في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193894
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193894 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هؤلاء بأسيافهم فنُعانق الحُور(1) .

روي عن جابر، أنّ رجلاً قال - في ساحة المعركة -: (أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟

قال: في الجنّة. فألقى تمرات كنّ في يده، ثمّ قاتل حتّى قُتل) (2) .

والثَمن هو الجنّة:

ثمّ إنّ الجنّة هي الثمن في هذه المبايعة( ... بأنّ لهم الجنّة ) ، ويستتبع الوعد بالجنّة البُشرى السارَّة الّتي يزفُّها القرآن إلى المجاهدين:( ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، الجنّة والبشرى والفوز العظيم.

وتنتهي الآية الكريمة مرّة أُخرى بالبشارة( ... وبشّر المؤمنين ) .

إنّ جوّ الآية يطفح بالبُشرى والسرور والفوز، وهكذا يشعر الإنسان عندما يقرأ هذه الآية المباركة أنّه ينتقل فيها من الجنّة إلى البشرى، ومن البشرى إلى الفوز العظيم، ومن الفوز العظيم إلى البُشرى ثانية.

الفوز العظيم:

وأودّ أن أقف قليلاً عند هذه الكلمة( ... الفوز العظيم ) ، فهو مصطلَح محدّد في كتاب الله، والّذي يتتبَّع مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن، يجد أنّها تستعمل في موارد مُتقاربة مفهوماً ومترابطة أو متَّحدة مصداقاً، فالجنّة من الفوز العظيم( لكِنِ الْرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا

____________________

(1)مقتَل الـمُقرّم: 238.

(2)صحيح مسلم: 6 / 43.

١٢١

ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، والمبايعة مع الله من الفوز العظيم:( فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) .

وطاعة الله وطاعة رسوله (ولاية الله) من الفوز العظيم:( ... وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (3) .

ورضوان الله وتبادل الرضا بين العبد وربّه من الفوز العظيم:( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (4) .

ويُطلَق على الجنّة ورضوان الله معاً:( وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (5) .

ويُطلَق على الـمَغفرة والرحمة الإلهيّة، والوقاية من السيّئات( وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (6) .

وإجمال هذه المعاني: الرحمة، والـمَغفرة الإلهيّة، ورضوان الله وطاعة الله ورسوله (ولاية الله والجنّة).

وهذه النقاط كما هي واضحة، تُعتبَر بمجموعها المحور الثاني الّذي تحدّثنا عنه في هذه التأمّلات في مسيرة الإنسان إلى الله، والّذي يُقابِل محور (الأنا) و (الذات).

____________________

(1)التوبة: 88 - 89.

(2)التوبة: 111.

(3)الأحزاب: 71.

(4)المائدة: 119.

(5)التوبة: 72.

(6)المؤمن: 9.

١٢٢

وعليه، فإنّ الثمن في هذه الآية الكريمة من جنس الـمَبيع وهو (الفوز العظيم)، وليس من نوعٍ آخر كما في سائر البيوع، حيث يختلف الـمَبِيعُ عن الثمن، وهذه من لطائف ورِقاق القرآن في هذه الآية الكريمة.

فالفوز العظيم - في الحقيقة - هو: التجرّد من محور الأنا والارتباط بمحور ولاية الله، والخروج من دائرة نفوذ سلطان الأنا والدخول في دائرة ولاية الله وطاعته ورحمته ومغفرته.

وهذا هو الفوز العظيم - في رحلة الإنسان الكبرى إلى الله - في الدنيا وفي الآخرة، وهو يشمل الإنسان في الآخرة كما يَناله في الدنيا على نحوٍ سواء.

والـمُتأمِّل في هذه الآية الآية المباركة:( الّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى‏ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، يجد أنّ الفوز العظيم هو تحرّر الإنسان وانطلاقه من أسْرِ (الأنا) والشهوات وارتباطه بالله تعالى، وهو لا يخصّ الآخرة، وإنّما يشمل الإنسان في الدنيا والآخرة.

فإنّ الجنّة هي الفوز العظيم، وهي مآل الفائزين برحمة الله، والمنزل الذي أعدّه الله تعالى لهم في الآخرة، فالفوز العظيم إذن هو: مُبايَعة الله تعالى وتسليم الأنفُس والأموال له، وهو في نفسِ الوقت ثَمن هذا البيع(2) .

صفة الّذين باعوا أنفُسهم لله:

ثمّ تصف الآية الكريمة هؤلاء الّذين باعوا أنفسهم لله بأنّهم: (التّائِبُونَ

____________________

(1)يونس: 63 - 64.

