الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ٢

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 343

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 343
المشاهدات: 202640
تحميل: 6665


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202640 / تحميل: 6665
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من أقوال محقّقي أهل السنّة في إبطال القول بنسخ التلاوة

قال الدكتور صبحي الصالح : ( أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما بزعهم آيات معيّنة ، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا من دون نسخ أحكامها ، والناظر في صنيعهم أضرب إنّما يصلح إذا كان لكل ضربٍ شواهد كثيرة أو كافية على الأقل ليتيسّر استنباط قاعدة منها ، وما لعشّاق النسخ إلاّ شاهد أو اثنان على كل من هذين الضربين ، وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها )(١) .

ــــــــــــــ

(١) مباحث في علوم القرآن ، صبحي الصالح : ٢٦٥ .

١٨١

الفصل الخامس : إبطال دعوى أنّ التقية كذب ولا أصل لها

في النصوص الإسلامية

التقيّة

الشبهة

التقيّة كذب لأجل الضرورة ، فكيف يجعلها الشيعة من أصول الدين ؟

الجواب :

تمهيد

اتفق المسلمون بجميع طوائفهم على أنّ مفهوم التقيّة من المبادئ الإسلامية الأصيلة ، التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية ، وسنّة المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام ، ولكن وقع الخلاف بين علماء المسلمين في التقيّة من جهتين أساسيتين :

الأُولى : سعة دائرة التقيّة من حيث الزمان والمكان والطرف الذي يتقى منه .

الثانية : حكم التقية ، وهل هي رخصة فقط ؟ أو أنّها تصل إلى حدّ الوجوب والإلزام ؟

ولم يقع الخلاف بين المسلمين في حقيقة التقية ومناشئها ، إلاّ بعض الفرق التي رمت المسلمين كلّهم بالنفاق ، عندما وسمت التقية بأنّها شعبة من شعب النفاق ، وأنّها من السكوت عن الحق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس .

وفي الوقت الذي أجمع فيه المسلمون على أن مناشئ التقية هي الحذر والخوف على النفس والعرض والمال ، قال ذلك البعض : ( إنّ مناشئ التقية هي بطلان عقيدة ومذهب صاحب التقية ، وأنّ التقية يتشبّث بها مَن كان باطل العقيدة والمذهب ) .

وجدير بالذكر أنّ الإجماع بين المسلمين قائم على أنّ التقية من الفروع الفقهية ، وإنّما وقع الخلاف في الحكم ، وأنّها رخصة فقط أو أنّها تبلغ درجة الوجوب ، وبعبارة أخرى : ما هي منزلة التقية في الإسلام ؟ ولكن مع ذلك نجد أنّ البعض يتهم الشيعة الإمامية الاثني عشرية بأنّهم يجعلون التقية من أساس الدين وأُصوله ، على حدّ التوحيد والنبوّة ، وفسّروا التراث الشيعي في التقية بما يروق لهم

وبناءً على ما ذكرناه لا بد من الإجابة على الأسئلة التالية :

١٨٢

١ـ ما هي حقيقة التقية ؟ وما هي مناشئها ؟

٢ـ هل التقية من أصول الدين أم فروعه ؟ وما هي منزلتها في الإسلام ؟

٣ـ ما هو حكم التقية في الإسلام ؟

٤ـ إلى كم تتسع دائرة التقية من حيث الزمان والمكان ؟ ومَن هو الطرف الذي يُتّقى منه ؟

هوية التقية

التقية في كلمات أهل اللغة

قال ابن منظور في اللسان : ( تقى يتقي بمعنى استقبل الشيء وتوقّاه ، وفي الحديث : كنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي : جعلناه وقاية لنا من العدو قدامنا واستقبلنا العدو به وقمنا خلفه وفي الحديث : قلت : وهل للسيف من تقية ؟ قال : نعم ، تقية على أقذاء وهدنة على دخن ، التقية والتقاة بمعنى ، يريد أنّهم يتقون بعضهم بعضاً ويظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك. ورجل وقي تقي بمعنى واحد .

وفي الحديث : إنّما الإمام جنّة يتقى به ويقاتل من ورائه ، أي أنّه يدفع به العدو ويتقى بقوّته ، والتاء فيها مبدلة من الواو ، لأنّ أصلها من الوقاية وقد توقّيت واتقيت الشيء وتقيته أتقيه تقىً وتقية وتقاء : حذرته )(١) والذي يتضح من هذه العبارات أنّ الوقاية مأخوذة في تعريف وحقيقة التقية ، بل الذي يتضح منها أيضاً أنّ أصل التقية من الوقاية ، ووقي وتقي بمعنى واحد .

والوقاية كما في كلمات اللغويين هي :

( حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه ، يقال : وقيت الشيء أقيه وقاية ووقاء )(٢) .

