الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 122215
تحميل: 5688


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122215 / تحميل: 5688
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المنهج الحادي عشر: معرفتهم التامّة لفظاً، ومعنىً، وشؤوناً، بالكتب السابقة وبالشرايع السابقة، وبتواريخها الخفية، ومنظومة الأولياء.

المنهج الثاني عشر: تطابق السنن الجارية على الأنبياء، المسطُورة في القرآن، مع ما جرى لهم وعليهم في شؤونهم الفردية وشؤونهم العامّة مع الناس. كما في هارون عليه‌السلام ، وعليّ عليه‌السلام . وغيبة الحجّة عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام . ونظير الرضا عليه‌السلام ويوسف عليه‌السلام . ونظير يحيى عليه‌السلام والجواد عليه‌السلام . وعيسى، وإدريس، وإلياس، والخضر عليهم‌السلام مع الحجّة (عجل الله فرجه). ومريم عليها‌السلام وفاطمة عليها‌السلام .

المنهج الثالث عشر: وهو إثبات إقدار اللَّه - عزّ وجلّ - لهم على خوارق العادات والمعجزات، باعتراف خصومهم، حيث أسموا ذلك بأنّه سحر من بني هاشم، بدءاً من قريش في العهد المكّي، إلى العهد المدني، وعهد التابعين، وتابعيهم إلى بداية الغيبة.

المنهج الرابع عشر: إثبات العلم اللدنّي لهم عليهم‌السلام ، من تراجم كتب رجال وحديث العامّة، وذلك بواسطة الروايات التي روتها العامّة عنهم، المتضمّن مفادها لدعواهم عليهم‌السلام بعدم استقاء علمهم من غيرهم، وأنّ علمهم لا يَعِي عن إجابة المسائل المختلفة، مضافاً إلى تلّمذ علماء المذاهب على أيديهم دون غيرهم.

وهناك غير ذلك من المناهج، يستطيع الباحث الوقوف عليها في كتب الإمامية المستفادة من الكتاب والروايات والعقل والفطرة السليمة.

٦١

٦٢

نبذة في تطْويف

الآيات القرآنية الدالّة على الإمامة

ولنستعرض جملة يسيرة من تلك الطوائف لا على سبيل الاستقصاء:

الأُولى: آيات الثَّقَلين، وهي جملة من الآيات تفيد عين مفاد حديث الثقلين.

الثانية: آيات الهداية والصراط، وهي جملة من الآيات في السور الدالّة على أنّ هداية الأُمّة هي على عاتق أئمّةٍ هداةٍ يقومون مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثالثة: آيات الاستخلاف، ومفادها بيان السنّة الإلهية في جعل الخليفة في الأرض مزوّداً بالعلم اللدنّي والعلم الأسمائي الجامع.

الرابعة: آيات التبليغ، وهي المتضمّنة للأمر الإلهي بإبلاغ الإمامة والولاية.

الخامسة: آيات الولاية، وهي المتضمّنة للفظ وعنوان الولاية، وأنّها لثلّة من هذه الأُمّة خاصّة.

السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم عليه‌السلام ، ومن هذه الأُمّة.

السابعة: آيات الإمامة، المتضمّنة للفظ وعنوان الإمامة.

الثامنة: آيات الأنفال والفي‏ء، والخمس لذي القربى.

التاسعة: آية التسليم على آل ياسين (آيات أولياء الدين وحُجَجِه).

العاشرة: آيات شهادة الأعمال، المتضمّنة لوجود ثلّة من هذه الأُمّة تشهد أعمال الأُمّة في كلّ عصر إلى يوم القيامة، وهم الأشهاد.

الحادية عشر: آيتا التطهير.

الثانية عشر: آية الأشهر الاثني عشر.

٦٣

الثالثة عشر: آيات التولّي والتبرّي.

الرابعة عشر: آيات الكتاب المبين، والمكنون.

الخامسة عشر: آيات ربَّانِيِّ هذه الأُمّة.

السادسة عشر: آيات الوسيلة والسبيل.

السابعة عشر: آيات النور.

الثامنة عشر: آيات ليلة القدر، وصاحبها وليّ الأمر النازل في تلك الليلة.

جدولة مصادر الطوائف

الطائفة الأُولى: آيات حديث الثقلين:

آل عمران: 7، الواقعة:77 - 81، الرعد: 39 و43، النحل: 64 و89، القيامة: 19 - 16، الأنعام 38 و59، يس: 12، النحل: 40 و75، البُروج: 22، ص: 22، يونس: 61، فاطر: 32، الحجر: 75 - 76، يوسف: 111، العنكبوت: 47، الحج: 54، سَبأ: 6، البقرة: 121، الأنعام: 154 - 155، الأعراف: 144.

