في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193909
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193909 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يروي أبو مخنف عن أسديَّين قالا: خرجنا مِن الكوفة حتّى قدِمنا مكّة، فدخلنا يوم الترْوية فإذا نحن بالحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير قائمَين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجر والباب... فسمعنا ابن الزبير يقول الحسينعليه‌السلام : إن شئتَ أن تُقيم أقمتَ فوَليتَ هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك.

فقال الحسينعليه‌السلام : (إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبْشاً يستحلُّ حُرْمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش)(1) .

ولمّا بلغ عمرو بن سعيد أنّ حسيناً قد خرج، فقال اطلبوه. اركبوا كلّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه. فعجِب الناس مِن قوله هذا(2) .

فاعترضهعليه‌السلام يحيى بن سعيد بن العاص ومعه جماعة أرسلهم عمرو بن سعيد إليه فقالوا لهعليه‌السلام : انصرف أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط، وامتنع الحسينعليه‌السلام وأصحابه امتناعاً قويّاً(3) .

وواضح لـمَن يعلم خفايا كيد بني أُمية، أنّ بني أُمية كانوا لا يريدون أن يعطوا للحسينعليه‌السلام فرصة للخروج والثورة، وكانوا يخطّطون لاغتيال الحسينعليه‌السلام .

وقد جاء عمرو بن سعيد بن العاص مِن عند يزيد بخطّة كاملة؛ لاغتيال الحسينعليه‌السلام في الموسم.

فلمّا علِم الإمام بذلك غادر مكّة إلى العراق يوم الترْوية، ليفوِّت على آل أبي سفيان فرصة المؤامرة، ويحبط عليهم خطّتهم.

وقد أزعج عمرو بن سعيد بن العاص نبأ مغادرة الحسينعليه‌السلام للموسم يوم

____________________

(1)تاريخ الطبري 7 / 275 - 276.

(2)العقد الفريد 4 / 377.

(3)الإرشاد / 201.

١٨١

التروية بهذه الصورة، وأرسل إليه يحيى بن سعيد بن العاص ليطلب من الحسين أن يعود إلى الموسم، إلاّ أنّه رجع من دون أن يحقّق شيئاً ممّا كان يريده عمرو بن سعيد بن العاص، كما لم يصنع مروان بن الحكَم قبله شيئاً، عندما أنكر على الوليد أن يترك الحسينعليه‌السلام ليخرج مِن عنده مِن غير بيعة في تلك الليلة.

وقال له بصراحة (إن فارقك الساعة ولم يبايع، لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجُل حتّى يبايع أو تضرب عنقه).

ولكن الحسينعليه‌السلام كان قد أعدّ العدّة لمثْل هذه المفاجأة مِن قبْل، فصحِبَ معه جمْعاً مِن الفتيان، وقَفوا بسيوفهم على باب الأمير؛ ليتدخّلوا بالقوّة إذا اقتضى الأمر، وكان كذلك.

عَودة إلى الدلالة الحرَكية للخطاب الحسيني:

إذن كان الحسينعليه‌السلام يُعدّ نفسه للخروج والثورة على يزيد، وهو لا يريد بهذه الثورة إلحاق هزيمة عسكرية بيزيد، وإنّما يريد أن يستنهض المسلمين ويحفّزهم ويحرّكهم لمقاومة الظالم، ويُعيد إليهم وعْيهم وضمائرهم وعزائمهم كما قلنا.

فلست أدري ماذا دهى المسلمين حتّى رضوا بيزيد بن معاوية خليفة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يمض مِن وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر مِن نصف قرن.

وخطاب الاستنصار الحسيني يحمل الدعوة إلى الثورة والمقاومة في وجه الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(أيّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرام الله،

١٨٢

ناكثاً عهده مخالفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيَّر عليه بفِعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله). وهذه هي الصفة البارزة الأُولى في خطاب الاستنصار الحسيني.

3 - المضمون الوَلائي لاستنصار الحسينعليه‌السلام :

للاستنصار علاقة وثيقة بشبكة الولاء، فتجب النُصرة في شبكة الولاء عند الاستنصار. وشبكة الولاء ذات بُعدين: البُعد العمودي، والبُعد الأفقي، وهما سواء في وجوب النصرة عند الاستنصار.

البُعد العمودي مِن شبكة الولاء:

أمّا البعد العمودي في هذه الشبكة فهو الولاء لله ولرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولأئمّة المسلمين وأولياء أمورهم. يقول تعالى:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) وقد ورَد في تفسير هذه الآية المباركة بأسانيد مستفيضة عن طُرق الفريقين، أنّ الآية الكريمة نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إمام المسلمين، وهو المقصود بقوله تعالى:( الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) عندما تصدّق بخاتمه وهو راكع في الصلاة خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول تعالى:( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) .

