في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193942
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193942 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاستضعاف والاستكبار:

ولمّا كانت هذه المهمّة التي يتولّى أمرها الطاغوت لا تتحقّق إلاّ من خلال استضعاف الإنسان، فإنّ الطاغوت يتّبع أساليب كثيرة في استضعاف الإنسان، وانتزاع ما أودع الله تعالى في نفسه مِن القيَم.

يقول تعالى عن فرعون وقوم فرعون:

( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (1) .

ومهما يكن من أمْر فإنّ الصراع بين هذين المحورَين، مِن كُبريات قضايا التاريخ، ومِن أهمّ العوامل المحرّكة لعجَلة التاريخ.

ومِن خلال فهْم هذا الصراع نستطيع أن نفْهم الكثير من أحداث التاريخ وقضاياه الكبرى ومنعطفاته وثوابته ومتغيّراته.

خصائص الصراع:

ونشير هنا إلى بعض خصائص هذا الصراع التاريخي بين هذين المحورَين: (الحقّ والباطل).

إنّ هذه المعركة، معركة عقائدية تستبطن صراعاً عقائدياً ضارياً حَول الشِرك والتوحيد. وقد أشرنا قريباً، أنّ جوهر هذا الصراع يدور حول الشِرك والتوحيد، وإنّ أكثر معاني الشِرك والتوحيد في القرآن، الشِرك في الولاء والتوحيد في الولاء.

ولهذا السبب فهي معركة عقائدية في جوهرها. هذا أوّلاً.

وثانياً: هي معركة حضارية؛ لأنّها تعتبر صِداماً بين حضارتين: الحضارة

____________________

(1) الزخرف / 54.

٢٢١

الربانية والحضارة الجاهلية، ولكلّ منهما خصائصها... والانتماء إلى أيٍّ مِن المحورَين ليس انتماءً سياسياً فقط إلى أحد محاور القوّة والسيادة، وإنّما هو انتماء حضاري، ويستتبع هذا الانتماء خصائص وميّزات حضارية في أسلوب التفكير، والإخلاص، والعمل، والعلاقة مع الله تعالى، ومع النفس ومع الآخَرين ومع الأشياء... والصراع بين هذين المحورَين يعني الصراع بين حضارتين بشكلٍ دقيق.

وثالثاً: إنّ هذا الصراع معركة سياسية على مراكز القوى.

ولا شكّ أنّ كلاًّ من هذين المحورَين يعمل للاستيلاء على مراكز القوى في المجتمع: المال والسلطان، والقوى العسكرية، وثقة الناس ومراكز التوجيه، والإعلام، والثقافة.

وكلٌّ منهما يعمل لاستخدام هذه المراكز في تمكين محوَره وخطِّه.

رابعاً: هذه المعركة تدخل في حتميات التاريخ الكبرى، ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان بحالٍ من الأحوال، فإنّ تعاكس المحاور والخطوط تستدعي بصورة حتمية هذه المعركة في كلّ زمان ومكان. ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان.

إنّ هذا الدِين يصادر كلّ مصالح الطاغوت ووجوده ومراكزه ومواقعه، ولا يمكن أن يتخلّى الطاغوت عن دَوره في الإفساد على وجه الأرض من دون أن يخوض هو وجُنده صراعاً مريراً مع هذا الدِين. وهذا الصراع لم يخلُ منه عصر مِن العصور، منذ أن خلَق الله تعالى الإنسان بهذه التركيبة الخاصّة على وجه الأرض إلى اليوم الحاضر.

والقرآن الكريم يقرّر حتميّة الصراع بين هذين المحورَين بشكلٍ جازم، يقول تعالى:

٢٢٢

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (1) .

خامساً: إنّ هذا الصراع معركة مصيرية تدوم وتطول... ويعمل كلّ من المحورَين على استئصال المحور الآخَر من على وجه الأرض، وإنهائه وتصفيّة وجوده ومراكزه ومواقعه بشكلٍ عام... وليست معركة على قطعةٍ من الأرض، أو حدود برّية أو بحرية، وليست معركة على بضعة آبار من النفط، أو على كمّية من الذهب والفضة... إنّها معركة على الوجود والكيان، ولا يرضى كلّ من الطرفين إلاّ بالتصفية الكاملة للطرف الآخَر.

