الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 122249
تحميل: 5690


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122249 / تحميل: 5690
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فكما أنّ الحكم الشرعي من دون إرادة إلهية مستبطنة خلفه محال، فكذلك استحالة النبوّة والرسالة من دون تعقّبها بما يليها في المقام الغيبي وهي الولاية والإمامة.

ومنه يتّضح أنّ الشريعة لو اقتصر فيها على سطح العلم الظاهر من فقه المعارف والأحكام وهو العلم الحصولي الكسبي بالشريعة الظاهرة، من دون عمق العلم اللدنّي بالحقائق والإرادات الإلهية التكوينية وهو الولاية والإمامة الإلهية، لكان ذلك من قيام الاعتبار من دون نشأة الحقيقة التكوينية، وكان خيال وسراب محض، ولكن مثل الخضر عليه‌السلام من أقسام الولي الحجّة، وكذا مريم عليها‌السلام ، كما تقدّم له الهداية الإراءية فهو محيط بالإرادات الكلّية حضوراً، فكيف كان موسى أفضل منه؟ فهو باعتبار أنّ الولي الحجّة مع النبيّ المتبوع له يتلقّى في القنوات الروحية عن ذلك النبيّ بتبعه، فالزهراء عليها‌السلام تتلقّى في الباطن الروحي عن المقام الروحي لسيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أساس هذا الفرق يتبين أكملية النبيّ حامل الشريعة الظاهرة على التابع له الولي الحجّة الحامل للولاية وللشريعة بحسب الدرجة في النظام الكوني.

ثمّ إنّنا نلحظ في قضية الخضر أدباً إلهياً بعد الالتفات إلى أنّه أسند الأفعال تارةً إلى نفسه في: ( أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) لا إلى اللَّه تعالى، وأُخرى إلى اللَّه في: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا ) (1) ، وسرّ الاختلاف كما تبينه الرواية عن الصادق عليه‌السلام أنّ في القول الأوّل حيث كان الفعل معبّراً عن نقص فلم ينسب إليه تعالى تأدّباً، بخلاف الثاني، فلمّا لم يكن إلاّ أمراً خيرياً نسب إلى اللَّه تعالى.

وبهذا يمكن أن نفهم الفرق بين موسى والخضر وأكملية الأوّل على الثاني من

____________________

1) سورة الكهف: 81.

٤٤١

بعض الجهات.

كما يمكن على هذا الأساس أن نسجّل تعريفاً دقيقاً لكلّ من شريعة الظاهر ونظام التكوين، فالأُولى: هي الإرادات الكلّية التكوينية الإلهية المتعلّقة بأفعال المختار بتوسّط تعلّقها بفعل الشارع، وهو الأمر والإنشاء والاعتبار.

والثانية: هي الإرادات الجزئية المنحلّة من الإرادات الكلّية.

وهذه القصّة في واقعها أحد أوجه الفرق بين العلم النبويّ والعلم اللدنّي والتي سبق أن أشرنا إليها، وهي أنّ العلم اللدنّي له مجال أوسع؛ إذ يشمل أولياء اللَّه الحُجج وهو نوع من الاصطفاء، ويكون مقاماً أعمّ من الإمامة وأعمّ من النبوّة، فيشمل الزهراء عليها‌السلام ، ومريم عليها‌السلام التي لها نوع من الولاية، وبقية أولياء اللَّه الحُجج التي تشير إليهم الآيات القرآنية، لذا فهو يشمل النبيّ، والإمام، والحجّة الولي.

أمّا العلم النبويّ فإنّه يختصّ بالأنبياء، وهذا لا يعني التقاطع بينهما، بل إنّ النبوّة تلازم وجود شعبة من العلم اللدنّي للنبيّ دون العكس، ومن هنا قيل إنّ كلّ نبيّ وليّ وليس كلّ وليّ نبيّ؛ إذ لا يمكن للنبيّ أن يصل لنبوّته من دون أن تكون له شعبة من شعب العلم اللدنّي، ومن هنا قيل إنّ ولاية النبيّ أرفع من نبوّة نفس ذلك النبيّ، ويدلّلون في علوم المعارف أنّ الولاية هي غيبية دائماً وتكوينية، والنبوّة وإن لم تكن ظاهرية تماماً، إلاّ أنّها بالإضافة إلى ولاية ذلك النبيّ تعتبر ظاهراً.

وبتعبير آخر: أنّ النبيّ بولايته يتلقّى من الباري ويعلم بالإرادات التكوينية ثمّ في تنزّلها تكون ظاهراً ورسالة، وهذا العلم اللدنّي هو المنشأ للظاهر ولا يشمل كلّ الإرادات التكوينية، كما يأتي الإشارة مفصّلاً في حقيقة التشريع.

أمّا التأويل الوارد ذكره في الآية الكريمة، فإنّ التأويل عموماً ورد في القرآن بعدّة استعمالات:

1 - في سورة يوسف، تأويل الأحاديث والرؤيا، وأنّه لديه علم التأويل، وهذا

٤٤٢

لا يخصّ الرؤيا كما قد يبدو لأوّل وهلة، بل يعمّ كلّ ما يرتبط بالنشأة ما قبل الدنيا.

2 - في قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) (1) بلحاظ نفس الوجود الخارجي لحقيقة القرآن.

