البيت الذين يحيطون بذلك ويمسّونه، لا الاقتصار على مجرّد المصحف الشريف، وقد ذكر في المصحف الشريف أوصاف الكتاب المبين كما ذكر نعت من يحيط به علماً.

أمّا النعت الأوّل كقوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) (2) ، ممّا يدلّ على إحاطة الكتاب بكلّ شي‏ء، وهذا وصف القرآن بالكتاب المبين. وكذلك قوله تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ ) (3) ، وقوله تعالى: ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي

____________________

1) البرهان، ج5، ص54 - 55، في ذيل آية 82 من سورة الكهف، عن تفسير العيّاشي، ج2، ص357.

2) سورة الأنعام: 38.

3) سورة الأنعام: 59.

٣٨٢

السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (1) .

وقوله تعالى: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ) (3) ، وقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (4) ، وقوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) (5) ، وأثر التصدع إنّما هو نعت لذلك الوجود من القرآن الكريم.

وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ) (6) ، فنعت قدرة تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وإحياء الموتى، وصِفٌ للقرآن بِلحاظ ذلك الوجود.

ومن الواضح أنّ نعت الأكبر مناسب وأنسب لهذا المقام من القرآن، وأنّ المصحف الشريف والعِترة الطاهرة هما السبب الذي بيد الناس من الحبل المتين الممدود، والطرف الآخر من هذا الحبل، الذي بيد اللَّه، هو أُمّ الكتاب، والكتاب المبين، واللوح المحفوظ، وروح القدس، والنعت بالأكبر هو بِلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه، وبالأصغر الطرف الذي بيد الناس، ومن المعلوم تنزّل هذا الأكبر بنحوٍ ينطق في الحوادث، ويكون نزولاً وتنزيلاً لكلّ مورد وحدث بنحو وحياني لدنّي لا يحتمل الخطأ والزلل، إنّما هو بتوسّط العِترة، وإن كانت محكمات المصحف باقية على وصف أنّها تنزّل لأُمّ الكتاب.

أمّا النعت الثاني وهو ورود القرآن بنعت من يحيط بأُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، كما في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ

____________________

1) سورة يونس: 61.

2) سورة الرعد: 39.

3) سورة النحل: 89.

4) سورة النمل: 75.

5) سورة الحشر: 21.

6) سورة الرعد: 31.

٣٨٣

مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (1) ، والمطهّرون الذين شهد لهم القرآن بالطهارة وهم أهل آية التطهير: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (2) ، وعرّفهم تعالى في آية أُخرى حيث قال: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (3) . وهذه الآية تفسّر قوله تعالى المتقدّم: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (4) ؛ حيث إنّ الآية الكريمة تصرّح بأنّ الكتاب بجملته آيات بينات في صدورهم، مع أنّ المصحف الشريف نُعِت بأنّ منه آيات محكمات وأُخر متشابهات، بينما وصف الكتاب الذي في صدورهم بأنّه بتمامه آيات بينات.

وروى الكُليني بسندٍ معتبرٍ عن الحسن بن العبّاس بن الحريش، عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، قال: (قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام : بينا أبي عليه‌السلام يطوف بالكعبة إذ رجل معتجر قد قيض له).

ثمّ ذكر مسائلة إلياس النبيّ للإمام الباقر عليه‌السلام عن حقيقة علم سيد الأنبياء وعلم أوصياءه، وحقيقة العلم المتنزَّل ليلة القدر من أُمّ الكتاب والكتاب المبين، وأنّه يتنزّل على الوصيّ حجّة اللَّه في أرضه، حيث قال الباقر عليه‌السلام :

(أَبَى اللَّه عزّ وجلّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُترك العباد ولا حجّة عليهم، قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام : ثمّ وقف فقال: ها هنا يا ابن رسول اللَّه بابٌ غامضٌ، أرأيت إن قالوا: حجّة اللَّه القرآن؟ - أي: المصحف - قال: إذن أقول لهم: إنّ القرآن ليس بناطق يأمر وينهي، ولكن للقرآن أهلٌ يأمرون وينهون، وأقول: قد عَرَضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنّة، والحكم الذي ليس فيه اختلاف

____________________

1) سورة الواقعة: 77 - 80.

