• البداية
  • السابق
  • 31 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20407 / تحميل: 4802
الحجم الحجم الحجم
الرجعة بين العقل والقرآن

الرجعة بين العقل والقرآن

مؤلف:
العربية

الرّجعة بين العقل والقرآن

معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي

١

٢

بسم الله الرحمن الرحیم

٣

٤

مقدمة الناشر:

ضمن سلسلة الكتب التي توضّح العقائد الأصلية التي تحملها مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، يصدر هذا الكرّاس ليوضّح الموقف حول عقيدة (الرّجعة)، التي وقعت موقع الطعن من قبل أناس لا همّ لهم إلا التفريق بين المسلمين وزرع بذور البغضاء واستغلال سوء الفهم ؛ لتحقيق أهدافهم الدنيئة.

وأملنا الكبير أن يعيّ المسلمون كل الحقائق، ويتعاملوا مع عدوّهم صفّا مرصوصا يَشدُّ بعضه بعضاً، وحينئذٍ تتحقق الأهداف الكبرى.

والله تعالى هو الموفق للصواب.

معاونية العلاقات الدولية

في

منظمة الإعلام الإسلامي

٥

تمهيد

تقوم مدرسة التشيّع على أساس إتباع القرآن والسير على نهج أهل بيت الرسالة (عليهم السلام)، حيث يعتقد الشيعة بوجوب التمسك بهاتين الجوهرتين الثمّينتين في تلقّي المعارف الإسلامية واكتسابها، والاهتداء إلى ذلك بالأنوار الساطعة لهذين النبعين الفيّاضين. وهذا الاعتقاد لم يبتدعه الشيعة ابتداعا، بل إنّ مؤسس النظام الإسلامي والذي جاء بهذه الشريعة المطهّرة أي: الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو الذي أكّد عليه مراراً في أحاديثه القيّمة التي نبّه فيها إلى ضرورة الالتزام بتوجيهات القرآن الكريم وعترته الطاهرة، وقد صرّح في حديث الثقلين المشهور، بهذه الحقيقة بكل وضوح، حيث قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث:

(إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم مِن الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلَ بيتي، ولن يَتَفرّقا حتى يَردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهم )(1) .

لقد نقل كبار المحدّثين المسلمين من السنّة والشيعة هذا الحديث عن نبيّ الإسلام الأكرم، وأيدوا صحته، وقطعيّته في كتب الحديث المعتبرة، مما لم يدع أيّ مجال للشك في صحته وتواتره(2) .

والجدير ذكره أنّ هذا الحديث لم يُسمع من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة واحدة، بل لقد كرّره في أربعة مواضع في الأقل. وهذه المواضع

____________________

(1) سنن الترمذي: ج 5، كتاب المناقب، الباب 22، تسلسل 3788.

(2) وقد جمع الباحثون الأسانيد الروائية لحديث الثقلين في عدة مقالات، من جملتها كرّاس صغير طبعته ونشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، سنة 1374 هجرية، وقد أسّس هذه الدار في مصر كل مِن المرحوم الشيخ محمود شلْتوت شيخ الجامع الأزهر ومرجع الشيعة الراحل المرحوم آية الله البروجَردي، حيث خَطَتْ خُطوات قيّمة نحو إيجاد التفاهم وإزالة العقبات التي تَحول دون تحقيق الوحدة بين أبناء الأمّة الإسلامية.

٦

هي:

1- يوم عَرَفة حين كان (ص) راكباً بَعيره.

2- في مسجد الخيف.

3- يوم الغدير، أثناء رجوعه من حجّة الوداع.

4- يوم وفاته وفي آخر خطبة ألقاها من على المنبر.

وعليه فإنّنا نجد أنّ أكثر من ثلاثين صحابياً من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رووا هذا الحديث، وقام ما يقارب الثلاثمائة من كبار أهل السنّة بنقله وتدوينه.

وعلى هذا الأساس، فإنّ السبيل الوحيد إلى معرفة حقائق الدين ومعارفه، والنجاة من الضَّلال والتيه، يكْمُن في انعقاد القلوب على القرآن والعترة لا غير ؛ فهما اللذان يدلاّننا على طريق الفوز والفلاح، ويعرّفاننا بالأبعاد المختلفة لهذا الدين القويم، ويحدثاننا - دون خطأ أو سهو - عن أبواب العقيدة، وفروع الفقه، وما جرى من وقائع تاريخية على الأمم السابقة، وما يؤول إليه أمر العالم، وخصائص الدار الآخرة، وعن التعاليم الأخلاقية، وسائر الأمور المتعلقة بالدين الإسلامي، فعلى أمّة خاتم الرسل أن لا تنفصل ولو للحظة واحدة عن هاتين الجوهرتين، ولا تتقدم عليهما أبداً. ومن الجدير حقاً أن يجتمع نفر من العلماء والمحققين - من الفِرق الإسلامية المختلفة - للتباحث بشأن كيفية تطبيق هذا البرنامج الواضح والصريح، ووضع نتائج مباحثاتهم تحت تصرف أبناء الأمّة الإسلامية لكي يجنوا بذلك ثمّاراً قيّمة عن هذا الطريق.

وعلى أيّة حال، فقد أوجب الشيعة على أنفسهم عدم الإيمان أبداً بأيّة عقيدة تخالف هاتين الدعامتين الراسختين، والإيمان بكل ما ورد من أقوال عن هذين المعلمين الوفيين.

