أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين0%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف: السيد محمد الصدر
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 100643
تحميل: 12679

توضيحات:

أضواء على ثورة الحسين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 100643 / تحميل: 12679
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

ومن المعلوم أنّ السيطرة على الكوفة تحتاج إلى قتال، وهو ممّا لم يأذن به الحسينعليه‌السلام .

فإنّ نصّ جواب الحسينعليه‌السلام يقول:(أمّا بعد، فقد فهمتُ كلّ الذي اقتصَصتم وذَكرتم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ، وأنا باعثٌ لكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرتهُ أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتبَ إليّ أنّه قد اجتمعَ رأي مَلأكم وذوي الحِجى منكم على مثل ما قدّمت به رُسلكم وتواترت به كتبكم، أقدِم إليكم وشيكاً إن شاء الله) (١) إلى آخر ما قال، وهو خالٍ من التخويل بالحرب، كما هو واضح.

الأمر الثاني: إنّ استلام حكم الكوفة من قِبل مسلم بن عقيل إن كان بدون حرب - كما يُشعر به كتاب أهلها الذي سمعناه حين يقولون عن حاكمها: (أخرجناهُ وألحقناه بالشام) هكذا بكلّ سهولة - لهانَ الأمر، بل أمكنَ القول شرعاً، بأنّه تجب السيطرة على الكوفة عندئذٍ، إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك جزماً، لعدّة أمور منها:

أوّلاً: وجود المنافين والمعاندين في الكوفة بمقدار معتدٍّ به، وهم بلا شكّ مستعدّون للوقوف ضدّ هذا الاتّجاه، سواء بالحرب لمنعه أو بالتآمر لإفشاله وإسقاطه لو تمّ، ومن هنا يصعب حصول الأمر بالنجاح التام والمستمر.

ثانياً: إنّ حاكم الكوفة يومئذٍ(النعمان بن بشير) ، وإن كان حسب ما وردَ في التاريخ: أنّه كان رجلاً متخاذلاً مشكّكاً يحبّ العافية، ويُفضّل الراحة والسلامة(١) ، ولكنّه مع ذلك ورد أنّه خَطبَ وهدّد الكوفيين بأنّ استعمالهم للسلاح ضدّه،

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥.

(٢) إعلام الورى للطبرسي: ص٢٢٤، الفتوح لابن أعثم: ج٥، ص٧٥.

٢٠١

يعني استعماله ضدّهم، ولن يستطيعوا أن يزيلوه بسهولة؛ وإنّما لابدّ من أن تنشب الحرب بينهم، وسيستعين في نفس الوقت بالمعاندين والمنافقين والفسقة الذين هم على استعداد لمعونته جزماً.

ونسمعهُ يقول في خطبته:(إنّي لا أقاتل مَن لم يقاتلني، ولا أثب على مَن لا يثِب عليّ..... ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم (يعني الحاكم الأموي)، فو الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبتَ قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا مُعين، أمّا إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل) (١) ، إلى آخر ما قاله، وهذا يعني عدّة أمور:

أوّلاً: مناجزتهم الحرب إذا هم حاربوا.

ثانياً: إعطاء الحريّة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون ضمن التصرّف السلمي غير القائم على السلاح، وأعتقدُ أنّ هذا من النِعم الإلهيّة على مسلم بن عقيل وأنصاره استطاعوا فيه أن يُثبتوا وجودهم تامّاً.

ويكفينا تقييماً للحالة، لو استطعنا المقايسة بينها وبين ما أصبحَ عليه الحال عند حُكم عُبيد الله بن زياد، الذي عيّنه الحاكم الأموي بعد النعمان بن بشير.

ثالثاً: المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه النعمان بن بشير هذا، من حيث إنّه كفّ عنهم شرّه، فاللازم أن يكفّوا عنه شرّهم، وإذا لم يحاربوه، لم يمكنهم عزلهُ والسيطرة على الحكم، وعلى أيّ حالٍ فقد استطاع النعمان بن بشير بذلك أن يبقى هو الحاكم ما دام غير معزول من قِبل سيّده الأصلي الحاكم الأموي.

الأمر الثالث: إنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام شعرَ أنّ قيام حرب واسعة في داخل المجتمع الإسلامي الجديد، الذي لم يكن قد تجاوز قَرنهُ الأوّل، سوف يكون كارثة على الإسلام كلّه،

____________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٦٧، الإرشاد للمفيد: ص٢٥٠، الأخبار الطوال: ص٢١١.

٢٠٢

وسيُقتل من المسلمين عامّة ومن المخلِصين خاصّة العدد الكثير، وسيفتح ثغرة وفرصة لأعداء الإسلام من الخارج والداخل للسيطرة على المجتمع سيطرة كاملة ومحكمة.

إذاً، فقد اقتنعَ مسلم بكلا الأمرين وهما:تعذّر السيطرة سلميّاً على الكوفة، والآخر: عدم المصلحة في السيطرة عليها عسكريّاً ، إذاً فلا ضرورة إلى تلك السيطرة حتّى لو كان مسموحاً له من قِبل الحسينعليه‌السلام بها ما لم يكن مأموراً بها، وهو جَزماً لم يكن كذلك.

الأمر الرابع: إنّ هناك أمراً قلّما يأخذهُ عامّة الناس بنظر الاعتبار، وهو:التناسل البشري ، يعني احتمال ولادة مؤمن من مؤمن، أو من كافر، أو منافق، غير أنّ هذا ممّا يؤخذ في الحكمة الإلهيّة جَزماً، فيكون من الحكمة المحافظة على بعض النفوس، لكي يوجد من ذراريها ولو بعد جيلٍ أو أجيال، جماعة من المؤمنين الذين يعبدون الله وينصرون دين الله بإخلاص، وإذا كانت أيّ حربٍ مانعة عن ذلك - والحرب بطبيعتها مانعة عن ذلك - إذاً فمن الضروري عدم وقوعها.