( وَلَنْ تَرْضَى‏ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى‏ حَتّى‏ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ ) (2) .

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ للّهِ‏ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) (3) .

فهذه المعركة تستمرّ حتّى الاستئصال الكامل للفتنة من على وجه الأرض... وبطبيعة الحال لن تكون معركة بسيطة، وإنّما هي معركة شرسة، لا يعرف التاريخ نظيراً لها في الحروب من حيث الشراسة والقسوة.

ولذلك فالتفكير في اللقاء والتفاهم والحلول النصفية مع الكفر والطاغوت، تفكيرٌ فيه كثير من الفجاجة والبساطة والضعف والهزيمة النفسية.

وإنّ بداية كلّ هزيمة ميدانية، هزيمة في النفس... وبداية الهزيمة النفسية التفكير في إمكان اللقاء والتفاهم مع الطاغوت، وإنهاء الصراع، والجلوس مع الطاغوت على موائد الصُلح.

____________________

(1)النساء / 76.

(2)البقرة / 120.

(3)الأنفال / 39 و40.

٢٢٣

إنّ المعركة مع الطاغوت على الوجود، وليس على اختلاف الحدود أو اختلاف في الاعتبار، حتّى يمكن التفاهم والتصافي والتعايش بسلام، وتطبيع العلاقات.

وسادساً: إنّ هذه المعركة التاريخية تتطلّب مِن الأمّة مواقف واضحة، وحدّية وصارخة في إعلان الولاء والبراءة... الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين، والبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

فلابدّ من موقف...

ولابدّ أن يكون الموقف جدّياً...

ولابدّ أن يكون الموقف واضحاً ومعلَناً...

لأنّ المعركة مع أئمّة الكفر جدٌّ لا هزل فيه، ولا يكفي أن يضمر الإنسان الحبّ لله ولرسوله ولأوليائه، من دون موقف، ومن دون أن يعرف الناس عنه ذلك... ولا يكفي أن يكون قلبه مع الله ورسوله وأوليائه، وسيفه وحرابه عليهم(1) .

ولا يكفي أن يعطي لله ورسوله وأوليائه بعض وقته وماله... ليعطي للطاغوت البعض الآخَر...

إنّ الولاء كلٌّ لا يتجزّأ، فإمّا أن يكون الكلُّ لله، أو لا يكون لله منه شيء، فإنّ الله غنيٌ عن العالَمين.

إنّ الولاء يتطلّب الموقف المحدّد، والإشهار بالموقف في الانتماء

____________________

(1)التقى الحسينعليه‌السلام في مسيره إلى العراق بمنزل (الصفاح) بالفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن خبر الناس خلْفه، فقال الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني أُمية، فقال الحسينعليه‌السلام : والقضاء ينزل من السماء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء، بما نُحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتدّ مَن كان الحقّ نسَبُه والتقوى سريرته. مقتل الحسين للمقرّم / 182، نقلاً عن الطبري 6 / 218، وابن الأثير 4 / 16.

٢٢٤

والانفصال... وفي الحبّ والبغض... وفي المودّة والمعاداة... وفي السِلْم والحرب...

وسابعاً: إنّ الولاء والبراءة وجْها حقيقةٍ واحدة في هذه المعركة... ولا ينفع ولاء مِن دون براءة، ولا يؤدّي الولاء دَوره الفاعل في حياة الأمّة، ما لم يقترن بالبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

ولا يتكوّن الموقف هنا مِن الولاء فحسْب، إنّ للموقف وجهَين: وجْه إيجابي ووجه سلبي، سِلمٌ وحرب، وانتماء وانفصال، وحبٌّ وبُغْض، وما لم يجتمع هذا وذاك لن يكون الموقف موقفاً حقيقياً، وإنّما يكون شُعْبة من شُعَب النفاق، وطَوراً من أطوار المجاملة السياسية واللعب على الحبال...

يقول تعالى في هذين الوجهين:

( أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (1) .

ثامناً: وكما إنَّ محوَر الولاية، مركز واحد، وخطّ واحد، وامتداد واحد، على طول التاريخ، كذلك محور البراءة.