( وقيت الشيء أقيه إذا صنته وسترته عن الأذى ووقاه : صانه ، ووقاه ما يكره ووقّاه : حماه منه والوَقاء والوِقاء والوَقاية والوُقاية الوِقاية والواقية : كل ما وقيت به شيئاً )(٣) .

ــــــــــــــ

(١) لسان العرب ، ابن منظور : ج ١٥ ص٤٠٢ ـ ٤٠٤ .

(٢) مفردات غريب القرآن ، الراغب الأصفهاني : ص٥٣٠ .

(٣) لسان العرب : ج ١٥ ص ٤٠١ – ٤٠٢ .

١٨٣

 ( والشيء وقياً ووقاية وواقية : صانه عن الأذى وحماه وقّاه توقية : حفظه وصانه والشيء توقّاه : حذره وتجنبه التقاة : الخشية والخوف التقية : الخشية والخوف ، والتقيّة ( عند بعض الفرق الإسلامية ) : إخفاء الحق ومصانعة الناس في غير دولتهم تحرزاً من التلف )(١) .

والمتحصل من كلمات اللغويين : إنّ التقية الحذر في حفظ الشيء وصيانته وستره وحمايته ممّا يؤذيه ويضره ، فنجد أنّ المعنى اللغوي للتقية يتضمن ستر الشيء وإخفاءه بإظهار عدمه للطرف المقابل ؛ خوفاً وحذراً من أجل صيانته ممّا يؤذيه ويضرّه ، وهذا المعنى اللغوي للتقية يقرب جدّاً ، من المعنى الاصطلاحي لها ، بل يلتقي معه ، كما تقدم أنّ المراد من ( تقية على أقذاء ) أنّهم يتقون بعضهم بعضاً ويظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك .

المعنى الاصطلاحي للتقيّة

ذكرنا آنفاً أنّ المعنى اللغوي يلتقي مع المعنى الاصطلاحي ولا اصطلاح جديد ومخترع للتقية في الفقه ، ويشهد على ذلك كلمات العلماء من الفريقين في تعريف التقية :

التقيّة في كلمات علماء الشيعة

١ـ ما ذكره الشيخ المفيدرحمه‌الله ، حيث قال : ( التقيّة : كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ، ومكاتمة المخالفين ، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا ، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة ، أو قوي في الظن ، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحق ، ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية ، وقد أمر الصادقونعليهم‌السلام جماعة من أشياعهم بالكفّ والإمساك عن إظهار الحق والمباطنة والستر له عن أعداء الدين والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم

ــــــــــــــ

(١) المعجم الوسيط : ج٢ ص ١٠٥٢ .

١٨٤

في خلافهم ، وكان ذلك هو الأصلح لهم ، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ، ودعائهم إلى الحق ؛ لعلمهم بأنّه لا ضرر عليهم في ذلك ، فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه ويسقط فرضها في مواضع أخرى على ما قدمناه )(١) .

وقال أيضاً في أوائل المقالات : ( إنّها جائزة في الأقوال كلّها ، عند الضرورة وربّما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ، وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يعلم أو يغلب إنّه استفساد في الدين )(٢) .

٢ـ قال الشيخ علي بن الحسين الكركي : ( اعلم أنّ التقية جائزة وربّما وجبت ، والمراد بها : إظهار موافقة أهل الخلاف فيما يدينون به خوفاً )(٣) .

٣ـ قال الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي : ( التقيّة : مجاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون ، حذراً من غوائلهم )(٤) .

٤ـ وقال العلاّمة الشهرستاني : ( التقيّة : إخفاء أمر ديني لخوف الضرر من إظهاره )(٥) .

والذي يتحصّل من هذه التعاريف محوران أساسيان :

الأوّل : إنّ التقية إخفاء الحق وإظهار ما هو خلافه ، ولا شك أنّ التقية تمتاز بذلك عن النفاق الذي هو : إبطان الكفر وإظهار الإسلام والإيمان .

الثاني : إنّ سبب التقية هو خوف الضرر المحتمل من الغير .

ــــــــــــــ

(١) اعتقاد الإمامية ، الشيخ المفيد : ص ١٣٧ .

(٢) أوائل المقالات : ص ١١٨ .

(٣) رسائل الكركي : ج٢ ص٥١ .

(٤) القواعد والفوائد ، الشهيد الأوّل : ج٢ ص ١٥٥ .

(٥) أوائل المقالات ، الشيخ المفيد : ص ٢١٥ .

١٨٥

التقية في كلمات أعلام أهل السنّة

١ـ عن الضحاك ، قال : ( التقيّة باللسان من حمل على أمر يتكلّم به وهو لله معصية ، فتكلّم مخافة على نفسه ، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ، إنّما التقيّة باللسان )(١) .