(2)لست أُريد أن أقول إنّ الجنّة هي مبايعة الله تعالى وتسليم الأنفس والأموال لله، وإنّما أُريد أن أقول: إنّ المبايعة لله هي الفوز العظيم، فيتَّحد البيع والثَمن، والجنّة هي الدار الّتي أعدّها الله تعالى في الآخرة للفائزين الصالحين من عباده.

١٢٣

الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(1) .

تائبون عائدون إلى الله، أقلعوا عن الذنوب وفرّوا إلى الله تعالى.

عابدون حامدون، شوقاً إلى الله تعالى وأُنْساً بذِكره وعبادته؛ لأنّهم وجدوا الله أهلاً للعبادة فعبدوه، وأهلاً للحَمدِ والثناء فحمدوه.

وسائحون، وقد اختلفَ الـمُفسِّرون في تفسير هذه الكلمة، فقالوا: إنّها بمعنى الصيام، وقيل: إنّها بمعنى الجهاد، وقيل: إنّها بمعنى التأمّل والسياحة الفكريّة في آيات الله، وهو المعنى الّذي أُرجِّحه هنا.

الراكعون الساجدون لله، والركوع والسجود أقصى درجات الخضوع والتذلّل بين يَدي الله، يُجسّدان حالة الخشوع والخضوع والإخْبَات والإنابة عند المؤمنين:( ... الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ... ) ،( وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ... ) .

والأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكَر هو: الرقابة على تنفيذ أحكام الله ومُراقبتها.

وحِفظ حدود الله هو: تنفيذها، والعمل بها.

فهؤلاء المجاهدون إذن، منفّذون لأحكام الله، عاملون بحدود الله، وفي نفس الوقت يُراقبون تنفيذها، يُنفّذون أحكام الله بأنفسهم ويراقبون تنفيذها في حياة الآخرين، فهم يشعرون بالمسؤوليّة تجاه حدود الله وأحكامه، في حياتهم وفي حياة الآخرين.

____________________

(1)التوبة: 112.

١٢٤

آيةُ (آل عِمْرَان):

وفي سورة (آل عمران)، نلتقي هذه اللوحة القرآنيّة الرائعة عن الشهيد، والتي تستوقِف الإنسان طويلاً، وتُخرِجه من دائرة تصوّراته البشريّة المحدودة عن الموت والحياة، إلى أُفقٍ واسع جديد لم تعهده تصوّراتنا المحدودة عن الموت والحياة، وتُعطي للحياة معنى جديداً لا تعرفه التصوّرات الجاهليّة للإنسان.

وها نحن نتلو معاً هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران:( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الّذِينَ اسْتَجَابُوا للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُؤءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنّمَا ذلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) (1) .

____________________

(1)آل عمران: 169 - 175.

١٢٥

الحياة الطيِّبة:

الحقيقة الأُولى في هذه اللَوحة القرآنيّة:

إنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أحياء وليسوا بأموات، والنهي عن تصوّر أنّ الشهداء أموات:( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً... ) .

إنّ المسألة ليست من المجاز في التعبير، وإنّما هي حقيقة داخلة في حَيِّز النفي والإثبات - النهي عن حُسبان الشهداء أمواتاً، وإثبات أنّهم أحياء -، وهذا تصوّر جديد على الذهنيّة المادِّيّة تماماً.

ليست الحياة هي فقط هذه الفرصة، وهذه الرقعة الضيّقة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا.

وليست الحركة الحيوانيّة الّتي يُمارسها الإنسان في هذه الدنيا من أكل وشرب، وتسابق على متاع الحياة الدنيا وزُخرُفها، ونشاط وحركة في حقلِ الغرائز الحيوانيّة، هي المؤشِّر والمقياس الوحيد للحياة، فهذه رقعة صغيرة للحياة، محدودة الأمد قصيرة الـمَدى، حافلة باللَهو واللعب.

إنّ ما بأيدي الناس هنا سراب بقِيْعَة يحسبه الظمآن ماءً، وليس من الحياة في شيء، أمّا النبع الصافي والزلال للحياة، فشيء آخر يختلف تماماً عمّا يعرفه الناس، والله تعالى ورسوله يدعوانا إلى الحياة الطيّبة الحقيقية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ... ) (1) .

وهذا الذي يدعونا إليه الله تعالى ورسوله من الحياة شيء آخر، غير ما يتنافس عليه الناس من اللَهو واللعب، والتفاخر والزينة، وما يَشُوبه من البعد عن الله

____________________

(1)الأنفال: 24.

١٢٦

والبَغضاء، والمعاصي والذنوب، والاستغراق في مَتاع الحياة الدنيا والتعلّق بها، وحياة الذُلِّ والهَوانِ والعبوديّة لغير الله، والاستسلام للأهواء والشَهوات.