الطائفة الثانية: آيات الهداية والصراط:

الرعد: 7، سورة الحمد، يونس: 35 و131، الأعراف: 181 و184، الأنبياء: 73، السجدة: 24، الجِنّ: 16، طه: 82 و135، التوبة: 119، الأنعام: 153، الإسراء: 158، النمل: 75، المؤمنون: 73 - 74، النور: 55، الملك: 22، الحج: 54، الفرقان: 27، يونس: 180، غافر: 6 و10، مريم: 6 - 7، محمد: 17، الكهف: 24، العنكبوت: 69، المائدة: 67، البقرة: 18، يس: 82، إبراهيم: 22.

الطائفة الثالثة: آيات الاستخلاف:

البقرة: 30، النمل: 62، ص: 26، وهي متطابقة مع حديث: خلفائي اثنا عشر من قريش.

الطائفة الرابعة: آيات التبليغ:

المائدة: 3 و 67.

٦٤

الطائفة الخامسة: آيات الولاية:

النساء: 59، المائدة: 54 - 56، الأحزاب: 6، آل عمران: 63، النور: 54 و55.

الطائفة السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم:

آل عمران: 33 - 34، الحجّ: 75 - 78، البقرة: 237، النساء: 54 و58، آل عمران: 68، الزخرف: 26 - 28، الأنبياء: 73، البقرة: 127 - 128، آل عمران: 164.

الطائفة السابعة: آيات الإمامة:

البقرة: 124، النساء: 154، هود: 17، الأحْقاف: 12، يس: 12، الأنبياء: 73، السجدة: 24، القصص: 5.

الطائفة الثامنة: آيات الأنفال والفي‏ء، والخمس لذي القربى:

الحشر: 7، الروم: 38، الأنفال: 41، الشورى: 23، الإسراء: 26.

الطائفة التاسعة: أولياء الدين وحججه، وآيات الأشهر الحُرُم:

آل عمران: 61، الصافات: 130، البراءة: 36.

الطائفة العاشرة: آيات شهادة الأعمال:

البراءة: 105، النحل: 89، البقرة: 143، الحجّ: 78، الرعد: 43، آل عمران: 140، المُطَفِّفِين: 21، الواقعة: 11، النساء: 41، الأعراف: 46.

الطائفة الحادية عشر: آيتا التطهير:

الواقعة: 79، آل عمران: 42.

الطائفة الثانية عشر[ لم يذكرها المؤلّف ]

الطائفة الثالثة عشر: التولّي والتبرّي: [ المؤلّف جعل هذه هي الطائفة 12]

الأعراف: 3، الممتحنة: 4، الزخرف: 26، البقرة: 166 و167، البراءة: 114، المجادلة: 22، الشورى: 23، محمّد: 29.

الطائفة الرابعة عشر: آيات الكتاب:

الواقعة: 79، البروج: 21 - 22، آل عمران: 7 و79، النساء: 54، المائدة: 44 و48، الأنعام: 38 و59 و114، البراءة: 36، يونس: 61، هود: 1 و6، الرعد: 31 و39 و43، الحشر: 21، النحل: 89، الكهف: 49، طه: 52، الحج: 70، الشعراء: 2، النمل: 1 و 75، سبأ: 3، الدخان: 2، الزخرف: 2 - 4، فاطر: 11، الشورى: 52، المطففين: 18 - 20، يس: 12.

٦٥

الطائفة الخامسة عشر [لم يذكرها المؤلف ]

الطائفة السادسة عشر: آيات الوسيلة:

التكاثر: 8، البقرة: 211، المائدة: 35، الإسراء: 58، الفرقان: 57، سبأ: 47، الشورى: 23.

الطائفة السابعة عشر: آيات مقامهم النوري:

النور: 36 - 35، البقرة: 34 - 31 و37، النساء: 171، البقرة: 124، الكهف: 109، لقمان: 27، التحريم: 12، الأنعام: 115، الأعراف: 158، الأنفال: 7، الشورى: 24، آل عمران: 39 و45، إبراهيم: 24، الزخرف: 28، التغابن: 8، البراءة: 32، الزمر: 69.

أمّا الطائفة الأولى: تفصيل آيات الثقلين، وهي على أنماط:

الأوّل: سورة الحمد.

الثاني : سورة آل عِمران.