2) سورة الأحزاب: 33.

3) سورة العنكبوت: 49.

4) سورة النحل: 89.

٣٨٤

وليست في القرآن - أي: المصحف - أبى اللَّه لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه رادّ لها ومفرّج عن أهلها، فقال: ها هنا تّفْلِجون يا ابن رسول اللَّه، أشهد أنّ اللَّه عزّ ذكره قد عَلم بما يصيب الخلق من مصيبة في الأرض أو في أنفسهم من الدين، أو غيره، فوضع القرآن دليلاً. قال:

فقال الرجل: هل تدري يا ابن رسول اللَّه دليل ما هو؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام : نعم، فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحكم.

فقال: أَبَى اللَّه أن يصيب عبداً بمصيبة في دينه أو في نفسه أو في ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصواب في تلك المصيبة. قال:

فقال الرجل: أمّا في هذا الباب فقد فلجتهم بحجّة إلاّ أن يفترى خصمكم على اللَّه فيقول: ليس للَّه جلّ ذكره حجّة...) (1) .

فبين‏ عليه‌السلام أنّ حجّية المعصوم الناطق مهيمنة - رتبةً - على حجّية المصحف.

____________________

1) الكافي، ج1، ص 246.

٣٨٥

٣٨٦

على مَنْ يتنزّل الروح والملائكة في ليلة القدر؟

لا ريب أنّ ليلة القدر كانت تتنزّل على خاتم الأنبياء؛ كما هو نصّ القرآن الكريم في قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (1) ، أي أنزلنا القرآن، وكذا سورة الدخان، من قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) ، وقوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (3) ، وهو النزول لجُملة القرآن وحقيقته كما تقدّم بيانه، والذي هو الروح النازل ليلة القدر روح القدس.

كما أنّه بمقتضى روايات الفريقين ، التي مرّ استعراضها، كانت تتنزّل على الأنبياء السابقين منذ آدم عليه‌السلام إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهو مقتضى الأدلّة العقلية ؛ حيث إنّ عالم ولوح القضاء والقدر وإمضائه في عالم الدنيا ونشأة الأرض وعالم المادّة الغليظة لابدّ أن يطوي هذه المراحل، فهذه السلسلة التكوينية من العوالم، كما هو محرّر في مباحث الحكمة الإلهية، لا يختصّ بزمان دون آخر، بل هو من السنن الإلهية في عوالم الخِلقة، فمقتضاها الاستمرار من بدء الخلقة البشرية إلى يوم القيامة، فهذا الدليل العقلي يقضي‏ باستمرار وجود من تتنزّل عليه ليلة القدر إلى يوم القيامة بعد سيد الأنبياء، وهذا المعنى هو الذي

____________________

1) سورة القدر: 1.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

3) سورة البقرة: 185.

٣٨٧

نشاهده بوضوح من دلالة النصّ والسور القرآنية العديدة كحقيقة قرآنية بيّنة، وكذلك في روايات الفريقين كما مرّت الإشارة إلى ذلك.

أمّا الآيات القرآنية الدالّة على الاستمرار، فمضافاً إلى الضرورة بين المسلمين على استمرار ليلة القدر، يقع الكلام في معرفة من تتنزّل ليلة القدر عليه بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فهنا جانبان من البحث:

الأوّل: في استمرار ليلة القدر.

الثاني: على من تتنزّل ليلة القدر بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

والآيات تفيد كلا الجانبين، كقوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (1) ، فالتعبير - بتنزّل - جملة فعلية بالفعل المضارع الدالّة على الاستمرار، وكذا قوله في سورة الدخان: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (2) ، بنفس التقريب المتقدّم، فإنّه قد وصف الليلة المباركة التي يتنزّل فيها بالجملة الفعلية بالفعل المضارع، وإنّ شأن هذه الليلة على الدوام أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، وأن يُرسل فيها الروح إلى من يصطفيه اللَّه من عباده في الأرض.

نزول الروح وحيٌ رباني:

وأمّا الثاني: كما أنّ نزول الروح والملائكة من كلّ أمر - أي بكلّ أمر - يقتضي وجود من تُرسل إليه تقادير الأُمور، إذ لا يعقل إرسال من دون مرسَل إليه، بعد تصريح سورة الدخان، وغيرها، بأنّه إرسال كما هو إنزال، وتصريحها بالمرسل به

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة الدخان: 1 - 5.