ومن القضايا التي تدخل ضمن هذا السياق - والتي طُرحت في ظل الإيمان بالقرآن والعترة، وتعرضت دائما للنقد والشبهات من جهة، والدفع والردّ على تلك الشبهات من جهة أخرى - قضية (الرّجعة) التي تحدّثتْ عنها بعض الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث المروية عن أهل بيتِ الرسالة، مما جعل أتباع مدرسة التشيّع يعتقدون بها اعتقاداً لا ريب فيه، ويوقنون بوقوع هذا الحدث، وطبيعي أنّ هذا لا يعني: أنّ مبدأ الرّجعة يعدّ واحداً من أصول الدين من وجهة نظر

٧

العقيدة الشيعية، وفي مرتبة الاعتقاد بالتوحيد والنّبوة والمعاد، بل إنّها تعد من المسلّمات القطعيّة، شأنها في ذلك شأن كثير من القضايا الفقهيّة والتاريخيّة التي لا سبيل إلى إنكارها.

ولنضرب مثالاً على ذلك فنقول: إنّ جميع المسلمين يعتقدون أنّ معركة بدر كانت أوّل معركة وقعت بين المسلمين ومشركي مكّة في السنّة الثانية للهجرة، ولكنّ قطعيّة وقوع مثل هذه الحادثة والاعتقاد بذلك لا يعد من أصول العقيدة الإسلامية، ومع ذلك فلا يمكن لأحد من المسلمين إنكارها.

ولهذا السبب نجد أنّ طرح قضية الرّجعة قد تفاوت في المراحل الزمنية المختلفة فكلّما شرع المخالفون للشيعة بتصعيد حملاتهم في التشكيك بالاعتقاد بالرّجعة، واعترضوا على الشيعة عن هذا الطريق، انبرى كبار علماء هذه المدرسة - الذين هم حرّاس حدود العقيدة والإيمان - إلى الدفاع عن حياض عقائدهم الأصلية بألسنتهم وأقلامهم، والإعلان عن خطأ تلك الاعتراضات والإشكالات، فعلى سبيل المثال: نجد أنّ كثيراً من الكتب ألّفت خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة من قبل كتّاب الشيعة المقتدرين حول الرّجعة، أمّا في القرنين الرابع والخامس فقد قلّ تأليف هذه الكتب، ثمّ تميز القرن السادس وما بعده والى اليوم بندرة ما كتب في هذا الشأن، والسبب في هذا التبدّل والتحوّل يكمن - كما ذكرنا - في الظروف والأحوال الزمانية المختلفة ومن الطبيعي أنّ جميع كتب العقيدة وعلم الكلام والحديث قد تطرقت بشكلٍ مختصرٍ ومقتضبٍ إلى هذا المعتقد، ولكنّ تأليف كتاب مستقل يدفع الشبهات عنه، انحصر فقط بالفترات الحسّاسة التي ازدادت فيه الاعتراضات والكلام البذيء بهذا الشأن.

وها نحن، نبحث مسألة الرّجعة في هذه الصفحات من أجل تنوير أذهان كل الذين يرغبون في مطالعة هذه المسألة بحياد تام، متبعين أسلوب الاختصار في القول. حيث ستشتمل بحوث رسالتنا هذه على الأمور التالية:

1. مفهوم الرّجعة.

2. الشيعة والرّجعة.

3. الرّجعة وظهور المهدي المنتظر(عجل الله فرجه).

4.إمكانية حدوث الرّجعة.

5. الرّجعة عند الأمم السابقة.

٨

6. الأدلّة على حدوث الرّجعة في هذه الأمّة.

1. مفهوم الرّجعة:

(الرّجعة) في اللغة ترادف العودة، وتطلق اصطلاحا على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات مع النهضة العالمية للإمام المهدي (عجل الله فرجه). وهذه العودة تتم بالطبع قبل حلول يوم القيامة، وطبقا لهذا المبدأ فإنّ الحديث عن العودة يعدّها في بعض الأحيان من الوقائع التي ستحدث قبل يوم القيامة، وفي أحيان أخرى من الحوادث المتعلقة بظهور المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)، ولكنّنا يجب أن نعلم، أنّ قضية الرّجعة - من وجهة نظر الشيعة - حدث مستقل عن هذين الموضوعين (يوم القيامة، وظهور الإمام المهدي) ولو أنّ هناك آصرة زمنية بين كل من هذه المواضيع الثلاثة.

كتب المحدّث الشيعيّ الجليل الحُرّ العاملي يقول:

(المقصود من الرّجعة عندنا: هوالحياة بعد الموت وقبل يوم القيامة، وهذا هو المعنى الذي يخطر في الذهن من كلمة الرّجعة، والذي صرح به العلماء)(3) .

وقال الفقيه والمتكلم الشيعي القدير الشيخ المفيد: (إنّ الله تعالى يحشر قوماً من أمّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موتهم قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن شاهدٌ به، قال الله عزّ وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة:( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدا ) وقال سبحانه في حشر الرّجعة قبل يوم القيامة:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمّةٍ فَوْجاً مّمّن يُكَذّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يوزَعُونَ ) فأخْبَر أنّ الحشر حشران: عامّ وخاصّ(4) .

وكتب العالم الشيعي المتبحر في القرن الرابع الهجري السيد مرتضى علم الهدى متحدثا عن الرّجعة عند الشيعة: (اعلم أنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه، أنّ الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي عليه السلام قوماً ممن كان قد تقدم موته من شيعته ؛ ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه ؛ لينتقم منهم فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق، وعلو كلمة أهله)(5) .

أما العلاّمة المجلسي - قدس سره - فقد كتب بعد نقله الكثير من الروايات والأقوال عن عظماء الرجال حول الرّجعة قائلاً:

____________________

(3) الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرّجعة، الباب الثاني.

(4) بحار الأنوار: 53 / 136 (نقلا عن المسائل السَروية للشيخ المفيد).

(5) بحار الأنوار: 53/ 138 (نقلاً عن رسالة كتبها السيد المرتضى جواباً على أسئلة أهل الرَّي).

