في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193937
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193937 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويصدق الإنسان في ولائه بقدَر ما يصدق في البراءة، فإنّ الولاء وحده لا يُكلِّف الإنسان كثيراً، وأكثر ما يُصيب الإنسان من أذى وعناء في أمره البراءة.

وليس من الصعب من أن يُجامِل الإنسان الجميع، ويمدّ يده إلى الجميع، ويعيش مع الكلّ بسلام، ويُداري كلّ العواطف والأحاسيس، ويلعب على كلّ الحِبال ويتجنَّب الصِدام مع الجميع، ويوزِّع الابتسامة في كلّ مكان، ويُرضي الجميع.

إنّ مثل هذا الإنسان يستطيع أن يعيش في رَغَد وعافية، ويستطيع أن يكسب ودّ الجميع وتعاطفهم، ويستطيع أن يعيش من دون مشاكل ومتاعب، ولكن لا يستطيع أن يرتبط بمِحور الولاية الإلهيّة على وجه الأرض، ولا يستطيع أن ينتمي إلى هذه الأُسرة المسلمة، التي أعطتْ ولاءها لله ولرسوله ولأوليائه.

ولا يستطيع أن يملك موقفاً، ولا يستطيع أن يُحبّ ويُبغِض ويرضى ويسخط بصدق، ولا يستطيع أن يتجاوز حدود الـمُجامَلة السياسيّة والاجتماعيّة في علاقاته.

إنّ الصدق في التعامل، والموقِف من الأحداث، والقوّة والحرّية والصراحة في المواقف، لا تتمّ من دون ولاء، والولاء لا يتمّ من دون براءة، والبراءة تُكلِّف الإنسان الكثير في علاقاته الاجتماعيّة وصِلاته في المجتمع وفي الأُسرة، وفي راحته وعافيته وفي استقراره. وهذه حقيقة من ورائها حقائق كثيرة.

إنّ البراءة ضريبة الولاء والتَعَب والعناء، والأذى ضريبة البراءة، وهذه مُعادَلات أجراها الله تعالى بسُنَّتِه التي لا تَتَبدَّل في حياة الإنسان.

* * *

عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: (عشرٌ مَن لقيَ الله (عزّ وجلّ) بهِنَّ دخل الجنّة:

شهادة أن لا اله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحَجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله، واجتناب كلّ مسكر)(1) .

____________________

(1)خِصال الصدوق: 2 / 52. =

٢٤١

فالفاصلة بين الإسلام والكُفر هي الولاية.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (... إنّ أوثقَ عُرى الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، وتوالي وليّ الله، وتعادي عدوّ الله)(1) .

وعن الرضاعليه‌السلام : (روي أنّ الله أوحى إلى بعض عبّاد بني إسرائيل، وقد دخل قلبه شيء: (أمّا عبادتك لي فقد تَعزّزت بي، وأمّا زُهدك في الدنيا فقد تعجَّلت الراحة، فهل واليت لي وليّاً وعاديت لي عدوّاً؟ ثمّ أمر به إلى النار. نعوذ بالله منها...)(2) .

ولاء (الأعور):

روي أنّ رجلاً قدِم على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي أُحِبُّك وأُحِبُّ فلاناً، وسمّى بعض أعدائه. فقال لهعليه‌السلام : (أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمي وإمّا أن تُبْصِر)(3) .

ورؤية الأعور، نصف الرؤية، فهو يرى بإحدى عينيه فقط.

____________________

= وقد وَرَدَ في رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي - ملك الحبشة -: (وإنّي أدعوك إلى الله وحده ولا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني وتُؤمن بالّذي جاءني، إنّي رسول الله). (مكاتيب الرسول: 120).

وفي رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أسْقَفِ نَجران: (إنّي أدعوكم إلى عبادة الله عن عبادة العِباد، وأدعوكم إلى ولاية الله عن ولاية العِباد، فإن أتيتُم، لا جِزْيَة، وإن أبيتُم، آذنتُكم بحرب). (مكاتيب الرسول: 170).

(1)المحاسن: 165. وبحار الأنوار: 27 / 57.

(2)فقه الرضا: 51. وبحار الأنوار: 27 / 57.

(3)بحار الأنوار: 27 / 58.

٢٤٢

وكذلك ولاء الإنسان الذي يفقد البراءة، ولا يجرأ على البراءة، ويريد أن يجمع يبن الكلّ ويُرضي الجميع.

ومثل هذا النَمَط من الناس، لا يبقى أعوراً إلى آخر عمره بنصف الرؤية، فإمّا يهديه الله تعالى فتَكتَمِل لديه الرؤية، وإمّا أن يفقد هذه الرؤية النصفيّة الضَعيفة فيَعمى ويفقد الولاء مُطلَقاً.

وقيل للصادقعليه‌السلام : إنّ فلاناً يُواليكم، إلاّ أنّه يضعف عن البراءة من عدوِّكم؟ فقالعليه‌السلام : (هيهات. كذبَ مَن ادّعى مَحبَّتنا، ولم يتبرَّأ من عدوِّنا)(1) .