وهناك وجهٌ آخر مهم ذكرنا أُسسه في كتابنا(اليوم الموعود) ، إلاّ أنّ إيضاحه الكامل يتوقّف على ذِكر تلك الأسس فيطول المقام بنا، ومن هنا يكون الأحجى الإعراض عن ذلك مؤقّتاً.

٢٠٣

اغتيالُ ابن زياد

يقول لنا المؤرّخون ما مضمونهُ باختصار: إنّ شُريك بن عبد الله الحارثي ومسلم بن عقيل، كانا معاً نازلين في دار هانئ بن عروة المذحجي(١) ، فتمرّض شريك واشتدّ به المرض، فعلم بذلك عُبيد الله بن زياد حاكم الكوفة يومئذٍ، وكان له معهُ رفاقة، فأرسلَ إليه أنّه سيعوده في دار هانئ، وقبل مجيء ابن زياد تواطأ شريك مع مسلم على أن يغتال ابن زياد عند مجيئه، فلمّا كان من العشي أقبلَ ابن زياد وتخفّى مسلم في إحدى الغُرف كأنّه يستعدّ لاغتياله، ولكنّ هانئ اعترضهُ قائلاً:(إنّي لا أُحبّ أن يُقتل في داري) .

والمهمّ: أنّ مسلماً لم يقبل لقتل ابن زياد وخرجَ ابن زياد سالماً، فخرج مسلم من مكانه.

فقال له شريك: ما مَنعك من قتله؟ قال:خصلتان: أمّا إحداهما: فكراهة هانئ أن يُقتل في داره، وأمّا الأخرى: فحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيّد الفتك، ولا يَفتك مؤمن) (٢) .

فقال هانئ: أمَا والله، لو قتلتهُ لقتلتَ فاسقاً فاجراً كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري(٣) .

____________________

(١) هانئ بن عروة المرادي المِذحجي: لقد ذَكر المؤرّخون أنّه كان شديد التشيّع، ومن أشراف الكوفة وقرّائها، ومن خواصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حضرَ حروبهُ الثلاث، وأدركَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّف بصحبته ،وكان له يوم قتله بضع وتسعون سنة، وكان شيخ مراد وزعيمها إذا ركبَ ركبَ معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع (واقعة الطف لبحر العلوم: ص٢٨٦).

(٢) الفَتك: (فَتك فلان بفلان) أي: قتلهُ على غفلة، أو انتهزَ منه فرصة فقتلهُ (أقرب الموارد: ج٢، ص٩٠١، مجمع البحرين: ج٥، ص٢٨٣ بتصرّف).

(٣) هذا ما وردَ في تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٤، وكذلك في مقاتل الطالبيين، والدمعة الساكبة: م١، ص٣٠٩ نقلاً عن البحار.

وقد ذكرَ هذه الرواية ابن الأثير في الكامل في التاريخ: ج٣، ص٢٧٠ إلاّ أنّه ذَكر أنّ مسلماً عندما سُئل عن عدم خروجه قال: (… وأمّا الأخرى، فحديث حدّثه عليّ عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الإيمان... إلخ) ، وهذا ما أوردهُ الخوارزمي أيضاً في مقتله: ج١، ص٢٠٢.

أمّا ابن نما الحلّي: فقد ذَكر في مُثير الأحزان: ص٢٠ أنّ زوجة هانئ هي التي مَنعت مسلم من قَتل عبيد الله بن زياد، ولم يَذكر الحديث.

٢٠٤

فمن هنا قد يخطر في البال: السؤال عن السبب الذي حَدا بمسلم بن عقيل على أن لا يقتل عبيد الله بن زياد، بعد أن أصبحَ كاللقمة السائغة بيده، وهو يَعلم أنّه عدوّه وعدوّ الحسينعليه‌السلام وعدوّ الله عزّ وجل، وإنّ قتلهُ مهمّ جدّاً في إمكان السيطرة على المجتمع في الكوفة، وتفريق القيادة من المنافقين الذين جَمعهم ابن زياد وتركيزها بيد أهل الحقّ.

والجواب على ذلك يكون من وجوه:

الوجه الأوّل: كراهة هانئ بن عروة أن يُقتل عبيد الله بن زياد في داره، ومسلم بن عقيل كان ضيفاً لدى هانئ، وكان ولا يزال يخدمه بالسمع والبصر ويؤدّي لمسلم أيّ مصلحة عامّة أو خاصّة، فإذا فعلَ في داره ما يكرهه حَصلت عدّة مضاعفات:

أوّلاً: الإحراج أمام هانئ نفسه أخلاقيّاً؛ فإنّ مقتضى المسؤوليّة الأخلاقيّة أن لا يفعل في داره ما لا يُحب، وخاصّة وهو بهذه الصفة العظيمة في الانتصار له.

ثانياً: تحريم تصرّفه في الدار بعد ذلك، لو كان قد فعلَ ما يكرههُ صاحبها، ممّا يضطرّه للانتقال إلى دار شخص آخر، وقد لا يجد شخصاً جامعاً للشرائط المتوفرة في هانئ، أو قل: لا يجد له مثيلاً في سكّان الكوفة.

ثالثاً: إحراج موقف هانئ من حصول هذا القتل في داره، الأمر الذي أثار في نفسه هذه الكراهة؛ فإنّه كان رئيساً لقبيلة مذحج، ولهُ اتصالات ومجاملات ومصالح في مختلف أوساط المجتمع، فإذا قُتل ابن زياد في داره كان ذلك إحراجاً لهُ أمام شريحة مهمّة في المجتمع، وهذا ما يكرهه، ولا يريد مسلم بن عقيل إثارة هذا الإحراج أمامه، وتفكير هانئ بهذا الشكل، تفكيرٌ على المستوى الدنيوي، ولكنّه قائم على أيّ حال.