٢ـ قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : ( ومعنى التقيّة الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير )(٢) .

٣ـ وعرّف السرخسي التقية في المبسوط بقوله : ( والتقيّة أنّ يقي نفسه من العقوبة بما ظهره وإن كان يضمر خلافه )(٣) .

٤ـ وقال الفخر الرازي في تفسيره : ( إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان ؛ وذلك بأنّ لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبّة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ـ إلى أن قال : ـ ظاهر الآية يدل أنّ التقية ، إنّما تحل مع الكفّار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس )(٤) .

ــــــــــــــ

(١) جامع البيان ، الطبري : ج٣ ص ٣١٠ .

(٢) فتح الباري ، ابن حجر : ج ١٢ ص ٢٧٩ .

(٣) المبسوط ، السرخسي : ج ٢٤ ص ٤٥ .

(٤) تفسير الفخر الرازي : ج٨ ص ١٥ـ١٤ .

١٨٦

٥ـ عرّف الحداد في تفسيره التقيّة : ( أن يخاف التلف على نفسه أو على عضو من أن لم يفعل ما أمر به )(١) .

٦ـ وقال الآلوسي في تفسيره تحت ذيل آية التقية الآتية لاحقاً : ( وفي الآية دليل على مشروعية التقية ، وعرّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء ، والعدو قسمان :

الأوّل : مَن كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم .

والثاني : مَن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والإمارة )(٢) .

٧ـ وقال المراغي في تفسيره : (( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) أي : إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذٍ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ؛ إذ القاعدة الشرعية ( أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح ) وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، وإذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأُولى ، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت .

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية ، بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقّي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو

ــــــــــــــ

(١) تفسير الحداد : ج٤ ص ١٥٩ .

(٢) روح المعاني : ج٣ ص١٢١ .

١٨٧

المال ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، وإلانة الكلام لهم والتبسّم في وجوههم وبذل المال لهم ؛ لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ؛ فقد أخرج الطبراني قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة ) ، وعن عائشة قالت : استأذن رجل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا عنده ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ) ثم أذن له ، فألان له القول ، فلمّا خرج ، قلت : يا رسول الله ، قلت ما قلت ثم ألنت له القول ؟ فقال :( يا عائشة ، إنّ من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه ) رواه البخاري ، وروى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّا لنكشّر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم ) )(١) .

٨ـ وعرّف التقيّة السيد محمد رشيد رضا في تفسيره بقوله : ( ما يقال أو يفعل مخالفاً للحق لأجل توقّي الضرر )(٢) .

هذه نبذة مختصرة عن تعريف التقية عند أهل السنّة ، والملاحظ في هذه التعاريف أنّها لا تبتعد كثيراً عن المعنى اللغوي والاصطلاحي عند علماء الشيعة ، فقد احتوت تعاريفهم على الكتمان ، بل في بعضها كتمان الحق من أجل الخوف والحذر وتوقّي الضرر ، وإنّما لم يذكر في بعض تعاريفهم كتمان الحق ، بل جعلوه مطلق الكتمان ؛ لأنّ كلامهم كان في مطلق التقيّة ، وإلاّ فإنّ التقيّة في الدين مجمع على أنّ الكتمان فيها كتمان للحق حذراً وخوفاً وتوقّياً من الضرر .

ــــــــــــــ

(١) تفسير المراغي : ج١ ص ٤٨٦ ـ ٤٨٧ .

(٢) تفسير المنار : ج٣ ص ٢٨٠ .

١٨٨

النتيجة

إنّ ماهية التقية في الدين وحقيقتها متفق عليها بين المسلمين ، وهي كتمان الحق توقّياً للضرر من الغير .

ولم يصف التقية بالنفاق أحد من المسلمين إلاّ بعض المتعصّبين ؛ لأجل الطعن على الشيعة ، الذين احتاجوا واضطروا إلى التقية أكثر من غيرهم ؛ لما تعرضوا له من الجور والاضطهاد والقتل والتشريد .

العلاقة بين مفهوم التقية والإكراه

بناءً على ما تقدّم من تعريف التقية يتضح توافق مفهومها مع مفهوم الإكراه ؛ وذلك لأنّه تبيّن أنّ التقية هي كتمان الحق وإظهار خلافه لخوف الضرر من الغير ، ولا شك أنّ الإكراه وإتيان المكرَه بما يُجبره عليه المكرِه إنّما هو لأجل خوف الضرر من الغير أيضاً ، إذ أنّه يأتي بما لا يُحب خوفاً من توعّد الغير له ، قال في اللسان : ( الكره : ما أكرهك غيرك عليه وأكرهته : حملته على أمر هو له كاره )(١) .