والسائل في هذا الحديث دقيق في طرح السؤال: إنّ الشخص الذي هو موضِع السؤال لا يُشَكّ في ولائه، ولكنّه يضعف عن البراءة، وضعفه يجعل موقفه من البراءة مهزوزاً وضعيفاً، ولا يملك القوّة الكافية في أن يُعلِن عن موقفه في الولاء والبراءة، والوَصْلِ والفَصْل، والارتباط والـمُقاطَعة، بشكلٍ صريح وحاسِم.

فيُجيبه الإمامعليه‌السلام : إنّ الولاء الصادق لا يُمكن أن ينفصل عن البراءة، ومَن يجد في نفسه ضعفاً عن البراءة، فهو كاذب في ولائه.

وفي حديث الأعمش عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال: (حُبّ أولياء الله واجب، والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة... والبراءة من الناكِثين والقاسِطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام وأئمّة الضلال وقادَة الجَور كلّهم، أوّلهم وآخرهم، واجبة)(2) .

وعن أبي محمّد الحسن العسكري عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبعضِ أصحابه ذات يوم: يا عبد الله، أحبّ في الله وأبغض في الله، ووالِ في الله

____________________

(1)بحار الأنوار: 27 / 58.

(2)الخصال: 2 / 153 و 154. وبحار الأنوار: 27 / 52.

٢٤٣

وعادِ في الله، فإنّه لا تُنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجُل طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتّى يكون كذلك.

وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يُغْني عنهم من الله شيئاً.

فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله (عزّ وجلّ)؟ ومَن وليّ الله (عزّ وجلّ) حتّى أُواليه، ومَن عدوّه حتّى أُعاديه؟

فأشار له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّعليه‌السلام ، فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى.

قال: وليّ هذا وليّ الله فوالِه، وعدوّ هذا عدوّ الله فعادِه.

قال: والِ وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدِك، وعادِ عدوّ هذا ولو أنّه أبوك أو ولدُك)(1) .

وهذا المضمون قد وردَ تأكيده في حديث الغدير المعروف، والمروّي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(مَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذلَه).

وقد استوفى العلاّمة حُجّة الحقّ السيّد مير حامد حسين الكهنوي (رحمه الله) في عَبقات الأنوار، والعلاّمة الأميني (رحمه الله) في الغدير، دراسة هذا الحديث الشريف من حيث السَنَد والـمَتْن.

وقد صَدَّر العلاّمة الأميني كتابه القَيّم (الغدير) بحديثٍ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المعنى، نودُّ أن نختم به أحاديث الولاء والبراءة.

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: (مَن سَرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويَسكن

____________________

(1)التفسير للإمام العسكري: 8. معاني الأخبار: 113.

٢٤٤

جنّة عدن الّتي غَرَسَها ربِّي، فليُوالِي عليّاً من بعدي، وليُوالي وَليّه، وليَقتدِ بالأئمّة من بعدي، فإنّهم عِترَتي، خُلِقوا من طينَتي، ورُزقوا فَهْماً وعِلماً، فوَيلٌ للـمُكذِّبين بفضلِهم من أُمَّتي، القاطعين فيهم صِلتي، لا أنالَهم اللهُ شفاعتي)(1) .

الطوائِف الثلاث الـمَلعونة:

وقد وردَ اللعن والبراءة في زيارة وارث لثلاث أُمَم وطوائف:

(فلَعنَ اللهُ أُمّة قَتَلَتكَ.

ولَعَنَ اللهُ أُمّة ظَلَمَتْكَ.

ولَعَنَ اللهُ أُمّة سَمعتْ بذلكَ فرَضيَت به)(2) .

والطائفة الأُولى : هي الطائفة التي باشرتْ قِتال الحسينعليه‌السلام . (لعنَ اللهُ أُمّة أسرَجَت وألجَمَت وتهيَّأت وتَنَقَّبَت لقتالِك يا مولاي، يا أبا عبد الله)(3) .

والطائفة الثانية: هي الطائفة الّتي ظلمت الحسينعليه‌السلام ، وجارَت عليه ومَكَّنَت منه، وشايَعَت وبايَعَت وظاهَرَت عليه، وخالَفَته.

وهذه الطائفة تشمل كلّ أُولئك الذين أعدّوا لقتالِ الحسينعليه‌السلام أو مَكَّنوا منه، أو خالفوه أو ظاهروا عليه، أو ساهموا في الإعداد لقتاله، أو أعانوا الطاغية في قتاله بطريقة أو أُخرى... وأشياع هؤلاء جميعاً وأتباعهم.

وقد ورد اللَعن والبراءة من هذه الطائفة، في طائفة واسعة من الزيارات بصيَغ

____________________

(1)أخرجه الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء): 1 / 86. وأخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في (تأريخه): 4 / 410.

(2)زيارة وارِث.

(3)زيارة وارث الـمُطلَقة. وباختلاف يسير عن زيارة عاشوراء المخصوصة.

٢٤٥

مختلفة.

ففي زيارة عاشوراء المخصوصة: (فلعن الله أُمّة أسّست أساس الظلم والجَور عليكم أهل البيت، ولعنَ الله اُمّة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم الّتي رتَّبكم الله فيها... ولعن الله أُمّة قَتَلتكم، ولعن الله الـمُمَهِّدين لهم بالتَمكين من قتالِكم، برئتُ إلى الله وإليكم منهم ومن أشياعهم وأتباعهم)(1) .