ونحن لا نفرّق في الولاء بين أنبياء الله وأوليائه، القريب منهم من عصرنا والبعيد منهم عن عصرنا... فكلّهم يحملون رسالة الله ويبلّغون دِين الله، وآتاهم الله من لدُنه النبوّة والإمامة والولاية على عباده... نواليهم جميعاً، ونؤمن بما أنزل الله إليهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم.

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (2) .

____________________

(1)الفتح / 29.

(2)البقرة / 136.

٢٢٥

( آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (1) .

كذلك.. نتبرّأ من أعدائهم جميعاً.. نتبرأ من فرعون ونمرود، كما نتبرّأ من أبي جهل ويزيد، وكما نتبرّأ من طُغاة وجلاوزة عصرنا.

وكما أنّ الولاء أمْرٌ واحد، كذلك البراءة أمْر واحد.

ومثلما نتبرّأ من طغاة عصرنا ونلعنهم؛ لنفس الأسباب نلعن الحجّاج ويزيد وأبي جهل ونمرود وفرعون وقابيل.

فإنّ المعركة بين محوَرَي الحقّ والباطل، ليست معركة شخصية، وإنّما هي معركة حضارية، تمتدّ جذورها إلى أعماق التاريخ.

وكما أنّ المعركة في جوهرها واحدة في كلّ مراحلها، كذلك الولاء والبراءة.

عاشوراء مسرح للولاء والبراءة:

وننتقل الآن إلى (عاشوراء)

إنّ وقعة الطف مِن المواقع المؤثّرة، العقائدية والحضارية الكبرى في التاريخ. التي لا يملك الإنسان نفسه مِن أن يمرّ عليها مروراً عابراً، أو يقف عليها وقوفاً متفرّجاً، أو يقرأها بلا مبالاة ولا اكتراث.. ورغم مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على هذه الواقعة المفجعة.. فإنّها لا تزال تملك تأثيراً فوق العادة على النفوس والقلوب والعقول، وتفرض نفسها على كلّ مَن آتاه الله بصيرة ووعْياً في دِينه.

____________________

(1)البقرة / 285.

٢٢٦

ولا تزال الأجيال تتلقّى قضية كربلاء بحرارة وحماسة، وتتفاعل معها في الإيجاب والسلب والولاء والبراءة.

فما هو السرّ الكامن في هذه الوقعة، والذي جعل منها مرآة للولاء والبراءة. عِبر هذا التاريخ الطويل.

عاشوراء يوم الفرقان:

إنّ عاشوراء تتميّز بالوضوح الكامل الذي لا يُبقي شكّاً لأحدٍ في طرفَي المعركة.

فلم يكن هناك التباس في أمْر المعركة التي حدثت على أرض الطف، ولم يكن أحدٌ من المسلمين يومئذٍ يشكّ في أنّ الحسينعليه‌السلام ، يدعو إلى الله ورسوله وإلى الاستقامة على صراط الله المستقيم، وأنّ يزيد بن معاوية قد تجاوز حدود الله، وأعلن الحرب على الله رسوله، وأعلن الفسْق والفجور، وهو يجلس مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن احدٌ من المسلمين يومئذٍ يتردّد لحظة واحدة، وهو يقف على ساحة الصراع بين أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويزيد بن معاوية، أنّ الحسين على هدىً، ويزيد على ضلالة.

وعليه فلم يكن في أمر هذه المعركة خفاء أو لبْس.. فمَن وقف مع الحسينعليه‌السلام وقف عن بيّنة، ومَن وقف مع يزيد وقف عن بيّنة...

وقليلٌ مِن مشاهد الصراع بين الحقّ والباطل يمتلك هذا الوضوح، الذي تمتلكه واقعة الطف.

وقف الحسين يوم عاشوراء بين الصفّين، وقال مخاطباً جيش ابن زياد: (أيّها الناس أنبئوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم

٢٢٧

قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي؟ أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ. فو الله ما تعمّدت الكَذِب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرُّ به مَن اخْتلَقه.

وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفْك دمي.

فقال شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: (والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً. وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، وقد طبع الله على قلبك)(1) .

وقال الحسينعليه‌السلام للوليد عامل يزيد على المدينة، لمّا أراد أن يَجبُر الحسينعليه‌السلام على البيعة ليزيد والرضوخ له:

(يا أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة مُعلن الفسْق، ومثْلي لا يبايع مثْله)(2) .