البُعد الأفقي مِن شبكة الولاء:

وأمّا البُعد الأفقي في هذه الشبكة فهو الولاء للمؤمنين: (المؤمنون بعضهم

____________________

(1)المائدة / 55.

(2)النساء / 59.

١٨٣

أولياء بعض) وعلى هذا البُعد من شبكة الولاء: المؤمنون أُسرة واحدة، تربطهم رابطة الولاء، مهما كانت لُغاتهم وألوانهم وأوطانهم وطبقاتهم.

ويشترك البُعد العمودي والبُعد الأفقي في الولاء في وجوب الحبّ والنصر والنصيحة والسلام، ويتميّز البُعد العمودي من الولاء بوجوب الطاعة، فتجب طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أُولي الأمر، وطاعة مَن يأمر الله تعالى ورسوله وأُولوا الأمر بطاعتهم.

الصيغة التوحيدية في شبكة الولاء:

وكلّ ما يجب في هذه الشبكة على أعضائها من الحبّ والنصر والتعاون والنصيحة والسلام والتعاون والطاعة، إنّما يجب بأمر الله تعالى.

ويأتي في امتداد طاعة الله تعالى وحده، فلا طاعة لرسول الله ولا لأُولي الأمر مِن دون طاعة الله، وإنّما يجب طاعتهما بأمر الله.

ولا يجب حبّ رسول الله ولا أُولي الأمر ولا المؤمنين، ولا يجب نصرهم ولا تجب نصيحتهم، إلاّ بأمر الله تعالى.

وهذه هي الصيغة (التوحيدية) لشبكة الولاء، وهي خصوصية بارزة ومحوَرية في كلّ هذه الشبكة، وفي كلّ ما يجب ويحرم في هذه الشبكة الواسعة، وفي أعضاء أُسرة التوحيد الكبيرة.

مقوّمات الولاء في البُعد الأفقي:

يقول تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (1).

____________________

(1)الأنفال / 72.

١٨٤

وهذه المجموعة من العناصر هي التي تشدّ المؤمنين بعضهم ببعض بآصرة الولاء. وهذه المجموعة هي الإيمان، والهجرة، والجهاد، بالأموال والأنفس والإيواء والنُصرة.

والآية الكريمة وإن كانت تُشير إلى المهاجرين والأنصار صدر الإسلام. ولكن تبقى هذه العناصر بروحها مِن ثوابت الولاء، ولا ولاء مِن دونها بين المؤمنين.

ذلك أنّ أُسرة التوحيد الكبيرة كلّها في مواجهة الشِرك والكفر والظلم والاستكبار.

وهذه المواجهة حتمية مِن ناحية، ومصيرية مِن ناحية أخرى. فلا بدّ أن يدخل المؤمنون في هذه المواجهة كتلة واحدة وصفّاً واحداً، تربطهم آصرة الولاء أولئك بعضهم مِن بعض، كما أنّ الأمر كذلك في أُسرة الشرك والكفر تدخل في هذه المواجهة كتلة واحدة، تربطها علاقة الولاء العضوية بعضهم مِن بعض.

الولاء والإيمان الحقّ:

والإيمان الحقّ، هو الإيمان الفاعل المؤثّر الذي يشدّ بعض المؤمنين ببعض، ويجعلهم في مواجهة الكفر والشرك والاستكبار. والإيمان الحقّ خصيب وليس بعقيم. يوصِل ويفصل: يوصِل المؤمنين بعضهم ببعض، ويفصل المؤمنين عن المشركين والكافرين.

والإيمان الحقّ مصدر عطاء وثورة ونصر وفِعل في حياة الإنسان المسلم. ولا يكون الإيمان حقّاً إلاّ ضمن شبكة الولاء بكلّ مقوّماتها.

يقول تعالى:( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا

١٨٥

وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ) (1) .

وهذه هي القضية الأُولى، والقضية الثانية أنّ المؤمنين حقّاً بعضهم مِن بعض.

يعني أنّ الإيمان الحقّ يجمع شتات المؤمنين، ويجعلهم كتلة واحدة وصفّاً واحداً، ويجعل بعضهم مِن بعض كأعضاء الجسد الواحد.