وأيضاً جاء في زيارة عاشوراء: (وأبرأ إلى الله ورسوله ممَّن أسَّسَ أساس ذلك - الظلم والجَور عليكم أهل البيت - وبَنى عليه بُنيانه، وجرى في ظُلمه وجَوره عليكم وعلى أشياعِكم، برئتُ إلى الله وإليكم منهم)(2) .

وهذه الطائفة طائفة واسعة تشمل كلّ أُولئك الذين ساهموا في قتال الحسين أو مكّنوا من قتاله أو أعدّوا له، أو بايعوا الطاغية على قتاله أو شايعوا أو ظاهروا عليه...

الطائفة الثالثة (الشريحة الراضية):

والطائفة الثالثة:هي الطائفة التي سمعَتْ بذلك فرضيَت به.

وهذه الطائفة تستوقِف الإنسان طويلاً، فمَن هم أُولئك الّذين سمعوا بذلك فرضوا به؟

إنّ هذه الطائفة ليست بالتأكيد مُشارِكة في القتال، ولا هي مشاركة في مُمارسة الظلم بصورة عمليَّة، ولا كانت تدخل ضمن الطائفة الأُولى أو الثانية؛ وإلاّ لم يكن من موجب لإفرادها بالذكر ثالثاً.

____________________

(1)زيارة عاشوراء المخصوصة.

(2)زيارة عاشوراء المخصوصة.

٢٤٦

فهذه الطائفة لابدّ أن تكون ممّن سمعوا استنصار الحسينعليه‌السلام ولم ينصروه، وآثروا العافية على الوقوف بجانب سيّد الشهداءعليه‌السلام في معركة الطفّ، وخذلوا سيّد الشهداءعليه‌السلام ولم ينصروه في يوم عاشوراء... وهذه الطائفة لابدّ أن تكون راضية بما حدث في يوم عاشوراء.

فلا يُمكن أن يتمّ هذا الخُذلان والسكوت والقعود عن نصرة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في معركته مع طاغوت عصره، والقعود بعد ذلك عن أخذ ثأره، لولا أنّهم كانوا راضين بما حدث.

إنّ تخلّف هؤلاء عن الالتحاق بالحسينعليه‌السلام ، وتقاعسهم عن نُصرة الحسين، وإيثارهم للعافية في دنياهم على آخرتِهم، ينطوي على الرضا بما قام به يزيد، وإن لم يكن كذلك؛ فإنّ كلّ هذا التخلُّف والتقاعس وإيثار العافية يُؤدِّي أخيراً إلى الرضا بالظلم.

وقد ذُكرَت هذه الطائفة في نصوص أُخرى للزيارة بصِيغ مختلفة، كلّها تصبّ في معنى التخاذل عن نصرة (أبي عبد الله الحسين)عليه‌السلام ، والتقاعس عن الالتحاق به، وإيثار العافية على الوقوف إلى جانب سيّد الشهداءعليه‌السلام .

فقد ورد في الزيارة الـمُطلَقة الثانية: (لُعنَتْ أُمّة قَتَلَتكم، وأُمّة خالَفَتكم، وأُمّة جَحَدَتْ ولايَتكم، وأُمّة ظاهَرَت عليكم، وأُمّة شَهدَت ولم تَستشهِد...)(1) .

وموضع الشاهد الفقرة الأخيرة: (وأُمّة شهدَتْ ولم تَستَشهِد).

ووردَ في الزيارة الـمُطلَقة السابعة: (وأشهدُ أنّ قاتِلك في النار، أَدينُ الله بالبراءة ممَّن قتلَك، وممَّن قاتَلَك وشايَع

____________________

(1)الزيارة الـمُطلَقة الثانية.

٢٤٧

عليك، وممَّن جمعَ عليك، وممَّن سمعَ صوتك ولم يُعِنك)(1) .

وموضع الشاهد: (وممَّن سمعَ صوتَك ولم يُعِنك).

ووردَ في زيارة ليلة القدر وليلة العيدَين: (أشهدُ أن الّذين خالَفوك وحارَبوك، والّذين خَذَلوك والّذين قَتَلوك، ملعونون على لسان النبيّ الأُميّ)(2) .

وواضح في هذا النص أنّ الطوائف الثلاث الملعونة هي:

1- الطائفة التي خالَفَتْ وظَلَمَتْ.

2 - والطائفة التي قاتَلَتْ الحسين وقَتَلَتْ.

3 - والطائفة التي خَذَلَتْ الحسينعليه‌السلام ، ولم تُلَبِّ دعوة الحسينعليه‌السلام ولم تَنصره.

فالذين سمعوا صرخة الحسينعليه‌السلام في وجه يزيد، وسمعوا نداء الحسينعليه‌السلام وهو يستنصر المسلمين فلم يتحرَّكوا، وخذلوا سيّد شباب أهل الجنّة، وآثروا عافية دنياهم على سلامة الآخرة، وتخلَّفوا عن الالتحاق بالحسينعليه‌السلام ... أُولئك من أهل البراءة، ومن الذين يستحقُّون اللَعن.

عاشوراء (يوم الفرقان):

إنّ معركة الطفّ كانت معركة حقيقيّة، في الأبعاد العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة.

ولذلك؛ فهي تتطلَّب مواقف حقيقيّة من الولاء والبراءة، وترفض التفرُّج واللامبالاة.