3 - التأويل بلحاظ الوجودات والنشآت المختلفة، ومنه ما ورد أنّ الآخرة تأويل للدنيا.

4 - التأويل الوارد في آية المحكم والمتشابه.

5 - التأويل الوارد في هذه السورة، وهو تأويل ببيان الشريعة بحسب السنن الكونية الإلهية.

والتأويل مأخوذ من الأَوْل والأَوْب، وهو الرجوع والانتهاء، والغاية تأويل المغيّا، وغاية الغاية تأويل الغاية، وهذا هو المعنى الجامع بين هذه المعاني، وهو ما يعني تعاقب النشآت لبعضها البعض وجعل التالية غاية للسابقة، فما قبل النشأة الدنيا غايتها النشأة الدنيوية، والبرزخ والآخرة هي غاية للدنيا، وعليه لا تكون التأويلات محصورة بل تتعدّد بتعدّد النَشَآت، وقد يحظى الأولياء الحجج ببعض أو كلّ هذه التأويلات حسب مقاماتهم.

في تفسير الخضر أفعاله لموسى، وقبل ذلك نعرض لنقطتين:

النقطة الأولى: على صعيد التعليلات التي ذكرها الخضر لموسى يجب التوجّه إلى:

أ - إنّ مقام التعليل الغرض منه هو إقناع الطرف الآخر، ولذا يجب أن يذكر فيه علّة مشتركة على مبنى المتكلّم والسامع.

ب - إنّ فعل الخضر كان على أساس مقام الولاية من الشريعة بحسب السنن

____________________

1) سورة الأعراف: 53.

٤٤٣

الإلهية الكونية، واعتراض موسى كان على أساس الشريعة الظاهرة من مقام النبوّة، ممّا يعني وجود مشترك بين درجتي الشريعة بحسب الظاهر ونظام التكوين؛ وإلاّ لما كان تعليل الخضر مفهوماً لموسى، مع أنّا نلحظ أنّ موسى اقتنع بل انجلى له فظاعة ما تقدّم.

ج - يستنتج من هاتين النقطتين أنّ ما علّل به الخضر هو القاسم المشترك بين الشريعة الظاهرة والشريعة في السنّة الإلهية الكونية.

د - إنّ موسى اقتنع بما ذكر له الخضر وانجلى له صحّة الأفعال التي قام بها الخضر حتّى على مستوى الشريعة الظاهرة.

هـ - ومن هنا نستنتج حقيقة مهمّة في النسبة بين درجتي الشريعة، وهي أنّ السنّة الإلهية الكونية تطبيق للظاهرة، وأنّ النظام الكوني لا يلغي الظاهر بل هما متلاحمان، وأنّ الولاية إنجاز لأغراض النبوّة.

ومن هذه النتيجة يمكن أن نؤشّر على ظواهر انحرافية، هي تلك التي ألغت الظاهر بالنظام الكوني الإلهي، أو افترضت أنّ السنن الكونية لا تفهم بالظاهر أبداً ولو بتوسّط المعصوم، أو أنكرت العلاقة بينهما وأنّها مفترضة أجنبية ومغايرة، بل ناسخية الشريعة الكونية للظاهرة، وأنّ الولاية في الإمامة ناسخة للنبوّة بتوهّم أنّها نبوّة أُخرى، وأنّ كلّ مقام غيبي فهو نبوّة.

النقطة الثانية: من القواعد المهمّة التي تحكم الشريعة الظاهرة، والتي تحتاج من الفقيه إلى تدبّر وتمعّن في الموازنة بين الأحكام الظاهرية، هي حالة التصادم بين الأحكام المختلفة وأي حكم يجب تقديمه في هذا المقام، وهو المعروف بين الفقهاء بالتزاحم، وقد ذكرنا مفصّلاً في بحث علم أصول الفقه التزاحم في المِلاكات، وفي مقام الامتثال، والضوابط التي يجب مراعاتها في تقديم أي الملاكين، وقد أشرنا هناك إلى أنّ ما ذهب إليه العامّة من بحث المصالح المرسلة

٤٤٤

وسدّ الذرائع ما هو إلاّ نوع من التطبيق لمبدأ التزاحم، واختلافنا معهم في كيفية استكشاف المِلاكات وفي طريقة التقديم، فهم قد اكتفوا بالملاكات الظنّية والتقديم الظنّي أو جعلوا ذلك ضابطة للتشريع الثابت.

وسوف نلاحظ أنّ الأفعال التي قام بها الخضر هي من باب التزاحم والسعي إلى حفظ الملاكات الواقعية التي خفيت عن النبيّ موسى، والتي لو كان قد علم بها لما اعترض عليه:

أوّلاً: خرق السفينة.

وهاهنا سؤالان:

الأول: كيف ينسجم التعليل مع موازين الظاهر؟

الثاني: مع الانسجام ما هو الواقع في السنن الإلهية الكونية الذي اختصّ به الخضر؟

ففي هذا الفعل كان هناك ملاكاً مهمّاً سعى الخضر إلى المحافظة عليه؛ وهو حفظ مال المساكين من سطوة الحاكم الظالم، وهذا لم يكن موسى على علم به، ثمّ في مقام التطبيق كان الأمر يدور بين عطب السفينة وبين تعييبها؛ إذ في كلاهما يتحقّق الغرض، ومن الواضح أنّ المحافظة على الكلّ أولى من المحافظة على البعض، فالخضر عمل بقاعدة التزاحم وهذا من موازين الظاهر أيضاً، لكنّه اختصّ بعلم وجود مصاديق التزاحم من اغتصاب الملك الظالم لكلّ سفينة.