خصائص وآثار شبكة الولاء

السلام والعِصمة في شبكة الولاء:

ومِن أهمّ خصائص شبكة الولاء حالة (السلام) و(العِصمة). الإنسان المسلم يتعامل مع الآخَرين بسلام. ويتمتّع تجاه تعامل الآخَرين بالعِصمة. يمنح الآخَرين السلام في تعامله معهم وعلاقته بهم، ويتمتع هو بالعصمة فلا يحقّ له أن يعتدي على أحد، ولا أن يؤذي أحداً من المسلمين ويظلمه، كما لا يحقّ لأحد أن يخترق العِصمة التي منحها الله تعالى، ويهتكها.

فهو يعيش مع الآخَرين (بسلام) مِن طرف، ويطالب الآخَرين (بالعصمة) مِن طرف آخَر، وهذا أحد أهمّ بنود الولاء في علاقة المؤمنين بعضهم ببعض داخل شبكة الولاء.

وإليكم توضيحاً موجزاً لهاتين الكلمتين: (السلام) و (العصمة).

معنى السلام:

رُوي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويده إلاّ بالحقّ، ولا يحقّ أذى المسلم إلاّ بما يجب).

____________________

(1)الأنفال / 74.

١٨٦

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يخونه، ويحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاقد على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله رُحماء بينكم، متراحمين)(1) .

وشبكة الولاء على متانتها واستحكامها وقوّتها حسّاسة شديدة الحساسية تجاه الإساءة والأذى.

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : (إذا قال رجُل لأخيه المؤمن أُفٍّ، خرج مِن ولايته).

(وإذا قال: أنت عدوّي كفر أحدهما. ولا يُقبَل مِن مؤمن عملاً، وهو مضمِر على أخيه سوءاً)(2) .

وعن الصادقعليه‌السلام : (إنّ اللعنة إذا خرجت مِن صاحبها تردّدت بينه وبين الذي يُلْعَن، فإن وجدت مساغاً، وإلاّ رجعت إلى صاحبها، وكان أحقّ بها، فاحذروا أن تلعَنوا، فيحلّ بكم)(3) .

معنى العِصمة:

وفي العصمة روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (المسلم على المسلم حرام: دمه وعِرضه وماله)(4) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذّبه ولا يخذله. كلّ المسلم على المسلم حرام عِرضه وماله ودمه)(5) .

____________________

(1)وسائل الشيعة 8 / 543.

(2)وسائل الشيعة 8 / 611.

(3)وسائل الشيعة 8 / 613.

(4)مسند أحمد بن حنبل 2 / 491.

(5)سُنن الترمذي 4 / 325، ح1927.

١٨٧

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كلّ مسلم على مسلم محرّم)(1) .

عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف بمِنى حين قضى مناسكها في حجّة الوداع فقال: (أيّها الناس اسمعوا ما أقول لكم واعقلوا عنّي، فإنّي لا أدري لَعلّي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامِنا هذا، ثمّ قال: أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا هذا اليوم، قال: فأيّ شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر. قال: فأيّ بلد أعظم حرمة قالوا: هذا البلد.

قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلى يوم تلقَونه فيسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلّغت؟ قالوا نعم(2) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أُمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا اله إلاّ الله، فإذا قالوا، فقد حَرُم عليَّ دماؤهم وأموالهم)(3) .

وعن أبي هُريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوا لا إله إلاّ الله. عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله)(4) .

علاقة النصر بشبكة الولاء:

وعلاقة النصر بشبكة الولاء علاقة وثيقة ومُحكمة.

يقول تعالى:( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (5) .

____________________

(1)مسند أحمد بن حنبل 5: 4 و5.

(2)الكافي، الفروع 7: 373، ووسائل الشيعة 19: 2.

(3)بحار الأنوار 68: 242.

(4)مشكاة المصابيح / ص12 - 14.

(5)الأنفال / 72.

١٨٨

فإذا استنصر المسلمين مسلمون من مشارق الأرض أو مغاربها وجَب على المسلمين - على نحو الكفاية - المبادرة إلى نصرهم.

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (مَن أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومَن سمع رجُلاً ينادي يا للمسلمين فلم يُجبه فليس بمسلم)(1) .

وعن البراء بن عازب قال: أمَر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبْع ونهانا عن سبْع. فذكَر ردّ السلام ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإبرار القسَم(2) .

وعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال: (لا يحضرنّ أحدُكم رجُلاً يضربه سلطان جائر ظُلماً وعدواناً، ولا مقتولاً ولا مظلوماً إذا لم ينصره؛ لأنّ نصرة المؤمن على المؤمن فريضة واجبة، إذا هو حضره، والعافية أوسع ما لم يلزمك الحجّة الظاهرة)(3) .

ويحرم خذلان المسلم إذا دعاه إلى نصرته وهو قادر على نصرته.