الثالث: الواقعة: 78، الأحزاب.

الرابع: سورة الأنعام: 38 و59 و154، الدخان: 2 - 1، فاطر: 32، العنكبوت: 50 - 47، البقرة: 121، النمل: 40، الرعد: 31 و39 و43، البروج: 22، الأعراف: 145، يوسف: 101، الاسراء: 12 و14، المائدة: 48، يونس: 61.

الخامس: النحل: 89.

السادس: القيامة: 17، النحل: 64.

السابع: سبأ: 6، الحج: 54.

الثامن: النساء: 83، محمّد: 16.

التاسع: المائدة: 44. وهي تتطابق مع طائفة آيات ربانيّو الأمّة.

العاشر: الشورى: 23، الأنعام: 90، يوسف: 104، سبأ: 47.

الطائفة الثامنة عشر:

آيات ليلة القدر وصاحبها وليّ الأمر النازل فيها، وهي تتطابق مع قالب آيات حديث الثقلين: سورة القدر، سورة الدخان: 3 - 1، النحل: 1، غافر: 15، الشورى: 52.

٦٦

النصوص القرآنية

الدالّة على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام

القسم الأوّل: آيات الثقلين، وهي:

أولاً: آيات الراسخون في علم الكتاب

( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (1) .

إنّ الظهور الأوّلي الإجمالي لهذه الآية الشريفة، هو الإعلان عن وجود قسمين من آيات الكتاب الكريم: محكم ومتشابه. كما أنّها تقسّم المكلّفين إلى أقسام: راسخون في العلم، وغير راسخين. وغير الراسخين إلى قسمين: قسم يتَّبع المتشابه، وهم الذين قد زاغت قلوبهم عن الصراط المستقيم وعن الحقّ. والقسم الآخر لا يتّبع المتشابه، ولكنّها ترشد إلى لزوم اتّباع الراسخين في العلم؛ كي يهدوهم إلى تأويل المتشابه بالمحكم.

كما أنّ الآية تُعلِم بأنّ المحكمات لها مقام الأُمومة في آيات الكتاب، ممّا يعني أنّ المتشابهات كفروع لها.

والتأويل لغةً: من الأَوْل، أي الرجوع والأَوب، وانتهاء

____________________

1) سورة آل عمران: 7.

٦٧

شي‏ء إلى شي‏ء، من آل شي‏ء إلى آخر، أي انتهى إليه.

وتأويل المتشابه، إمّا بمعنى الانتهاء إلى المعنى الحقيقي المراد منه، أو بمعنى انتهاء المتشابه إلى أصله وهو المُحْكَم، وهو يتّحد مع المعنى السابق أيضاً؛ إذ برجوع المتشابه إلى المُحْكَم يوجب كشف المعنى المراد من المتشابه، وأنّه منسجم ومتلائم معه.

وبمقتضى النقطة الأخيرة وما تقدّم، يستلزم أنّ الإحاطة بالمحكم إحاطة تامّة، غير مقدور عليها لغير الراسخين في العلم؛ وذلك لأنّ الإحاطة التامّة بالمُحْكَم تستلزم العلم بتأويل المتشابه؛ إذ المفروض في المحكم أنّ له الأُمومة، والهيمنة، والمرجعية لتفسير بقية الآيات، فعدم العلم بحقيقة المتشابه ناشئ من عدم فرض الإحاطة التامّة بالمحكم، إذ لا تشذ آية في المتشابه عن حيطة المحكمات وقيْمُومَة معانيها على تلك الآيات، فلا تكون متشابهة عند المحيط خبراً بالمحكمات.

وهذا يدلّ على أنّ المتشابه وصفٌ نسبيٌّ إضافي بالإضافة إلى غير الراسخين، وأمّا الراسخون، فلا تشابه لديهم في الآيات، وإن كان التقسيم: إلى المُحْكم الأمّ، وإلى الآيات الفرعية، وصفٌ حقيقي غير إضافي، لنفس الآيات في نفسها.

وكلّ ذلك لا يلزم منه تعطيل الكتاب، أو تجميده، أو فقده لصفة الإعجاز؛ بتوهّم أنّ آياته المحكمات لا يُحاط بها مِن قِبل الكُل، والمتشابه لا يؤخذ به بنفسه؛ لإجمال المراد منه، فيزيغ من يتابعه من دون مفسّرٍ معتَبَرٍ صحيح، والمحكم لا يحاط به؛ وذلك لأنّ الآية في صَدد بيان كيفية الأخذ، واشتراطه باتِّباع الراسخين بالعلم، ومعونتهم وإرشادهم.