٩

(والرّجعة إنّما هي: لِمُمَحَّضي الإيمان من أهل الملّة، ومُمَحَّضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية)(6) .

فاستناداً إلى هذه الأقوال ، ووفقا للأحاديث التي جمعت في كتب الشيعة المعتبرة، يتضح لنا أنّ الشيعة يرون أنّ الرّجعة تختص فقط بجماعة من المؤمنين والكافرين ولا أحد غيرهم، وهم يعتقدون طبقا للأدلّة المحكمة وغير القابلة للإنكار، والوعد الإلهي الأكيد، أنّ آخر حجة لله على الناس وهو المهدي - الذي اسمه كاسم خاتم الرسل، وكنيته ككنيته وهو من نسله (صلى الله عليه وآله وسلم) - سيخرق ستار الغيبة في زمن أُخفي عنّا، فيحطم قصور الظالمين وقلاعهم، ويأتي بالعزة لأنصار الله، ويقوّي شوكة المسلمين، ويمحو مِن الوجود وإلى الأبد كل الخفافيش التي تعمل في الليالي المظلمة، وحينئذٍ تعود إلى العالم المادي - مع قيام هذا الرجل الهُمام الناشر للعدل - جماعة مِن المؤمنين والمنكِرين، فتنال كل فئة الثواب والعقاب على وفق ما عملت في الحياة.

2. الشيعة والرّجعة:

لا يوجد أدنى شك في أنّ الشيعة يعتقدون بالرّجعة، حيث عدّ جميع كبار علماء هذه المدرسة الاعتقاد بالرّجعة من خصائص أتباع الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، حتى صار الإيمان بالمذهب الشيعي ملازما للإيمان بالرّجعة، وعرف بهذه الصفة بعض أنصار مدرسة (أهل البيت) الذين ربّتهم هذه المدرسة، واتخذ المعترضون على الشيعة هذا الاعتقاد وسيلة لمَلاماتهم ومخالفاتهم، وقد ذكر العلاّمة المجلسي (رحمه الله) أسماء أكثر من خمسين عالما شيعيا آمنوا بمبدأ الرّجعة، ونقلوا ما يتعلق بها من روايات في كتبهم، ومن جملة هؤلاء:

سليم بن قيس الهلالي (المتوفى عام 90)، وحسن بن الصّفار (المتوفى عام 290)، وعلي بن إبراهيم القمّي (أستاذ الكليني)، وثقة الإسلام الكليني (المتوفى عام 328)، ومحمّد بن مسعود العيّاشي (الذي عاصر الكليني)، وأبو عمرو الكشّي (عاصر الكليني)، والشيخ الصَدوق (المتوفى عام 381)، والشيخ المفيد (المتوفى عام 436)، وأبو الفتح الكراجكي (المتوفى عام 449)، وأبو العباس احمد بن عباس النجاشي (المتوفى عام 450)، والشيخ الطوسي (المتوفى عام 460)، والسيد رضي الدين بن طاووس (المتوفى عام 464)، وغيرهم.

____________________

(6) بحار الأنوار: 53/ 138.

١٠

ثمّ كتب يقول: (إنّ الاعتقاد بالرّجعة قد أجمع عليه الشيعة في جميع الأزمان، وهو يسْطَع كالشمس في السماء ولا سبيل لأحدٍ إلى إنكاره)(7) .

يقول الشيخ الصدوق في كتابه الموسوم بـ (الاعتقادات): (إنّنا نعتقد بشأن الرّجعة أنّ هذه الحادثة ستقع حتماً)(8) ، والشيخ المفيد أيضاً اعتبر الرّجعة من خواص أتباع أهل بيت الرسالة(9) ، والسيد المرتضى يعتقد بإجماع الشيعة حول الرّجعة، حيث يقول: (إنّ أتباع المذهب ليس بينهم أدنى خلاف بهذا الشأن)(10) .

وكتب الشيخ الحُرّ العاملي يقول: (إنّ كثرة الكتّاب الذين جمعوا الروايات المتعلقة بالرّجعة في كتب مستقلة أو غير مستقلة - تجاوز عددها السبعين كتابا - يدلّ على قطعية الاعتقاد بالرّجعة لدى الشيعة)(11) .

تحدّث الشيخ الطوسي في تفسيره (التبيان)(12) ، وأمين الدين الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان)(13) وغيرهما من كبار مفسري الشيعة حول الرّجعة، ويدلّ ما كتبه مؤلف كتاب (الإيقاظ من الرّجعة) على أنّ صحّة الرّجعة في نظر الشيعة من الأمور المسلّمة والقطعية التي لا تقبل الإنكار، وأنّ أكثر العلماء - أو كلهم - قد آمنوا بهذه الحقيقة(14) .

أمّا الشيخ الصدوق فقد عدّ - في كتابه الموسوم بـ (صفات الشيعة) - الرّجعة من صفات أتباع هذا المذهب، ونقل حديثاً بهذا الشأن عن الإمام السادس الإمام الصادق (عليه السلام)(15) .

عليه يمكننا القول بجزم: أنّ مبدأ الرّجعة - في نظر كبار العلماء الشيعة - من الأمور القطعية المسلّم بها، وأنّ الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمّة المعصومين لا تُبقي أيّ مجال للشك في وقوع الرّجعة، وقد كتب العلاّمة المجلسي - الذي حاز على المرتبة الأوّلى من بين جميع المحدّثين العظام والذي يمكننا بوضوح ملاحظة آثار تتبعه ومواظبته، في تأليف المجموعة القيمة المسمّاة بـ (بحار الأنوار) وكذلك شرح أصول الكافي - بشأن الروايات المتعلقة بالرّجعة قائلا: (كيف يشكّ مؤمن بحقّيّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) فيما تواتر عنهم في ما يقرب من مائتي حديث صريح، رواها نيف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد مِن خمسين مِن مؤلّفاتهم، كثقة الإسلام الكليني، والصدوق محمّد بن بابويه و.. و.. و.. و...