إنّ الحياة في التصوّر الإسلامي انطلاق من القيود والأغلال، وتحرّر من أسْرِ الهوى والشهوات، وخروج من ذلِّ الانقياد والاستسلام للطغاة إلى عزِّ العبوديّة لله تعالى.

والحياة - في هذا التصوّر الجديد على البشريّة - تحرّر من كلّ تعلّق بالدنيا، لا بمعنى ترك الدنيا ولذّاتها، فإنّ الإنسان المؤمن يأخذ نصيبه ممّا خلق الله من الطيّبات، كالآخرين أو أفضل من الآخرين، إلاّ أنّه لا يقع في قَبْضةِ التعلُّق بالدنيا ولا تتحكّم فيه، ولا يكون مصداقاً لقولهعليه‌السلام : (حبُّ الدُنيا رأس كلّ خَطيئة)(1) .

إنّ ما بأيدي الناس من الحياة ليس من الحياة في شيء، وإنّما هي أقرب إلى حياة البَهائِم منها إلى حياة الإنسان، أمّا الحياة الحقيقية، فهي الّتي اختارها الله للصالحين من عباده في الدنيا والآخرة، وهي (الحيوان) في الآخرة:( ... وَإِنّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (2) ، والحيَوان: مبالغة في الحياة، إنّها الحياة الحافِلة بلقاء الله والإيمان، والحُبّ والشهود والصِدق والطَيّبات، وفي أُفقٍ واسعٍ عَريض، وعلى مدى الخُلودِ والأبديّة، حياة الروح والجسم والعقل معاً.

والشهيد في حركته الصاعدة إلى الله، ينتقل من هذه الرقعَةِ الضيِّقة من الحياة الفانية والـمُؤقَّتة إلى ذلك الأُفقِ الرحيب من الحياة، ومن هذه الـمَشوبة بالأكدار والابتلاءات إلى النبع الصافي الزُلال من الحياة، وليس إلى الموت والركودِ والغياب كما يتصوّره الناس.

____________________

(1)بحار الأنوار: 51 / 258.

(2)العنكبوت: 64.

١٢٧

أعلى دَرَجات القُربِ من الله:

(عِندَ رَبّهِمْ)، وهذه الفقرة تدخل لتُكمِل صورة هذه الحياة الحقيقيّة الّتي ينتقل إليها في مسيرته إلى الله تعالى.

إنّها غاية حركة الشهيد إلى الله، وهذه الغاية هي كلّ قيمة الحياة؛ وتكتسب الحياة قِيمتها الحقيقيّة عندما تقترن بالقُرب من الله، وتُوصِل الإنسان إليه وتجعله بجواره، أمّا عندما تنقطع الحياة من التحرّك إلى الله، ومن قربه ومن التوجّه إليه، فهي سَراب وضياع له في متاهات الدنيا، واستغراق في مَتاعها وحُطامها.

إنّ غاية الإنسان في مسيرته وحركته الكادحة الكبرى في الدنيا هي: (القُرب من الله ولقاء الله)، وهي الغاية التي يسعى إليها الشهيد (يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ)(1) .

وما يُحقّق الإنسان في الدنيا من هذه الغاية هو قيمته ودرجته، والقرب من الله هو القياس الّذي يَقيسُ به الإسلامُ أقدارَ الناس ومراتبهم، والناس في القُربِ والبُعدِ من الله درجات ومراتب، حتّى يكون الإنسان (عند الله)، فلا تكون ثمّة درجة أقرب إلى الله منه إلى الله.

ولا تَجد في اللغة تعبيراً أقوى وأبلغ في (القُرب) من كلمة (عند)، وكأنّ الفواصل تنعدم في هذه الدرجة من القرب. وحاشا ربّنا من مُلابَسَة خَلْقِه وعبادِه، وتبارك وتعالى من أن يرتفع عبادُه إلى مستوى كبريائه وعزِّه وجلاله، ولكنّه تعبير بليغ عن أقربِ درجات القرب إلى الله.

وقد ورد في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فوق كلّ بِرٍّ بِرّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتِلَ في سبيل الله عزّ وجلّ، فليس فوقه بِرّ)(2) .

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فوق كلّ ذي بِرٍّ بِرّ

____________________

(1)الانشقاق: 6.

(2)بحار الأنوار: 100 / 10.

١٢٨

حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فليس فوقه برّ)(1) .

إنّ كلمة (عند ربّهم) لتَستوقِف الإنسان طويلاً! أيبلغ الأمر بالعبد الوضيع أن يكون (عند ربّه)، هكذا من دون فواصل ومراحل، وبمِثل هذه الدرجة من القُرب (عند ربّه)، وتعالى الله عن ملابسة مخلوقاته علوّاً كبيراً؟!