____________________

(1)الزيارة الـمُطلَقة السابعة.

(2)الزيارة المخصوصة لِلَيلة القَدر وليلة العيدَين.

٢٤٨

فطبيعة المعارك والصراعات الحضاريّة والعقائديّة أنّها تشطر الناس شَطرَين: مُخالِف ومُوافِق، ويجري هذا التشطير والانقسام بصورة مستمرَّة فيما بعد، وإلى ما شاء الله من العصور.

ومعركة الطفّ في القمَّة من هذه المعارك والصراعات؛ نظراً إلى المواجهة والـمُقابَلة العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة الّتي تمَّت في هذه المعركة، ولوضوح الطرفَين في اتّجاهاتهما العقائديّة والحضاريّة، فلم يكن خافياً أمر الحسين ابن بنت رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة على أحد من المسلمين، كما لم يكن خافياً أمر يزيد بن معاوية ابن آكلِةِ الأكباد، وسلالة الشَجرة الملعونة في القرآن على أحد، ولا أحد يشكّ في ماهِيَّة وحقيقة الطَرفَين الـمُتصارعين، ومَن منهما كان يدعو إلى الله، ومَن منهما كان يُخالِف إرادة الله ويعصي الله.

هذه المأساة والمواجهة التاريخيّة شطرت الناس شَطرين مُتميِّزَين:

الشطْر الأول: الموالي والناصر والـمُنتَمي والـمُرتبِط والـمُسانِد.

والشطْر الثاني: الـمُخالِف والـمُعادِي.

وهذا الصراع لم يَدَع أحداً يقف بين الصفَّين ليَتفرَّج على المعركة من دون أن يصيبه غبار من هذا الطرف أو ذاك.

فلابدّ من موقِف مُحدَّد، من ولاء أو براءة.

ولذلك قُلنا: إنّ هذه المعركة شطرَتْ الناس في الولاء والبراءة شطرين مُتميِّزين، من سَنَة إحدى وستّين هجريّة إلى يومِنا الحاضر، وإلى ما شاء الله من العصور.

أبْعادُ وامتداداتُ المواجهة ليوم الفرقان:

ولقد كان يوم بدر (يوم الفرقان) الأوّل في تاريخ الإسلام، يقول تعالى:( يَوْمَ

٢٤٩

الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) (1) .

وهو أوّل مواجهة قتاليّة بين التوحيد والشِرك في تاريخ الإسلام، وعلى نتائج هذه المواجهة الميدانيّة كان يتوقَّف مصير البشريّة جميعاً.

صحيح أنّ الّذين وقفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ثلاثمئة أو يزيدون، وأنّ الّذين وقفوا إلى جانب قريش لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ألف أو يزيدون قليلاً، إلاّ أنّ هذه المواجهة كانت أعمق وأوسع ممّا يتراءى لنا لأوّل مرّة من خلال التاريخ في وادي بدْر، في السَنَة الثانية بعد الهجرة.

فقد كان يقف من وراء المشركين من قريش في بدْر جَبهَة عريضة من الشِرك، في الجزيرة وخارجها؛ وتصاعد الأحداث بعد هذا اليوم أثبتَ هذه الحقيقة، ولقد وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه العصابة الصغيرة أمام جبهة الشِرك العريضة.

فيوم بدر إذن، فرَّق الناس إلى شطرين متمايزين في الولاء:

شطر قِوامه ثلاثمئة وخمسة مقاتِلين.

وشطر قوامه جبهة الشرك العريضة، وبكلّ إمكاناتها الواسعة.

فهو (يوم الفرقان) الأوّل حقّاً في تاريخ الإسلام.

إنّ النظرة الساذجة الأُولى لساحة بدْر - في السنة الثانية من الهجرة - لا تلتقي إلاّ بهذين الجَمعين الصغيرين الـمُتقاتلين، ولكنّ النظرة العميقة الـمُمْعِنة تلتقي في هذه الساحة بحَضارتين وعقيدتين تتصارعان على البقاء، وفي جبهات عريضة واسعة، وليس مع ألف من المقاتِلين أو يزيدون فقط.

ولم يكن يوم بدر (يوم الفرقان) الذي يشطر الناس في الولاء والبراءة إلى

____________________

(1)الأنفال: 41.

٢٥٠

شطرَين في السنة الثانية من الهجرة فقط، وإنّما يظلّ هذا اليوم يوم فرقان في تاريخ الإسلام، إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.

يوم الفرقان الثاني في تاريخ الإسلام:

وإذا كان يوم بدر (يوم الفرقان) الأوّل في تاريخ الإسلام، فإنّ يوم عاشوراء (يوم الفرقان) الثاني في تاريخ الإسلام.

كان يقف فيه الحسينعليه‌السلام مع ثُلّة صغيرة من أهل بيته وأصحابه، وفي الجانب الآخر يقف ابن زياد مع جيش واسع، ومن ورائه يزيد وسُلطانه ومُلكه الواسع وأمواله الكثيرة وإمكاناته، وكلّ الموالين له والـمُستفيدين منه.

ففي يوم عاشوراء إذن، نجد كلّ خصائص (الفرقان)، فقد شُطِرَ الناس إلى شَطرَين متمايزين في الولاء والأخلاق والفكر والخطّ والعقيدة..