٣٨٨

والمرسل، فلابدّ من وجود مرسل إليه، مع أنّ الآيات الأُخرى صرّحت بالمرسل إليه.

وبعبارة أُخرى: إنّ نزول الروح في استعمال القرآن هو نمط من الوحي الإلهي في القرآن الكريم، ومصطلح قرآني دالّ على الوحي، وإن كانت أقسام الوحي الإلهي في القرآن الكريم غير منحصرة بالوحيّ النبوي، كما في مورد مريم، وأُمّ موسى، وذي القرنين، وطالوت، وصاحب موسى - الخضر -، وغيرها من الموارد.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1) ، فلم يخصّص التكليم الإلهي بالأنبياء والرُسل، بل عمّم إلى المصطفَين والحُجَج من البشر، كما هو الحال في مريم، وأُمّ موسى.

وقد عبّر عن الوحي بنزول الروح في قوله تعالى: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) (2) ، وقوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ أَلأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ) (3) ، وإن كانت هذه الآية تشير إلى النزول الثاني للقرآن وهو تنزيل المعاني والألفاظ، لكنّه تعبير عن الوحي، وكذا قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (4) ، فنزول الروح اصطلاح قرآني للوحي وإن لم يكن وحياً نبوياً.

وهذا يعني أنّ في ليلة القدر من كلّ عام يقع هذا الوحي الإلهي والنزول، ومن ثمّ عبّر تعالى في سورة الدخان: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (5) بالإرسال، أي أنّ هذا الروح الأمري مرسل من قِبله تعالى إلى مُرسَل إليه من

____________________

1) سورة الشورى: 51.

2) سورة النحل: 102.

3) سورة الشعراء: 193 - 194.

4) سورة البقرة: 97.

5) سورة الدخان: 1 - 5.

٣٨٩

البشر، كما في ذيل آية الشورى من قوله تعالى: ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) ، فسورة الدخان أيضاً تدلّ على أنّ في ليلة القدر هناك وحي إلهي، عبّرت عنه بالقول: ( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) ، وكذلك في قوله تعالى في سورة النحل: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) (2) ، فصرّحت الآية الكريمة بأنّ نزول الروح هو على من يشاء اللَّه أي من يصطفيه لذلك من العباد من دون التقييد بالنبوّة.

فهذا النزول للروح هو وحي، وهو نازل على من يشاء ويصطفيه من عباده، وكذا قوله تعالى في سورة غافر: ( ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (3) ، وإلقاء الروح الأمري عبارة عن نزوله وإرساله، نظير التعبير بقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) (4) وجعل في الآية الملقى إليه الروح هو من يشاء ويصطفي من عباده من دون التقييد بعنوان النبوّة والرسالة والاصطفاء، فقد تعلّق بمريم، كما تعلّق بطالوت، الإمام غير النبيّ في سورة البقرة في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ) (5) .

قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (6) الضمير في ( جَعَلْنَاهُ نُورًا ) الظاهر عوده إلى الروح الأمْري؛ إذ لو كان يعود إلى الروح الذي هو مبتدء الكلام في الآية، ويكون المراد أنّ الروح الأمري يجعله اللَّه نوراً ويوحي ويهدي به من يشاء من عباده ويصطفيهم لذلك فيحصل لهم العلم ودراية الكتاب والإيمان.

والحاصل: أنّ تعميمه تعالى إلى من يوحى إليه الروح الأمري غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الشورى: 51.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة غافر: 15.

4) سورة الشورى: 52.

5) سورة البقرة: 247.

6) سورة الشورى: 52.

٣٩٠

يدلّ على عموم ظرف الإيحاء للحجج المصطفين من العباد، الإيحاء والوحي به، وقد قرّر في روايات الفريقين كما هو ظاهر سورة القدر والدخان، أنّ هذا الوحي غير مرتبط بوحي النبوّة والرسالة، وإنّما هو وحي إلهي مرتبط بتقدير الأُمور وقضائها وإبرامها الذي هو من تأويل الكتاب، وقد عبّر في سورة النحل بأنّ هذا النزول والوحي الإلهي غير النبويّ هو على من يشاء من عباده، فعبّر بلفظ عباده ولم يؤت بلفظ أنبيائه أو رسله؛ للدلالة على العموم عموم المصطفَين الذين اختارتهم المشيئة الإلهية لذلك.