____________________

(7) بحار الأنوار: 53/ 122 - 144.(8) الاعتقادات للصَدوق، كما ورد في بحار الأنوار: 53/ 128.

(9) بحار الأنوار: 53/ 136.(10) بحار الأنوار: 53/ 139.

(11) الإيقاظ من الهجعة، الباب الثاني.(12) التبْيان: 8/ 120.

(13) مَجمع البيان: 4/ 235.(14) الإيقاظ من الهجعة، الباب الثاني، الدليل الخامس.

(15) بحار الأنوار: 53/ 121 (نقلا عن صفات الشيعة).

١١

وإذا لم يكن مثل هذا متواتراً، ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر مع ما روته كافة الشيعة خلفاً عن سلف؟(16) . أمّا الشيخ الحُرّ العاملي الذي كان من كبار المحدثين في القرن العاشر الهجري، وألّف الكتاب القيّم المسمّى (وسائل الشيعة) المشتمل على الأحاديث الفقهية، فقد وصف الروايات المتعلقة بشأن الرّجعة بأنّها أكثر من أن تعدّ وتحصى، واعتقد بالتواتر المعنوي للأخبار الواردة بهذا الشأن(17) .

وخلاصة القول:

أنّ الشيعة - وطبقاً للأحاديث النبويّة الشريفة وأحاديث العترة الطاهرة - يعتقدون بوقوع حادثة خاصّة في العالم قبل القيامة الكبرى، تُحيا فيه جماعة من الأموات وهم يسمّون هذه الحادثة بالرّجعة، ويعبرون عنها حيناً بـ (القيامة الصغرى).

3. الرّجعة وظهور المهدي المنتظر (عجل الله فرجه):

توهّم بعض الجهلاء أنّ ظهور الإمام المهدي بعد غيبته هو الرّجعة بعينها، والأمر ليس كذلك إذ لا تعني الغيبة في نظر الشيعة إلاّ حضّوره (عليه السلام) في هذا العالم المادي على صورة شخص لا يعرفه الناس. فالشيعة إذن يعتقدون بأنّ المهدي (عليه السلام) حيّ يرزق، وهم ينتظرون ظهوره (عليه السلام)، أمّا الرّجعة فتعني: إحياء جماعة من المؤمنين والكافرين وإعادتهم إلى هذه الدنيا. ولا علاقة لها بالغيبة بأيّ شكلٍ من الأشكال، والروايات المتعلقة بالرّجعة موجودة في كتب الشيعة ومَن يراجعها يستنتج أنّ أيّاً منها لم يصف قيام المهدي (عليه السلام) بالرّجعة، وأنّ أيّ أحدٍ لم يعتبره مِن الأموات إطلاقا لكي يمكننا وصف ظهوره بالرّجعة. وفضلاً عن ذلك، لو أنّ الرّجعة كانت ظهور المنقِذ ، لَمَا كان ينبغي لوم الشيعة على اعتقادهم بها ؛ لأنّ بعض الفرق الإسلامية - حتى من أهل السنّة - تعتقد أيضاً بهذا الأمر وهم ينتظرون ظهور شخص من نسل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وخلاصة القول هي:

إنّ الرّجعة وظهور إمام العصر والزمان (عليه السلام) حدثان مستقلان عن بعضهما، ويحظى أحدهما (وهو قيام الإمام المهدي) بتأييد كافّة الفِرق الإسلامية (بغضّ النظر عن اعتقادهم بأنّه مولودٌ موجود الآن، أم أنّه سيولد في المستقبل)، وليس الآخر (أي الرّجعة) كذلك، حيث تحدّث عنه وبحث فيه أتباع المذهب الشيعي فقط، على أنّ الروايات المتوفرة لدينا تقول بوجود علاقة

____________________

(16) بحار الأنوار: 53/ 122 - 144.

(17) الإيقاظ من الهجعة، الباب الثاني، الدليل الثالث.

١٢

زمنية بين ظهور المهدي المنتظر وحدوث الرّجعة , ولكنّ هذه العلاقة لا تدلّ أبداً على الوحدة بين هاتين القضيتين.

والمسألة الأخرى، التي لابد لنا من توضحيها هي:

لو أنّنا أسمينا الظهور بعد الغيبة بالرّجعة لوجب علينا - طبقا لِما يراه أهل السنّة - أن نؤمن بالرّجعة في موضعين:

1- لا يشكّ أحد في أنّ سيدنا موسى (عليه السلم) وفقا للآية:

( وَوَاعَدْنَا مُوسَى‏ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً... ) (18) قد فارق قومه أربعين يوماً بلياليها، وعاش بعيداً عن أنظارهم، ثمّ عاد إليهم بعد انقضاء هذه المدة.

2- روى الطبري وابن سعد وغيرهما ما يلي: (حين لبّى رسول الله نداء ربه، قام الخليفة الثاني وصاح قائلاً: إنّ نفراً من المنافقين يظنّون أنّ النبيَّ قد مات، فوالله إنّه لم يمت، بل ذهب إلى ربه كما فعل موسى بن عمران إذ غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ عاد إليهم بعد أن ظنّ الناس أنّه قد مات، والله إنّ الرسول سيعود فيقطع أيدي الذين نسبوا الموت إليه وأرجلهم)(19) إلاّ أنّه غيّر رأيه بعد حديث قصير مع أبي بكر، وصدّق بوفاة النبي، ولكنّ هذه العبارات تدلّ على عدم استحالة الظهور بعد الغيبة.