عن موسى بن جعفر عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن أصبح لا يهتمّ باُمور المسلمين فليس مِن الإسلام في شيء، ومَن شهد رجُلاً ينادي يا للمسلمين فلم يُجبه، فليس مِن المسلمين)(4) .

وقد سبق هذا الحديث بلفظٍ قريب.

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (ما مِن مؤمن يخذل أخاه، وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة)(5) .

____________________

(1)وسائل الشيعة 11 / 560.

(2)صحيح البخاري 2 / كتاب المظالم باب 5.

(3)بحار الأنوار 75 / 17 عن قرب الاسناد / ص26.

(4)بحار الأنوار 75 / 21 عن نوادر الراوندي / ص21.

(5)بحار الأنوار 75 / 17 عن آمالي الصدوق / ص291.

١٨٩

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : (ما مِن مؤمن يُعين مؤمناً مظلوماً، إلاّ كان أفضل مِن صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام).

(وما مِن مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته، إلاّ نصره الله في الدنيا والآخرة)(1) .

استنصاران للحسينعليه‌السلام في قصر بني مقاتل:

وإذا لم يسع المسلم تلبية استنصار المسلمين وإجابة دعوتهم، ونصرهم فلا يحضر استغاثتهم واستنصارهم.

وقد مرّ بنا قريباً قول الإمام الصادقعليه‌السلام ، حسب الرواية: (لا يحضرنّ أحدكم رجُلاً يضربه سلطان جائر ظلماً وعدواناً).

وقد كان الحسينعليه‌السلام إذا استنصر رجُلاً فأبى عليه ينصحه أن يبتعد عنه، ويغيب عن مصرعه؛ لئلاّ يسمع باستغاثته.

وكان للحسينعليه‌السلام لقاءان في منزل قصر بني مقاتل(2) في طريقه إلى كربلاء:

اللقاء الأوّل بعبيد الله بن الحرّ الجعفي، واللقاء الثاني بعمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه.

وقد استنصرهم الحسينعليه‌السلام جميعاً، فاعتذروا ولم تطب نفسهم بالموت، فنصحهم الحسينعليه‌السلام أن يبتعدوا عنه ويغيبوا عن مصرعه؛ لئلاّ يسمعوا

____________________

(1)بحار الأنوار 75 / 20 عن ثواب الأعمال / 133.

(2)يقول السيّد عبد الرزّاق المقرّم: إنّ القصر يُنسَب إلى مقاتل بن حسّان بن ثعلبة يقع بين عين التمر والقطقطانة والقربات، خرّبه عيسى بن علي بن عبد الله بن العبّاس، ثمّ جدّده.

١٩٠

استغاثته فلا يجيبوه، فيكبّهم الله تعالى في النار.

في اللقاء الأوّل التقى بعبَيد الله بن الحرّ الجعفي فاستنصره، فاعتذر عُبَيد الله كما ذكرنا ذلك من قبل، وقال له إنّه لا يشكّ أنّ مَن شايعه كان سعيداً في الآخرة، ولكن نفسه لا تطيب بالموت، وأهدى إلى الحسينعليه‌السلام فرَسه (الملحقة) ومدحها.

فقال له الحسينعليه‌السلام : (أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا في فرَسك، ولا فيك، وما كنت متّخذ المضلّين عضُداً، وإنّي أنصحك كما نصحتني: إن استطعت أن لا تسمع صراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم)(1) .

واللقاء الثاني في نفس المنزل بعمرو بن القيس المشرقي وابن عمّه، رواه الصدوق في عقاب الأعمال.

قال: دخلت على الحسين أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بني مقاتل فسلّمنا عليه.

فقال له ابن عمّي: يا أبا عبد الله هذا الذي أراه خضاب أو شَعرك، فقال: خضاب والشيب إلينا بني هاشم يُعجّل.

ثمّ أقبل علينا. فقال: جئتما لنصرتي، فقلت: إنّي رجُل كبير السِنّ، كثير الدَين، كثير العيال، وفي يدي بضائع الناس ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيع أمانتي.

____________________

(1)مقتل الحسين / لعبد الرزاق المقرّم / 202 - 204 نقلاً عن آمالي الصدوق، المجلس 30، وخزانة الأدب 1 / 298.

١٩١

وقال له ابن عمّي مثل ذلك.

قال لنا: فانطلقا فلا تسمعا لي واعية، ولا ترَيا لي سواداً، فإنّه مَن سمع واعيتنا، أو رأى سوادنا فلم يُجِبنا، ولم يعبأ، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على منخره في النار.