ثمّ في كيفية التصرّف الذي قام به الخضر من دون إذن أصحابها، فيمكن القول فيه: إنّ التصرّف العَقْدي يحتاج إلى إذن صريح ورضا بالإنشاء، أمّا التصرّف المجرّد غير العقدي - كالأكل والشرب - فلا يحتاج إلى ذلك بل يكتفي فيه بالعلم بطيب النفس وإن لم يكن المالك ملتفتاً، ومن هنا تظهر النكتة في أنّ إذن الفحوى

٤٤٥

لا يحتاج إلى إبراز إنشائي، ومن الواضح أنّ المالك لو خير بين تلف العين أو صفة العين فإنّه سوف يختار الثاني.

فنلاحظ أنّ الخضر بالعلم اللدنّي عَلِم أنّ الملك سوف يأخذ كلّ سفينة غصباً، فهو إعمال للعلم اللدنّي في تطبيق الشريعة الظاهرة، وهذا هو الحدّ الذي تعطيه الآية في العلقة بين الشريعتين، أو بتعبير أدق بين درجتي الشريعة، أي أنّ الشريعة بحسب السنّة الإلهية الكونية ومقام الولاية تسعى إلى التحفّظ على المِلاكات في الشريعة الظاهرة ومقام النبوّة بنحوٍ لا يقبل الخطأ، وتكون مصيبة دائماً.

ثانياً: قتل الغلام.

والإشكال فيه كما ذكرنا سابقاً من جهة الاقتصاص قبل الجريمة، وكونه غلاماً لم يبلغ الحلم.

والجواب عنه نقضاً وحلاًّ:

أمّا النقض، فبوجود موارد يوجد فيها جواز للقتل من دون جرم، كما في حالات تترّس الكفّار بالمسلمين في الحرب فيجوز عند استهداف الكفّار للقتل - حينئذٍ - قتل المسلمين. وكما في حالات الدوران - على بعض الأقوال الفقهية وإن لم يكن تامّاً عند المشهور المنصور من الرأي الفقهي - بين حفظ النفس ونفس أُخرى أهمّ ملاكاً من الأُولى، فيرفع اليد عن وجوب حفظ أحد النفسين، ويحافظ على النفس الأهمّ.

أمّا الحلّ: إنّ قوانين التزاحم التي تحكم الشريعة الظاهرة هي مختصّة في الحكمين الفعليين، أمّا في شريعة السنن الإلهية الكونية فإنّ التزاحم يطبّق حتّى في موارد الشي‏ء الفعلي والآخر المستقبلي، وهذا ما يحدث في العلم اللدنّي حيث يرى أنّ الملاك الأهمّ بمراتب وإن كان ليس بفعلي يتصادم مع الملاك

٤٤٦

الفعلي، وهذا وإن لم يكن ميزاناً في ظاهر الشريعة لعدم حصول العلم بالشي‏ء المستقبلي، لاسيّما إذا كان متمادياً في طول الزمان.

والروايات تشير إلى أنّ اللَّه أبدلهما ببنت تزوّج منها نبيّ من أنبياء اللَّه وتسلسل منه سبعون نبيّاً، فلو بقي هذا الغلام لكان سبباً في كفر الأب، وبالتالي انقطاع النسل النبويّ، وهذا لا يمكن استعلامه بالشريعة الظاهرة، بل يتمكن منه من أُوتي العلم اللدنّي.

ثالثاً: الجدار.

إنّ إشكال موسى هنا لم يكن في مؤاخذة إلزامية، بل كان لترك ما هو الأولى والأرجح.

ويلاحظ من التعليل الوارد في هذه الآية الشريفة أمران:

أ - إنّ الإرادة الإلهية ليست من سنخ إرادة اللَّه على نحو (كن فيكون)، بل إرادة في واقعها تتحقّق بالاختيار البشري، وبتوسّط البشر لا بتوسّط الملك أو مخلوقات أُخرى.

ب - إنّ الملاك الأهمّ الذي أراد اللَّه عزّ وجلّ حفظه هو ملاك ندبي، وهو كون أبيهما صالحاً، فأراد الحقّ تعالى إكراماً لهذا الأب الصالح أن يحفظ بصلاحه ذرّيته.

وهنا ننتقل للقول بأنّ الإرادة الإلهية كان لها هذا الدور من خلال هذه المنظومة في حفظ هذه الأغراض التي ليس لها تلك الأهمّية الإلزامية وتتّصف بالشخصية، فكيف بتلك الأغراض الجادّة المهمّة التي تؤدّي إلى انعطافات مهمّة في الدين والشريعة، فهذا يدلّنا على وجود مجموعة من الأولياء ورجال الغيب الذين لهم تلك الخصوصية من الاطلاع على العلم اللدنّي، وتكون وظائفهم حفظ الأغراض التي يوليها الشارع تلك العناية، وأنّ الحقّ تعالى لا يوكل الأمر إلى مجموع

٤٤٧

الاختيار البشري، بل إنّ هذه المجموعة هي التي تسعى بالمجموع للوصول إلى مقاصد الشريعة.