وقد ورد مثل هذا التعبير في القرب من الله في سورة القمر، بالنسبة إلى الـمُتّقين:( إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (2) .

وفي الـمُناجاة الشعبانيّة: (... إلهي هَبْ لي كمال الانقطاع إليك، وأنِرْ أبصار قلوبِنا بضياءِ نَظَرِها إليك، حتّى تَخرق أبصار القلوب حُجُب النور، فتصل إلى مَعدنِ العَظَمَة...)(3) .

وحالة (كمال الانقطاع إلى الله تعالى)، هي الّتي تُوصِل الإنسان إلى مَعدنِ العظَمة، وتخرق له حُجب الظلمة والنور إلى الله تعالى.

وفي المناجاة: (إلهي فاسلُك بنا سُبل الوصول إليك، وسَيّرنا في أقربِ الطُرقِ للوفود عليك)(4) .

وليس من أحدٍ تنطبق عليه هذه الفقرات أكثر من الشهيد، فهو يسلك إلى الله تعالى أقرب الطرق، وليس من طريقٍ أقرب إلى الله من الشهادة، ثمّ يَفِد على الله تعالى.

يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (إنّ لله عباداً في الأرض كأنّما رأوا أهل الجنّة في جَنّتهم، وأهل النار في نارِهم، يَجْأرون إلى الله سُبحانه بأدْعيَتِهم، قد حَلا في أفواههم وحَلا في قلوبهم طَعْمُ مُناجاته، ولَذيذُ الخَلوة به. قد أقسمَ الله على نفسِه بجلاله وعِزّته، لَيُورثنَّهم الـمَقام الأعلى في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنده)(5) .

هؤلاء هم الذين يُورّثهم

____________________

(1)بحار الأنوار: 74 / 61.

(2)القمر: 54 - 55.

(3)مفاتيح الجِنان: 158 / مناجاة الأئمّةعليهم‌السلام في شعبان.

(4)بحار الأنوار: 94 / 147.

(5)تفسير البصائر: 42 / 391.

١٢٩

الله المقام الأعلى، ويرزقهم الله جواره في الجنّة، ويُسكنهم في مقعدِ صدقٍ عنده، وهم الّذين يَفِدون على الله.

( يُرْزَقُونَ ) :

وهذه الكلمة تُشخّص نوع الحياة، إنّها حياة حقيقيّة معنويّة خالصة، بل هي الحياة بكلِّ أبعادها المادِّيّة والمعنويَّة، وهذه الجُملة لا تُبقِي لأحد مجالاً للشكّ في تشخيصِ هذه الحياة بعد حياة الدنيا.

ومن العجب أنّ بعض الـمُفسِّرين يتردَّدون في تفسير هذه الآية بالحياة الحقيقيّة! والآية الكريمة ترسم الحياة بصورة واضحة؛ فالشهداء أحياء عند ربّهم يُرزَقُون في حياتهم الجديدة، ويفرحون بما آتاهم الله من فضلِه، ويستبشرون بالّذين من خلفِهم.

وهل بعد كلّ هذه النقاط غموض في معنى الحياة الّتي تَلِي هذه الحياة، والتي تَسبق الحياة الآخرة؟!

إنّ هذه الثانية ليست هي الحياة الآخرة، فالحياة الآخرة ليست موضع إنكار أحد من المؤمنين، والآية حيث تنهى عن حسبان الشهداء من الأموات، فإنّها تكاد تكون صريحة في أنّ المقصود من هذه الحياة (حياة أُخرى) غير حياة الآخرة، فإنّ أحداً من المؤمنين لا يشكّ في حياة الآخرة للشهيد ولغير الشهيد، فلابدّ أن يكون المقصود حياة أُخرى.

وبين حياة الدنيا وحياة الآخرة - وهي الّتي يجهلها الكثير من المؤمنين - ينتقل إليها الشهيد من الحياة الدنيا مباشرة، ويعيش فيها بجوار ربّه تبارك وتعالى، والناس ينظرون إلى الشهيد جثَّة هامِدة، فيتصوّرون أنّه ميّت، وليس هو بميّت، وإنّما ينعم في جوار ربّه بما أعدّ الله للصالحين من عباده من فضلٍ ورحمةٍ في الجنّة، حتّى ينتقل في الآخرة إلى حيث يختار الله تعالى له من مراتب رحمته وفضله، في جنّة عَرْضها السماوات والأرض.

وفي أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته شواهد كثيرة على هذه الحياة

١٣٠

البَرْزَخية الّتي يحياها الشهداءُ والصالحون من عباد الله في الجنّة، ويَنعمون فيها برحمة الله، قبل الحشر والحياة الآخرة.