ولا يزال هذا اليوم (فُرقاناً) في تاريخ الإسلام، يُفرَّق الناس في الولاء والبراءة، إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.

يوم الفرقان الثالث في تاريخ الإسلام:

وما دُمنا قد أشرنا إلى يومين من أيّام (الفرقان) في التاريخ الإسلامي: (يوم بدر، ويوم عاشوراء)، فلا نستطيع أن نتجاوز هذا الحديث دون أن نُشير إلى اليوم الثالث من أيّام (الفرقان) في تاريخ الإسلام الحديث، والذي يأتي امتداداً ليوم بدر ويوم عاشوراء.

وهو: يوم انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

والذي هو من أيّام الله الكبرى في التاريخ، هدمَ الله تعالى فيه عرشَ أكبر إمبراطوريّة في آسيا، تحمِيه أضخم الأجهزة السِريّة والعَلنيّة، وأكبر قلعة للاستكبار في المنطقة، تحميها سادس قوّة

٢٥١

عسكريّة في العالم، وذلك بقيادة الإمام الخميني (قدس سرّه).

إنّ هذا اليوم لا يعني فقط سقوط نظام أُسرة بهلوي في تاريخ إيران، وإنّما يعني نهاية مرحلة من التاريخ وبداية مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام.

فإنّ سقوط أُسرة بهلوي، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة يُعتبر نهاية لعصر من الخمول والركود والاستضعاف واليأس، والارتماء في أحضان الغرب والشرق، والتخلّف الفكري والثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي، والهزيمة النفسيّة...

وبداية عصر جديد من التحرّك باتّجاه حاكميّة دِين الله على وجه الأرض، وفكّ القيود والأغلال من الأيدي والأقدام، وكَسْر الطَوق السياسي والاقتصادي والعسكري والعلمي والحضاري، الّذي فرضَه الاستكبار الغربي والشرقي على العالم الإسلامي، والعودة إلى الله، وتعبيد الإنسان لله، وتحكيم شريعة الله في حياة الإنسان، وإعادة الأعراف والقِيَم والأخلاق، والحدود الإسلاميّة إلى صُلبِ الحياة من جديد.

وبالإجمال، مرحلة جديدة للتاريخ.

إنّ هذا اليوم امتداد حقيقي ليوم عاشوراء، كما كان يوم عاشوراء امتداداً واقعيّاً ليوم صفِّين وبدر.

انتصار الثورة الإسلاميّة مُنطلَق ثوري وقِيمة حضاريّة:

ونُلخّص فيما يلي أبرز نقاط وعناصر هذه الثورة المباركة:

إنّ هذه الثورة ثورة مبدئيّة بكلّ معنى الكلمة، وهي نوع جديد من العمل والحركة الثوريّة في تاريخنا المعاصر، وحدث سياسي بارِز لا شبيه له في الأحداث المعاصرة، وصراع جديد بين التوحيد والشِرك، بين التوحيد في الولاء والشِرك في الولاء.

فهي تتّجه لفكِّ ارتباط الإنسان المسلم بالاستكبار الشرقي والغربي، وفكّ ارتباطه بمحاور الولاء الـمُصطنَعة: (القوميّة، الوطنيّة، العشائريّة، الحزبيّة...)، وربط ولائه بالله تعالى، ورسوله وأوليائه، وتوحيد الولاء

٢٥٢

لله تعالى، ومُقاطَعة ومُحاربة كلّ المحاور الأُخرى الّتي تعمل لانتزاع الولاء من الناس.

تلك كانت طبيعة الثورة ومحتواها.

إنّ من المهمِّ أن نفْهم نحن مسار الثورة الإسلاميّة المعاصِرة ومحتواها، ومن دون ذلك لا نستطيع أن نُساهِم أو ندعم أو نُسانِد هذه الثورة.

إنّها ليست ثورة على التخلُّف العلمي والتِقَني، ولا هي ثورة على التخلُّف الاقتصادي والفقر الاجتماعي، ولا هي ثورة ضدّ الاستعمار، ولا هي ثورة من أجل تحرير آبار النفط من قَبضةِ ملوك النفط أو من الشركات الاحتكاريّة، ولا هي ثورة طَبَقَة أُخرى (صِراع طَبَقِي)، كما حدثَ في ثورة الزنج في تاريخ الإسلام، وإن كانت تحتوي على كلّ هذه الأُمور، وتَطْمَح لكلِّ هذه المكاسب، وتُحقّق هذه النتائج كلّها إن شاء الله، إلاّ أنّها في جوهرها شيء آخر.

إنّها ثورة الولاء لله تعالى على الولاء للطاغوت، وثورة التوحيد على الشرك، وثورة الإسلام على الجاهليّة الحديثة.

وهي إذا حققَّتْ غايتها على وجه الأرض، فسوف تقضي على التخلُّف العلمي والثقافي والتِقَني، وتقضي على الفقر والتخلُّف الاقتصادي، وتقضي على الاستثمار والاستعمار، وتقضي على الاحتكار، وعلى الشركات الاستعماريّة، وتقضي على التلاعُبِ بأموال المسلمين وثرواتهم، وتقضي على الاستضعاف والاستكبار، وعلى استضعاف طَبَقة لطَبَقة أُخرى، ومُمارسة السيادة لطبقةٍ على أُخرى.