وعرّف التفتازاني الإكراه بأنّه : ( حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ، ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه )(٢) .

ولذا نجد أنّ الفقهاء والمفسّرين والمحدّثين وحّدوا في بعض الأمثلة بين موارد الإكراه وموارد التقية ، فقد اعتبر المفسّرون آية الإكراه التي نزلت في عمار بن ياسر ، وهي قوله تعالى :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

ــــــــــــــ

(١) لسان العرب ، ابن منظور : ج ١٢ ص ٥٣٤ – ٥٣٥ .

(٢) التلويح : ج٢ ص١٩٦ .

١٨٩

بِالإِيمَانِ ) (١) من التقية ولم يفرقوا بين المقامين في الموارد .

موارد الإكراه وموارد التقيّة

١ـ قال صاحب زاد المسير في تفسير آية الإكراه المتقدّمة : ( الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها وإذ ثبت جواز التقية فالأفضل ألاّ يفعل ، نصّ عليه أحمد في أسير خيّر بين القتل وشرب الخمر ، فقال : إن صبر على القتل فله الشرف ، وإن لم يصبر ، فله الرخصة ، فظاهر هذا الجواز ، وروى عنه الأثرم أنّه سئل عن التقية في شرب الخمر ، فقال : إنّما التقية في القول فأمّا إذا أكره على الزنا لم يجز له الفعل ، ولم يصح إكراهه ، نصّ عليه أحمد ، فإن أُكره على الطلاق ، لم يقع طلاقه ، نصّ عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يقع )(٢) .

فبغض النظر عن الحكم الذي يذكره للتقية والإكراه ، كلامه صريح في عدم الفرق بين مورد الإكراه والتقية .

٢ـ فهم القرطبي في تفسيره أنّ آيتي الإكراه والتقية من باب واحد حيث قال : ( أجمع أهل العلم على أنّ مَن أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي ، غير محمد بن الحسن ، فإنّه قال : إذا أظهر الشرك كان مرتدّاً في الظاهر وفيما بينه وبين الله تعالى وهذا قول يردّه الكتاب والسنّة ، قال تعالى :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِه ) وقال :

ــــــــــــــ

(١) النحل : ١٠٦ .

(٢) زاد المسير ، ابن الجوزي : ج٤ ص٣٦٢ ـ ٣٦٣ .

١٩٠

  ( إلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) )(١) .

٣ـ وقال الخازن الشافعي في تفسيره : ( التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال تعالى :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ثم هذه التقية رخصة )(٢) .

٤ـ وقال المراغي في تفسيره : ( فمَن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافراً ، بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مليء بالإيمان ، وفيه نزلت الآية :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) )(٣) ، وقد ذكر المراغي هذا الكلام تحت ذيل آية التقية :( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) .

وأمّا المحدّثون فقد عقدوا باباً خاصاً للإكراه ، وأدرجوا فيه آيتي الإكراه والتقية ، وجمعوا فيه موارد الإكراه وموارد التقية ولم يفرقوا بينها ، ففي البخاري قال : ( كتاب الإكراه : قول الله تعالى :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وقال :( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) وهي تقية )(٤) ، وكذا ما في السنن الكبرى للبيهقي(٥) .

وأمّا بالنسبة إلى الفقهاء فكلماتهم في الدمج بين بابي الإكراه والتقية ، وعدم التفريق بين أمثلتها كثيرة جدّاً نقتصر على قولَي مالك والسرخسي :

ــــــــــــــ

(١) تفسير القرطبي : ج١٠ ص ١٨٢ .

(٢) تفسير الخازن : ج١ ص ٧٧ .

(٣) تفسير المراغي : ج١ ص ٤٨٦ .

(٤) صحيح البخاري : ج١٠ ص٥٥ ، كتاب الإكراه .

(٥) السنن الكبرى : ج٨ ص ٢٠٨ .

١٩١

١ـ قال مالك في المدونة الكبرى : ( وإن قامت بيّنة على أنّه أكره فلا نرى أن يفرّق بينه وبين امرأته ، ولا نرى إن حدث به حدث وهو بتلك المنزلة إلاّ أن يورث وراثة الإسلام ، فإنّ الله تبارك وتعالى قال :( إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) .

وقال عزّ وجل :( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) )(١) ، وكلامه هذا صريح في التوحيد بين البابين .

٢ـ قال السرخسي في المبسوط : ( وعن الحسن البصري : التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة ، إلاّ أنّه لا يجعل في القتل تقية ، وبه نأخذ ، والتقيّة أن يقي نفسه من العقوبة بما ظهره وإن كان يضمر خلافه ، وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنّه من النفاق ، والصحيح أنّ ذلك جائز ؛ لقوله تعالى :( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية )(٢) .