وسوف نبادر - فيما سيأتي من سطور - إلى دراسة البراهين العقلية والنقلية على إمكانية وقوع الرّجعة، وتوافقها مع المعارف الإسلامية، مع بحث بعض الموارد حول حدوث الرّجعة في الأزمنة السابقة، وذكر الدلائل على تحققّها في ما يستقبل من الزمان.

4. إمكانية حدوث الرّجعة:

قبل أن نتطرق إلى أدلّة الرّجعة في القرآن والحديث، سوف نبحث إمكانية حدوث ظاهرة كهذه من وجهة النظر الفلسفية العلمية ثمّ نعرج على القرآن.

في البداية لابد أن نعرف أنّ مسألة الرّجعة إلى العالم المادي تشبه تماما بعث الحياة من جديد في يوم القيامة، وأنّ الرّجعة والمعاد ظاهرتان متماثلتان ومن نوع واحد، مع فارق أنّ الرّجعة محدودة أكثر، وتحدث قبل يوم القيامة، بينما يُبعث جميع الناس في يوم القيامة ليبدأوا حياتهم الخالدة.

____________________

(18) الأعراف: 142.

(19) تاريخ الطبري: 2/ 442 الطبقات الكبرى 2/ 266.

١٣

وعليه يجب على الذين اعترفوا بإمكانية بعث الحياة من جديد في يوم القيامة، أن يعتبروا الرّجعة التي هي حياة ثانية في هذا العالم أمراً ممكن الوقوع، ولمّا كان حديثنا مع المسلمين الذين يعتبرون الإيمان بالمعاد من أصول شريعتهم فلابد لهؤلاء إذن من الاعتراف بإمكانية الرّجعة.

و(المعاد) في نظر المسلم يعني: المعاد الجسماني العنصري الذي يعني عودة الروح إلى هذا الجسد المادي للإنسان. فإن لم يكن هناك إشكال أو مانع يمنع من وقوع مثل هذه العودة في تلك الفترة الزمنية، فمن الطبيعي عدم اقترانها بأيّ إشكال قبل حلول يوم القيامة وذلك لأنّ المستحيل من الأمور لا يمكن حدوثه في أي زمن من الأزمان.

ولكي نتحدث بتفصيل أكثر نقول: إنّ الإنسان لا يتكوّن من عدة عناصر مادية فقط، بل إنّ حقيقة وجوده تتكون من جوهر مجرد يسمى (الروح)، حيث تتعلق حياته بوجود هذه الروح وهي التي تبقى حية بعد موت الإنسان ثمّ تعود إلى الجسد في يوم القيامة، وأنّ وجود هذه الروح وكونها حية من الأمور التي حظيت بقبول كافة الفلاسفة الإلهيين، وأتباع الشرائع السماوية، وهي مما يمكن القبول به وفقا للأدلّة العقلية والاستنتاجات الفطرية، وقد تحدّث القرآن بهذا الشأن أيضاً وبكل صراحة.

وهكذا نرى أنّ البراهين التي تثبت وجود الروح أكثر ممّا يمكن حصره هنا ولكنّنا سنكتفي بطرح دليل وجداني واحد على القارئ العزيز وهو:

إنّ كل فرد من أفراد البشر ينسب أفعاله وأعماله المختلفة إلى نفسه فيقول: قلتُ، سمعتُ، رأيتُ... الخ، فحرف التاء الذي تنتهي به الكلمات يدلّ على حقيقة وجود الإنسان التي نعبر عنها في اللغة العربية بالـ (أنا)، فهل إنّ هذه الـ (أنا) تمثّل جسد الإنسان؟ وهل إنّ الإنسان يفقد أيّ وجود سوى جسده؟ وهل حقيقة الحياة لا تمثّل سوى الآثار المادية للجسد والتفاعلات الفيزيائية والكيمائية للدماغ والمجموعة العصبية؟.

وبعبارة أخرى: ألا تعني الروح والنّفس شيئا سوى الجسد الإنساني والخواص والتفاعلات المادية؟ وهل إنّ ذهاب هذه الخواص وزوال التأثيرات المتبادلة بين أجزاء الجسد يؤديان إلى زوال روح الإنسان وفناء نفسه فلا يبقى من الإنسان إلا كومة من الجلد والعظم والعروق؟

إنّ مؤيّدي هذا الرأي يستجدون أفكارهم من مبادئ (المادية)، التي تنظر

١٤

إلى الإنسان كآلة تتكون من مجموعة من الأدوات المختلفة، وأنّ التأثيرات المتبادلة بين الأجزاء المادية للجسد هي التي تخلق لديه قوّة التفكير والإدراك، وأنّ تناثر هذه الأجزاء يؤدي إلى فناء آثار التفكير والحياة بشكل تام.

وفي مقابل هذا الرأي، هناك رأي آخر برهن عليه كبار فلاسفة العالم - وخاصة الحكماء المسلمين - وبدلائل واضحة، فآمنوا بأصالة وجود جوهر مستقل وأصيل تتعلق به حقيقة وجود الإنسان، وهو مجرّد ومنزّه عن المادة والآثار المادية، واستدلّوا بالأدلّة الفلسفية على وجود هذا الجوهر الذي يعتبر مصدر الحركة والإحساس لدى الحيوان والتفكير والتدبّر لدى الإنسان، ومن بين تلك الأدلّة دليل واضح ذو بعدٍ عمومي، لذا سنبادر الى نقله هنا.

إنّ كل إنسان يَنسب - بشكل عفوي - أعضاء جسده إلى حقيقة أخرى تسمى الـ (أنا) فيقول: يدي، رِجلي، دماغي، قلبي، جسدي، فهذه النسبة العفوية تدلّ على أنّ كل فرد يعتبر نفسه مرتبطاً بحقيقة أخرى تسمى الـ (أنا)، تقع فيما وراء شخصيته الظاهرية والمادية، فينسب جميع أفعاله وأجزائه وحتى جسده اليها(20) .