إنّ هذه الثورة سوف تُحقّق كلّ هذه الغايات، وغايات أُخرى أبعد من هذه وأسمى منها إن شاء الله. ولكن، على أن تُحافِظ على جوهرها ومحتواها الحقيق (ثورة التوحيد على الشِرك).

إنّ السِمَة البارزة والأُولى لهذه الثورة هي: (الربّانيّة)، وهذه السِمَة هي الّتي

٢٥٣

تربطها ببدرٍ وصِفّين وعاشوراء، وبحركة الأنبياءعليهم‌السلام ، وبمَسارِ الصالحين من أولياء الله.

ومتى أُفرغت الثورة من هذه السِمة، وتشبَّعت بالأهداف والشعارات الجانبيّة، فقدت كلّ قيمتها، وفقدت تأييد الله تعالى لها.

إنّ هذه الثورة تختلف اختلافاً جوهريّاً عن كلّ الثورات المعاصِرة لنا، كالثورة الفرنسيّة، وثورة أكتوبر، والثورات الّتي قامت في القارَّة الأفريقيّة وفي آسيا بعد الحرب العالميّة الثانية، والثورات في المنطقة العربيّة.

إنّ الكثير من هذه الثورات كانت ثورات طَبَقيّة، ثورة طَبَقة مُستضعَفة على طَبَقة مُستأثِرة. أو ثورات تحرّريّة من الاستعمار وسَيطرة الأجنبي، أو القضاء على أنظمة ديكتاتوريّة.. أو حُكّام مُجرمين.

ولا نستطيع أن نستثني ثورة مُعاصِرة عن هذه الـمُنطلَقات.

والثورة الإسلاميّة هي الوحيدة الّتي انطلقت من مُنطلَق آخر، يختلف اختلافاً نوعيّاً عن هذه الثورات جميعاً.

انطلقت باتّجاه تحرير الإنسان من المحاور البشريّة للولاء، مهما كان نوعها، إن لم يكن مرتبطاً بالله تعالى، وتعبيد الإنسان لله تعالى، وتحكيم شريعته في حياة الإنسان، وترسيخ محوَر الولاية الإلهيّة بكلّ امتداداتها في حياة الإنسان.

تراكُم من الفعل والحراب (الفِعْل والانْفِعال):

إنّ هذه الثورة حصيلة جهود كثيرة وكبيرة، من قِبل كلّ العاملين في سبيل الله وطلائع العمل الإسلامي، من الذين وَعُوا محنة الأُمّة وتحمّلوا المسؤوليّة، ونهضوا بأعباء المسؤوليّة.

إنّ هؤلاء جميعاً لهم دَور في بناء قواعد هذه الثورة، وفي انجاز هذه الحركة الربّانيّة على وجه الأرض، وفي تحريك هذا السَيل

٢٥٤

البَشَري الهادِر الذي زَعزَعَ مكان الطاغوت.

إنّ الطالب الّذي كان يدعو إلى الله ورسوله، وإلى تحكيم شريعة الله بين زُملائه الطلبة، له دَور في بناء هذه الثورة، والعامل الّذي كان يبثّ الوعي الإسلامي في صفوف إخوانه العمّال، له دَور في هذه الثورة، والخطيب الذي كان يخطب في المساجد والاجتماعات، وينشر هَديَ الإسلام ووَعيه، له دور في هذه الثورة، والعالِم، والكاتِب، والشاعر، والأديب، والمعلِّم وكلّ حَمَلَة الرسالة، من النساء والرجال، والّذين وضعوا حَجَراً في أساس هذه الثورة، من مشارق الأرض ومغاربها، لهم دور وحظّ في هذه الثورة المباركة.

إنّ هذه الثورة الّتي زلزلت الأرض تحت أقدام الطُغاة، لم تكن حصيلة فترة زمنيّة محدودة. وجُهْد جماعة من العاملين، وإنّما كانت حصيلة أجيال من العمل في سبيل الله، من قِبل كلّ العاملين في حقول العمل الإسلامي.

كما إنّ هذه الثورة حصيلة كلّ الآلام والحرمان، والاضطهاد والعذاب والعناء الّذي لاقاه المسلمون في مرحلة الركود والضعف.

وساهمَ في هذه الثورة كلّ الشهداء الّذين اضطُهِدوا في سبيل الله، وكلّ مَن التفّتْ السِياط على جسمه في غيابات السجون، وكلّ الدموع والدماء والآهات... وكلّ الهجرات الّتي كانت في سبيل الله.

أجَل، إنّ هذه الثورة كانت انفجاراً هائلاً لكلّ هذه الآلام والمِحن، ولو كان الأمر في هذه الثورة الإسلاميّة يقتصر على العامل الثاني: (ركام الآلام والعذاب)، لكان من الممكن أن تغلب على هذه الثورة الصِفة الانفعاليّة، إلاّ أنّ وجود العامل الأوّل وقوّته وفعاليّته في تحقيق هذه الثورة المباركة، كان عاملاً قويّاً في توجيه الثورة وتصحيح مسارها، والمحافظة عليها من الانحراف.