هذا على مستوى البحث السنّي وأمّا على المستوى الشيعي فالأمر واضح .

ومن جميع ما تقدّم يتضح توافق الإكراه والتقية في الموارد ، فالتقية موردها الإكراه وخوف الضرر من الغير ، والفعل الذي يأتي به الشخص مكرهاً يسمّى تقيّة ، وإن كانت التقية أوسع مورداً من الإكراه كما سيتضح لاحقاً .

وعليه فكل ما جاء في الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين جائز بعنوان الإكراه يصلح دليلاً لإثبات التقية وتحديد حكمها سعةً وضيقاً .

ــــــــــــــ

(١) المدونة الكبرى ، مالك : ج٢ ص ٣١٦ .

(٢) المبسوط ، السرخسي : ج٢٤ ص ٤٥ .

١٩٢

أسباب ومناشئ التقيّة

اتضح ممّا سبق حقيقة التقية ومناشئها وأسبابها ، ولكنّ التركيز على المناشئ والأسباب هنا للإجابة على الشبهة القائلة : إنّ التقية نفاق ، أو أنّها سكوت عن الحق وسرعان ما تزول هذه الشبهة إذا عرفنا ما هو النفاق بعد أن عرفنا حقيقة وماهية التقية .

حقيقة النفاق

ما ذكره اللغويون

قال ابن منصور في اللسان : ( والنفاق : الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر ، مشتق من نافقاء اليربوع إسلامية ، وقد نافق منافقة ونفاقاً ، وقد تكرّر في الحديث ذكر النفاق وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به ، وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه ، وإن كان أصله في اللغة معروفاً )(١) .

وفي كتاب العين للفراهيدي : ( كفر النفاق : يؤمن بلسانه والقلب كافر )(٢) .

وفي غريب الحديث لابن قتيبة عرف المنافق بأنّه : ( الذي يدخل في الإسلام بلفظه ويخرج منه بعقده ، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج

ــــــــــــــ

(١) لسان العرب ، ابن منظور : ج١٠ ص ٣٥٩ .

(٢) كتاب العين ، الفراهيدي : ج٥ ص ٣٥٦ .

١٩٣

من باب )(١) .

وفي المصباح المنير للفيّومي : ( النفاق اصطلاحاً : إذا أظهر الإسلام لأهله وأضمر غير الإسلام )(٢) .

هذا بالنسبة إلى اللغويين .

ما ذكره الفقهاء

قال النووي في المجموع : ( المنافق : الذي يظهر الإيمان ويستر الكفر )(٣) .

وقال الصنعاني في كتابه الفقهي ( سبل السلام ) : ( والمنافق مَن يظهر الإيمان ويبطن الكفر )(٤) .

ما ذكره المفسّرون

قال الجصاص في ( أحكام القرآن ) : ( والنفاق اسم شرعي جعل سمة لمَن يظهر الإيمان ويسر الكفر )(٥) .

وقال القرطبي في تفسيره : ( قول المؤمن : سمعت وأطعت لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله ، فإذا قصّر في الأوامر فلم يأتها واعتمد النواهي فاقتحمها ، فأي سمع عنده وأي طاعة ! وإنّما يكون حينئذٍ بمنزلة المنافق الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر )(٦) .

ــــــــــــــ

(١) غريب الحديث : ج١ ص ٥٩ .

(٢) المصباح المنير : ج٢ ص٦١٨ .

(٣) المجموع ، النووي : ج ١٩ ص ٣٤١ .

(٤) سبل السلام ، الصنعاني : ج٤ ص ١٨٧ .

(٥) أحكام القرآن ، الجصاص : ج١ ص ٢٩ .

(٦) تفسير القرطبي : ج٧ ص ٣٨٨ .

١٩٤

ما ذكره المحدّثون

قال المناوي في فيض القدير : ( المنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، والمنافق أصله مَن يظهر ما يبطن خلافه ، لكنّه غلب على مَن يظهر الإسلام ويبطن الكفر )(١) .

وقال في موضع آخر : ( المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر )(٢) .

وجاء في الحديث عن الإمام عليعليه‌السلام :( وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس ، رجل منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام ) (٣) .

والأمر واضح لا يحتاج مزيد شواهد ، فالنفاق : ( إخفاء الكفر وإظهار الإيمان ) .

ومن ذلك يظهر التعاكس التام بين التقية والنفاق ؛ وذلك لأنّ التقية في الدين ـ كما اتضح سابقاً ـ هي : كتمان الحق وإظهار خلافه توقّياً من ضرر الغير ، أما النفاق فقد تبين آنفاً أنّه : إخفاء الكفر وإظهار الإيمان ، وهذه الماهية للنفاق ماهية اصطلاحية شرعية حدّد الشارع بها مفهوم النفاق وفرق بذلك بينها وبين التقية ، ومن هنا لا يكون النفاق في مورد الإكراه ؛ إذ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فليس هو إلاّ مرض في النفس من أجل إضعاف شوكة المسلمين .