ومقتضى ذلك وجود ثلّة في هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، وقد أُشير إليهم في سورة الواقعة والأحزاب حيث قال تعالى:

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (1) ، فأخبر أنّ القرآن الذي في الكنّ محفوظ كما في سورة البروج من قوله تعالى:

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (2) ، فأخبر تعالى أنّ القرآن الذي في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون لا يمسّه ولا يصل إليه إلاّ المطهّرون، لا المتطهّرون بالوضوء والغسل، بل المطهَّرون من قِبله تعالى بنصّ آية التطهير في سورة الأحزاب: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) .

فيتبيّن من ضمّ الآيات بعضها إلى بعض أنّ من يتنزّل عليه الروح الأمري من يشاء اللَّه ويصطفيه من عباده - كما في سورة النحل - وهم أهل آية التطهير، فإنّهم يمسّون الكتاب في ليلة القدر في الليلة المباركة.

____________________

1) سورة الواقعة: 77 - 80.

2) سورة البروج: 21 - 22.

3) سورة الأحزاب: 33.

٣٩١

نسب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته هو سورة القدر:

حيث يتبيّن ممّا مضى أنّ روح القدس الذي هو القرآن الكريم كما هو ملتحم بروح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك ملتحم بروح أوصياء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده واحد بعد آخر، حيث يتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، بل أنّ ظاهر سورة النحل عدم اختصاص التنزّل عليهم بليلة القدر، وقد أشارت إلى ذلك جملة من الروايات عنهم عليهم‌السلام ، فهذا النزول والوحي بهذا الروح لهم هو المعرّف لهويتهم ونسبهم الروحي لشخصية ذواتهم ونسب مقام ذاتهم عليهم‌السلام .

في صحيحة ابن أُذينة التي رواها الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، في صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في السماء في حديث الإسراء، قال عليه‌السلام :

(ثمّ أوحى اللَّه عزّ وجلّ إليه: اقرأ يا محمّد نسبة ربّك تبارك وتعالى: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * أَللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (1) ، وهذا في الركعة الأُولى... ثمّ أوحى اللَّه عزّ وجلّ إليه: أقرأ: بالحمد للَّه، فقرأها مثل ما قرأ أوّلاً، ثمّ أوحى اللَّه عزّ وجلّ إليه: اقرأ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة) (2) ، وروى مثله في علل الشرائع، وغيرها من الروايات.

فهذا التعريف لهوية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته عليهم‌السلام ، هو نظير تعريف الإنسان بالنطق الذي هو الروح العاقل، أي: تمييز وتعريف الشخص بالمراتب العالية الوجودية من ذاته، ونظير ذلك تعريف القرآن النبيّ عيسى عليه‌السلام بأنّه كلمة اللَّه وأنّه آية، لكن لا يخفى أنّ في آيات خِلقة النور في سورة النور، وروايات خلق النور، يظهر أن أُصول ذَواتهم خَلقا ما هو أرفع من روح القدس .

وفي رواية بصائر الدرجات عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبي

____________________

1) سورة الإخلاص: 1 - 4.

2) الكافي، ج3، ص485.

٣٩٢

عبد اللَّه عليه‌السلام في حديث عن ولادة الإمام عليه‌السلام وما يرافق ذلك من مراسم مَلكوتية وأنّ الإمام عليه‌السلام يقول بعد ذلك: ( ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) ، فإذا قالها أعطاه العلم الأوّل والعلم الآخر، واستحقّ زيادةً الروح في ليلة القدر) (2) .