الفاصل الحضاري بين المعسكرَين في عاشوراء:

لقد كانت الجَبْهتان المتصارعتان في كربلاء متميّزتين في انتمائهما لمحوَر

____________________

(1)تاريخ الطبري 6: 223.

(2)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم (رضي الله عنه): ص127 ط النجف.

٢٢٨

الولاية الإلهية، والطاغوت، ولم يكن الأمر يخفى على أحد.

(لقد مضى أصحاب الحسينعليه‌السلام ليلة العاشر ولهم دويّ كدَويّ النحْل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد)(1) .

سِمة العبيد من الخشوع عليهم

لله أن ضمّتهم الأسحار

وإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم

بِيض القواضب أنّهم أحرار

وتقول فاطمة بنت الحسين:(وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلى ربّها.. والله، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة) (2) .

كذلك كان الأمر في معسكر الحسينعليه‌السلام الشوق إلى لقاء الله و الإعراض عن الدنيا وزخْرفها، والانقطاع عن الدنيا إلى الله حتّى لقد كان بعضهم يداعب أصحابه ويمازحهم في الليلة العاشرة.

فقد هازل بُرَير عبد الرحمن الأنصاري رحمه الله. فقال له عبد الرحمن: (ما هذه ساعة باطل. فقال برير: لقد عَلِم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحُور العِين، إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم.. ولَوَددتُ أنّهم مالوا علينا الساعة)(3) .

والطرف الآخَر في هذه المعركة كان همّه ما يُصيب مِن الذهب والفضة، والإمارة والجائزة في قتال ابن بنت رسول الله.

فقد تولّى عمَر بن سعد أمْر قتال ابن بنت رسول الله طمعاً في إمارة الرَي.

____________________

(1)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم: ص238.

(2)مثير الأحزان: ص56.

(3)تاريخ الطبري: 6 ص241.

٢٢٩

يقول اليافعي: (ووَعد الأمير المذكور (عمَر بن سعد) أن يملّكه مدينة الرَي، فباع الفاسق الرُشدَ بالغيّ، وفيه يقول:

أأترك ملك الريّ والريّ بُغيَتي

وأرجع مأثوماً بقتل حسين

ثمّ يقول: (وحزّ رأس الحسين بعض الفجَرة والفاسقين، وحمَله إلى ابن زياد ودخل به عليه وهو يقول:

أوقِر ركابي فضةً أو ذهباً

إنّي قتلت الملك المحجّبا

قتلت خير الناس أمّاً وأبا

وخيرهم إذ يذكرون نسَبا

فغضب ابن زياد مِن قوله وقال له: (إذا علِمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا سُلِّمت منّي خيراً أبداً)(1) .

ويتبجّح الأخنس بن مرثد الحضرمي في رضّه للأجساد الطاهرة بعد استشهادهم، وهو يعلم أنّه يعصي الله تعالى في طاعة أميره، ويقول كما يروي الخوارزمي:

نحن رضضنا الظَهر بعد الصدر

بكلّ يعبوب شديد الأسْر

حتّى عصينا الله ربّ الأمر

بصُنعنا مع الحسين الطُهر(2)

لقد كان همّ الحسين وأصحابه في كربلاء مرضاة الله ولقاء الله... وكان همّ جُند ابن زياد، ما يدفع لهم الأمير مِن الجائزة والإمارة والذهب والفضة.

لم يكن في الأمْر إذن أيّ خفاء. وجميع الذين عاصروا المعركة أو شاهدوها أو وقفوا عليها من قريب أو بعيد... كانوا يُميّزون فيها الحقّ مِن الباطل، ودعوة الله عن دعوة الطاغوت.

____________________

(1)انظر مرآة الجنان لليافعي 1 / 132. روايات السيد المهزبان.

(2)مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي 2 / 39.

٢٣٠

ولم يتخلّف أحد عنها عن جهل أو لَبْس، وإنّما عن إيثار العافية والراحة على القتل في سبيل الله... ولم يشهر أحد فيها السيف على ابن رسول الله عن لبْس أو جهل... وإنّما عن وضوح وعِلم بأنّهم يحاربون الله ورسوله وأوليائه بقتال الحسينعليه‌السلام .