والأمر المهمّ الذي نستفيده من هذه التعليلات أنّ الشريعة الكونية والسنن الإلهية التكوينية تطبيق للشريعة الظاهرة، وأنّ الهداية الإيصالية في الشريعة الكونية هي إقامة خفية للشريعة الظاهرية، فلا يُكتفى بالهداية الإرائية، بل تكون إلى جنبها الهداية الإيصالية، وأن لا تترك الأُمور إلى الصدف، بل تكون هناك يد غيبية لأجل المحافظة على تحقيق الأهداف والأغراض.

وقوله تعالى: ( عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ) ، يؤكّد أنّ الخضر ليس وحيد سِنخه، وإنّما هنالك منظومة من الأبدال والأوتاد والأولياء قد زوّدوا بالعلم اللدنّي، وأنّ من جملة وظائفهم تحقيق الأغراض التي هي المِلاكات وغايات الشريعة الظاهرة.

٤٤٨

فوائد

الفائدة الأُولى:

حقيقة التشريع

إنّ قضية الخضر مع النبيّ موسى، وما اختصّ به كلّ منهما من الكمالات، تستدعي التعمّق قليلاً في بيان حقيقة التشريع السماوي الذي أوتيه النبيّ موسى عليه‌السلام وحقيقة العلم الذي أوتيَه الخضر، وأنّ هذه القصّة لا تدلّ على أفضلية الخضر على النبيّ موسى من كلّ جهة، بل هو تابع له في شريعته السماوية.

لقد سعى الأصوليون خلال سنين متعدّدة إلى تركيز النظر في حقيقة الحكم الشرعي والمراحل التي يمرّ بها، وإذا كان تسليط الضوء على أحكامه في الفترة التي تعقب صدوره من الناحية المقدّسة عن طريق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ المراحل التي تسبق مرحلة الإنشاء كانت أيضاً محلّ بحث وتأمّل بين العلماء، وكان السؤال الذي دار في أذهانهم ما هو الارتباط بين عالم الاعتبار وعالم التكوين؟ وهل هما منفصلان بعد المفروغية من أنّ الاعتبار يستتبعه التكوين والفعل الخارجي لكنّ الكلام في المرحلة السابقة؟

* فذهب جمهرة من الأصوليين إلى أنّ الإرادة الإلهية التكوينية هي الأساس لهذا التشريع والاعتبار، بمعنى أنّ وراء الاعتبار إرادات تكوينية متعلّقها ليس الفعل الخارجي، بل متعلّقها إنشاء الحكم واعتباره، وهي بالتأكيد تسبق الاعتبار والحكم التشريعي، وكلّيتها متعلّقها هو الاعتبار والإنشاء أو جعل حكم كلّي.

وذهب المحقّق النهاوندي في تشريح الأصول إلى أنّ الأحكام الشرعية ليست

٤٤٩

أحكاماً اعتبارية، بل هي إرادات تكوينية تشريعية، ومتعلّقة بفعل المكلّف، وتبعه المحقّق العراقي. وأنّ الأحكام الشرعية التكليفية إرادات تكوينية سابقة على النشأة الأرضية، والإنشاء مجرّد وسيلة تخبر عن حكم اللَّه الذي هو الإرادة.

وعلى كلّ حال، فسواء جعلنا الإرادة التكوينية هي منشأ الشريعة الظاهرة أو أنّها هي، فإنّ هذه الإرادات ليست حالة في الذات، بل هذه الإرادات بحكم نظام الوسائط تتنزّل من اللوح والقلم. حتّى تصل إلى نفس النبيّ أو الوصيّ أو الوليّ الحجّة، وأن إراداتهم هي إرادة اللَّه ومشيئاتهم مشيئات اللَّه.

* نبّه الأصوليون إلى أنّ الأحكام قسمان: الشرعية الاعتبارية والأحكام التكوينية. فالأُولى تكون على صيغة القضايا الحقيقية، وهي تنحلّ إلى قضايا جزئية في موارد عديدة، وبالمقابل في الأحكام التكوينية، أي أنّ الأحكام التكوينية الكلّية تنحلّ إلى أحكام تكوينية جزئية تكون وراء كلّ حكم شرعي جزئي، وقد نبّه أهل المعرفة على ذلك.

* وقد أشارت الروايات - وفسّرها أهل المعرفة والحكمة - إلى أنّ الأمر والشأن من اللَّه في تنزّله إلى العوالم السفلية يتمّ عبر مراحل، ويعبّرون أنّها تتمّ عبر لوائح تكوينية وأقلام تكوينية، وكلّما كانت النشأة أكثر علوية كانت الإرادات الإلهية فيها كلّية، وكلّما تنزّلت هذه الأوامر الإلهية في اللوائح النازلة كلّما ضيّقت وقدّر وصارت ليلة القدر، أي: ليلة التحديد.

* إذا التفتنا إلى النكات السابقة نستطيع معرفة الفارق المحوري بين الشريعة في الدرجة الظاهرة والكونية ونظام التكوين، وبين مقام صاحب الشريعة بالدرجة الظاهرة، وبين مقام صاحب شريعة السنن الكونية الإلهية.