وروي عن الحسن بن عبّاس بن حريش، قال: (قال أبو عبد اللَّه ‏ عليه‌السلام : إنّ القلب الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر لعظيم الشأن. قلت: وكيف ذاك يا أبا عبد اللَّه؟ قال: يُشق واللَّه بطن ذلك الرجل ثمّ يؤخذ ويكتب عليه بمداد النور ذلك العلم، ثمّ يكون القلب مصحفاً للبصر، ويكون الأذن واعيةً للبصر، ويكون اللسان مترجماً للأذن، إذا أراد ذلك الرجل علم شي‏ء نظر ببصره وقلبه فكأنّه ينظر في كتاب...) الحديث (3) . والمراد من شقّ البطن أي انفتاح نوافذ الروح.

وقريب من ذلك ما روي في معاني الأخبار بسنده إلى الأصبغ بن نباتة، عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا علي، أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول اللَّه، فقال: إنّ اللَّه تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، وكان فيما قدّر عزّ وجلّ ولايتك وولاية الأئمّة من وُلدك إلى يوم القيامة) (4) . وروى مثلها بإسناده المتّصل، عن المفضّل بن عمر، عنه عليه‌السلام .

فكون الروح النازل وهو روح القدس - وهو أحد أرواحهم عليهم‌السلام - يبيّن هوية ولايتهم والتي هي الكتاب المبين، وقد تقدّم نعوت الكتاب المبين وآثار القدرة والولاية التكوينية له، ووصفه بالمجد في سورة البروج والكرامة في سورة الواقعة، إشارة إلى آثار القدرة لحقيقة الكتاب التي هي روح القدس.

وفي صحيحة جابر الجعفي، قال: قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام - في حديث عن أصناف

____________________

1) سورة آل عمران: 18.

2) بصائر الدرجات، ص223 باب ما يُلقى إلى الأئمّة في ليلة القدر.

3) بصائر الدرجات المورد السابق.

4) معاني الأخبار للصدوق، ص315.

٣٩٣

الخلق -: (فالسابقون هم رسول اللَّه وخاصّة اللَّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عَرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللَّه عزّ وجلّ، وأيدهم بروح القوّة فبه قَدَرُوا على طاعة اللَّه، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة اللَّه عزّ وجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون) (1) .

وفي رواية أُخرى لجابر عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (سألته عن علم العالم؟ فقال لي: يا جابر، إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوّة، وروح الشهوة. فبروح القدس - يا جابر - عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى. ثمّ قال: يا جابر، إنّ هذه الأربعة أرواح يصيبها الحَدَثان إلاّ روح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب) (2) .

وفي رواية المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخي عليه ستره؟ فقال: يا مفضّل، إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة أرواح...، وروح القدس فبه حمل النبوّة، فإذا قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام، ولا يغفل، ولا يلهو، ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام، وتغفل، وتزهو، وتلهو. وروح القدس كان يُرى به) (3) .

وهذه النعوت لروح القدس المذكورة فيهم وهو النازل عليهم ليلة القدر، بل وفي غيرها أيضاً، كما هو مقتضى سورة النحل (4) ، وسورة غافر (5) ، حيث لم يقيّد إنزاله بوقت خاصّ، وروح القدس النازل الملتحم بأرواحهم المتّصل بها كما هو

____________________

1) الكافي، ج1، ص271، كتاب الحجّة، باب ذكر الأرواح التي في الأئمّة عليهم‌السلام .

2) الكافي، ج1، ص272، كتاب الحجّة، باب ذكر الأرواح التي في الأئمّة عليهم‌السلام .

3) المصدر السابق.

4) سورة النحل: 2.

5) سورة غافر: 15.

٣٩٤

معنى الوحي في الحكمة والعلوم العقلية، قد عرّف وطوبق في سورة الدخان بالكتاب المبين: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (1) ، فجُعل الكتاب المبين هو الروح النازل في ليلة القدر.

وقد تقدّم وصف الكتاب المبين بأنّه يُستطرّ فيه كلّ شي‏ء، وكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة، وهو القرآن الكريم في الكتاب المكنون، والقرآن المجيد في اللوح المحفوظ، وهذا معنى قوله عليه‌السلام : (فبه حمل النبوة)، وقوله عليه‌السلام : (كان يُرى به)، أي ما في أقطار الأرض وما في عنان السماء وما دون العرش وما تحت الثرى، وقوله عليه‌السلام : (فبه عرفوا الأشياء).