ففي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله، فيما جرى للمسلمين في حرب مُؤتة - بعد استشهاد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه الأنصاري (رحمهم الله)، الذين عَيَّنهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قادة للجيش على التوالي، إنْ استُشهد منهم أحد، تولَّى الآخر مَحلّه -، يقول جابر (رحمه الله):

(فلمّا كان اليوم الّذي وقعَ فيه حَرْبُهم، صلّى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله بنا الفجر، ثمّ صعد المنبر، فقال: قد التقى إخوانُكم مع المشركين للمحاربة - فأقبل يُحدِّثنا بكَرَّات بعضهم على بعض -، إلى أن قال:

قُتِل زيد بن حارثة وسقطت الراية، ثمّ قال: وقد أخذ الراية بيده الأُخرى، ثمّ قال: قُطِعَت يده الأُخرى، وقد أخذ الراية في صدره، ثمّ قال: قُتِلَ جعفر بن أبي طالب وسقطت الراية، ثمّ أخذها عبد الله بن رواحه، وقد قُتلَ من المشركين كذا، وقُتِل من المسلمين كذا: فلان وفلان، إلى أن ذكرَ جميع من قُتِلَ من المسلمين بأسمائِهم، ثمّ قال: قُتِلَ عبد الله بن رواحه، وأخذ الراية خالد بن الوليد، فانصرف المسلمون.

ثمّ نزلَ عن المنبر وصار إلى دار جعفر، فدعا عبد الله بن جعفر فأقعده في حِجره وجعلَ يمسح على رأسه، فقالت والدته - أسماء بنت عميس -: يا رسول الله، إنّك لتمسح على رأسه كأنّه يَتيم، قال: قد استشهدجعفرفيهذااليوم، ودمعتْ عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: قُطِعَت يداه قبل أن يستشهد، وقد أبدَله اللهبجناحين من زُمرّد أخضر، فهو الآن يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء)(1) .

____________________

(1)بحار الأنوار: 21 / 54، نقلاً عن الخرائج: 188.

١٣١

( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ... ) (1) :

إنّ فرح الشهيد بما يُؤتيه الله من فضلِه ورحمته الواسعة لا حدَّ له.

إنّه يستقبل الرحمة الإلهيّة الواسعة، ويرى ما أعدّ تعالى من فضلٍ ورحمة قبل أن تفارق الروح جسده، وقبل أن يلفظ آخر أنفاسه.

روى زيد بن علي عن أبيه علي بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام ، عن آبائه، قال: (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : للشهيد سَبع خِصال من الله:

أوّل قطرة من دَمه: مغفور له كلّ ذنب.

والثانية: يقع رأسه في حِجر زوجتيه من الحُور العِين، وتَمسحان الغبار عن وجْهِه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول: هو مثل ذلك لهما.

والثالثة: يُكْسَى من كسوة الجنّة.

والرابعة: يَبْتَدِره خَزنة الجنّة بكلّ ريحٍ طيّبة، أيّهم يأخذه معه.

والخامسة: أن يرى مَنزِله.

والسادسة: يُقال لروحه اسرحْ في الجنّة حيث شِئتْ.

والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لراحة لكلّ نبيّ وشهيد)(2) .

( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ ) (3) :

إنّ الشهداء لم يموتوا، ولم يَنل الموت منهم وَعْياً ودَرْكاً؛ إنّهم يرَون إخوانهم

____________________

(1)آل عمران: 170.

(2)تهذيب الأحكام: 6 / 122.

(3)آل عمران: 170.

١٣٢

المؤمنين الّذين لم يلحقوا بهم بَعد، ويُتابعون حركتهم ومسيرتهم، ويدعون الله تعالى لهم، ويستبشرون بوفودِ إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بعد عليهم.

وإنّ لكلّ لقاء جديد فرحة جديدة وبُشرى جديدة، وفي كلّ يوم لهم بُشرى جديدة، بلقاء أخٍ جديد في الله، يَفِد على الله من بين لَظَى المعركة، ويُقبِل عليهم فيستقبلونه بالابتهاج والسرور.

إنّهم حاضرون و (شهداء) المعركة، لم يغيبوا عنها بالموت، ولم يكن الموت بالنسبة إليهم غياباً، إنّهم عند ربِّهم يشهدون المعركة ويتابعون أحداثها، ويدعون للـمُقاتِلين ويستبشرون بالقادمين منهم إليهم.

وحاشا أن يكون أُولئك أمواتاً، بل هم من شهداء المعركة وحُضّارِها.