وهو بطبيعة الحال، لا يَدرك ما ندركه أو نحتمله نحن الآن بعد ألف سنة وحوالي النصف من ذلك التاريخ، من وجود مصلحة عامّة في قتله، بحيث تجب عليه التضحية في سبيلها بكلّ غالٍ وعزيز، وإذا كان غافلاً عن ذلك - وهو غير معصوم على أيّ حال - فالله سبحانه يعذر الغافل.

٢٠٥

الوجه الثاني: لعدم اغتيال ابن زياد: ما ذكرهُ مسلم نفسه حسب الرواية(إنّ الإيمان قيّد الفتك، ولا يفتك مؤمن) .

إلاّ أنّ هذا بمجرّده لا يتمّ، إلاّ أن يرجع معناه إلى الوجه الآتي؛ وذلك لأنّ هذا الخبر يحتاج إلى الصحّة سَنداً ودلالة، أمّا السند، فيظهر حصول مسلم عليه مرسلاً غير موثوق؛ لأنّه عبّر عن أنّه حديث حدّثنيه الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي يدلّ على أن يجهل راويه، أو لا يوثّقه على أقلّ تقدير.

وأمّا من ناحية الدلالة، فهذا الأمر الذي كان عازماً عليه هو الغيلة أو الاغتيال، وليس الفتك فإنّه وإن كان قد يَرد في اللغة بهذا المعنى أيضاً، إلاّ أنّ لهُ معانٍ أخرى كالشجاعة بحيث لا يهاب أحداً، والاستقلال بالرأي عن الآخرين وغير ذلك(١) ، فلا يتعيّن أن يكون المراد من الخبر ذلك.

مضافاً إلى أنّ الاعتماد على خبرٍ من هذا القبيل، بل حتّى ولو كان صحيحاً، في دفع مصلحة عامّة في قتله، أو جلب مفسدة عامّة في حياته، كما قد حصلَ فعلاً، غير صحيح جزماً وغير مرضيّ لله عزّ وجل، ما لم يعِد الأمر إلى وجوه أخرى، أو إلى الوجه الآتي الذي سنذكره الآن.

الوجه الثالث: الأخلاقيّة في العلاقات مع الآخرين، الأصدقاء منهم والأعداء سِلماً كانت العلاقة أم حرباً أم قتلاً، ومن جملة الأسس الأخلاقيّة التي التزمَ بها المسلمون ونَصحت بها تعاليم الإسلام عدم البدء بالحرب والضرب، وإنّما يكون أهل الحقّ هم ثاني الضاربين لو صحّ التعبير، ليكون موقفهم أمام الله والناس هو الدفاع فقط، وكان ولازال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو نبيّ الرحمة، وليس من مقتضى الرحمة البدء بالهجوم، حتّى أنّ الحسينعليه‌السلام في ساحة كربلاء العسكرية التزمَ بذلك، وهذه مصلحة أخلاقيّة جليلة في الحرب والقتل والقتال،

____________________

(١) ومثله قولهم الفاتك: أي الجريء الشجاع، وقال ابن دريد: هو الذي إذا همّ بشيء فَعل (أقرب الموارد: ج٢١،ص٩٠١).

٢٠٦

ذات تأثير عام في إحسان الظنّ بالمعسكر المحقّ وجلب القلوب نحوه، وهي مصلحة عامّة تعدل الكثير من المصالح العام الأخرى التي قد ندركها ممّا تكون مصالح وقتيّة وإن كانت صحيحة، في حين أنّ هذه القاعدة الأخلاقية دائمة الصحّة جيلاً بعد جيل.

فإذا عرفنا ذلك، استطعنا تقييم وتمييز موقف ابن عقيل من ابن زياد، من حيث إنّ ابن زياد لم يكن محارباً في ذلك الحين ولا ناوياً لقتل أحد، إذاً، فهو لم يبدأ بالقتال ولم ينوِ السوء، فلا يجوز بَدؤه به أو نية السوء ضدّه؛ لأنّه خلاف القاعدة الأخلاقية المشار إليها.

الوجه الرابع: ما ذكرناه فيما سبق: من كون مسلم بن عقيلعليه‌السلام مُسدّداً مُلهماً، ولا أقلّ من احتمال ذلك، إذاً فيمكن أن يكون قد واجه نهياً عن قتل عُبيد الله بن زياد، كما يُحتمل أن يكون هذا النهي مأخوذاً عنده من الحسينعليه‌السلام ، أو من جدّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص هذه الواقعة أو ما يشملها، فيجب عليه الامتثال، وقد سبقَ أن قلنا في أمثال ذلك: إنّ مجرّد الاحتمال يكفينا؛ لأنّه إذا دخلَ الاحتمال بطل الاستدلال، يعني يفسد السؤال عن إعراضهعليه‌السلام عن اغتيال ابن زياد، وإنّ ذلك كان على خلاف المصلحة أو السياسة العامّة.

الوجه الخامس: ما أشرنا إليه أو إلى مثله، من أحد الوجوه التي قلناها في نفي سيطرة مسلم بن عقيل على الكوفة، وهو اقتضاء الحكمة الإلهيّة الإبقاء على بعض الفاسقين والكافرين، من أجل ميلاد بعض المؤمنين من ذراريهم ولو في جيلٍ متأخّر، ولو عدّة مئات من السنين أو أكثر، فليكن ابن زياد كذلك.

وهذا لا يتوقف على علم مسلم بن عقيل أو التفاته إلى ذلك، بل إمّا أن يكون ملتفتاً، وإمّا أنّ الله سبحانه صَرَفه عن قتله لهذه الجهة، والاحتمال في ذلك يكفينا لقطع الاستدلال المعاكس، كما كرّرنا في أمثاله.

الوجه السادس: ما ذكرناه أيضاً هناك من الأمر المربوط بكتابنا(اليوم الموعود) ، فإنّه أيضاً من الأمور المربوطة بتلك الأسس، فراجع.