روح القدس وراثتهم عليه‌السلام للكتاب وعلوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

فقوله عليه‌السلام في الرواية السابقة للمفضّل عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (إذا قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقل روح القدس فصار إلى الإمام)، هو معنى وراثتهم عليهم‌السلام للكتاب، أي: لحقيقة الكتاب الذي هو مكنون ولوح محفوظ، لا للمصحف الشريف الذي هو الوجود المنقوش للقرآن الكريم، فقوله تعالى:

( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (2) يشير إلى الوراثة التكوينية لحقيقة الكتاب بوجوده الوحياني في عالم الوحي، لا الكتاب بوجوده المنقوش في المصحف، من هنا فإنّ تخصيص الوراثة بالمصطفَين من العباد، فإنّ الإصطفاء هو الطهارة الروحية الخاصّة اللدُنِية

____________________

1) سورة الدخان: 1 - 5.

2) سورة فاطر: 31 - 32.

٣٩٥

التي يتأهّل بها المصطفون من العباد للوحي الإلهي الأعمّ من الوحي النبويّ وغيره، كما في تأهّل مريم لمحادثة الملائكة لها، ووحي اللَّه لها مباشرة، كما في سورة آل عمران.

ومن ثمّ ترى نسق التعبير والتركيب في الآية الكريمة على نسق التعبير في سورة النحل: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) (1) ، فالتعبير فيها على من يشاء من عباده، أي: من يختار ويصطفي، فوراثة الكتاب نزول الروح وهي وحي حقيقة الكتاب، كما في سورة الشورى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) (2) ، وكذلك يتناغم التعبير بين كلّ من آية فاطر وآية النحل وآية الدخان وآية غافر حيث ذكر مع نزول الكتاب المبين ونزول روح القدس في ليلة القدر وغيرها حصول الإنذار والإرسال، وقد أسند فعل الإنذار إلى غير الأنبياء وغير الأوصياء ممّن يجوز عليهم الخطأ في موارد من القرآن الكريم، كما في آية التفقّه في سورة البراءة (3) ، فكيف يستبعد إطلاقه على كلام الأوصياء.

فإرسال الروح وحصول الإنذار لا يختصّ بالوحي النبويّ، بل يعمّ الوحي غير النبويّ وراثة بعد الأنبياء، كما تعلّق البعث الإلهي بطالوت الإمام مع عدم كونه نبيّاً في قوله تعالى على لسان نبيّ من بني إسرائيل: ( قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) (4) .

وأمّا التعبير بالآية: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) (5) ، فالضمير ليس عائد إلى الذين اصطفينا بل إلى عبادنا، أي أنّ عبادنا بعضٌ ظالم

____________________

1) سورة النحل: 2.

2) سورة الشورى: 52.

3) سورة التوبة: 122.

4) سورة البقرة: 247.

5) سورة فاطر: 32.

٣٩٦

لنفسه وبعضٌ مقتصد وبعضٌ سابق بالخيرات، كما أنّ الذين اصطفيناهم بعضٌ من عبادنا، فلفظ (من) التي تكرّرت أربع مرّات في الآية بمعنى بعض؛ وإلاّ كيف يصطفي اللَّه الظالم لنفسه؟

ومنه يُعرف أنّ المراد من السابق بالخيرات هم الذين اصطُفوا من العباد، وأنّهم الأئمّة، وأنّ الإمامة وهي وراثة الكتاب هي الفضل الكبير، والتعبير بالسابق بالخيرات بإذن اللَّه يقرب من التعبير في سورة الأنبياء في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (1) ،

فكما جعل في آية فاطر السبق بإذن اللَّه اصطفائي لدنّي، فكذلك في آية الأنبياء جعل إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمّة يهدون بأمر اللَّه، وأنّ فعل الخيرات منهم بوحي تسديدي من اللَّه، وأنّ هذا الأمر ليس أمراً إنشائياً بل هو أمر تكويني الذي أُشير إليه في سورة النحل بقوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) .

وكذلك في سورة القدر قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (3) ، وكذلك في سورة الشورى قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) (4) ، وهذا ممّا يشير أنّ روح القدس من عالم الأمر الملكوتي الابداعي.

وقد ذُكر عالم الأمر في قوله تعالى: ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (5) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (6) ،

____________________

1) سورة الأنبياء: 73.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 4.