وهذا الوضوح في ساحة المعركة يجعل معركة الطف معركة متميّزة مِن بين سائر المواقع التاريخية... إنّها تعكس صورة صارخة من صراع الحقّ والباطل، ومجابهة بين الولاء لله والولاء للطاغوت؛ ولذلك كانت هذه المعركة رمزاً خالداً للصراع بين الحقّ والباطل. ومسرحاً للولاء والبراءة، في حياة المؤمنين.

إنّ وقعة الطف لا تُبقي مجالاً لأحد في التردّد والتأمّل.

فهي المواجهة الصارخة بين الحقّ والباطل، وجُند الله وجُند الشيطان، والهدى والضلال...

... فلابدّ من موقف محدّد واضح في هذه القضية... فإن لم يكن هذا الموقف موقف الولاء لجُند الله والبراءة من أعدائهم... فهو لا محالة موقف الرضا بفِعل يزيد وجُنده، وهو الموقف الذي يستحقّ اللعْن والطرد من رحمة الله، ففي زيارة وارث:

(فلعَن الله أُمّة قتلتك

ولعَن الله أُمّة ظلمتك

ولعن الله أُمّةً سمعت بذلك فرضيَت به)(1) .

إنّ فقدان الموقف في عاشوراء هو بنفسه الموقف الرافض. فمَن لم يقف مع الحسينعليه‌السلام يوم استنصر المسلمين، وخذله، فلابدّ أن يكون راضياً بفِعل يزيد،

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣١

ولو لم يكن راضياً بفِعل يزيد، لَما أبطأ عن تلبية دعوة الحسين ونصرته.

وحدة الولاء والبراءة في زيارة (وارث):

إنّ النصّ المعروف في زيارة الحسينعليه‌السلام باسم زيارة (وارث) نصٌّ حافل بمشاهد الولاء والبراءة.

ومِن أهمّ هذه المشاهد: وحدة الولاء والبراءة، ووراثة الحسينعليه‌السلام للأنبياءعليهم‌السلام ، وربْط الولاء للحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه بالولاء للأنبياء: وربْط قيَم عاشوراء بالقيَم الموروثة من تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام .

ولعلَّ التسليم على الحسينعليه‌السلام في زيارة وارث، بصفته وارثاً للأنبياءعليهم‌السلام للإشارة إلى هذه الحقيقة.

(السلام عليك يا وارث آدم صَفوة الله،

السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله،

السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله،

السلام عليك يا وارث موسى كليم الله،

السلام عليك يا وارث عيسى روح الله،

السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله،

السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين وليّ الله)(1) .

فإنّ هذه الصفْوة مِن أولياء الله وعباده الصالحين امتداد واحد لولاية الله على وجه الأرض، وخطٌّ حضاريّ واحد، يدعون إلى الالتفاف حَول محوَر واحد، ويحملون قضية واحدة، كما أنّ أعداءهم أُمّة واحدة، وخطٌّ حضاري واحد،

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣٢

وحربٌ واحدة، رغم كلّ التباينات والتقاطعات الموجودة بينهم.

فالإحساس بوحدة الولاء، ووحدة البراءة، يُعمّق الشعور بأنّ الأمّة المسلمة على امتداد التاريخ منذ آدمعليه‌السلام إلى اليوم الحاضر أسرة واحدة، تلتفّ حول محوَر واحد، وتُحارب جبهةً واحدة، وتشترك في الحبّ والبغض والسِلم والحرب، وقضيّتها قضية واحدة، ومهمّتها على وجه الأرض مهمّة واحدة، وخطّها واحد، وحضارتها واحدة، وإيمانها واحد.

إنَّ هذا الإحساس بمعيّة الله ومعيّة المؤمنين يُزيل الشعور بالوَحشة عن نفوس الدُعاة إلى الله تعالى، في خِضَمّ الصراع مع الطاغوت، وفي مواجهة شَوكة الطاغوت وجبَروته وكبريائه.

فقد كان إبراهيمعليه‌السلام وحده أُمّة قانتاً لله في مواجهة نمْرود.

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1).