٢٠٧

السيطرةُ على الكوفة مؤخّراً

إذ قد يخطر على البال: أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، ما دام لم يسيطر على الكوفة في زمن النعمان بن بشير ولم يقتل عبيد الله بن زياد، فلا أقلّ من أن يحاول السيطرة على الكوفة عندما أصبح ابن زياد حاكماً عليها، إذ كان الشرّ قليلاً وغير واضح في زمن ابن بشير، في حين أصبحَ واضحاً في زمن عبيد الله بن زياد، ومن هنا كانت السيطرة على الكوفة أرجح جدّاً من ذلك الزمن السابق، فلماذا لم يفعل ذلك مسلم؟

وجوابُ ذلك: إنّه يمكن القول بورود جميع الأجوبة التي قلناها فيما سبق عن سيطرة مسلم بن عقيل في الماضي (يعني في عهد النعمان بن بشير)، كلّها تأتي عن سيطرته الآن، مع زيادات معتدّ بها كما سنذكر، ويكفينا أن نلتفت إلى أنّ زيادة الشرّ تقتضي زيادة الصعوبة في السيطرة، الأمر الذي يجرّ إلى أمورٍ غير محمودة كما سنرى، وهذه الصعوبة تتمثّل في أمور:

الأمرُ الأوّل: الزيادة في الضيق لجانب مسلم بن عقيل أعني في الحرّية العامّة، وإعطاء الجانب الأفضل والتحرّك الأشمل لأعدائه.

الأمرُ الثاني: وجود تجسّس دقيق وكامل على كلّ أقوال وأفعال ابن عقيل وأصحابه، ويمكن أن تكون العيون كثيرة، غير أنّ التاريخ ينصّ على واحدٍ بعينه يسمّى(معقل) ، استطاع الوصول بدهاء إلى الدار التي يرتادها مسلم وأصحابه، فكان أوّل داخل وآخر خارج بعنوان كونه مؤيِّداً لهم، وينقل كلّ ما سمعه ورآه إلى عبيد الله بن زياد.

٢٠٨

الأمرُ الثالث: السرّية والتكتّم التي تعمّدها جانب مسلم بن عقيل وأصحابه، بغضّ النظر عن التجسّس المشار إليه، ومع التكتّم المتعمّد يصعب جدّاً وضع برنامج واضح وواسع لأجل السيطرة على المجتمع، كما يتوقّع السائل أن يكون.

الأمرُ الرابع: إمكان التشكيك في العدّة والعدد اللذَين يمكن لابن عقيل أن يجمعهما في ذلك المجتمع؛ فإنّ أفراد الناس هناك لم يكونوا معتادين على الحرب ومصاعبها وويلاتها، وإنّما استطاع عبيد الله بن زياد أن يجمع منهم جيشاً ضخماً بعد التفكير بعدّة خطط ماكرة، اكتسبها بصفته مُمثّلاً للدولة الحاكمة لا أكثر، وهذا ما لا يستطيع طبعاً مسلم بن عقيل توفيره للناس بصفته معارِضاً للدولة، فيكون احتمال حصوله على الجيش الكافي في العدّة والعدد احتمالاً غير قوي، وحسبُنا أن ننظر إلى أهمّ الأفكار التي حاولَ عبيد الله بن زياد بثّها في المجتمع صدقاً أو كذباً ليستقطب الناس إلى جانبه:

أوّلاً: التهديد العسكري، حيث زعمَ لهم أنّ هناك جيشاً مُقبلاً عليهم من الشام ضخم جدّاً، يريد استئصالهم إن هم عصوا الدولة.

ثانياً: التهديد الشخصي بالسجن والضرب، بل والقتل أيضاً.

ثالثاً: التهديد الاقتصادي بالمقاطعة مع كلّ معارِض.

رابعاً: الطمع، بإضافة مبلغ من المال إلى راتب كلّ واحد يكون إلى جانبه، ويخرج في حرب الحسينعليه‌السلام ،

٢٠٩

ويُنقل ذلك تاريخيّاً على شكلين: أشهرهما:إضافة عشرة دنانير ذهبية إلى أيّ فرد ، والآخر:مضاعفة الراتب الذي يصله .

خامساً: الإحراج الاجتماعي عن طريق العلاقات والصداقات المبثوثة في تلك المدينة المنكوبة.

وكلّ هذه الأمور قائمة ضدّ مسلم بن عقيل، ومن المتعذّر أن يكون مثلها إلى جانبه، سوى التضحية في الرضوخ للحقّ لا أكثر، وهو ممّا يقلّ العاملون به في أيّ مجتمع، وخاصّة تحت ظروف من ذلك القبيل.

وقد بادرَ عبيد الله بن زياد إلى تغيير كفّة المجتمع إلى جانبه بمجرّد وروده، وألقى في الناس خطبة تتكفّل بيان تلك التهديدات والأطماع، مع بثّ شرطته وأنصاره بين الناس، لأجل الطمع والتخويف والإحراج، ممّا أنتجَ ما ينقلهُ بعض الخطباء الحسينيّين من أنّ الأم أصبحت تأتي إلى ابنها، والزوجة إلى زوجها، والبنت إلى أبيها، والأخ إلى أخيه، فيحذرّونهم مغبّة مناصرة مسلم ويقال لهم:

(مالَكَ والدخول بين السلاطين) ، ويأخذون بيده ويُرجعونهُ إلى بيته، ومهما يكن في هذا النقل التاريخي من المبالغة إن أخذناه على سعته، كما سبقَ أن قلنا: إنّ الكوفة والمجتمع الكوفي لا يمكن أن ينقلب تماماً من الولاء إلى العداء بين عشيّة وضحاها، وقد أقمنا على ذلك ما يكفي من القرائن والدلائل، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون قد حدثَ مثل هذا التخذيل فعلاً على نطاق ضيّق قلّ أو كثُر؛ فإنّه على أيّ حال مُضر بجانب مسلم بن عقيل، ويُضاعف عليه الصعوبة والبلاء.