نعم ، قد يكون في مورد النفاق خوف الضرر على نفسه من القتل إذا أعلن كفره ـ مع كونه محارباً ومبغضاً للإسلام وأهله ـ إلاّ أنّه على الباطل لا على الحق ، كما هو الحال في التقية ، فصاحب التقية مؤمن بالله وكتبه ورسله لكنّه يرى صلاح دينه ودنياه بإظهار خلاف الحق في بعض الظروف الحرجة ، والمنافق كافر بالله وكتبه ورسله يظهر كلمة الإسلام من أجل التربّص بالدين وأهله أمّا كون التقية سكوتاً عن الحق فلا ضير فيه إذا جوّزه الشارع في موارد خوف ضرر الغير

والحاصل : إنّ منشأ النفاق مرض في النفس وجحود وكفر مع إظهار كلمة الإسلام ، ومنشأ التقية إكراه مع حذر وخوف من الغير يوجب كتمان الحق وإظهار ما يريده الغير منه .

وبهذا الفارق أصبح النفاق شريك الكفر ، والتقية من دين المؤمن ، كما سيتضح في حكم التقية .

أسباب ومناشئ موهومة

بمنطق التكفير والتشويه وكيل التهم يحاول البعض تغيير صفحات التاريخ ، وإلقاء ستار أبيض شفّاف على صفحاته السوداء .

ــــــــــــــ

(١) فيض القدير ، المناوي : ج١ ص ٨١ .

(٢) فيض القدير ، المناوي : ج٢ ص ٤٨٨ .

(٣) المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٣٠٢ .

١٩٥

ففي الوقت الذي يُذعن كافّة المؤرّخين والكتّاب الإسلاميين بأنّ طائفة العلويين والشيعة عموماً واجهوا أشدّ المحن والابتلاءات ، وأقسى ألوان القتل والمطاردة والتشريد من قِبل سلطات بني أمية وبني العباس وعلماء الحكومة وفقهاء السلطة ووعّاظ السلاطين وغيرهم .

وكانت هذه الظروف هي التي أدّت بهم وبوضوح للجنوح إلى مبدأ التقية والكتمان والتخفّي ؛ للمحافظة على النفوس والأعراض والأموال وللثبات على الدين .

وفي خضمّ هذه الأسباب والمناشئ نجد أنّ مَن لا يروقه بقاء التشيّع صامداً نابضاً بالحياة والحيوية يُنكر تلك الأسباب والمناشئ الواضحة ، والتي ينادي بها التاريخ ، تصدح بها أقلام المؤرّخين ، ويحاول خلق أسباب موهومة وواهية تكشف عمّا يحمله كاتبها من حقد وحنق على الشيعة الإمامية الاثني عشرية ونحاول الإشارة إلى بعض تلك الأسباب والمناشئ المفتعلة مع بعض الإجابات المختصرة :

١ـ تعارض وتكاذب الروايات والفتاوى في المذهب الشيعي أدّى إلى اتخاذ التقية شعاراً ودثاراً

الجواب

أوّلاً : إنّ تنافي الروايات وتعارضها واختلاف الفتاوى وتكاذبها لا تكاد تجد طائفة من الطوائف الإسلامية تخلو منه أو تتنـزّه عنه ، خصوصاً الطائفة السنّيّة .

فلو كانت تلك المذكورات سبباً للتقية لكانت الطائفة السنّية أحوج إلى التقية من غيرهم ، وهذا أمر واضح لمَن طالع كتب الحديث والأصول والفقه ، حيث عمدت تلك الكتب جاهدة إلى التوفيق بين التراث المتضارب من الروايات ومَن يراجع الكتب الفقهية يجد المهاترات الكلامية الغفيرة بين الفقهاء ولا نريد الإطالة في هذا الجواب ؛ لأنّنا نرى أنّ ذلك أمر طبيعي يقتضيه الابتعاد عن منبع العصمة وكثرة الكذّابة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى نقل أبو حنيفة أنّه ما صحّ عنده من الأحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بعدد الأصابع من الروايات ، ولذا نحن نترفّع عن اتهام المسلمين من هذه الناحية .

ثانياً : إنّ اتخاذ مبدأ التقية شعاراً في منهج أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أمر طبيعي جدّاً ، بملاحظة الظروف القاسية التي مرّوا بها من الاعتقالات والسجون والقتل والإقامات الجبرية التي مارستها معهم السلطات الأموية والعباسية ، ذلك كلّه مع مشروعية التقية ، بل بلوغها درجة الوجوب والضرورة

١٩٦

في بعض الأحيان ، وسبق وأن نقلنا تسلّح بعض الصحابة والتابعين وأعلام السنّة بذلك المبدأ الإسلامي الأصيل ، سواء على مستوى السيرة العملية أم الرواية والفتوى ، وتقدّم أيضاً تقية الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفظاً لبعض المصالح الإسلامية وإبقاءً على الرسالة الإسلامية الفتية في بداية أمرها .