الاستنصار لإتمام الحجّة:

عاشوراء مفترق طريق، ومَن فارق الحسينعليه‌السلام في عاشوراء عن عِلمٍ وعمْد، وسمع واعيته، وحضر استغاثته، فسبيله نار جهنم، لا شكّ في ذلك.

وقد شطر الناس عاشوراء منذ سنة 61هـ إلى اليوم، شطرين: شطْر إلى الجنّة وشطْر إلى النار.

فمَن كان رأيه مِن رأي الحسينعليه‌السلام ، وهواه مع الحسينعليه‌السلام ، وموقفه مع الحسينعليه‌السلام كان سبيله الجنّة.

ومَن كان رأيه مِن رأي يزيد، وهواه مع يزيد، وموقفه مع يزيد كان سبيله النار.

ذلك أنّ الحسينعليه‌السلام وارث الأنبياء والصدّيقين والمرسلين في مسير التاريخ كلّه، فمَن كان هواه مع الحسينعليه‌السلام ، كان لا محالة مع حركة الأنبياء والمرسلين والصدّيقين، ومَن كان هواه مع آل أبي سفيان، كان موقفه لا محالة، مع أعداء الأنبياء وخصومهم.

ولذلك فإن الحسينعليه‌السلام وارث الأنبياء، ويزيد وارث الطغاة والجبابرة، وعاشوراء مِن أيّام (الفرقان) في التاريخ.

وقد شطر عاشوراء الناس كما ذكرنا منذ سنة 61 هـ إلى اليوم شطرين: (أنصاراً) و (أعداءً).

١٩٢

ولسنا نعرف شطراً وسطاً بينهما إلاّ أن يكون مِن المستضعفين الذين يرجون رحمة الله بالاستضعاف. إذن (عاشوراء) مفترَق طريق.

وقد كان الحسينعليه‌السلام يحرص في يوم عاشوراء وقبله أن يتمّ الحجّة على كلّ أولئك الذين وقفوا مع آل أبي سفيان؛ (لئلاّ يكون للناس على الله حجّة)، وكان يحرص أن ينقذ مَن يمكن إنقاذه، ويُصلح مَن يمكن إصلاحه ويهدي مَن يمكن هدايته.

كان الحسينعليه‌السلام يتمّ الحجّة في استنصاره واستغاثته، الذي تكرّر منه على كلّ الذين قاتلوه وحاربوه وظلموه، أو وقفوا مِن مصرعه موقف المتفرّج الذي لا يبالي ماذا حدث.

فقد كانعليه‌السلام يعلم بأنّ لهذا اليوم شأناً كبيراً في التاريخ، وأنّه مفترق الطريق بين الحقّ والباطل والهدى والضلال، فأراد أن يتمّ الحجّة على الناس لئلاّ يكون للناس حجّة.

تنوّع الخطاب الحسيني:

ولذلك نجد أنّ الخطاب الحسيني للاستنصار خطاب متنوّع.

فهوعليه‌السلام حريص على أن ينْفُذ إلى تلك القلوب المغلقة، ويفتحها بأيّ أسلوب ممكن.

فهو يخاطب عقولهم تارة، ويخاطب ضمائرهم تارة، والضمير آخِر قلعة يقاوم الباطل في نفس الإنسان.

ويخاطب قلوبهم وعواطفهم تارة، والعاطفة خزين مبارك مِن الخير والرحمة في نفس الإنسان، وآخِر ما ينضب مِن نفس الإنسان قلبه وعاطفته.

لقد خاطب الحسينعليه‌السلام عقولهم يوم عاشوراء، فقال لهم: (أحين

١٩٣

استنصرتمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً لنا في أَيمانكم، وحشيتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، لا مِن عدْل أفشَوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم).

وخاطب ضمائرهم فقال: (يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دِين.. فكونوا أحراراً في دنياكم).

وخاطب عواطفهم ثالثاً فقال في آخِر استغاثة لهعليه‌السلام : (أما مِن مغيث يغيثنا، أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )، ومِن مشاهد الاستغاثة المؤثّرة استسقاؤه للطفل الرضيع يوم عاشوراء، وهو يتلظّى عطشاً، فرفع إليهم الرضيع وقال: (أما منكم مِن أحد يأتنا بشربةٍ مِن الماء لهذا الطفل الرضيع؟)، ثم قال لهم: (اسقوا هذا الرضيع)(1) .

والعاطفة خزين مبارَك مِن الخير والرحمة كما ذكرنا، وآخِر ما ينضب في نفس الإنسان، تفيض بالرقّة والرحمة.

وهذه الرقّة والرحمة التي تفيض بها العاطفة تطهّر القلب ممّا يعلق به مِن الدرَن وتلين القلب. وتفتح مغاليق القلوب.