مشاهد الولاء في زيارة (وارث):

مشاهد الولاء في متْن هذه الزيارة ثلاثة:

1 - التسليم: السلام عليك يا وارث آدم صفوت الله..

2 - الشهادة: أشهد أنّك الإمام البَرّ التقيّ الرضيّ...

3 - الموقف: قَلْبي لقلْبِكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبِع...

وضِمن هذه المراحل الثلاثة يعبّر الزائر عن ولائه للحسينعليه‌السلام في المعركة الكبرى التي وقف فيها أبو عبد الله في مواجهة طاغية عصْره... ينطلق فيها مِن جذور هذه المعركة التاريخية إلى يومنا هذا.

____________________

(1)النحل / 120.

٢٣٣

والولاء يتجسّد في هذه الزيارة ضمن هذه المفاهيم الثلاثة وهي:

1 - السلام والأمن والمحبّة (التسليم).

2 - الثقة المطلقة (الشهادة بالإمامة وإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

3 - الموقف تجاه محوَر الولاية.

وسنعرض فيما يأتي هذه المشاهد الثلاثة للولاء في زيارة وارث.

السلام في (النفس) و (المجتمع):

وأوّل هذه المشاهد التسليم ضمن ثلاث فقَرات:

(السلام عليك يا وارث آدم صفْوة الله...

السلام عليك يا بن محمّد المصطفى...

السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره...)(1) .

والتسليم مِن أهمّ عناصر الولاء، وهو بمعنى ترك المشاكسة، والمشاققة، والاختلاف، واللجاج، والعناد، داخل النفس وفي السلوك، وإزالة عوامل البغضاء والكراهية والضغينة والاختلاف في الرأي والمخالفة، وإحلال المحبّة والمودّة والانسجام النفسي والطاعة والانقياد والتسليم محلّ المشاققة والمخالفة واللجاج والبغضاء.

وهذه العلاقة في التسليم، تأتي في خاتمة الصلاة، في السلام، (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وكأنَّ حصيلة الصلاة، وحصيلة هذا العروج الروحي إلى الله تعالى هي التسليم والطاعة والانقياد والمحبّة والمودّة لله ولرسوله ولأوليائه.

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣٤

و (السلام) ليس فقط أساساً للعلاقة مع الله ورسوله، وإنّما هو أيضاً أساس للعلاقة مع الأُمّة المسلمة الملتفّة حول هذا المحوَر.

وقد اعتبر الإسلام (السلام) تحيّة بين المؤمنين، وجعل هذه التحية خاتمة للصلاة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

وهذا الاهتمام بنشْر السلام بين أعضاء هذه الأسرة؛ للتأكيد على نوع العلاقة القائمة بين أفراد وأعضاء الأسرة المسلمة، وأنّ هذه العلاقة قائمة على أساس ترك المشاققة والمخالفة وإزالة البغضاء والضغائن والكراهية من النفوس، وبذْل المحبّة والمودّة في النفوس والانسجام والوفاق والتعاون والتناصر في السلوك.

الشهادة للحسينعليه‌السلام بإمامة المسيرة:

تأتي بعد ذلك الشهادة ضمن ثلاثة فقرات:

1 - الشهادة للحسينعليه‌السلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف: (أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمَرت بالمعروف، ونَهَيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين)(1) .

و (إقامة الصلاة) هنا غير أداء الصلاة.

إنّ أداء الصلاة تكليف شخصيّ وفريضة شخصية.

أمّا إقامة الصلاة فهي تثبيت الصلاة، والارتباط بالله، وإعلان الصلاة وتفعيلها في حياة الإنسان.

... ثمّ (وأمرتَ بالمعروف ونهَيت عن المنكر).

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يبتغي من خروجه على يزيد مُلكاً أو سلطاناً أو جاهاً،

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣٥

وإنّما كان يعمل لتثبيت دعائم المعروف وهدْم أُسُس المنكر، وإقامة محوَر الولاية لله وهدْم محوَر الطاغوت.

وقد خطب الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء فقال:

(ألا ترَون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله... وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما)(1) .

وفي منزل (البيضة) خطب الحسينعليه‌السلام في أصحابه فقال: (أيّها الناس إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عِباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفِعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدْخله.