فإنّ النفس النبويّة تتلقّى الإرادات الكلّية التشريعية الإلهية في لوائح ونَشَآت عالية، ويكون لها علم بتلك الإرادات التكوينية الكلّية، أمّا صاحب النفس الولوية

٤٥٠

والشريعة الكونية فإنّه يتلقّى الإرادات الإلهية الجزئية التكوينية في اللوائح والنَشَآت النازلة.

وبناءً عليه نرى أنّ الذي يطّلع على تلك الإرادات الكلّية يكون أفضل مقاماً من الذي يطّلع على الإرادات الجزئية فقط، ولا يكون له اطّلاع على تلك الكلّيات إلاّ من خلال الإرادات التشريعية الواردة عن طريق النفس النبويّة، ومن هنا نقول إنّ هؤلاء الأولياء الحُجج يكونون تابعين لصاحب الشريعة، النبيّ الذي في زمانهم؛ وذلك لأنّ تلك الإرادات الكلّية تكون عن طريق تلك النفس النبويّة في عهده.

ومن ثمّ إنّ النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون واسطة في تلقّي الأئمّة عن طريق الملكوت والأرواح التي هي مرتبطة بعالم الأمر والملكوت، لا عن طريق الحسّ والظاهر. وبتفاوت النبوات وأفضليتها تتفاوت مقامات التابعين والأولياء، ويمكن أن نفهم الفرق بين موسى والخضر، وأكملية الأوّل على الثاني، مع عدم علم موسى ببعض ما عند الخضر.

كما يظهر تعريف آخر للشريعة الظاهرة: أنّها الإرادات الكلّية الإلهية ومتعلّقها أفعال المكلّفين المختارين بتوسّط تعلّقها بفعل الشارع وهو الأمر والإنشاء والاعتبار.

والشريعة في السنن الإلهية الكونية: أنّها الإرادات الجزئية المنحلّة من تلك الإرادات الكلّية (1) .

____________________

1) وهذا من الفوارق بين الشريعة الكونية والظاهرة في مقام التعبير؛ وذلك لأنّه لا يمكن التعبير في الشريعة الكونية إلاّ بحدودها الحقيقية، أمّا في الظاهرة فيجوز استخدام المثال والصورة الكونية وأمثالها من التمثيلات التي لا يجوز استخدامها في نظام التكوين.

ولا بأس أن نشير هنا إلى أنّ النسبية في الحقائق تارةً يراد منه معنى ويكون مؤدّياً إلى السفسطة، وتارةً يكون معنى مقبولاً، فالقول بالنسبية المطلقة والتي تعني عدم وجود ثابت فهو =

٤٥١

كما يعلم الحال في غير المعصومين وأنّ فقهاء الشريعة إنّما يصلون إلى الحكم الظاهري في الشريعة الظاهرة عن طريق الطرق والإمارات الشرعية، بينما النبيّ يكون له اطّلاع مباشر على الإرادات التكوينية الكلّية، أمّا الفقيه فلا يحيط بذلك فضلاً عن الاطّلاع على الإرادات الجزئية، ويفهم من ذلك أنّ مجرّد الحصول على الملكة الكسبية لا يعني الاطّلاع والوصول إلى تلك الإرادات الكلّية ولا الجزئية، فلابدّ أن يكون تابعاً إلى صاحب الولاية.

الفائدة الثانية:

وتتضمّن تحليل أدبي لغوي فلسفي لأدب من الآداب الإلهية، أشار إليه الإمام الصادق عليه‌السلام في رواية ذكرها صاحب نور الثقلين، وهي تتعلّق بملاحظة طريقة تفسير الخضر لأفعاله واختلاف نسبة الأفعال في الوقائع الثلاث، ففي قصّة السفينة قال: ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) ، وفي قضية القتل قال: ( فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) (1) ، وفي واقعة الجدار قال: ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا... ) .

فنلاحظ أنّه تارةً يسنده إلى نفسه، وتارةً للمجموع، وثالثةً للَّه عزّ وجلّ، والملاحظ أنّه في الأفعال الخيرة يسند الفعل للَّه عزّ وجلّ، وفي الأفعال التي ظاهرها النقص يسندها إلى نفسه أو إلى من هو مثله. فالإعابة، والقتل، والخشية من أفعال الآدميين، والإرادة والإبدال هي من أفعال اللَّه عزّ وجلّ، فمع أنّ الكلّ من عند اللَّه عزّ وجلّ إلاّ أنّه في مقام التأدّب معه تعالى لا يسند ما ظاهره النقص له

____________________

= سفسطة، أما إذا عنينا بها النسبية التي تسعى إلى درك الحقائق الواقعية اللامتناهية التي هي غير محدودة فإلى أي مقدار تصل إليه تظلّ المعرفة محدودة ولا تستطيع الإحاطة بها.

1) سورة الكهف: 80 - 81.

٤٥٢

تعالى.