محاوَلات لأقْلَمَةِ الثورة:

فليست هذه الثورة ثورة إقليميّة، كما يحاول أعداء الإسلام أن يصفوها، وكما

٢٥٥

تنطلي أحياناً على بعض السُذّج من المسلمين، وليست ثورة إسلاميّة إيرانيّة، وإنّما هي ثورة إسلاميّة شاملة، وشاء الله تعالى أن تكون نقطة انفجار هذه الثورة أرض إيران، والشعب الذي يُفجرّ هذه الثورة، الشعب الإيراني المسلم.

وأيّة محاولة لأقلَمَة هذه الثورة وعزلها عن مشاعر وأحاسيس وقلوب المسلمين خيانة لهذه الأُمّة، إن كانت من قِبل أعداء هذه الأُمّة والـمُتربِّصين بها سوءً، أو من أبنائها الّذين لم يعُوا خطورة هذا الدَور.

إنّ عزلَ الثورة الإسلاميّة عن مشاعر المسلمين وعن الرأي الإسلامي، وتطويقها، يُعدُّ خيانة كبرى ومقدّمة للإجهاز عليها. ويجب علينا كمسلمين أن نواجه هذه المؤامرات بوعي وانتباه، وبعيداً عن جوِّ الحساسيّات، وفي جوٍّ من المسؤوليّة الشرعيّة.

إنّ هذه الثورة بداية لانفجار شامل وثورات إسلاميّة كثيرة على وجه الأرض، وليست تلك الثورات شيئاً آخر غير هذه الثورة، ولا امتداداً لها، وإنّما هي مراحل مختلفة لثورة واحدة، شاء الله تعالى أن تتمّ المرحلة الأُولى منها في إيران، وفي أحضان هذا الشعب المسلم الشجاع.

أرأيت خطّ الزلزال ينطلق من نقطة ويمتدّ على منطقة واسعة من الأرض، بفِعل التفاعلات غير المرئيّة في طَبَقات الأرض؟!

كذلك هذه الثورة.

التفاعلات التي كانت تجري في الأعماق غير المرئيَّة لهذه الأُمّة:

لقد تمَّ في عُمق هذه الأُمّة تفاعلات واسعة وكبيرة وقويّة، بتأثير الفِعل (العامل الأوّل) والانفعالات (العامل الثاني)، في غياب مِن رَصدِ الاستكبار العالمي.

وحيث كان الاستكبار العالمي يزهو بانتصاراته الكبرى في العالم الإسلامي، ويعيش في نشوَة هذه الانتصارات على العالم الإسلامي، جرت هذه

٢٥٦

الانفعالات في أعماق الأُمّة الإسلاميّة، وتفاعَلَت وتفاقمت، ثُمّ كانت الثورة الّتي تشبه الزلزال، فاهتزَّت الأرض من تحت أقدام حُكّام الغربِ وأتباعهم، ولم ينتبه هؤلاء الطغاة من نشوة وسكر السلطان إلاّ بعد أن حدث الزلزال.

إنّ الذي حدث في طهران كان شيئاً أكبر بكثير من تصوّراتنا المحدودة، كان تحقيقاً لوعد الله سبحانه وتعالى للصالحين الـمُستضعَفين من عباده في هذه الأُمّة( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) (1) .

وعلينا قبل كلّ شيء، أن نعي بصورة جيّدة الأبعاد الحقيقيّة لهذه الثورة، وأن ننشر هذا الوعي في صفوف المسلمين؛ لنُحبِط المؤامرات الّتي يحيكها أعداء الإسلام لتطويق ومحاصرة الثورة الإسلاميّة.

إنّ الذي يقرأ كتُب ومحاضرات الإمام الخميني (قدس سرّه)، يجد وعياً دقيقاً لهذه المؤامرة، وتوجيهاً عمليّاً لإحباطها، وحُرصاً مسؤولاً لوحدة ومصير المسلمين، ولارتباطهم بالثورة، سواء كانوا سُنّة أمْ شيعة، عرباً وفُرُساً، وتعميم مسؤوليّة المحافظة على هذه الثورة على المسلمين جميعاً.

إنّ هذه الثورة من عملِ وجُهد وعناء كلّ المسلمين الصالحين.

ورسالة هذه الثورة فكّ الأغلال والقيود عن أيدي وأقدام كلّ المسلمين.

ومسؤوليّة المحافظة على هذه الثورة من واجب كلّ المسلمين كذلك.

ومن أجْل هذه الشموليّة الواسعة في هذه الثورة، نجد أنّ فكرة تصدير الثورة رافقت ولادة.

إنّ مَن يعرف طبيعة وجذور وأعماق هذه الثورة، يُدرك أنّ هذه الثورة لا تعترف بالحدود الإقليميّة، ولا بالنزعة القوميّة، وأنّها لا تَقِف من وراء الحدود

____________________

(1)القصص: 5 - 6.

٢٥٧

تستأذن سَدَنة الحدود؛ ليفتحوا إليها الطريق، إنّها السَيل الذي لا يقِف ولا يتردّد ولا ينتظر.

ونحن نضع هذه الحقائق في طريق الثورة، وبين يديّ هذه الأُمّة المؤمنة ومُفكّريها، وقادتها وعلمائها والعاملين في صفوفها؛ ليعرف كلّ واحد منّا مسؤوليّته إزاء هذا الحَدَث الكبير.

الولاء والبراءة بعد الثورة:

وهذه الثورة من أيّام الفرقان في تاريخ الإسلام، انشطر الناس تجاهها إلى شطرين:

شطْر الموالين، وشطْر المعادين.