٢ـ استخدام التقية من أجل تمهيد الأرض الخصبة للوضع والدس في الروايات

الجواب

أوّلاً : لا أتصوّر أنّ اتهام طائفة بأجمعها بما توفّرت عليه من علماء وأتباع شهدت لهم جميع الطوائف الإسلامية بالورع والتقوى من الأمور المنطقية .

ثانياً : هناك مناهج دقيقة لدى الطائفة الشيعية في الجرح والتعديل تحدّد الرواية الصحيحة من غيرها ، ولو كان منهج الشيعة هو الوضع والدسّ والتزوير لما احتاجوا إلى وضع المناهج والدراسات المعمّقة في دراسة أحوال الرجال والرواية ، مع أنّنا نجدهم يبذلون قصارى جهدهم في تصحيح إسناد الروايات وملاحظة رواتها التي لا يخلو من بعضها الوضع والدس .

ثالثاً : الوضع والدس والتحريف لا يفتقر إلى التقية ، بل يمكن أن يمتهنه كلّ مَن لا يؤمن بالله ورسوله ؛ ولذا نجد أنّ كتب أحاديث السنّة مليئة بالوضع والدس والتحريف ، ومن هنا احتاجوا إلى وضع مناهج مفصّلة من الجرح والتعديل .

رابعاً : لو كان كلّ مَن يتخذ التقية شعاراً متهماً بالوضع والدسّ لتوجّه الاتهام إلى كثير من علماء السنّة الذين تسلّحوا بسلاح التقية عندما مرّوا بظروف حرجة مع السلطات الحاكمة ، كما في محنة خلق القرآن وفتنة الأسود العنسي ، وقد سبق اتهام الذهبي لبعض علماء السنّة بهذه التهمة .

خامساً : إنّ علماء السنّة المنصفين عندما طالعوا التراث الشيعي والفتاوى الشيعية أقرّوا بأنّها على مذهب أهل البيتعليهم‌السلام لم تزل ولم تنحرف عن مناهجم .

وهذا ما اعترف به الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر في مراسلته للسيد شرف الدين ، حيث قال : ( أشهد أنّكم في الفروع والأصول على ما كان علية الأئمّة من آل الرسول فالشك فيه خبال ، والتشكيك تضليل ، وقد استشففتة فراقني إلى الغاية )(١) .

ــــــــــــــ

(١) كتاب المراجعات : ص٤٢٣ المراجعة ١١١ .

١٩٧

٣ـ طرح كل ما جاء عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام موافق لما عليه إجماع المسلمين بذريعة التقية.

الجواب

أولاً : هناك الكثير من الأصول الاعتقادية والفروع الفقهية يلتقي بها مذهب أهل البيتعليهم‌السلام مع بقية المذاهب الإسلامية ، والاختلاف في بعض المسائل الاعتقادية والفقهية أمر طبيعي ، وضمن الدائرة المقبولة في كونه مذهباً مغايراً للمذاهب الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ الطوائف السنية تختلف فيما بينها في الأمور العقائدية والفقهية بما لا يقل عن اختلاف المذهب الشيعي عن المذاهب الأخرى ، ولا داعي لتفسير هذا الاختلاف بالتقية .

ثانياً : أين هو إجماع المسلمين الذي يطالب الشيعة بالدخول فيه ؟ فإنّ الاختلاف في الرأي والاجتهاد لم يُخلّف لنا إجماعاً في كثير من مسائل الفقه والعقيدة ، وأمّا أصول العقائد الكلّية وأُمّهات الفقه فإنّ الشيعة يلتقون فيها مع جملة من الطوائف السنّيّة المنصفة .

ثالثاً : لقد مرّ التشيع والطائفة الشيعية وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمحاربة كاسحة وعلى كافة النواحي ، وكانت السلطات الحاكمة تتعمّد في إيجاد علماء حكوميين يخالفون أئمّة أهل البيت في المعتقد والفتوى ، ويجعلون ذلك خطاً عاماً للدولة لا يمكن تجاوزه أو الإفتاء على خلافه ، ومن هنا كان صدور بعض الفتاوى من أئمّة أهل البيت على وفق المنهج الحكومي عملاً بمبدأ التقية ليس بالأمر المستبعد ، بل هو حقيقة تاريخية سار على نهجها أئمّة الدين والأنبياء والرسل كما تقدّم .