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيّر...)(2) .

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يطلب سلطاناً أو مالاً... وهو يرى أنّه يستقبل الموت في سَفرِه هذا، وإنّما كان يرى ظالماً جائراً، يفسد في الأرض، ويهلك الحرْث والنسل، ويحلّل حرام الله، ويتجاوز حدود الله.. فنهضعليه‌السلام بالعُصبة المؤمنة التي احتفت به في كربلاء؛ لفضْح الطاغية وكسرِه والتشهير به و تسقيطه أمام الرأي العام الإسلامي المضلّل، وتوعية الرأي العام بحقيقة الطاغية وإفساده في الأرض، وانتزاع الأمّة من محوَر الطاغوت وإعادتها إلى محوَر الولاية الإلهية.

2 - الشهادة بـ (الطُهر) والنزاهة للحسينعليه‌السلام ، النزاهة مِن كلّ إثْمٍ وذَنْب،

____________________

(1)حلية الأولياء لأبي نعيم 2 / 39.

(2)تاريخ الطبري 6 / 229.

٢٣٦

والعصمة مِن كلّ خطأ وزلَل وعصيان... طهارة النفس والسلوك...( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) .

والشهادة بأنّ هذه النزاهة وهذا الطُهر طُهرٌ موروث، خلَفاً عن سلَف. وقد شاء الله تعالى أن يحتفظ بهذا الطُهر في هذه السلالة الطيّبة، عِبر الحضارات الجاهلية التي سادَت حياة الإنسان... وعِبر ظُلمات الحضارات الجاهلية.

استمرّ إشعاع هذا النور الإلهي في ظلمات حياة الإنسان، واستمرّ هذا الطُهر بين أرجاس الجاهلية، لم يتلوّث، ولم يُلبِسْه شيء مِن مدلهمّات ثيابها...

وقد اصطفى الله تعالى هذه السلالة المباركة للإمامة في حياة الإنسان عِبر العصور المختلفة.

( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2) .

ولنقرأ هذه الفقرة من الشهادة في زيارة وارث:

(أشهد أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليةُ بأنجاسها، ولم تُلبِسْك من مدلهمّات ثيابها...)(3) .

ولا أُحبّ أن أتجاوز هذه الفقرة دون أن أُشير إلى جمال التعبير في هذه الفقرة...

إنّ الطُهر في هذا البيت الطاهر حصيلة اللقاح بين أصلابٍ شامخة وأرحامٍ

____________________

(1)الأحزاب / 33.

(2)آل عمران / 32. (حُماة الوحي) للشيخ شهاب الدين الإشرافي والشيخ محمّد موحدي فاضل، في تفسير هذه الآية الكريمة وعلاقتها بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام ص176 - 168.

(3)زيارة وارث.

٢٣٧

مطهّرة. أصلابٌ شمخَت وترفَّعت ممّا يتساقط حوله الناس مِن متاعٍ وزُخرُفٍ زائل، وأرحام طَهُرت وسلمت من أوضار وأوساخ وأدناس الحضارات الجاهلية التي تناوبت على حياة الإنسان...

3 - الشهادة بموقع الحسينعليه‌السلام مِن حياة الأمّة، ومركزه القيادي الذي وضَعه الله فيه، وما آتاه الله تعالى من الإمامة والولاية على المسلمين.

(أشهد أنّك مِن دعائم الدِين وأركان المؤمنين، وأشهد أنّك الإمام البرّ التقيّ، الرضيّ، الزكيّ، الهاديّ، المهديّ.

وأشهد أنّ الأئمّة مِن وُلدك كلمة التقوى، وأعلام الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على أهل الدنيا)(1) .

الـمَوقف:

ثمّ يأتي بعد هذه المرحلة من التعبير عن الولاء: (التسليم)، و (الشهادة) و (الموقف).

والـمَوقف هنا في (الإيمان والرأي) وفي (العمل).

الموقف النفسي في (الإيمان والرأي): (أنّي بكُم مؤمن وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سِلم)(2) .

والموقف في (العمل): (وأمْري لأمْركم متّبع)(3) .

مؤمن بولايتكم وإمامتكم وقيادتكم. وأصدق دليل على هذه الدعوة: أنّني

____________________

(1)زيارة وارث.