وليس للثورة ولاء جديد في قِبال الولاء لله ولرسوله ولأوليائه، وإنّما هو امتداد للولاء لله.

إنّ هذه الثورة كانت من الأحداث القليلة والنادرة في التاريخ، التي لم تسمح لإنسان أن يقف منها موقف الـمُتفرِّج واللامبالاة، وإنّما تفرض على كلّ الناس أن يحكموا لها وعليها، ومنذ أيّام بزوغ هذه الثورة، ومنذ أن اندلع لَهيبُها في طهران، وجدنا كلّ القلوب المؤمنة والضمائر الحيّة قد تجمَّعت حول هذه الثورة، وتعاطفت معها.

وكانت تعيش باهتمام بالِغ ساعات ميلاد هذه الدولة المباركة، وحبسَ التاريخ أنفاسه ليُتابع لحظات هذا الميلاد، لحظات (عودة الحضارة الربَّانيّة، وعودة سيادة الإسلام على وجه الأرض) و (حاكميّة الله في حياة الإنسان)، بعد تلك السنوات العُجاف من الركود والخمول والضعف، والهزائم النفسيّة،

٢٥٨

والانصهار الـمُذِلّ في حضارة الاستكبار الشرقي والاستكبار الغربي، ونفوذ وسيطرة الكفر العالمي على بلادنا وأُمّتنا وثرواتنا.

وفي مقابل ذلك، فقد أحسّ كلّ الظالمين العُتاة والجلاّدين والّذين باعوا دينهم وضمائرهم، كلّ أُولئك أحسّوا بالشرِّ وأحسّوا بالخطر، وبأنّ هناك حَدَثاً جديداً، وميلاداً جديداً، وأنّ الّذي يجري في طهران ليس أمراً كسائر الأُمور التي تجري هنا وهناك. إنّه نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة، ونهاية لحضارة وبداية لحاضرة.

لقد أحسّ هؤلاء بالشرِّ، وبالخطر يُفاجئهم على حين غَفلَة، فأعلنوا عدائهم تجاه الثورة منذ اللحظات الأُولى لانطلاقتها، ولم يُخفوا حقدهم وتخوّفهم من هذه الثورة.

لقد استقبلت الثورة طائفتان من الناس:

الطائفة الأُولى: استقبلتها بقلوب مِلؤها العطف والحبّ والحماس، والاندفاع لنصرتها، والدعاء إلى الله بتأييدها.

الطائفة الثانية: استقبلتها بقلوب حاقدة مُتخوِّفة مُتحسِّسة، لم تتمكّن من إخفاء هذا الحقد والخوف والتحسّس.

وهذا الانشطار في الولاء والبراءة في خصائص أيّام الفرقان في التاريخ، ولسوف تبقى هذه الثورة تحتفظ بهذه الخاصيّة المزدوجة في مراحلها المختلفة.

حتميَّة الصراع:

ولقد كان من الطبيعي أن يكون ميلاد هذه الدولة المباركة واستمرارها إيذاناً بصراع مُمتَدّ طويل، بينها وبين الجاهليّة الحديثة،

٢٥٩

فلا يُمكن أن يسكت أو يهدأ الغرب أمام هذه الموجة الربّانيّة، دون إثارة الفتن والمتاعب في طريق دُعاة هذه الثورة، ودون أن يعمل على تطويق ومصادرة هذه الثورة.

إنّ الذي يتفهّم سُنَن الله في التاريخ، يستطيع أن يفهم بوضوح حتميّة هذا الصراع بين هاتين القوّتين: (القوّة الإسلاميّة النامية، وقوّة الكفر العالمي)، وأنّ هذا الصراع سوف يكون من أقسى أنواع الصراع وأطوله؛ ذلك أنّ هذا الصراع صراع من أجْل البقاء، والصراع على البقاء يطول ويَقسو ويستمرّ؛ لأنّه صراع عقائدي حضاري، وليس صراعاً على ماء وطين، وعلى نفط وصُلب ونحاس، حتّى يمكن اللقاء والتفاهم فيه.

ولا يُمكن تجنّب هذا بحالٍ من الأحوال.

إنّ هذه الثورة والدولة قد كسرتا دائرة النفوذ الاستكباري: (الشرقي والغربي) على العالم الإسلامي، وخرجت الدولة الإسلاميّة لأوّل مرّة عن منطقة نفوذ القوى الكبرى بشكلٍ كامل، وتعمل الثورة الآن لفكِّ هذا الحصار عن كلّ العالم الإسلامي.

ومن الطبيعي أن يُواجه الاستكبار هذه الثورة ودولتها الناشئة بكلّ أنواع الضغوط والمؤامرات، من الداخل والخارج؛ لتحجيمها واستهلاكها وتطويقها.

والعاقبة للـمُتّقين:

والعاقبة في هذا الصراع للـمُتّقين.

ومهما نشكّ في شيء فلا نشكّ في هذه الحقيقة، أنّ الأُمّة المؤمنة لا تدافع عن نفسها، وإنّما تدافع عن دين الله، وشريعة الله وحدوده، ولا تواجه أعداءها وإنّما تواجه أعداء الله، ولا تحارب بحَولها وقوّتها وإنّما تحارب بحول الله وقوّته.

٢٦٠