فيتبين أنّ الأخذ - الذي لا بدّ منه المفترض في تلك الآية - والتمسّك بالكتاب اللازم يجب أن يكون مقروناً بالتمسّك بأُولي العلم الراسخين، لا أنّها في صَدد

٦٨

حجب الكتاب عن التمسّك به، بل غاية دلالتها أنّ التدبّر بالقرآن، والتمسّك به، يجب أن يكون مقروناً وبمعيّة الراسخين في العلم.

وهذا عين ما يقال: مِن أنّ كلاً من الكتاب والسنّة مصدرٌ للشريعة؛ فإنّ معنى الاثنينيّة في الحجّية ليس بأن يكون كلّ منهما مستقلاً عن الآخر، ولا بأن يكون أحدهما معطِّلاً للآخر، وكونه فاعلاً أو غير فاعل، بل أن يكون هناك معيّة بينهما، وتَشَاهد وتعاضد وتكافل، ومِن ثمّ لا يستلزم تعطيل أحدهما، ولا فقد الكتاب المجيد لإعجازه؛ لأنّ إدراك المعجزة فيه لا يتوقّف على الإحاطة بكلّ محكماته، فضلاً عن متشابهاته، بل يكفي في ذلك معرفة البعض.

وكون الراسخين في العلم ثلّة من هذه الأُمّة الإسلامية، لا خصوص فرد واحد، وكون هذه المجموعة باقيةٌ سلسلتها ما بقيت حجّية القرآن في هذه النشأة، وأنّها لا تُرفع إلاّ برفع الكتاب يوم القيامة، كلّ ذلك؛ لأنّ الكتاب لا يؤخذ به بنحو تامّ إلاّ بهم.

ويستفاد من الآية: أنّ التمسّك بالكتاب على انفراد لا يتحقّق بصورة صحيحةٍ كاملةٍ تامّةٍ إلاّ بهم، كما لا يتحقّق التمسّك بهم إلاّ بالتمسّك بالكتاب؛ لأنّهم هادون إلى محكماته، وتأويل متشابهاته. وهو مفاد حديث الثقلين.

وإنّ علم الراسخين في العلم ليس من العلم الكَسْبي؛ لأنّه لا يؤهّل إلى ذلك مهما بلغ الإحاطة بدرجة من محكمات الكتاب، إذ من الضروري أنّ الكتاب المجيد، الحجّة لكلّ هذه النشأة، لا تنتفي حقائقه ولا تحصى محكماته المحيطة بتطاول هذه النشأة، بل وبالنشآت السابقة واللاحقة، فالعلم التامّ بكلّ الكتاب الذي أثبتته هذه الآية للراسخين في العلم لا يكون إلاّ من سنخ العلم اللدنّي؛ إذ الكتاب المبين الذي يستطر فيه كلّ شي‏ء - ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) - هو من لدن الغيب، والعلم التام به من سِنخه.

٦٩

ولا سيما وأّن الآية قد قرنت - تشريفاً - الراسخين في العلم باللَّه تعالى، ونفتْ العلم بالكتاب كلّه عن الجميع، وحصرته في الذات الإلهية ومن بعده بالراسخين في العلم، ممّا يعطي شَرَافةً وتعظيماً للراسخين في العلم، كحجج لله على خلقه، ووهبهم ذلك النمط اللدنّي من العلم.

ومقتضى حجّية الكتاب وحجّية الراسخين في العلم، أنّ حجّيته مرهونة بحجّيتهم، وحجّيتهم مرهونة بحجّيته أيضاً، فالحجّتان من سنخ واحد، ممّا يدلّ على عصمتهم؛ وإلاّ لو جاز عليهم الخطأ لانسدّ باب العلم في الكتاب، ولزم التعطيل.

ويشير إلى مقام حجّيتهم ذيل الآية: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) (1) ، وإشارة الآية إلى مثل هذه المضامين إنّما يتفطّن إليها ذو اللبّ، لا ذو الذهنية القشرية الذي لا يبصر إلاّ القشور. وكذلك الآية التالية: ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (2) ، أي أنّ ذوي الألباب بتفطّنهم لحجيّة الراسخين في العلم بمعيّة الكتاب العزيز، يكونون قد اهتدوا إلى كيفية التمسّك بالكتاب والأخذ به من دون زيغ قلوبهم عن الحقّ؛ إذ من تفرّد بالأخذ بالكتاب من دون التمسّك بالراسخين بالعلم، قد حكمت عليه الآية بزيغ قلبه، فلذلك اتّبع المتشابه، وأنّ اتّباعه للمتشابه طلباً لفتنة الناس عن الحقّ وعن الدين، وطلباً لتأويل الكتاب وعطفه على ما يوافق أهوائهم وجهالتهم.