وقد تنغلق العقول ويتصامم الناس عن نداء العقل، ولكنّهم يستجيبون لنداء العاطفة، وتنفتح له قلوبهم.

4 - المعنى الشمولي لخطاب الحسينعليه‌السلام :

لا نجد مبرّراً للقول بأنّ خطاب الحسينعليه‌السلام بالاستنصار كان مقتصراً على أولئك الذين عاصروا الحسينعليه‌السلام ، وشهدوا وقعة الطف.

____________________

(1)الخصائص الحسينية / للسيد التُستري / ص186.

١٩٤

وليس ثمّة دليل في خطاب الحسينعليه‌السلام لحجْب هذا الخطاب عن الأجيال التي تعاقبت مِن بعده، ممّن لبّوا هذا الخطاب وأسرعوا في الاستجابة له.. فقد كان المجتمع الإسلامي يومئذٍ يمرّ بفترة رهيبة من التاريخ، فقَدَ فيها الكثير من أخلاقيّته وقِيَمه وكفاءاته.

ولست أدري ماذا فعَل معاوية، خلال سِنيِّ حُكمه مِن إفساد وظلم، حتّى بلغ المجتمع الإسلامي في عصر ابنه يزيد هذا المبلغ من ضُعف الإرادة ونضوب القيَم، وفقدان الأخلاق، وليس أدلّ على ما نقول مِن أنّ ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوهم إلى الخروج على يزيد، وهم يعرفون الحسينعليه‌السلام ويعرفون يزيد. ثمّ لا يستجيب له مِن كلّ أولئك الذين خاطبهم الحسينعليه‌السلام ، أو بلَغَهم خطابه، إلاّ اثنين وسبعين رجُلاً فقط.

وأصدق وصف لهذا العصر هو الوصف الذي يصفهم به الحسينعليه‌السلام ، كما يرويه الطبري في التاريخ، وهو أوّل خطبة لهعليه‌السلام بعد وصوله إلى كربلاء:

يقولعليه‌السلام : (إنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصُبابة الإناء، وخسيس عَيشٍ كالمرعى الوبيل. ألا ترَون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟).

وهو وصفٌ دقيق لذلك العصر، ولإثبات هذا الوصف يقول الإمامعليه‌السلام : (ألا ترَون إلى الحقّ لا يُعمل به؟).

ومِن أجْل ذلك نعتقد أنّ خطاب الحسينعليه‌السلام لا يقتصر على عصره، ليس مِن سبب لحجْب هذا الخطاب عن العصور التي تلي ذلك العصر.

ولسنا نريد أن ننفي مخاطبة الناس في ذلك العصر مِن جانب الحسينعليه‌السلام ، ولكنّا نريد أن نقول إنّ روح هذا الخطاب أوسع من ذلك العصر.

إنّ الصراع الذي خاضهعليه‌السلام في سنة إحدى وستين هجرية حلقة متوسّطة مِن

١٩٥

سلسلة طويلة من الصراع بين التوحيد والشِرك والهدى والضلال، يتّصل طرف منه بصراع الأنبياءعليهم‌السلام مع أئمّة الكفر، والحسينعليه‌السلام وارث هذه السلسلة المتّصلة مِن أئمّة التوحيد.

ويتّصل الطرف الآخَر منه بسلسلة طويلة من الصراع، في امتداد الطف يقوده أئمّة التوحيد، حتّى يتسلّم المهدي مِن آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لواء التوحيد، ويطهّر الأرض من رجْس الشِرك والظلم.

وعاشوراء مِن المفاصل الأساسية في هذه السلسلة الممتدّة من الصراع بين التوحيد والشِرك والهدى والضلال.

وخطاب الحسينعليه‌السلام خطابٌ شامل لكلّ أولئك الذين بلَغهم هذا الخطاب، ومكّنهم الله تعالى مِن وراثة تراث عاشوراء، ورزقهم الله الوعي والبصيرة.

التلبية:

والتلبية الواردة في نصوص الزيارات التي يزور المسلمون بها الحسينعليه‌السلام تُشير إلى هذه الحقيقة التاريخية.

فإنّ الحسينعليه‌السلام (داعيَ الله)، ونداؤه ودعوته توحيد الله.

وخطابه الدعوة إلى نصرة دِين الله وشريعته وأحكامه وحدوده، ورفض الطاغوت والكفر به.

وهذه دعوة عامّة، وخطاب شامل لتلك الأجيال الذين تعاقبوا بعد عاشوراء.