إنّما الأموات هم أُولئك الغائبون عن مسيرة التأريخ وحياة الناس، وصراع الحقّ والباطل، وجهاد المؤمنين، وهم أُولئك الّذين يُؤثِرون الحياة الدنيا وعافيتها، ويخلدون إلى الراحة ويعتزلون تيّار العمل والحركة والجهاد، ويعيشون على هامش الحياة والتاريخ، يتفرَّجون على الصراع من بعيد، أُولئك هم الأموات، بالرَغم من أنّهم يستنشقون الهواء ويتحرَّكون.

أُولئك أحياء الأموات الذين لا يعرفون للحياة معنى غير هذه الحياة التي تعيشها البهائم، ولا يعرفون في الحياة لذَّة ومَتاعاً إلاّ ما يعرفه الحيوان من اللَذة والمتاع، ولا تتجاوز اهتماماتهم وطموحاتهم شهوات الحيوانات واهتماماتها، أُولئك هم الغائبون الأموات.

أمّا الشهداء، فلا يَغيبون عن هذه الساحة لحظة واحدة، ويشهدون عن كَثَبٍ من عند ربِّهم كلّ تطوّرات المسيرة وحركتها، وتقدّمها وانتصاراتها وانتكاساتها، وآلامها وآمالها وتَطَلُّعاتها وطموحاتها ومعاناتها، ولكن بنَفَسٍ يختلف عن أنفاسِنا، ورؤية تختلف عن رُؤانا، وتَصوّر يختلف عن تصوّراتنا المحدودة.

١٣٣

لا خوفٌ ولا حزن:

وذلك قوله تعالى:( ... وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) .

فهم ينظرون إلى إخوانهم الّذين لم يلحقوا بهم بعد، وإلى المسيرة الحافلة بالدماء والجهاد والانتصارات والانتكاسات والآلام والمرارات، بهذه الرؤية الربّانية:( وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

أمّا نحن هنا في هذه الدنيا، فرؤيتنا تختلف.

إنّنا ننظر إلى المسيرة من خلال تصوّراتنا البشريّة الّتي يشوبها الضعف وقصر المدى والتشويش، وينتابنا القلق والارتباك كلمّا توقّعنا مصيبة تنزل بنا في حركتنا، وكلّما توقّعنا عاصفة تعصِف بنا ولا تَذَر رَطباً ولا يابساً، وينتابنا الحزن والألم كلّما نزلتْ بنا داهية أو عَمّتنا مصيبة، فتضيق بنا الأرض بسِعتها، وتعتصرنا الآلام، آلام الفراق ومَرارة الانتكاسات، وشدَّة الابتلاء في الأنفس والأموال والأرزاق والأمن.

فالمسيرة بالنسبة إلينا - ومن خلال تصوّراتنا - حافلة بالخوف والحزن، الخوف على ما نتوقَّعه من الابتلاء، والحزن على ما نزل بنا من ابتلاء وشدَّة، وقليل من عباد الله الّذين تصفُو لهم الرؤية، في وسط هذه المسيرة الحافلة بالدماء والآلام، فلا يعيشون خوفاً ولا حزناً.

أمّا الشهداء، فرؤيتهم وتصوّرهم لهذه المسيرة تختلف عن رؤيتنا وتصوّراتنا البشريَّة الـمَشوبة بضعف الإنسان.

إنّها رؤية اكتسبوها من عند الله، صافية بعيدة المدى، مِلؤها الثقة والاطمئنان بالله تعالى، رزقهم الله تعالى إيّاها من عنده، فهُم يرون المسيرة الربَّانيّة على وجه الأرض بهذه الثقة والطمأنينة، وبهذه الرؤية الصافية، من غير خوف ولا قلقٍ ولا حُزن، ومن ثمّ يستبشرون بإخوانهم الذين لم

____________________

(1)آل عمران: 170.

١٣٤

يلحقوا بهم بعد، والّذين يخوضون غِمار المعركة، ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون، ألاّ يخافوا من شيء يستقبلهم ولا يحزنوا على شيء فاتَهم، فلن يتجاوزهم نصر الله الّذي وعد الله به الصالحين من عباده، ولن يتخطّاهم النصر والتأييد والدعم والإمداد من الله، في وسط هذا الصراع الحافل بالدماء والآلام والمرارات والمعاناة.

( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (1) .

فعلامَ الخوف والقلق والارتباك من المستقبل؟!

فلن يُصيبهم أذىً أو تعب في سبيل الله، ولن تقسُ عليهم الابتلاءات، إلاّ كتب الله تعالى لهم بكلِّ ذلك عملاً صالحاً وأجراً.

( ... ذلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَنَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ... ) (2) .