أمّا المجموع في: ( فَخَشِينَا ) فلا يمكن أن يريد الخضر نفسه، والجمع بلحاظ التفخيم؛ وذلك لأنّ الخضر لا يفخّم نفسه في قبال اللَّه تعالى، ولا أيضاً في قبال موسى، مضافاً إلى أنّه في الشريعة للسنن الكونية الإلهية يُراعى دقّة الحقائق لا المجازات، وإذا أخذنا في عين الاعتبار ما ورد في صدر القصّة من عبادنا، فنعلم أنّ المراد من الخشية هنا هو مجموع رجال الغيب، وهي مجموعة تسالمت المذاهب المختلفة على وجودها وإن اختلفت تسميتها من الأبْدال، والأوتاد، والسياح، والأركان، وأنّ هذا العلم لا يختصّ بالخضر بل إنّ تلك العلوم يزوّد بها رجال هذه المنظومة، فهم وإن كانوا غير موكّلين كلّهم بهذه المهمّة إلاّ أنّ العلم بهذا العلم يولد خشية لدى الجميع، وإن كان التنفيذ مختصّاً بواحد منهم، وكأنّه ينوب عنهم في تأدية هذا الفعل.

إنّ هذا الأدب الإلهي الذي أشرنا إليه فيما مضى أيضاً في طلب موسى من الخضر وإجابة الخضر له، إنّما يدلّ على جذر عقائدي يدعم ويولّد تلك المعرفة التي يكون تلفّظ الإنسان بها وخطابه مع الذات المقدسة بما يتلاءم مع مقام الذات وتنزّهها عن المعايب والنواقص، وقد أشار علماء المعرفة إلى هذه النكتة في موارد عدّة، مثلاً في صفة الكرم يرجعونها إلى أنّ الاعتقاد بحسب الفطرة بأنّ فيض وجود اللَّه عزّ وجلّ وكمالاته غير متناهية، فالرزق والعطاء لا يكون محدوداً، ومنه ينشأ صفة الكرم.

وهكذا صفة الشجاعة فهي تعود إلى مقام توحيدي بالاعتقاد بأنّ القدرة الحقيقية كلّها ترجع إليه سبحانه، وبالتالي لا يكون هناك أحد مالكاً للقدرة إلاّ بإقدار منه، فينشأ من هذا الاعتقاد عدم خشية الإنسان من أحد، وإذا شاهدنا أمثال هذه الصفات من أحد فإنّها تنمّ عن مقدار من التوحيد بنحو الإجمال البسيط في

٤٥٣

فطرته، بل ما ورد في سورة البلد يدلّ على أنّ الصفات الحميدة دالّة على الإيمان: ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) (1) .

ولا يخفى أنّ هذا الأدب ليس مجرّد مجاملات شكلية، وإنّما يعتمد أساساً على قاعدة تمّ مراعاتها من قبل الخضر، وهو ما أشار إليه القرآن من نسبة السيئة إلى العبد ونسبة الحسنة إلى اللَّه مع كون كلّ منهما من عند اللَّه.

____________________

1) سورة البلد: 11 - 17.

٤٥٤

المقالة الثانية

التصدّي الفعلي الخفيّ للإمام في عصر الغيبة لإدارة وتدبير النظام الاجتماعي البشري

وهذا التصدّي الفعلي الخفي السريّ المستتر ليس خاصّاً بعصر الغيبة وليس خاصّاً بالإمام المهدي (عج)، بل هو من لدن إمامة آدم عليه‌السلام وأوصيائه، وإمامة نوح وإبراهيم إلى إمامة سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته وأثناء حكومته الظاهرية، وأمير المؤمنين عليه‌السلام قبل حكومته الظاهرية وأثناءها أيضاً، وكلّ الأئمّة عليهم‌السلام إلى عهد إمامة المهدي (عج) في عصر غيبته، ونلحظ هذه الحقيقة في شؤون الإمامة الإلهية من خلال نموذج الخضر.

فنلحظ أنّ الخضر قد نسب ثالثة الفعل إلى المجموع في قوله: (فخشينا، فأردنا)، وهو ينسجم مع قوله: ( عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ) ، الظاهر في أنّ الخضر واحد من مجموعة قد زوّدوا بالعلم اللدنّي وكُلّفوا للمحافظة على أغراض الشريعة الظاهرة بتطبيقها، فالخشية هي خشية المجموع، وإرادة الجميع تدلّ على أنّ ما قام به الخضر واجب كفائي قد انبرى الخضر لأدائه.

بعد كلّ هذا، يمكن أن يسجل هذا السؤال معترضاً على فكرة الولاية و(النزعة الملكوتية والخفاء) في الإمامة، وفكرة الجماعة المزوّدة بالعلم اللدنّي الموظّفة بما ذكرناه والتي يديرها الإمام عليه‌السلام ، وفكرة أنّ قوام الإمامة المقوّم لها هو الهداية الإيصالية.

٤٥٥

والسؤال: إنّ ما ذكر لا يظهر من الكتاب والسنّة المستفيضة، وهو لا يعدو تنظير الصوفية، والذي خلاصته: تشابك الأرواح والنفوس على شكل منظومة هرمية تستبطن عدة خلايا ترتبط جميعها بالإمام، والذي اختلفت تعبيراتهم عنه بين: القطب، والغوث، والإمام.

وقد جاء ما يوازي هذا الفهم في تعبير الفلاسفة - والذي برهنوه عقلاً - بسلسلة الارتباط العلّي الوجودي.

ومعه لا يمكن أن تأخذ هذه الأُطروحة مجالها في الفكر الشيعي ما لم تصبغ بصبغة دينية وتكون ذات غطاء قرآني روائي، وهو مفقود.