وحين يتحدث الله عن كيفية خلق الإنسان يذكر نفخ الروح فيه، ثمّ يكرّم هذه الظاهرة غير المادية بنسبتها إلى نفسه فيقول:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ... ثمّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ َ ) (21) .

وعلى أيّة حال، فإنّ وجود الروح المجرّدة - في نظر المسلمين كافّة - أمرٌ مؤكّد لا يقبل الإنكار وغني عن ذكر الأدلّة والبراهين على صحته، وعليه لا يخفى على أحد أنّ الإنسان لا يفنى بحلول أجله، بل إنّ ما يحدث فقط هو انقطاع العلاقة بين جسده وروحه، ورحيل الحياة المادية عن جسده، وأنّ الروح لا تموت أبداً، وليس الموت إلاّ انفصام العُرى بين الروح والجسد انفصاماً يدوم حتى حلول يوم القيامة، ففي ذلك اليوم يحيي الله القادر القاهر جميع مخلوقاته، وحينها تعود الروح إلى الجسد الذي سيحيا من جديد.

وهنا لابدّ أن نقول: نظراً لوجود شبه تام بين الرّجعة والمعاد، حيث أنّ كليهما عبارة عن عودة الإنسان إلى الدنيا - أي: ارتباط الروح بالجسد من جديد - فإنّ هذا يثبت إمكانية حدوث الرّجعة، لان وقوع المعاد من الأمور المسلّمة

____________________

(20) نقلا عن كتاب (أصالة الروح من وجهة نظر القرآن): 24 - 25، ومَن أراد تفصيلاً أكثر فليراجع هذا الكتاب.

(21) السجدة: 7.

١٥

والمعترف بها.

بعد أن توضّحت إمكانية الرّجعة في نظر المسلم، فقد آنَ الأوان لأن نتطرق إلى أدلّة القرآن والحديث في هذا المضمار.

5 - الرّجعة عند الأمم السابقة:

من الأدلّة على إمكانية الرّجعة (أو بالأحرى على حدوثها) وجود الرّجعة عند الأمم السابقة إذ بيّن القرآن ذلك في عدة مواضع، وها نحن نعرض تلك المواضع على القارئ العزيز:

1 - إحياء جماعة من بني إسرائيل:

( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى‏ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُون ) (22) .

في هاتين الآيتين إشارة إلى جماعة من أتباع سيدنا موسى عليه السلام، طلبوا منه رؤية الله فأدّى ذلك إلى نزول العذاب عليهم وموتهم، ولكنّ الله منحهم حياةً جديدة، ويعتقد المفسّرون أنّ هاتين الآيتين نزلتا بشأن سبعين شخصاً من بني إسرائيل اختيروا لميقات الله، فابتُلوا بالعذاب بسبب جهلهم:

( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ... ) (23) .

وهكذا نرى أنّ هذه الآيات تتحدث بوضوح عن موت عدد من الناس وإحيائهم، ولكنّنا سنورد أقوال بعض المفسرين ؛ ليتوضّح الأمر ويتأكد أكثر:

كتبَ البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل): أنّ تقييد كلمة (البعث) بكلمة (الموت) كان ؛ لأنّ الإنسان يُستنهض أحياناً بعد النوم أو الإغماء (ويدعى ذلك بعثاً أيضاً)، ولكنّ هؤلاء كانوا قد فقدوا حياتهم بعد أن أصابتهم صاعقة)(24) .

وكتب الزّمخشري في(الكشّاف): (لقد أصابت هؤلاء صاعقة فاستغرق موتهم يوما وليلة)(25) .

وروى محمّد بن جرير الطبري عن أوائل المفسرين في الإسلام، من أمثال السدّي فقال: (لقد أهلكتهم الصاعقة ثمّ بعثوا فنالوا درجة النبوّة)(26)

____________________

(22) البقرة: 55 - 56.(23) الأعراف: 155.

(24) تفسير أنوار التنزيل: بعد الآية 56/ البقرة.(25) الكشّاف: ج 1/ 27.

(26) جامع البيان: ج1 / 230.

١٦

وقد أكّد جلال الدين السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) و(تفسير الجلالَين) على هذا المعنى فعبّر عن البعث بعد الصاعقة بـ (الإحياء)(27) . ويعتقد ابن كثير أنّ هذه الجماعة ماتت على أثر صاعقة، ثمّ أحياهم الله لكي يواصلوا العيش على هذه الأرض(28) . وقد وافق على هذا الرأي أيضاً الفخر الرازي في تفسيره الكبير(29) . أمّا المفسرون الشيعة من أمثال الشيخ الطوسي مؤلف التبيان والشيخ الطبرسي صاحب مَجمع البيان فهم على هذا الرأي أيضاً، ويمكن القول بصورة عامّة أنّ التتبع في كتب التفسير يدلّنا على أنّ جميع مؤلفي كتب التفسير شأنهم شأن مفسري القرآن الأوائل، أمثال قتادة، وعكرمة، والسدّي، ومجاهد، وابن عبّاس، متفقون على الرأي القائل بأنّ سبعين رجلاً من بني إسرائيل ماتوا اثر صاعقة نزلت عليهم من السماء، ثمّ لَطف الله بهم فأعادهم إلى الدنيا ثانية. ولكنّنا نجد بهذا الشأن أنّ واحداً فقط من الكتّاب الجدد قد أوّل في تفسيره هذه الآية وذكر أموراً خالف فيها جميع الباحثين وأصحاب الرأي فكتب يقول: (أنّ المقصود من البعث في هذه الآية زيادة نسل أولئك الذين ماتوا على اثر الصاعقة إذ كان الناس يظنون أنّ موتهم سيقطع نسلهم أيضاً، ولكنّ الله الأحد مَنّ عليهم وزاد من أبنائهم لكي يشكروا نِعَم الله ولا يكفروا بها كأسلافهم)(30) .