وإذا حجَبَنا عصرُنا عن التلبية المباشرة لدعوة الحسينعليه‌السلام لاستنصاره، فنحن اليوم نُلبّي ذلك الخطاب، ونستجيب لتلك الدعوة في إزالة الظلم والشِرك ومجاهدة الظالمين، وتثبيت أركان التوحيد في الأرض، وهدْم بُنيان الشِرك والظلم والاستكبار.

وقد ورَد في نصول زيارة الحسينعليه‌السلام : (لبّيك داعيَ الله. إن كان لم يُجبك بدَني

١٩٦

عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري ورأسي وهواي)، والتلبية مِن مقولة (العزم) و (الفِعل)، وليس من مقولة (القول). والقول تعبير عن عزم الإنسان على الفعل.

فالتلبية الحقيقية لخطاب الحسينعليه‌السلام ، أن يصُفَّ الإنسان مع الحسينعليه‌السلام في مواجهة الظالمين، وعدم الركون إليهم، ورفضهم، والبراءة منهم، والصمود والثبات في مواجهتهم.

ولست أعتقد أنّ مرور ألف وثلاثمائة عاماً على مصرع الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته الذين لبّوا دعوته... قد خفّف مِن قسوة الصراع وضراوة المعركة، ولا أعتقد أنّ التلبية لذلك الخطاب أيسر في عصرنا، مِن التلبية لنفس الخطاب في ذلك العصر.

فالمعركة هي المعركة، والخطاب هو الخطاب، والتلبية هي نفس التلبية، وضريبة التلبية هي نفسها.

حركتان في التاريخ (النصر والثأر):

ولا تختلف مسؤوليّتنا اليوم تجاه استنصار الحسين. فإنّ قضية عاشوراء هي رفض الظلم والكفر بالطاغوت، وطالما يوجد في حياة المسلمين ظلم وشِرك واستكبار، يبقى خطاب الحسين في يوم عاشوراء نافذاً فاعلاً في حياة المسلمين.

ونحن اليوم مسؤولون عن نصر الحسينعليه‌السلام ، مخاطَبون بالاستنصار، كما كان الناس مخاطَبون بالاستنصار، مطالَبون بالنصر في عصرهعليه‌السلام .

غير أنّا نحمل بعد مصرع الحسينعليه‌السلام مسؤولية أخرى غير مسؤولية (النصر)، وهي مسؤولية (الثأر) لدماء الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم)، وهي مسؤولية أخرى غير مسؤولية النصر.

١٩٧

فهاتان مسؤوليّتان تتطلّبان حركتَين في تاريخ وارثي عاشوراء:

حركة باتّجاه النصر، وأخرى باتّجاه الثأر لدماء الشهداء في كربلاء.

وقضية (النصر) غير قضية (الثأر)، إنّ (النصر) يعني الاستنصار لدعوة الأنبياء في تشييد أركان التوحيد والعدل، وهدْم بنيان الشِرك والظلم، ونصر المسلمين المستضعفين وإمدادهم وإغاثتهم، في معاناتهم وعذابهم على أيدي الظالمين.

(والثأر) يعني المطالبة بدماء الشهداء مِن أُسرة التوحيد، وبدماء الشهداء في يوم عاشوراء. فهذه دماء حرّمها الله تعالى، وأهدرها الناس، ولابدّ مِن الثأر لها، شأن كلّ دم حرّمه الله تعالى.

غير أنّ دماء الشهداء لمّا كانت في سبيل الله، فإنّ الله تعالى هو الثائر الأوّل لها، وهي ثأر الله قبل كلّ شيء، وهذه قيمة كبيرة لدم الشهيد في هذا الدِين و مفهوم رفيع من مفاهيم هذا الدِين، ونحن نخاطب الحسينعليه‌السلام في الزيارة بثأر الله، فنقول السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره، وعلينا نحن في امتداد (ثأر الله) أن نثأر لهذه الدماء، ودماء كلّ الشهداء التي أُريقت ظلماً وعدواناً في سبيل الله.

ولمّا كانت هذه الدماء قد أُريقت في الصراع بين الحقّ والباطل، فالـمُطالَب بالدم ليس هو شخص المجرم القاتل، بل يُطالَب به كلّ مَن وقف معه في تلك الجبهة، وكلّ مَن يقف معه بعد ذلك في تلك الجبهة...

شأن كلّ دم يُهراق في معركة. فإنّ المطالَب بالدم في ساحة المعركة لا يكون هو القاتل فقط، وإنّما كلّ مَن يقف مع القاتل في نفس الجبهة في نفس المعركة.