فعلامَ الحزن ممّا يُصيبهم من ابتلاءات ومِحن وآلام، وممّا يعانون في سبيل الله؟

إذن، (لا خوف ولا حزن) في هذه المسيرة، وليس على العاملين في هذه المسيرة الكادحة - ذات الشوكة - حزن أو خوف ممّا أصابهم أو يصيبهم من ابتلاء.

تلك هي الرؤية الربَّانيّة الصافية الواثقة بعيدة المدى للمسيرة، وأنّ علينا - نحن العاملين في سبيل الله، على خُطى الشهداء - أن نتسلَّح بهذه الرؤية، ونُبدّل رؤيتنا القَلِقة والـمُرتبِكة الخائفة بالرؤية الواثقة والـمُطمئنّة بعيدة المدى؛ لنتمكّن من حمل عبء المسؤوليّة الشاقّة ومواصلة السير على طريق الأنبياء والـمُرسَلين.

____________________

(1)القصص: 5 - 6.

(2)التوبة: 120.

١٣٥

ثأرُ الله

رِحلة الشهادة في السُنّة الشريفة

باقة عطرة من الحديث الشريف في قِيمة الشهيد:

وإليكم هذه الباقة العطرة من الروايات في فضل الشهادة وقيمتها:

* عن الصادقعليه‌السلام : (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فوق كلّ بِرٍّ بِرّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فليس فوقه بِرّ، وفوق كلّ عقوقٍ عقوق، حتّى يَقتُل الرجلُ أحدَ والديه، فإذا فعل ذلك فليس فوقه عقوق)(1) .

* عن الـمُقدام بن معدِ يَكرب، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (للشهيد عند الله ستّ خصال:

يُغفَر له من عذاب القبر.

ويَأمَنُ من الفَزعِ الأكبر.

ويحلَّى حِلْيَة الإيمان.

ويُوضَع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها.

ويُزوَّج اثنين وسبعين زوجة من الحُور.

ويُشفَّع في سبعين من أقاربه).

قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب(2) .

____________________

(1)بحار الأنوار: 74 / 61.

الكافي: 2 / 348.

وباختلافٍ يَسير: وسائل الشيعة: 11 / 10.

والتهذيب: 2 / 41.

والخصال: 1 / 8.

ومُستدرَك الوسائل: 2 / 242.

والفروع: 1 / 342.

(2)سُنَن الترمذي: 4 / 187 - 188 / الحديث 1663.

وقريب من هذا المضمون في: سُنَن ابن ماجه: 2 / 935 - 936 / الحديث 3799.

١٣٦

* سأل أبو ذرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(أيّ الأعمال أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله.

قال: فقلت: أيّ الجهاد أفضل؟

قال: مَن عَقَرَ جواده، وأُهْرِيقَ دمه في سبيل الله) (1) .

* العيّاشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر، قال: (أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فجاهِد في سبيل الله، فإنّك إنْ تُقتَل كنت حيّاً عند الله وتُرزَق، وإنْ متَّ فقد وقعَ أجرُك على الله، وإنْ رجعتَ، خرجت من الذنوب إلى الله).هذا تفسير( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً ) (2) .

* عن مسعدة بن صدقة، عن الصادقعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (ثلاثة يُشفَّعون إلى الله عزّ وجلّ فيُشفِّعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء)(3) .

* وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يقول - في مسيرته إلى كربلاء -: (إنّي لا أرى الموت إلاّ سَعادَة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما)(4) .

* وعن أنس بن مالك، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاّ الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا

____________________

(1)بحار الأنوار: 100 / 11، عن الخصال: 2 / 30.

وبمضمونه بطريق آخر: سُنَن ابن ماجه: 2 / 934 / الحديث 2794.

ومُستدرَك وسائل الشيعة: 2 / 244.

(2)مُستدرَك وسائل الشيعة: 2 / 244.

(3)مُستدرَك وسائل الشيعة: 2 / 245.

(4)تُحَفُ العقول: 176.

١٣٧

فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى)(1) .

وعن سعيد بن الـمُسيّب، عن أبي هُريرة، قال: سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ)(2) .

* وعن جابر بن عبد الله: (قَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ. فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ)(3) .

* عن ابن إسحاق عن البرّاء، قال:(جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ - قَبِيل مِنْ الأَنْصَارِ - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله): (عَمِلَ هَذَا يَسِيراً، وَأُجِرَ كَثِيراً))(4) .

* وعن أنس بن مالك - في حوادث معركة بدر - قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (قوموا إلى جنَّة عَرضها السماوات والأرض.

قال: يقول عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرْضها السماوات والأرض؟!

قال: نعم.

قال: بَخٍ بَخٍ، فقال رسول الله: ما يَحْملُك على قول (بَخٍ بَخٍ)؟!.