٢١٠

مَعقل

يقول المؤرّخون: إنّ مَعقلاً حين أراد التجسّس لابن زياد، أقبلَ إلى المسجد، فرأى مسلم بن عوسجة يُصلّي فيه فسألَ عنه؟ فقيل له: هذا يبايع للحسين بن علي، فجاءه وجلس إلى جانبه، حتّى إذا فرغَ من صلاته سلّم عليه وأظهرَ لهُ أنّه رجل من أهل الشام، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري، وممّن أنعمَ الله عليه بحبّ أهل البيت وحُبّ مَن أحبّهم وتباكى له، وقال له: إنّ عنده ثلاثة آلاف درهم يريد بها لقاء رجل من أهل البيت، بَلَغه أنّه قدمَ إلى الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقبلَ منهُ مسلم بن عوسجة وأخذ منه البيعة على يده فوراً.

ثمّ أخذهُ إلى مسلم بن عقيل، فأخذَ عليه البيعة والمواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ، فأعطاهُ(مَعقل) من ذلك ما رضي به، ثمّ أمرَ مسلم أبا ثمامة الصائدي(١) بقبض المال منه، وكان قد عيّنه مسلم لقبض الأموال من الناس وتجهيزهم بما يحتاجونه من السلاح والعتاد، وظلّ معقل يختلف إلى دار هانئ كلّ صباحٍ ومساء، فهو أوّل داخل وآخر خارج، فينطلق بجميع الأخبار والأسرار، فيقرؤها في أُذن ابن زياد(٢) ، ممّا أدى في النتيجة إلى فشل مهمّة هذه الجماعة المحقّة وتفرّقها عن مسلم بن عقيل.

فهنا قد يرد السؤال عن السبب في انخداع مسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل وأصحابهما، بهذا الرجل المعيّن ضدّهم،

____________________

(١) أبو تمّام الصادئدي: هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائدي، من شهداء الطف، كان من فرسان العرب ووجوه الشيعة، وكان بصيراً بالأسلحة، ولهذا لما جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قامَ معه وصار يقبض الأموال، ويشتري بها الأسلحة بأمر مسلم بن عقيل.

وفي كتاب (نَفَس المهموم) أنّ أبا تمّام قال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله، نفسي لك الفدى، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل إنشاء الله، وأحبُ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها، قال: فرفعَ الحسين رأسه ثمّ قال: (ذكرتَ الصلاة جَعلكَ الله من المصلّين الذاكرين، نعم، هذا أوّل وقتها) (الكُنى والألقاب: ج١، ص٣٣).

(٢) الإرشاد للمفيد: ص٢٠، مُثير الأحزان لابن نما: ص٢١، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢.

٢١١

ولئن كان مسلم بن عوسجة رجلاً اعتيادياً، مهما كان عالي الإيمان، فإنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، قد أثبتنا له أنّه مؤيّد ومُسدّد بالإلهام، فكيف لم يلتفت إلى ذلك؟!

وجواب ذلك يكون على عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ هذا موجود في قضاء الله وقدره، وكلّما كان ذلك، فلابدّ من حدوثه، ومطابق للحكمة الإلهيّة، سواء عَلمنا بسببه أو جهلنا.

المستوى الثاني: مستوى مَن نعلم أو نحتمل عدم تسديده وتأييده بالإلهام المباشر - لو صحّ التعبير - وهم أصحاب مسلم بن عقيل سواه، فمن الواضح أنّ العادة في تلك الأجيال، وهي عادة استمرّت مئات وآلاف السنين، حتّى لم تكن كتابة وأوراق تدلّ على الشخصيّة، كما في الدول الحاليّة، فكان الناس يسألون الفرد عن اسمه وانتسابه، ويُصدّقون منه ذلك على السجيّة والعادة المتّبعة، وواضحٌ أنّه لو كذَبَ أيّ شخص في اسمه أو نَسبه، فسوف يقع في أنواع من المصاعب اجتماعياً واقتصادياً، أو يُحتمل وقوعه في ذلك على بعض التقادير، فكان الناس يُصَدَّقون في أقوالهم تلك، وكانوا يُصدِّقون أقوال الآخرين في ذلك، وليس أصحاب مسلم بن عقيل سلام الله عليه وعليهم إلاّ جماعة من ذلك المجتمع المعتاد على ذلك.

فإذا انضمّ إلى ذلك حُسن الظاهر والملاينة والمسايسة، فقط أصبحَ الفرد ناجحاً في الامتحان أو الاختبار الاجتماعي، وانتهى الأمر.

المستوى الثالث: مستوى النظر إلى المواثيق المغلّظة التي أخذها مسلم بن عقيل وأصحابه على(معقل) ، وقد أعطاهم من نفسه ما يريدون، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ شخصاً ما من المسلمين يمكن أن يحيف بالعهد، أو يحيف باليمين،

٢١٢

وإنّما قيام العلاقات بين الأفراد والمجتمعات كانت ولا زالت على شرف الالتزام بالعهود، وإلاّ كان الفرد ساقطاً بالمرّة أمام الله والناس، ولم يكن يخطر على البال أنّ هذا الإنسان من الساقطين وبهذه الدرجة.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما وردَ في تفسير قوله تعالى عن قول إبليس:

( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) ، من أنّ آدم وزوجته لم يتصوّرا شخصاً يُقسم بالله كذباً، يعني أنهّما حين سمعا إبليس يُقسم بالله سبحانه صدّقاه وأكلا من الشجرة.