(2)زيارة وارث.

(3)زيارة وارث.

٢٣٨

أُسلّمكم شرائع دِيني وخواتيم عملي.. فليس شيء أعزّ عند الإنسان المؤمن من شرائع دِينه الذي يدين به لله تعالى، وخواتيم عمله، الذي يختم بها حياته، حيث لا يمكن أن يتدارك منه شيئاً.

فإنّ مِن الممكن أن يتدارك الإنسان ما فرّط فيه من أعماله، وإصلاحها بالتوبة.. ومراجعة النفس، وتصحيح العمل... أمّا خواتيم العمل فهي التي تقرّر عاقبة الإنسان ومصيره.. ونحن نأخذ منكم شرائع ديننا وخواتيم أعمالنا... وليس شيء أدَلّ على الثقة والصِدق في الولاء من ذلك.. ومِن خلالكم نأخذ معالم ديننا وبكُم هدانا الله تعالى.

ثمّ هذا التسليم المطلق الذي لا يشوبه شِقاق، ولا يعكّره رَيب في أعماق النفوس: تسليم القلْب للقلْب، (وقَلْبي لقَلْبكم سِلم)، فإنّ انسجام القلوب، وتلاقي القلوب، وتفاهم القلوب مِن أسمى معاني و مصاديق (السِلم).

ثمّ (التبعية المطلقة) والانقياد والتسليم في مقام العمل (وأمْري لأمْركم متّبع)، وهو يؤول إلى التسليم لأمْر الله تعالى.

والموقف هنا إيمان مطلق، وتسليم مطلق، وثقة مطلقة في النفس.. و يستتبعه الالتزام الكامل، والتبعية الكاملة في مقام العمل.

وورَد في زيارة الحسينعليه‌السلام الخاصّة في يوم عَرَفة (إنّي سِلمٌ لـمَن سالَمَكم، وحرب لـمَن حاربكم، ووليٌّ لـمَن والاكم وعدوٌ لـمَن عاداكم إلى يوم القيامة)(1) .

وفي زيارة الأربعين الخاصّة: (أشهدُ أنّي بكم مؤمن، وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلْبي لقلْبكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبع، ونُصرتي لكُم معدّة حتى يأذن الله لكم، فمعكم معكم، لا مع عدوّكم، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسامكم وشاهدكم وغائبكم)(1) .

____________________

(1)انظر زيارة الحسين الخاصّة ليوم عَرفة، وزيارة عاشوراء.

(2)زيارة الأربعين.

٢٣٩

فالنصرة معدّة وجاهزة، انتظرُ فيها إذن الله تعالى.

معكم، معكم:

ثمّ بعد ذلك يأتي هذا التشييد الولائي الرائع.. وهذه النغمة الإيمانية العذِبة... (فمعكم، معكم، لا مع عدوّكم...).

بالتأكيد، بتكرار المعيّة (فمعكم، معكم...) وبالسلب والإيجاب... والولاء والبراءة (لا مع عدوّكم). نردّد هذه التلبية الولائية لداعي الله، الذي وقف يوم عاشوراء في كربلاء... يدعو البشرية إلى العودة إلى الله وتحطيم الطاغوت، وكسْر كِبريائه وجبَروته، والعودة إلى عبودية الله.

(لبّيك داعيَ الله، إن كان لم يُجبْك بدَني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلْبي..)(1) .

وإنّ أفضل التلبية تّلبية القلب... فإذا فاتتنا تلبية داعيَ الله بأبداننا في كربلاء، فإنّ قلوبنا التي عمّرها الله تعالى بوَلائه ووَلاء أوليائه لا تنفكّ عن الاستجابة لدعوته، وبمقارعة الظالمين، وكسْر شَوكتهم وسلطانهم، وتعبيد الناس لله، وتحكيم شريعة الله تعالى وحدوده في حياة الإنسان، وانتزاع الإنسان من محوَر الطاغوت إلى محوَر الولاء لله تعالى.

البراءة:

والوجه الآخَر لمسألة الولاية البراءة.. ولا ولاية مِن دون البراءة.. والولاء والبراءة وجهان لقضية واحدة.

____________________

(1) الزيارة المخصوصة لأوّل مِن رجب.

٢٤٠