وما هذا الكلام إلاّ تفسير بالرأي، نهى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الجميع عنه، فلو أَعطينا جملة (ثمّ بعثناكم من بعد موتكم) لأي عربي، أو عارف باللغة العربية، فإنّه سيقول: إنّ المقصود بها هو الإحياء بعد الموت، ولا يخطر في ذهن أحد غير هذا المعنى، ولا يقتصر إعطاء هذه الجملة هذا المعنى على هذا الموضع فقط، بل إنّنا نشاهد أيضاً مواضع أخرى في القرآن ذُكرت فيها كلمة (البعث) مع كلمة (الموت) أو بعدها، فهل يفسّر هذا المفسّر المحترم كلّ هذه الآيات ويؤوّلها على هذا النحو؟

وها نحن نأتي بثلاثة موارد من هذه الآيات:

أ - يقول القرآن بشأن من ينكرون يوم القيامة:( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) (31) .

ب - وحول يوم القيامة يقول:( وَالْمَوْتَى‏ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) (32) .

ج - ويروي عن لسان الكافرين فيقول:

____________________

(27) الدر المنثور: ج1 / 70، تفسير الجلالَين: ج1 / 8.(28) تفسير القرآن العظيم: ج1 / 93.

(29) مفاتيح الغيب: ج 3/ 86.(30) تفسير المنار: ج 1 ص 322.

(31) النحل: 38.(32) الأنعام: 36.

١٧

( وَلَئِن قُلْتَ إِنّكُم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِين ) (33) . فهل يبقى مجال لمؤلّف (المنار) لتأويل هذه الآية، مع وجود هذه الآيات وغيرها؟ وهل يمكنه إعطاء سبب لتأويله هذا؟

2. إحياء قتيل بني إسرائيل:

( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى‏ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُون ) (34) . تحكي هذه الآية قصّة رجل قُتل سراً على أيدي أقربائه، ثمّ عمدوا بشكل جبان إلى اتهام شخص آخر بقتله، فأوحى الله إلى موسى بأن يأمر أقرباء القتيل بذبح بقرة ذات صفات معينة(35) ، ثمّ يضربوا بقطعة من جسدها بجثة القتيل ؛ لكي يحيا ويذكر اسم قاتله، ففعلوا ذلك وأُحيي القتيل وذكرَ اسم المجرم الحقيقي، وبعد سرد هذه القصة يقول الله تعالى:( كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ) بمعنى أنّ هذه الحادثة تدلّ على قدرة الله القاهرة على إحياء الموتى، لكي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إنكار هذه الحقيقة المسلّمة. ولا وجود لأي خلاف بين المفسرين حول شرح هاتين الآيتين، بل إنّ خلافاتهم الجزئية تتعلق بكلمة (بعض) فقط، إذ لا يُعرف بالضبط أيّ عضو من أعضاء البقرة وأيّ جزء من جسد المقتول ضُربا ببعضهما. وقد روى السيوطي في (الدر المنثور) والطبري في (جامع البيان) وابن كثير في تفسيره عن السدّي، وابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، وابن سيرين، وابن زيد، أنّ القتيل أُحيي بعد هذا العمل وذكر اسم قاتله ثمّ مات(36) . وكتب الطبري في شرحه جملة( يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ) قائلا: (إنّ هذا الكلام خطاب من الله إلى عباده المؤمنين، واحتجاج على المشركين الذين كذبوا بيوم القيامة، وكأنّ الله يقول: أيّها المكذبون بالبعث بعد الموت خذوا العبرة من إحياء هذا القتيل، فإنّي قادر على إحياء الموتى يوم القيامة كما أحييت هذا الشخص)(37) . ويعتقد الفخر الرازي أنّ هناك عبارة مقدّرة في هاتين الآيتين على هذا النحو( فقلنا اضربوه ببعضها، ففعلوا ذلك فبُعث الميت... ) حيث إنّ الجملة التالية تدلّ على هذه العبارة المقدرة(38) . وقد ذكر هذه النقطة الزمخشري والبيضاوي أيضاً(39) .

____________________

(33) هود: 7.(34) البقرة: 72، 73.

(35) وقد ذُكرت هذه الصفات في الآيات 67 - 72 من سورة البقرة.

(36) الدر المنثور: ج1/ 79، جامع البيان: ج1/ 285، تفسير القرآن العظيم: ج1/ 112.

(37) جامع البيان: ج1/ 285.(38) مفاتيح الغيب: ج3/ 125.

(39) الكشاف: ج1/ 222، تفسير البيضاوي - ما بعد الآيتين المذكورتين.

١٨

ولم يذكر أحد من المفسرين الشيعة إلاّ هذه النقطة، إذ وصفوا جميعا هذه القصة بأنّها من الأمور الخارقة للعادة ، التي تدلّ على القدرة الإلهية التي لا يمكن إنكارها، ولكنّ المفسر (الجليل) الذي أشرنا إليه في بحثنا حول الآية السابقة ينكر هنا أيضاً آراء كبار المفسرين، ويدّعي أنّ هذه الآية القرآنية لا تتحدث أبداً عن إحياء القتيل، وأنّ الذين نقلوا هذه القصة قد أخطأوا في ذلك، ثمّ يقوم بتأويل عجيب للآية لا يخلو ذكره من الفائدة:

(جاء في التوراة(40) أنّه كلما عُثر على قتيل في بلد معين ولم يعرف قاتله، وجب ذبح بقرة لم تستعمل في الحرث، ولم تجر محراثاً، في وادٍ غزير المطر ولم يزرع، ثمّ يجتمع كلّ الشيوخ وشخصيات المدينة القريبة من موضع القتل ويغسلون أيديهم فوق تلك البقرة ويعلن كلٌ منهم براءته من إراقة هذا الدم، ومن امتنع عن هذا الأمر عرف بأنّه القاتل)(41) . ثمّ يضيف قائلا: (إنّ الآيات الواردة في سورة البقرة لا تدل إلاّ على هذا الحكم ، ولا تتحدث أبداً عن إحياء الشخص القتيل.