أقول: فكذلك الحال في مسلم وأصحابه من حيث إنّ العهد مُلزم في الدنيا، واليمين مُلزم في الآخرة، فماذا بقيَ ممّا يكون أن يفعلوه أمامه؟

المستوى الرابع: إنّ مُسلماً وأضرابه من خاصّة أصحاب المعصومينعليهم‌السلام ، وإن قلنا بأنّهم مؤيّدون ومسدّدون بالإلهام، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يؤخذ على أوسع نطاق:

أوّلاً: لأنّهم ليسوا معصومين بالعصمة الواجبة، كما يُعبّر عنها في (علم الكلام)، والمعصوم بالعصمة الواجبة يكون معصوماً من الخطأ والنسيان، مضافاً إلى عصمته من الذنوب والمحرّمات، بخلاف المعصوم بالعصمة غير الواجبة، فإنّه يكون معصوماً من الذنوب لا من الخطأ والنسيان.

ثانياً: إنّ الإلهام والتسديد إلى أمثال هؤلاء يختلف في السعة والضيق أو القلّة والكثرة، ينالُ منه كلّ منهم بمقدار قابليّته واستحقاقه وعمله وغير ذلك من الأسباب، وليس بالضرورة أن يناله بشكلٍ مطلق ومستمرّ، إذاً فمن الجائز أن يُحجب الإلهام والتسديد عن الفرد حيناً أو أحياناً، بمقدار ما تقتضي الحكمة الإلهيّة ذلك.

وهناك مستويات أخرى للجواب لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

____________________

(١) سورة الأعراف: آية (٢٠ ـ٢١).

٢١٣

تفرّقُ الناس عنه

ولعلّ السؤال الأخير الذي يمكن عَرضهُ في هذا الصدد: ما قالهُ بعض الأذكياء لبعض العلماء عمّا رويَ في التاريخ، من أنّ مسلم بن عقيل تفرّق عنه أصحابه كلّهم في يومٍ واحد أو عشيّة واحدة، حتّى أصبحَ يتلدّد في أزقّة الكوفة في ظلام الليل لا يجد مَن يؤويه(١) ، مع العلم أنّ من الكوفيين مَن هم على درجة عالية من الإخلاص للحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل والحسينعليهما‌السلام أمثال:حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وآخرين، بدليل أنّ هذين المذكورَين قد استشهدا مع الحسين في كربلاء، إذاً فإخلاصهم مُحرز فلماذا تفرّقوا عن مسلم في تلك الليلة وتركوه وحيداً حائراً؟

وقد أجاب ذلك العالِم: بأنّهم أعدّوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسينعليه‌السلام ، أقول: وهذا وحدهُ لا يكفي للإقناع؛ لأنّ حادثة الحسينعليه‌السلام كانت في ضمير المستقبل بالنسبة إليهم، ولم يكونوا يعلمون من حصولها شيئاً، فكيف نتعقّل كونهم استهدفوها بصراحة؟

ولكنّ تفصيل الجواب أن يقال: إنّ المخلِصين الكاملين كانوا قلّة لا يستطيعون وحدهم الدفاع عن مسلم بن عقيل، ولا حفظ حياته وحياتهم.

فلمّا رأوا فشل الحركة وتفرّق الجيش عنه، لم يشعروا بوجوب المحافظة على حياته شرعاً، لليقين بكونه مقتولاً لا محالة، حتّى ولو كانوا هم إلى جنبه بل سيقتلون معه أيضاً، إذاً فمسؤوليّة الدفاع عنه والحفاظ عليه ساقطة عنهم يقيناً، إذاً فخيرٌ لهم أن يحافظوا على حياتهم، وهم كوفيون يَعرفون المدينة وطبيعة سكّانها، وهو غريب جديد العهد بهذا المجتمع.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص٢٣، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٩، مقاتل الطالبيين: ص١٠٢.

٢١٤

وأمّا سببُ محافظتهم على أنفسهم، فلا ينبغي الإشكال فيه في الدنيا والآخرة.

أمّا في الدنيا فواضح؛ لصعوبة تعريض النفس للقتل، وخاصّةً إذا كان بلا موجب وبشكل غير مُنتج كما عَرفنا.

وأمّا في الآخرة (أعني في التكليف الشرعي في الدين)؛ فلأنّ بقاءهم خيرٌ من موتهم، لاحتمال أن يُفيدوا المجتمع بقليلٍ أو بكثير، وأن لا يُخلو الساحة بالمرّة لعُبيد الله بن زياد وجماعته يفعلون ما يشاءون، دون وازعٍ من دين، أو ضمير، أو رقيب، أو حسيب.

مضافاً إلى احتمال تأييدهم للحسينعليه‌السلام ؛ فإنّهم كانوا عالِمين بأنّه مُقبل عليهم وقريب الوصول إليهم، بالرغم من طول السفر وبُعد الشقّة، إذاً فلعلّهم يستطيعون رؤيته، أو معونته، أو نصرته، أو امتثال أوامره، صحيحٌ أنّهم لم يكونوا يعلمون بحادثة كربلاء كما وقعت؛ لأنّها لم تكن قد وقعت، إلاّ أنّ نصرتهم للإمام الحسينعليه‌السلام إجمالاً - ولقاءه وامتثال أوامره أيّاً كانت - هذا ممّا كان هؤلاء الخاصّة يستهدفونهُ بصراحة ووضوح، فإن بقيَ الحسين وانتصرَ بقوا معه، وإن قُتل قُتلوا معه، وعلى أيّ حال فينبغي لهم في التكليف الشرعي الذي يعرفونه، أن يحافظوا على حياتهم الآن ليطبّقوا مثل هذا التكليف في المستقبل عند لقاء الحسينعليه‌السلام .

بقيَ السؤال الذي يخطر في الذهن: وهو أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام لماذا بقيَ مُتلدِّداً في أزقّة الكوفة، وقد كان من الأفضل له أن يلتجئ إلى بيت أحد الثقاة من أصحابه، أو أن يخرج إلى البرّ ويلتحق بالأعراب فلا يعرفهُ أحد.