كما أنّ جملة ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (3) ، المجعولة صفة للراسخين في العلم - على تقدير الواو عاطفة -، أو خبر - على تقدير كون الواو استئنافية -، فإنّ

____________________

1) سورة البقرة: 269.

2) سورة آل عمران: 8.

3) سورة آل عمران: 7.

٧٠

الجملة الدالّة على علم الراسخين بالعلم بالتأويل - حيث إنّ الضمير عائد إلى التأويل -، وتعلّق الإيمان به، تستلزم العلم به بنحو ما، لا سيّما وأنّه قد وصف بإضافته إلى أنّه من عند اللَّه، والتوصيف يستلزم التعيين، كما أنّ وصفهم بالراسخين بالعلم أيضاً مشعرٌ بذلك، وكذا إرداف ذكرهم للمستثنى وهو الباري تعالى، وكذا قولهم بعدم مخالفة المتشابه للمحكم؛ لأنّ كلّ منهما من عند اللَّه تعالى، أي وحدتهما في ذلك دالّ على معرفتهم بكيفية رجوع المتشابه إلى المحكم، أي تأويله به.

مضافاً إلى أنّه لو لم يكن ثلّة من هذه الأُمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تَعْلَم متشابه القرآن، وكيفية تأويله بالمحكم، لكان يلزم حينئذٍ تعطيل الكتاب بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا هو مفاد حديث الثقلين.

وبذلك تدلّ الآية على اختصاص علم الكتاب بهم بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون غيرهم من الأُمّة.

ثمّ إنّ مقتضى إحاطتهم بعلم الكتاب هو إحاطتهم بناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيّده، وموارد نزوله، وعزائمه من رخصه، ومغايرة متشابهه من محكمه.

وهذه الحجّية لهم بمعيّة حجّية الكتاب كما تقدّم في تبين كيفية العمل بالكتاب، وتنفي الاستقلالية، أي استقلالية غيرهم بالفهم للاستفادة من الكتاب، فحينئذٍ، يعمل بموازين الدلالة المقرّرة في علوم الأدب، بضميمة الاستعانة بالثقل الآخر.

مضافاً إلى وجوه التشاهد الآتية بين هذه الآية وبقية آيات الثقلين، الدالّة على إحاطة الراسخين في العلم في هذه الأُمّة بالكتاب كلّه.

٧١

ثانياً: آيات مَن عندهم بيان تبيان الكتاب لكلّ شي‏ء

وهم كما في قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1) .

وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إلاّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (2) .

و: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتفصيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (3)

و: ( ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) (4) .

أمّا الآية الأولى الدالّة على الثقل الأوّل - بل الثقلين معاً - فقد فُسّر ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) بأنّه تبيان لكلّ أُمور الدين، أي العلوم الدينية. والتفسير الآخر أنّ فيه تبياناً لكلّ شي‏ء من أُمور الدين وغيره، فيشمل العلوم الدينية وغير الدينية، لا سيّما أنّ معارف الدين محيطة بكلّ الحقائق الكونية.

وتقريب الاستدلال في الآية يتمّ على كِلا القولين، وقد وقع المفسّرون من العامّة في حَيص بَيص في تفسير معنى الآية فلاحظ كلماتهم، وإن كان الثاني هو الصحيح؛ لِما في قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (5) ؛ وقوله تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ

____________________

1) سورة النحل: 89.

2) سورة العنكبوت: 49 - 50.

3) سورة الأعراف: 145.

4) سورة الأنعام: 154.

5) سورة النمل: 75.

٧٢

إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (1) .

وقوله تعالى: ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (2) .

وقوله تعالى: ( يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (3) ، وغيرها من الآيات الدالّة على إحاطة الكتاب بكلّ صغيرة أو كبيرة. مضافاً إلى ما سيأتي في المجموعة الثالثة.

ثمّ إنّ شمولية الكتاب أوسع من التوراة، كما دلّت عليه الآيات في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) (4) .

وهذا هو الثقل الأوّل، بل في الآية إشارة إلى الثقل الثاني أيضاً، حيث تُبيِّن وجود شاهد في كلّ أُمّة، والأُمّة الجيل من الناس أو القرن، أي وجود شاهد في كلّ قرن يشهد على الناس أعمالهم، ويكون هذا الشاهد من نفس أُمّة ذلك القرن، ويكون الرسول شاهداً على هؤلاء.