وحينها يفسر جملة( كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ) فيقول: (إنّ إحياء الموتى يعني في هذه الآية أنّ هذا العمل الذي عُرف به المجرم الحقيقي قد أدّى إلى حقن دم الشخص الذي كان على وشك أن يسفك دمه ويقتص منه بجريمة القتل، إذ أنقذ إنسانٌ من الموت المحتم)(42) .

وما هذا إلاّ تفسير بالرأي، إذ لو كان هذا هو المقصود لبقي جزء من العبارات الخاضعة لبحثنا غير مفهوم، إذ نقرأ في هذه الآية:( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى ) فالضمير المذكّر يعود على القتيل، ويفهم ذلك من كلمة (نفس) التي وردت في مستهل الآية، والضمير المؤنث يتعلق بالبقرة، وهكذا فالعبارة تعني: اضربوا جزءاً من جسد القتيل بجزء من البقرة، فلو كان المقصود من الآية: أن يغسل المتهمون أيديهم بالماء ويعلنوا براءتهم ، فلن يكون لهذه العبارة أيّ معنى معقول، ومن أوضح الأمور أنّه لا ينبغي الابتعاد بالقرآن عن ظاهره الصريح والواضح من أجل أن يتطابق مع التوراة.

وفضلاً عن ذلك فإنّ عبارة( كَذلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى ) التي يقصد منها تشبيه الإحياء في يوم القيامة بالإحياء عن طريق ذبح البقرة، سوف تبقى وفقا لهذا التفسير غير مفهومة تماما، إذ أنّ الإحياء في يوم القيامة إحياءٌ تكويني بينما الإحياء وفق هذا التفسير يعني الحيلولة دون قتل شخص، ولن يكون التشبيه صحيحا مع

____________________

(40) التوراة، سفر التثنية، الفصل (21).

(41) المنار: ج1 / 347.

(42) المنار: ج1 / 351.

١٩

وجود هذا الفارق.

3. موت عدّة آلاف من الناس وبعثهم من جديد:

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوْا ثمّ أَحْيَاهُمْ ) (43)

يقول المفسرون بشأن هذه الآية: إنّ جماعة من بني إسرائيل - بلغ عددهم أربعة آلاف شخص - غادروا مدينتهم خوفاً من الطاعون (أو من جهاد الأعداء)، وتوجهوا صوب بلاد أخرى، ولكنّ الله أمات هؤلاء الفارّين بقدرته، فلم يصلوا مقصدهم، حتى مرّ أحد الأنبياء على أجسادهم الميتة فدعها الله أن يبعثهم من جديد، فاستجاب الله دعاء نبيه ومنحهم حياة جديدة، وقيل إنّ هؤلاء كانوا يسكنون فلسطين،وأنّ موتهم قد استغرق ثمّانية أيام(44) .

وقد كتب ابن كثير - بعد نقله هذه القصة وذكر أقوال مفسري القرآن الأوائل بشأنها -: (أنّ في مبعث هؤلاء الأموات عبرة للناس، وهو دليل واضح على وقوع المعاد الجسماني في يوم القيامة)(45) .

أما مؤلف تفسير (المنار) - الذي يتحدث وفق آراء أستاذه (الشيخ محمّد عبده) - فقد فعل بشأن هذه الآية كما فعل بشأن الآيتين السابقتين، إذ أنكر كل المعجزات، والأمور الخارقة للعادة، وشرح الآية كما يلي: (إنّ هذه الآية تهدف إلى التشبيه ولا شيء غيره، والمقصود أنّ جماعة من ا لناس تعرضوا لهجوم أعداء أقوياء كانوا يهدفون إلى السيطرة عليهم والتحكم بمصيرهم، ولكنّ هؤلاء لم يحافظوا على استقلالهم وتركوا بلادهم خوفا من الموت وهم عدة آلاف، فقال لهم الله موتوا، موتاً بمعنى الذلة والجهل، فالجهل أساسا نوع من أنواع الموت، ومقارعة الظلم والعلم نوع من الحياة، وعليه فقد آل أمر هؤلاء إلى الذلّة والمسكنة، وتسلّط عليهم الأعداء، وظلّوا على هذه الحال حتى أحياهم الله إذ نُفخت فيهم روح التمرد والثورة والدفاع عن الحق فاستعادوا حقوقهم المسلوبة، وعاشوا أحراراً وأعزاء)(46) .

إنّ هذا التفسير - شأنه شأن سائر تفاسير صاحب (المنار) - خاطئ ولا أساس له من الصحة، إذ كان دافعه في هذه التأويلات الخوف من اعتراض الماديين على هذه القصّة القرآنية حيث يتساءلون كيف أماتَ الله جماعة من الناس

____________________

(43) البقرة: 243.

(44) راجع: الدر المنثور: ج1 / 310، تفسير الجلالَين: ج1 / 31، جامع البيان: ج2 / 365، الكشّاف: ج1 / 286، تفسير البيضاوي - ما بعد هذه الآية.

(45) تفسير القرآن العظيم: ج2/ 298.(46) المنار: ج2/ 458 - 459.

٢٠