4) سورة الشورى: 52.

5) سورة الأعراف: 54.

6) سورة يس: 82.

٣٩٧

وقوله تعالى: ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (1) ، أي أنّه مِن عالم الإبداع لا الخلق التقديري، ومن ثمّ ورد أنّ تقدير السماوات والأرض - أي: عالم الملك والمادة، بمعنى ما يشمل عالم الدنيا وعالم البرزخ - كلّ ذلك قد قُدّر في ليلة القدر.

وقد مرّ في الروايات أنّ تقدير ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام في مقامها التكويني قد قدّر في ليلة القدر، فقد روى الصدوق في معاني الأخبار بإسناده إلى المفضّل بن عمر، قال: (ذُكر عند أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال: ما أبين فضلها على السِّور. قال: قلت: وأي شي‏ء فضلها؟ قال: نزلت ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فيها. قلت: في ليلة القدر التي نرتجيها؟ قال: نعم، هي ليلة قدّرت فيها السماوات والأرض، وقدّرت ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فيها).

ولا يخفي التعريض في كلامه عليه‌السلام بين تقدير السماوات والأرض وتقدير ولاية أمير المؤمنين من الناحية الكونية التكوينية، ودور روح القدس، وتناسب سجود الملائكة كلّهم أجمعين، أي طاعتهم لخليفة اللَّه في الأرض كما في سورة البقرة وغيرها من السور، سواء ملائكة الأرض أو ملائكة السماوات أو ملائكة الجنّة والنار.

وقد ورد أيضاً أنّ روح القدس أعظم خلقاً، ففي صحيح أبي بصير، قال: (سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) (2) ؟ قال: خَلْق من خَلْق اللَّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده) (3) .

وفي صحيحه الآخر قال: (سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( يَسْأَلُونَكَ

____________________

1) سورة القمر: 50.

2) سورة الشورى: 52.

3) الكافي، ج1، ص273، كتاب الحجّة باب الروح التي يسدّد اللَّه بها الأئمّة عليهم‌السلام .

٣٩٨

عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (1) ؟ قال: خَلْق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع الأئمّة، وهو من الملكوت) (2) .

وفي معتبر أسباط بن سالم عنه عليه‌السلام : (منذ أنزل اللَّه عزّ وجلّ ذلك الروح على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا) (3) .

وفي صحيح سعد الإسكافي، قال: (أتى رجلٌ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : جبرئيل عليه‌السلام من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكرّر ذلك على الرجل، فقال له: لقد قلتَ عظيماً من القول ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول اللَّه تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أَتَى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ ) (4) ، والروح غير الملائكة صلوات اللَّه عليهم) (5) .

وحيث كانت ليلة القدر وراثة الكتاب بنزول روح القدس الذي هو حقيقة الكتاب، ورد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: (يا معشر الشيعة خاصموا بسورة ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) تُفلحوا؛ فواللَّه إنّها لحجّة اللَّه تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّها لسيدة دينكم، وإنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا بـ ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (6) ، فإنّها لِولاة الأمر خاصّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (7) .

ولا يخفى أنّ في كلامه عليه‌السلام محطّات للتدبير والغور، منها: وصفه لسورة القدر

____________________

1) سورة الإسراء: 85.

2) الكافي: ج1، ص273، كتاب الحجّة باب الروح التي يسدّد اللَّه بها الأئمّة عليهم‌السلام .

3) المصدر السابق.

4) سورة النحل: 1 - 2.

5) الكافي، ج1، ص274، كتاب الحجّة باب الروح التي يسدّد اللَّه بها الأئمّة عليهم‌السلام .

6) سورة الدخان: 1 - 3.

7) الكافي، ج1، ص193، ح6.

٣٩٩

أنّها سيدة دينكم، إي حقيقتها مرتبطة بإلامامة الإلهية، وفيه إشارة لكون الإمام الناطق ثقل أكبر مهيمن على حجّته المصحف.

ومنها: قوله (وأنّها لغاية عِلْمَنا)، أي: أنّ عمدة ما ورثوه من العلم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو بتوسّط روح القدس، لا الطُّرق السماعية والرواية.

٤٠٠