والجواب عن ذلك يكون على مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) رجلٌ غريب في الكوفة، لا يعرف بيوتها ولا طُرقاتها، وقد كان أصحابه يقصدونه من منازلهم وهو لا يعلم أين تقع منازلهم، ولم يكن خلال هذه المدّة التي عاشَ فيها في الكوفة متيّسراً لهُ المشي في الطُرقات والتعرّف على البيوت؛ لأنّه كان بمنزلة القائد، فلابدّ لهُ من البقاء في مركزه، وإنّما يشتغل له الأتباع فقط.

٢١٥

المستوى الثاني: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) أدركَ لا محالة ما التفتنا إليه قبل قليل، من تفرّق خاصّته عنه، وأدركَ سبب ذلك، وهذا السبب ممّا ينبغي أن يحترمه تجاههم، مضافاً إلى إدراكه كراهتهم البقاء معه في ذلك الحين، وكان إذا أراد متابعتهم فسوف يعمل ما يكرهونه ويدخل بيوتهم عنوة عنهم، ويبقى فيها فيكون حراماً عليه.

المستوى الثالث: إنّه لا يوجد في ذلك الحين من أصحابه مَن يستطيع حمايته على الإطلاق؛ لأنّ بعضهم كان قد سُجن:كهاني بن عروة، والمختار بن عبيدة الثقفي، وآخرون، إذاً فدُورُهم مُغلقة في وجهه، وهم منكوبون قبل نكبته، وبعضهم مراقَب ومطارَد، وليس أسهل على الحكّام من أن يجدوا مسلماً في بيت أحد أصحابه، فإنّها أرجح الاحتمالات لوجوده، بخلاف ما إذا تخفّى في محلّ غير مُلفت للنظر كما فعل.

المستوى الرابع: إنّ خروجه بالبرّ لم يكن مُنجياً له؛ لأنّه لم يكن يملك فرساً، أو أيّة دابة في ذلك الحين، وإنّما كان يمشي راجلاً في الطُرقات ومتعباً بعد يومٍ حافل بالنشاط والحركة.

إذاً، فحتّى لو خرجَ إلى البرّ فسوف لن يستطيع أن يبتعد كثيراً، حتّى يطلع الصبح وسوف يَدركه أعداؤه لا محالة، بل سوف يُقبض عليه عاجلاً؛ لأنّ ابن زياد جَعلَ في المدينة وأطرافها عيوناً ساهرة تراقب الحال باستمرار، فما أسهل ما يقع مسلم بن عقيل بيد أحد هؤلاء أو جماعة منهم، إذاً فما فعلهُ (سلام الله عليه) كان أفضل الاحتمالات وهو: الالتجاء إلى محلّ غير مُلفت للنظر على الإطلاق، عسى الله أن يكتب لهُ فيه الخير.

المستوى الخامس: إنّه قد يقع السؤال عن إمكانه النجاة بالمعجزة، أو طيّ الأرض ونحو ذلك، وقد ناقشنا ذلك فيما سبق، والتفتنا إلى أنّه لم يكن في الحكمة الإلهيّة حصول المعجزات لنصرة أهل الحق، بل يبقى الأمر مطابقاً للقانون الطبيعي باستمرار، وإلاّ لم تكن أيّة حاجة إلى أيّ حربٍ خاضها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنين، أو الحسينعليهم‌السلام ، أو أيّ شخصٍ آخر.

٢١٦

تألّبُ الناس ضدّه

وكما نفينا فيما سبق إمكان المبالغة في تألّب الناس ضدّ الحسينعليه‌السلام ، كذلك ننفي هنا المبالغة في تألّب الناس ضدّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)؛ وذلك أنّ مقتضى كلام الخطباء الحسينيين عنه: أنّهعليه‌السلام جَمع الناس في أحد الأيّام كجيش محارِب وزوّدهم بالأسلحة، وأمّر عليهم الأمراء والقوّاد، ونادى بشعار المسلمين يوم بدر:(يا منصور، أمِت أمت) (١) .

واجتمعت إليه الكوفة برمّتها، حتّى إذا كان المساء نفسه تفرّقوا عنه، حتّى بقيَ وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة، فلمّا كان الصباح نفسه تألّبوا جميعاً ضدّه وقاتلوه، حتّى النساء والأطفال كانوا يرمونه من السطوح بالحجارة، ويشعلون النار في أطناب القصب ويرمونها عليه.

وهذه (خريطة) ذهنية غير معقولة، ولئن كان يمكن حصولها في مدّة طويلة، فلا يمكن حصولها في مدّة قصيرة في عشيّة واحدة، فلئن كان يمكن تفرّق الناس عنه لمدى الضغط والمكر الذي مارسه ابن زياد وأصحابه، غير أنّه لا يمكن تألّبهم ضدّه إلى هذه الدرجة، فإذا عَلمنا أنّه كان يحارب وحده حين هجموا عليه في الدار، بقصد إلقاء القبض عليه،

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٧، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٧١، ط مصر.

٢١٧

إذاً لم يكن الحاكم في حاجة إلى جيش عَرمرم ضدّه مهما كان شجاعاً ومقاتلاً بارعاً، ويكفي أن يجد ابن زياد من أصحابه عدّة مئات يكفونه المؤونة، بدون حاجة إلى أن نتصوّر إلى أنّ الكوفة كلّها قد انقلبت ضدّه في عشيّة واحدة.

وقد نظرتُ في المصادر التاريخيّة فوجدتُ أنّ الرمي من سطوح المنازل ضدّ مسلم بن عقيل، مذكورٌ فعلاً(١) ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الشعب كلّه فعل ذلك؛ وذلك:

أوّلاً: إنّه لا وجود لذكر النساء والأطفال الفاعلين لذلك.

ثانياً: إنّنا لو سلّمنا ذلك، فإنّما هم شَرذِمة من عوائل أعدائه.

ثالثاً: إنّ أصحاب بعض البيوت من أعدائه من الرجال فعلوا ذلك.