قال: لا والله يا رسول الله، إلاّ رجاء أن أكون من أهلها.

قال: فإنّك من أهلها.

فأخرج تَمرات من قرنه يأكل منهنّ، ثمّ قال: لئن أنا حييتُ حتّى آكل هذه، أنّها لحياة طويلة.

قال: فرمى بما كان معه من التمرِ ثمّ قاتلهم حتّى قُتل) (5) .

____________________

(1)صحيح البخاري: 2 / 112 / كتاب الجهاد.

الترغيب والترهيب: 2 / 311.

سُنَن الترمذي: 4 / 176.

مُستدرَك الوسائل: 2 / 243.

(2)صحيح البخاري: 2 / 112.

والترغيب والترهيب: 2 / 311.

(3)صحيح مسلم بن الحجاج: 6 / 43، طبعة دار الفكر.

(4)صحيح مسلم بن الحجاج: 6 / 44، طبعة دار الفكر.

(5)نفس المصدر السابق.

١٣٨

* وقال محمّد بن المنكدر: إنّه سمع جابراً يقول: (جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله) وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.

فَقَالَ: لِمَ تَبْكِي؟! أَوَ لا تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا)(1) .

* عن مسروق قال: سألنا عبد الله(2) عن هذه الآية:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ)(3) .

* وكان أمير المؤمنين يقول:

(أيّها الناس، إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، ولا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ، ليس عن الـمَوتِ محيد ولا محِيص، مَن لم يُقْتَل مات، إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ، والَّذِي نَفْسُ عَليّ بِيَدِهِ، لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ)(4) .

* وعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء)(5) .

* عن علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، قال: (ما من قطرة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتين:

قطرة دمٍ في سبيل الله.

____________________

(1)صحيح البخاري: 2 / 115.

والترغيب والترهيب: 2 / 313.

(2)الظاهر إنّه عبد الله بن مسعود (رحمه الله).

(3)صحيح مسلم بن الحجّاج: 6 / 38 - 39، طبعة دار الفكر.

ورواه: ابن ماجة في: السُنَن: 2 / 936 / الحديث 2801.

وقريب منه عن كعب بن مالك في: الترغيب والترهيب: 2 / 316.

(4)شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 306.

(5)بحار الأنوار: 100 / 12، نقلاً عن قُرب الإسناد: 31.

والخصال: 1 / 102.

١٣٩

وقطرة دمعة في سواد الليل، لا يريد بها عبد إلاّ الله عزّ وجلّ)(1) .

* وعن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام : (ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرةِ دمٍ في سبيل الله، أو قطرةٍ من دموعِ عينٍ في سواد اللَيل من خشيَة الله.

وما من قدمٍ أحبّ إلى الله من خطوةٍ إلى ذي رَحم، أو خطوة بها زحفاً في سبيل الله.

وما من جُرْعَة أحبّ إلى الله من جُرعَة غيظٍ، أو جُرْعة تردّ بها العبد مُصيبة)(2) .

* عن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ أبخلَ الناسِ مَن بَخلَ بالسلام، وأجودَ الناسِ مَن جادَ بنفسِه وماله في سبيلِ الله)(3) .

* عن الرضاعليه‌السلام ، عن آبائه، عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال: (بينما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يخطب الناس، ويحضّهم على الجهاد، إذ قام إليه شابٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن فضل الغُزاة في سبيل الله.

فقال عليّعليه‌السلام : كنت رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ناقته العَصْباء، ونحن قافلون من غزوة ذات السَلاسل، فسألته عمّا سألتني، فقال:

إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو، كتبَ الله لهم براءة من النار، فإذا تجهَّزوا لغزوٍ، باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودَّعهم أهلوهم، بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحيّة من سِلخها، ويوَكِّل الله (عزّ وجلّ) بهم، بكلِّ رجلٍ منهم، أربعين ألف مَلَك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. ولا يعمل حسنة إلاّ ضُعّفت له، ويكتب له كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون ألف سنة، كلّ سنة ثلاثمئة وستّون يوماً، واليوم مثل عُمْر الدنيا.

وإذا صاروا بحضرة عدوّهم، انقطع عِلم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم، وإذا برزوا لعدوّهم وأُشرعت الأسنّة وفوقَتْ السِهام، وتقدّم الرجلُ إلى الرجلِ، حفَّتهم الملائكة بأجنحتهم، ويدعون الله لهم بالنصر والتَثَبّت

____________________

(1)بحار الأنوار: 100 / 10، نقلاً عن الخِصال: 1 / 31.

(2)بحار الأنوار: 100 / 14.

(3)بحار الأنوار: 100 / 15، نقلاً عن نوادر الراوندي: 5.

١٤٠