ومن ثمّ لابدّ من الاقتصار على أنّ الإمامة منصب إلهي يعني المرجعية الدينية (الهداية الإرائية) والزعامة السياسية، مع قبول ارتباطه بالغيب وتزويده بالعلم اللدنّي؛ فإنّ هذا القدر هو الظاهر من القرآن والسنّة.

والجواب: إنّ الموجود عند الصوفية لا يتجاوز بذوره ومبدأ نشأته القرن الثالث، بل بلورته كنظرية جاءت في أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن، مع أنّ الروايات في هذا المجال أسبق بكثير من هذا التاريخ فضلاً عما في القرآن وكلمات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأمير عليه‌السلام ، وبقية الأئمّة عليهم‌السلام ، بل إنّ معظم ما لدى الفرق الصوفية والعرفاء هو طُفيل ووليد عن فرق الغلاة الشيعية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الأوّل، وفي القرن الثاني والثالث الهجري، بينما فرق الصوفية متأخّرة زمناً عن فرق الغلاة.

بل إنّ سلسلة مشايخ الصوفية جلّها تنتهي إلى غلاة الشيعة وجملة من هؤلاء الغلاة - لا كلّهم - كانوا أصحاب سرّ في المعارف لدى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، غاية الأمر لم يحالفهم الحظ أن يبقوا على الاستقامة، كما حصل مع بلعم بن باعورا؛ حيث آتاه الباري تعالى بعض حروف الاسم الأعظم: ( آتَيْنَاهُ

٤٥٦

آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) (1) .

فلم يكن خلاف الحكمة الإلهية إعطاءه الآيات من الاسم الأعظم مع علم الباري في الغابر أنّه لن يستقيم، ولكن الإعطاء الغيبي من الباري لبلعم بن باعورا حجّة عليه بعد استحقاقه في ظرف الاستقامة للعطية الغيبية الإلهية، وفي ذلك حكم أُخرى منه تعالى، مثل تنبيه البشر على أنّ من يتّق اللَّه يجعل له فرقاناً، واتّقوا اللَّه يعلمكم، أي تنبيههم على وجود علوم غيبية ليست في متناولهم.

وأنّ نشأة الغيب نشأة لا تنزف ولا تنفذ كما ورد في الحديث القدسي: (لأعطين الحكمة من زهد في الدنيا، فأمّا المؤمن فهي حجّة له، وأمّا الكافر فهي حجّة عليه).

هذا وغيره هو وجه الحكمة في تربية أهل البيت عليهم‌السلام بعض أصحاب السرّ أيام الاستقامة مع علمهم بما سيؤول حال أُولئك الأصحاب، هذا مع أنّ جملة كثيرة أُخرى من أصحاب السرّ بقوا على الاستقامة، كسلمان الفارسي، وكميل بن زياد النخعي، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر، وجابر بن يزيد الجعفي، ويونس بن عبد الرحمن، وذريح المحاربي، وغيرهم.

وعلى أي تقدير، فما عند الصوفية من سَمنٍ إذا فصل عن الغثّ، أو صواب أسرار المعرفة، فإنّما تلقوا وأخذوا جذوره من فرق الشيعة، ومن ثمّ قالت أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان عن الصوفية والتصوّف إنّه قنطرة التشيع.

وبالإضافة إلى أنّ الصوفية لا يعدون ذلك من مبتدعاتهم أو ما ثبت لهم بالمكاشفة فقط، وإنّما ينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام .

وبالتالي فما ذكرناه لا يمثّل اختراقات الفكر الصوفي السنّي للفكر الشيعي،

____________________

1) سورة الأعراف: 175.

٤٥٧

وإنّما هو تأثيرات الفكر الشيعي على الفكر السنّي المتمثّل بهذه الطبقة.

ومن ثمّ نفهم الحسّاسية البالغة عند فقهاء السنّة ومحدّثيهم من صوفيتهم، حيث تجرّ أطروحة الصوفيين الفكر السنّي إلى الفكر الشيعي، وتجعل من مبدأ الإمامة الشيعي ضرورة، فحاولوا الطعن عليهم بأنّهم متأثّرون بالاتّجاه الباطني، وهو الشيعة، مستهدفين بذلك تجريد الأُطروحة من الدليل والشرعية.

فقد جاءت الباطنية في كلماتهم في سياق الذمّ وأنّها منقصة، ومن ثمّ نسبوها إلى أئمّة أهل البيت، حتّى قال بعضهم: إنّ نسبة الباطنية إلى عليّ عليه‌السلام لها وجه، وأمّا نسبتها إلى جعفر بن محمّد فلا ريب فيها.

وقد غفل هؤلاء عن أنّ ما ذكر مديح للأمامية بأنّهم يؤمنون بالغيب، وأنّ فكرة الباطنية بمعنى الاعتقاد بعالم ونشأة الغيب والارتباط به وإشرافه على عالم الشهادة من دون التنكّر لعالم الغيب، كما هو مذاق المادّيين الحسّيين، هي أطروحة الشيعة لا من مستورداتهم، سوى أنّ هذه الفكرة قبلتها الشيعة بالشكل الذي مرّ، وهو حفظ التوازن بين البطون والظهور وعدم تغليب أحدهما على حساب الآخر، وبين التأويل كحقيقة قرآنية بيد الراسخين في العلم، وهم أهل آية التطهير، وبين ظهور الكتاب. وبين تنزيل الكتاب في المصحف الشريف بين الدفّتين وبين القرآن المجيد، في نشأة اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، والكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي‏ء الذي هو حقيقة قرآنية يجب الإيمان بها على حدّ الإيمان بالمصحف بين الدفّتين، وإلاّ لكان من الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر.