قال الفخر الرازي في ذيل الآية: اعلم أنّ هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلّفين عن المعاصي، واعلم أنّ الأُمّة عبارة عن القرن والجماعة، إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأوّل: إنّ المراد أنّ كلّ نبيّ شاهد على أُمّته. والثاني: إنّ كلّ جمع وقرن يحصل في الدنيا فلابدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شاهداً عليهم، أمّا الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلّم)، فهو الرسول؛ بدليل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (5) .

وثبت أيضاً أنّه لابدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول من الشهيد.

____________________

1) سورة الأنعام: 59.

2) سورة الأنعام: 38.

3) سورة الرعد: 39.

4) سورة الأعراف: 145.

5) سورة البقرة: 143.

٧٣

فتحصل من هذا أنّ عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابدّ وأن يكون غير جائز الخطأ؛ وإلاّ لافتقر إلى شهيد آخر، ويمتدّ ذلك إلى غير نهاية، وذلك باطل، فثبت أنّه لابدّ في كلّ عصرٍ من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأُمّة حجّة. (1)

أقول: ما تبيّن من دلالة الآية هو الحقّ من لزوم شاهد غير جائز عليه الخطأ، ولكن تطبيق ذلك على إجماع الأُمّة غاية الوهن؛ فإنّ الأُمّة منقسمة في أكثر أمرها، فأين الشاهد في ما اختلفت فيه.

وحيث أنّ الشاهد لابدّ أن يكون عالماً بأعمال العباد، كما يشير إليه قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (2) ، فيرى أعمال العباد حين صدورها.

ومن الواضح أنّ علم كلّ ذلك كان لدى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ ما كان ينزل عليه شي‏ء إلاّ كان يعلمه ويعلّمه غيره، لكن لا يحيط بكلّ تعليمه إلاّ الأُذن الواعية، كما قال تعالى: ( لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (3) ، وهي أُذن عليّ عليه‌السلام كما جاء في أحاديث الفريقين (4) .

وقد قال تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (5) ، وقال تعالى:

____________________

1) الفخر الرازي، ج 20، ص 99، في ذيل الآية.

2) سورة التوبة: 105.

3) سورة الحاقّة: 12.

4) روى ذلك الطبري في تفسيره، وأبو نعيم في حلية الأولياء، والواحدي النيسابوري في أسباب النزول، والثعلبي في تفسيره، والرازي في تفسيره، والمتّقي الهندي في كنز العمّال، والقرطبي في تفسيره، والسيوطي في الدرّ المنثور، وابن كثير في تفسيره. لاحظ بقية المصادر: إحقاق الحقّ، ج 3، ص 147، و ج 14، ص 220 - 241، و ج 20، ص 92 - 97.

5) سورة النحل: 44.

٧٤

( َمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) (1) ،

وقال تعالى: ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (2) .

وكيف يبيّن ما لم يعلمه، وكيف يفرض أنّ علمه عند غير رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ مع أنّ بيانه على عهدة ووظيفة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ببيان كلّ الكتاب.

ثمّ إنّ عملية إنزال حقائق الكتاب لتبيان ما فيه لم ينقطع ويرتفع بموت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ هو باقٍ لتنزّله كلّ عام ليلة القدر إلى يوم القيامة، فعلمه في كلّ الكتاب لابدّ أن يكون باقياً في ثلّة من هذه الأُمّة، وهو الثقل الثاني، وهو الذي تشير إليه الآية الثانية من قوله تعالى: ( َمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ الظَّالِمُونَ ) (3) ، و ( بَلْ ) للإضراب إمّا عمّا سبق في الآيات عليها، أو عن كون علم الكتاب، أي كون الآيات بيّنات في صدور من عدا الذين أوتوا العلم. وعلى كلا التقديرين تدلّ على حصر علمِ وبيان ما في الكتاب بالذين أُوتوا العلم، والضمير ( هو ) عائد إلى الكتاب المجيد، بمقتضى السياق ومقتضى توصيفه بالآيات.

ثمّ إن الذين أُوتوا العلم قد ذُكروا في آيات أُخر، كقوله تعالى: ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (4) ، وقوله تعالى: ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (5) ، وقوله تعالى: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (6) ، وقوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

____________________

1) سورة النحل: 64.

2) سورة القيامة: 17 - 19.

3) سورة العنكبوت: 48 - 49.

4) سورة سبأ: 6.