٤ـ تمزيق وحدة المسلمين والانزواء بالطائفة الشيعية عن سائر المسلمين تحت ظل شعار التقية.

الجواب

أولاً : لم يكن الاختلاف في الرأي والفكرة والعقيدة باعثاً في يوم من الأيام إلى التشتّت والتمزيق والفرقة ، بل على العكس من ذلك ، حيث يوجب ثراء الفكر الإسلامي وتطوير وتعميق العقيدة الإسلامية ، وأمّا التشرذم والتفرّق والاختلاف فهو ناتج من الحكومات الظالمة والسلطات الجائرة ، التي حكمت رقاب المسلمين وسخّرت علماء ووظفتهم في السلك الحكومي ؛ من أجل إيجاد التفرقة ومطاردة من يخالف الحكومة والسلطة في رأيها وعقيدتها .

١٩٨

ثانياً : إنّ الشيعة كانوا ولا زلوا من دعاة الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية ، والتاريخ شاهد لهم على ذلك في كثير من المحن التي مرّت بها الأمة الإسلامية في قِبال الأعداء من الصليبيين والمستعمرين وغيرهم ، وعقائدهم وفقههم ومواقفهم واضحة لا انزواء فيها ولا مكر ولا خداع .

ثالثاً : إنّ تهمة تمزيق وحدة المسلمين وتفريق صفوفهم إنّما تكون أليق بالطائفة التكفيرية المعروفة ، التي ما فتئت تعمل على تكفير المسلمين وتفريقهم وانتهاك حرماتهم في شتـّى البلاد الإسلامية وباسم الدين .

٥ـ تبرير العلاقات الحميمة التي كانت لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام مع الصحابة والتابعين وغيرهم من عموم المسلمين .

الجواب

أولاً : إنّ ذكر هذا السبب في بحث التقية من خلط الأوراق بينها وبين أبحاث أخرى مفصّلة ، فإنّ تاريخ ما بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأحداث التي وقعت في ذلك الحين والسلطات التي تتابعت بعد ذلك وعلماء السوء الذي ابتلت بهم الأمة الإسلامية ، وكثير من هذه الأبحاث تمّ التعرّض أو الإشارة إليها في مبحث الإمامة ، ولا داعي لتكرارها في مباحث التقية .

ثانياً : لا شك أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم علماء الأمة الإسلامية في ذلك الحين ، وكانوا على علاقات حميمة مع الرعية من المسلمين والعلماء الذين كانوا لهم طلبة ودارسين في جوامع بحوثهم الدينية ، فكان الكثير من علماء المسلمين طلاّباً عند الإمام الباقر والإمام الصادق .

ثالثاً : إنّ علاقات التعايش والمداراة وحفظ الخط الإسلامي العام كان يمارسه بعض الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين مع السلطات والآراء الحاكمة آنذاك ، كما سبق ذكر ذلك عن أبي هريرة وحُذيفة بن اليمان مع عثمان وعبد الله بن عمر مع الحجاج ، وسعيد بن جُبير مع جلسائه من المسلمين ، ورجاء بن حيوة مع الوليد بن عبد الملك ، وواصل بن عطاء مع الخوارج ، وأبي حنيفة مع ابن أبي ليلى القاضي في مسألة خلق القرآن وغيرها من الشواهد المتقدّمة ، التي تنص على تعاطي مبدأ التقية مع المسلمين من أجل الملاطفة والمداراة وحسن المعاشرة ، وهذا واقع لا يمكن إنكاره أو اتهام الشيعة به خاصّة .

١٩٩

ما هو حكم التقية في الإسلام ؟

اتفق المسلمون بجميع طوائفهم على جواز ومشروعية التقية ، وقد دلّ على مشروعيتها القرآن الكريم والسنّة النبوية وسيرة الأصحاب والتابعين وعموم سيرة المسلمين وأقوال العلماء :

جواز ومشروعية التقية في القرآن الكريم : ١ـ قوله تعالى :( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (١) .

فقد شدّد الله تعالى في قرآنه الكريم في موارد كثيرة جدّاً على عدم تولّي الكافرين ، وأنّه على حدّ الكفر والشرك بالله تعالى ؛ ولذا قال عزّ وجل في ذيل هذه الآية الكريمة :( وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) ولكن مع ذلك يستثني الله تبارك وتعالى من ذلك الأمر الخطير والعظيم حالات التقية والخوف ، فللمؤمنين حينئذٍ أن يوالوا الكافرين بالمقدار الذي يندفع به خوف الضرر .

وقد تقدّم كلام المراغي في هذا المقام ، حيث قال : (( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) أي : إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال ، إلاّ في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذٍ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ؛ إذ القاعدة الشرعية ( أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب

ــــــــــــــ

(١) آل عمران : ٢٨ .

٢٠٠