فالباطن، والبطون، هو الغيب الذي ليس منالاً لكلّ أحد كما يدّعيه الصوفية، بل هو في موقعه القطبي المركزي خاصّ بعِترة النبيّ المطهّرة، فالإيمان بالظاهر دون الباطن كالإيمان بعالم الشهادة والكفر بعالم الغيب، ومن الإيمان بالحسّ والإنكار

٤٥٨

بما وراء الحسّ كما يصنع أصحاب مدرسة الحسّ والمادّة، غاية الأمر أنّ البطون وورود هذه العوالم الغيبية لا تتسنّى إلاّ لمن شهد له القرآن بالقدرة على ذلك، وهم المطهّرون أهل آية التطهير، وأمّا غيرهم فلابدّ من إقامة البرهان وميزان الدلالة في الوصول إلى بعض المعاني المحدودة اليسيرة من التأويل.

وأمّا دلالة الكتاب والسنّة على ما ذكر من معنى الإمامة الإلهية، مضافاً إلى ما تقدم في الفصل الثالث من الجزء الأوّل من شواهد قرآنية من الكتاب والسنّة القطعية والأدلّة العقلية والفطرية، نشير إلى شواهد أُخرى على هذا التوسّع والإضافة في معنى الإمامة الإلهية الذي نحن بصدده في هذا الفصل.

الشاهد الأوّل:

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ... ) (1) ، فإنّ الخليفة عنوان من عناوين الإمام المدبّر المتصرّف في الأرض وبجعل تكويني إلهي، كما تقدّم في الفصل الثالث شرح هذه الآيات مبسوطاً. وموضع الاستشهاد في المقام يتبين عبر النقاط التالية:

الأولى: هو أنّ أوّل تعريف ذكره الباري للخليفة هو ذكر اعتراض الملائكة (الإفساد في الأرض، وسفك الدماء) بمثابة الجنس والفصل لتعريف الخليفة، فما هي الصلة الوثيقة بين تعريف الخليفة والإمام في الأرض وبين هذين الاعتراضين؟ فلابدّ ثمّة من ارتباط وثيق بينهما أراد أن ينبّه الباري تعالى عليه، حيث إنّ القرآن الكريم في مقام تعريف الخليفة والإمام.

الثانية: إنّ اعتراض الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء لابدّ أن يراد منه المقدار الغالب من الإفساد وسفك الدماء بمقدار أكثري؛ وذلك لأنّ الفساد الأقلّ

____________________

1) سورة البقرة: 30.

٤٥٩

في مقابل الإصلاح والصلاح الأكثر ليس مذموماً بل راجح، كما أنّ سفك الدماء القليل بالقياس إلى مجموع عدد البشرية الكبير وبنحو مانع عن انقراض النسل ليس قبيحاً، بل حسن، فلابدّ أن يكون مصب الاعتراض هو بالفساد الكثير وسفك الدماء الأكثر، أي الشرّ الكثير في مقابل الخير القليل، لا الاعتراض بالشرور القليلة في مقابل الخيرات الكثيرة، فهذا المعنى هو الذي اعترض به الملائكة على جعل الخليفة.

الثالثة: إنّ من الواضح أنّ المجي‏ء بالاعتراض الملائكي والمحذور الذي تخوّف منه الملائكة في أصل سياق تعريف خليفة اللَّه في الأرض، هو لبيان أنّ هذا الخليفة من أبرز خواصه ومهامه وآثاره أنّه بوجوده دارئ ممانع عن وقوع هذا المحذور، وذلك عبر عملية استخلافه وتصرّفه من قبل اللَّه أي قيامه بالتدبير فيما استخلف فيه، فبتدبيره وتصرّفه في الأُمور يحول دون انفراط النظام الفطري الإلهي للنظام الاجتماعي البشري، وبذلك يحول دون وقوع الفساد والإفساد في الأرض في كلّ المجالات، سواء البيئي، والصحّي، والزراعي، والاقتصادي، والأخلاقي، والأمني، والعسكري، والتجاري، وكذلك يحول دون وقوع سفك الدماء الغالب المبيد للنسل البشري.

فهو بتدبيره في النظام العام يقوم بمهمّة الاستخلاف وهي حكومة النظام العالمي البشري في ضمن حكومة موحّدة تدفع بالنظم البشرية في البلدان إلى تقارب نظام عالمي موحّد على أساس الفطرة البشرية والرعاية الإلهية والعناية السماوية، ومن ذلك يظهر سرّ نزول كلّ ملفّات التقدير والقضاء سنوياً في ليلة القدر على صاحب الأمر، والذي قد تقدّم مفصّلاً بيانه في الرافد الخامس، فإنّ هذا الكم المعلوماتي الهائل عن وضع البشرية السنوي في كل عام الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في جدول إحصائي لسياسات الحكومة الإلهية يقوم

٤٦٠