5) سورة الحج: 54.

6) سورة النحل: 27.

٧٥

وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاّ الصَّابِرُونَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ) (3) ، وقوله تعالى: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (4) .

وهذه الآيات تصفهم بصفات التحلّي بالعلم اللَّدنِّي والعلم بالكتاب كما في قولهم: ( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (5) ، حيث بمقتضى علمهم بالكتاب المحيط بالنشأتين لا يجهلون كيفية أحكام النشأة الأخرى.

كما أنّ الآيات آنفة الذكر أثبتت لهم رؤية ومعاينة الذي أُنزل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الوحي.

ويُستفاد من سورة النحل أنّ الذين أُوتوا العلم هم المعصومون؛ إذ أُبعد عنهم مطلق الخزي، كما أنّ إثبات التكلّم في مواطن من يوم القيامة والبعث، دالّ على رفعتهم ومكانتهم وكونهم ذوي صلاحيات من المقام المحمود، وأنّهم لا تأخذهم أهوال يوم القيامة ولا أهوال البعث، وقد وصف اللَّه تعالى مشاهد ذلك اليوم بقوله: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) (6) .

وأيضاً قد أطلق على القرآن في سورة القصص: ( طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ

____________________

1) سورة الروم: 56.

2) سورة القصص: 80.

3) سورة محمّد: 16.

4) سورة المجادلة: 11.

5) سورة الروم: 56.

6) سورة النبأ 38.

٧٦

الْمُبِينِ ) (1) ، وكذا في سور أخرى (2) ، وكذا ما مرّ في الطائفة الثانية من وصف الكتاب بأنّ فيه تبيان كلّ شي‏ء، وقد نُعت الكتاب المبين في القرآن بأنّ ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلاّ فيه، وأنّه فيه مفاتح الغيب وما في البرّ والبحر وكلّ شي‏ء. وكذا ما مرّ في الطائفة الأُولى من وصف الآيات المحكمات للكتاب بأنّها أُمّ الكتاب، وقد ذُكر في آيات هذه الطائفة: أنّ كلّ ما يمحى ويثبت في المشيئة الإلهية هو في أُمّ الكتاب. فمحكمات الكتاب هي أُمّ الكتاب.

ويتحصّل حينئذٍ: أنّ القرآن الكريم يشتمل على جميع مسائل علوم الدين والعلوم الأُخرى، وهذا يعزّز عموم مفاد الطائفة الثانية؛ من أنّ في الكتاب تبيان كلّ شي‏ء. ويدعم ذلك أنّ القرآن قد وُصِف أنّه مهيمن على الكتب السابقة، كما في قوله تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (3) - والهيمنة هي الإحاطة -، مع أنّه قد وصفت بعض الكتب السماوية المتقدّمة باحتوائها على غير علوم الدين، كقوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) (4) ، فإنّ المجي‏ء بعرش بلقيس بقدرة علمٍ من الكتاب ليس ممّا يرتبط بالأحكام.

وكذا قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) (5) ، فقوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (6) ، دالّ على أنّ حقيقة القرآن تشمل وتحوي المشيئات الإلهية، وهما: مشيئة المحو، ومشيئة الإثبات. فضلاً عن القضاء والقدر الإلهيين.

____________________

1) سورة القصص: 1 - 2.

2) سورة الزخرف: 2. القمر: 52 - 53. الشعراء: 2. يوسف: 1.

3) سورة المائدة: 48.

4) سورة النمل: 40.

5) سورة الرعد: 31.

6) سورة الرعد: 39.

٧٧

كما أنّ في الكتاب عِلم بكافّة الكائنات والمخلوقات الأرضية والسماوية، بمقتضى قوله تعالى: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ٍ ) (2) ، وقوله تعالى: ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (3) ، هذا كلّه في الثقل الأوّل وهو الكتاب الكريم.

أمّا الثقل الثاني، فمضافاً إلى الآيات في الطائفتين السابقتين؛ حيث بيّنت أنّ تأويل كلّ الكتاب والإحاطة بمحكماته هو عند الراسخين في العلم، وأنّ مجموع القرآن الكريم آيات بيّناتٍ في صدور الذين أوتوا العلم، وهم الراسخون في العلم المشار إليهم، وهم المطهَّرون في آية التطهير، الذين يمسُّون الكتاب المكنون، كما في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (4) . وهم المعبّر عنهم بمن عنده علم الكتاب، في قوله تعالى: ( قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (5) ، وهذه الآية آخر سورة الرعد المكّية نزولاً، ولم يكن قد أسلم يومئذٍ في مكّة من أهل الكتاب أحد، فالمراد بها هو أحد المسلمين التابعين لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن شرّف بهذا العلم.