رابعاً: إنّ الجيش المعادي له الذي أرسلهُ ابن زياد للقبض عليه، وجدَ من الحيَل للسيطرة عليه أن يدخل البيوت عَنوة ويرميه البعض من السطوح بالحجارة والنار، فإذا كان ذلك محتملاً، والاحتمال مبطل للاستدلال، فلماذا نفترض ما هو مُستبعد في نفسه، وهو انقلاب الشعب كلّه ضدّه في عشيّة وضُحاها.

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب: ج٢، ص٢١٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠٩.

٢١٨

تأسيسهُ للجيش

سَمعنا قبل قليل ما نقلهُ التاريخ من تأسيسه (سلام الله عليه) - في أيّامه الأخيرة من حياته، ومن وجوده في الكوفة - جيشاً مهمّاً أمّر عليه القادة ونادى بشعار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصبحَ هو القائد العام له، ولكنّهم تفرّقوا عنه بسبب مكر أعدائه.

والمهمّ الآن أنّه قد يخطر في الذهن سؤالان:

الأوّل: إنّه لماذا أراد تأسيس الجيش مع أنّنا عرفنا فيما سبق أنّه غير مخوّل بذلك، وإنّ نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسينعليه‌السلام معه لا تساعد على ذلك؟

الثاني: إنّه لماذا لم يحتل بهذا الجيش قصر الإمارة في نفس اليوم ويقضي على عبيد الله بن زياد ويستلم الحكم، ولقد كان ذلك أفضل بكلّ تأكيد له وللحسينعليه‌السلام وللدين عموماً، من هذا التأخير الذي حَصل والذي أدّى إلى فشل تلك المهمّة؟

أمّا السؤال الأوّل، فيمكن أن يجاب عنه بعدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ تأسيس هذا الجيش لمجرّد الدفاع عن الوضع الذي كان فيه مسلم بن عقيلعليه‌السلام وأصحابه - أو قل: إنّه محاولة لإرجاع الوضع المرتبك الذي استطاع ابن زياد زرعهُ ضدّه، إلى أوّل حالة من حرّية التحرّك والكلام - لم يكن فيه بأس على الإطلاق؛ لأنّه لا يستلزم إهراق أيّ دم.

المستوى الثاني: إنّ تأسيس الجيش والسيطرة على الحكم في الكوفة وإن لم يكن مذكوراً في كتاب الحسينعليه‌السلام ، غير أنّ مسلم بن عقيل ضمناً مخوّل لا محالة بأن يفعل في الكوفة كلّ ما يرى فيه المصلحة والإصلاح، فإن وجدَ في حال الكوفة ومن حال أصحابه إمكان أو وجوب تأسيس مثل هذا الجيش، لم يكن فيه بأس، حتّى لو استلزمَ الحرب وإراقة الدماء، لكنّنا سبقَ أن قلنا: إنّ مسلماً (سلام الله عليه) كان يتجنّب ذلك جهد الإمكان، لكي لا يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه في التسبيب لضرب المجتمع بعضه بعضاً وهو جديد عهد بالإسلام، وقد فعل ذلك إلى آخر لحظات حياته.

مضافاً إلى أنّنا يحسن أن نلتفت إلى أنّه إذا كان قاصداً للسيطرة على الحكم، فالمظنون جدّاً أنّها سوف تتمّ بدون إراقة دماء على الإطلاق، أو بدماء قليلة جدّاً، لإمكان السيطرة على قصر الإمارة بسهولة وسرعة مع نجاح الجيش العقيلي وانضباطه.

٢١٩

المستوى الثالث: إنّ تأسيس هذا الجيش، ليس لكلّ ما ذكرناه، بل لاستقبال الحسينعليه‌السلام به حين يرِد الكوفة، فَيرِد على جيش منظّم ومن نقطة قوّة عالية وكافية، وهذا سبب محترم جدّاً لانتصاره وسيطرته على العراق كلّه لو شاء الله لهُ الاستمرار.

ومسلمعليه‌السلام وإن لم يصرِّح بذلك لأحدٍ، لكنّه من الأرجح جدّاً أن يكون قد احتملَ ذلك، وإذا تمّ لهُ الجيش لم يكن في الإدارة المعادية له في الكوفة أيّة أهميّة عملية وهي ضعيفة عندئذٍ، بل يمكن السيطرة عليها لحظة ورود الحسينعليه‌السلام ، أو قبل ذلك لو اقتضت المصلحة ذلك.

وأمّا الجواب على السؤال الثاني:

فلعلّ نفس إثارة السؤال يُعتبر هَذراً وسُخفاً، وإن كان طالما خطرَ في عددٍ من الأذهان، لوضوح أنّ العمل الجادّ والحقيقي يكاد أن يكون مستحيلاً في اليوم الأوّل، حين لم يكن الجيش مرتّباً ولا مضبوطاً لحد الآن، وإنّما يُعتبر اليوم الأوّل جَمعاً للأفراد وتسجيلاً لهم في هذا الجيش.

وينصّ التاريخ أنّ الكوفة بقيت خلال ذلك اليوم في حركة ولغط طيلة ذلك اليوم(١) ، وليس هناك من هدفٍ لهم إلاّ التجمّع وتطبيق الشعار الذي قاله مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، وأمّا مسلم نفسه فمعَ استمرار هذا الارتباك واللغط وكثرة الحركة، فمن المتعذّر عليه إصدار الأمر باحتلال قصر الإمارة بهذه السرعة والسهولة، ولعلّ فيه أو في خارجه مَن يحارب إلى جانبه فيصل الأمر إلى ما لا تُحمد عُقباه.

ونحن لو التفتنا إلى تفرّق الناس عن مسلمعليه‌السلام لمجرّد التهديد والخديعة،

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠٧، مُروج الذهب للمسعودي: ج٣، ص٦٩.

٢٢٠