ولمّا كانت معركة عاشوراء قائمة مستمرّة ومتّصلة الحلقات إلى اليوم، فكلّ مَن يقف مع أعداء الحسينعليه‌السلام ، ويتعاطف معهم، ويهْواهُم ويميل إليهم، ويرضى بفِعلهم، ويحبّهم... يكون مطالباً بدماء الحسينعليه‌السلام والثلّة الطاهرة مِن أصحابه.

١٩٨

وهو شأن (عاشوراء) كما أنَّ ذلك شأن كلّ صراع قائم بين الحقّ والباطل، وكلّ دم يُهراق ظلماً في وسط المعركة. حيث تعمّ مسؤولية المطالبة بدم الشهيد كلّ الذين وقفوا معه وإلى جنْبه أو خلْفِه في المعركة، (فهُم أولياء الدم جميعاً).

وتعمّ الجريمة كلّ مَن وقف مع القاتل أو خلفه في نفس الصراع، فيكون مطالَباً بالدم الذي أُهريق ظلماً في ذلك الصراع.

إذن نحن اليوم بعد مصرع الحسينعليه‌السلام في عاشوراء مسؤولون عن قضيّتين، وليست قضية واحدة، وهما (النصر) و (الثأر).

وقضية الحسينعليه‌السلام حلقة واحدة، ولكنّها مفضّلة في مسلسل الصراع التاريخي بين الأنبياء وخصومهم مِن أئمّة الكفر.

والحسين وارث كلّ ذلك التراث، وحفيده المهدي من آل محمّد (عجّل الله فرجه) يرِث جدّه وينهض بتلبية خطاب جدّه الحسين لنصرة دِين الله، كما ينهض بالثأر لدماء الشهداء في كربلاء ودماء الشهداء قبل كربلاء وبعده؛ ولذلك فهو الإمام (الوارث) (الثائر) مِن آل محمّد، (عجّل الله فرجه).

تفسير وتحليل جملة مِن المضامين الواردة في خطاب الاستنصار الحسيني:

ويستوقفنا في خطابات الحسينعليه‌السلام خطابه المعروف في مكّة عَشِية خروجه إلى العراق، وقد تناقل أرباب السيَر هذا الخطاب، وورَد في أكثر المصادر التي دوّنت سيرة الحسينعليه‌السلام وخروجه إلى العراق.

وقد ذكرنا الخطاب في بداية هذه المقالة، ويبدأ الإمام الخطاب بهذه الكلمة العجيبة: (خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جِيد الفتاة).

وهذه البداية تفسّر كلّ حرّكة الإمام وخروجه، وتوضّح للناس الذين

١٩٩

يستنصرهم الحسينعليه‌السلام ما يؤول إليه أمره وأمر مَن معه؛ ليخرج مَن يخرج معه، وهو على بيّنة مِن أمره، وهو أمرٌ يهمّ الإمام كثيراً، ويصرّ عليه في كلّ مراحل حركته بمقدار إصراره على استنصار الناس ودعوتهم للخروج معه على يزيد.

فهو يدعوهم ويعْفيهم في وقتٍ واحد، يدعوهم إذا صحّ عزمهم على لقاء الله في خروجهم هذا، وطابت أنفسهم بالقتل في سبيل الله.

ويعفيهم، إذا لم تطِب نفوسهم بالقتْل في سبيل الله، فإنّ الحسين يسعى إلى الموت، وليس إلى سلطان ولا مال.

ويطلب من الأنصار مَن يصدُق عزمه وتصدُق نيّته على ابتغاء القتل في سبيل الله.

ومصيبة الناس في دنياهم إقبالهم على الدنيا وتعلّقهم بها وهروبهم وخوفهم مِن الموت.

وهو سرّ ضَعْفهم، وسقوطهم، وخضوعهم للظالمين، وهَوان أنفسهم عليهم، هو نقطة الضعف الكبرى في حياتهم. فإذا هانت الدنيا في أعيُن الناس، وزال الخوف من الموت عن نفوسهم لم يتمكّن الظالم من ظُلمهم، ولم يعطوا أنفسهم للظلم. وكيف يهرب الإنسان من الموت وقد (خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جِيد الفتاة).

فالموت يحاصر الإنسان، ولا يستطيع ابن آدم أن يخرج مِن حصار الموت، فلا ينفعه هروب.

ثمّ لماذا يخاف الإنسان من الموت، والموت جمال المؤمن وكماله، ويزدان به كما يزدان جِيد الفتاة بالقلادة... ولا ينقص مِن جمال الموت أنّه يحاصر الإنسان، كما لا ينقص من جمال القلادة أنّها تطوّق جِيد الفتاة. فليس كلّ طَوقٍ ذُلٍّ وأسْر.

٢٠٠