فقد ذُكرت أقوال في المراد من الآيتين المتقدِّمتين:

أحدها: إنّه هو اللَّه، كما عن الحسن، والضحّاك، وسعيد بن جبير، والزجاج.

____________________

1) سورة الأنعام: 59.

2) سورة النمل: 75.

3) سورة سبأ: 3.

4) سورة الواقعة: 77 - 79.

5) سورة الرعد 43.

٧٨

واستُدلّ له بقول ابن عبّاس، إنّه كان يقول: ومن عند اللَّه علم الكتاب (1) .

وثانيها: إنّ المراد به أهل الكتاب، منهم: عبد اللَّه بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري، كما نسب إلى ابن عبّاس وعبد الملك بن عمير، وجندب، وغيرهم (2) .

ومقتضى ذلك أن تكون مدنية، كما عن ابن مردويه، وابن الزبير، والكلبي، ومقاتل. وكلا القولين كما ترى في الضعف والسقوط؛ فإنّ ظاهر الآية اثنينية الشهادة والشاهدين، والسورة كلّ آياتها مكّية، والآية الأخيرة مذكورة في سياق نتيجةٍ للآيات السابقة، فكيف يفكّك النزول بينها فتكون سابقتها مكّية وهي خاصّة مدنية؟ وليس هذا إلاّ تعصّب وعناد ممجوج. وسيأتي بسط الحديث في ذلك أكثر بعد الطائفة الثالثة.

ثمّ إنّه يستفاد من الطائفة الثانية أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ هذه الطائفة - بمجموع الآيتين - دالّة على لزوم الرجوع إلى ثلّةٍ معصومةٍ في مقام التمسّك بالكتاب العزيز، وعند إرادة تبيين الأحكام الشرعية والمعارف من الكتاب العزيز، نظير ما تقدّم في الطائفة الأُولى.

الأمر الثاني: تدلّ أيضاً على استمرار بقاء تلك الثلّة ببقاء القرآن وبقاء هذا الدين؛ حيث إنّ هذه الملحمة القرآنية في الآية الأُولى - وهي دعوى بيان حكم وعلم كلّ شي‏ء في القرآن - على مرّ الأزمان والعصور محتاجة إلى من يبيّن ذلك من القرآن.

الأمر الثالث: أنّ حجّية هؤلاء - الثلّة - عِدْل حجّية القرآن، وإنّ هذه الحجّية

____________________

1) فتح القدير، للشوكاني، ج3، ص90، دار إحياء التراث العربي.

2) المصدر السابق، ج3، ص89.

٧٩

بنحو مَعِيٍّ، ومن الواضح اقتضاء ذلك عصمة تلك الثلّة عِلماً وعَملاً؛ وإلاّ لاختلّ وانسدّ باب الرجوع في الكتاب إلى كلّ شي‏ء؛ أمّا العصمة العلمية، فلأنّ الآية الثانية تدلّ على أنّ مجموع القرآن هو بيّنٌ في صدورهم، والمفروض أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شي‏ء، مضافاً إلى أنّه مع فرض الجهل العِلمي في تلك الثلّة يستلزم حصول العَجَز لكافّة الأُمّة عن الوصول إلى كلّ ما يحتاجونه من أحكام الكتاب ومعارفه.

وأمّا في صورة عدم العصمة العملية؛ فلأنّه سوف تُفقد الأمانة والوثوق في الرجوع إلى أقوالهم.

الأمر الرابع: أنّ هذه الطائفة تعضد الاستثناء في الطائفة الأُولى من أنّ الذي يعلم متشابه القرآن إنّما هو اللَّه والراسخون في العلم؛ حيث إنّ في هذه الطائفة دلالة على أنّ آيات القرآن بيّنة عندهم غير متشابهة.

الأمر الخامس: أنّ العلم الذي بتوسّطه صار مجموع القرآن بيّن لهم، إيتائي، فهذا العلم هبة معطاة من اللَّه تعالى، لا تسبيبي (كسبي)، أي إنّه علم لدنِّي.

وقد أشار إليه القرآن الكريم في آيات عديدة، كما في سورة الكهف، حيث قوله تعالى: ( فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) (3) . وقوله تعالى: ( إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (4) ، وقوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (5) ، وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ

____________________

1) سورة الكهف: 65.

2) سورة البقرة: 247.

3) سورة النمل: 40.

٨٠