في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193921
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193921 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من اثنين، حسب اختلاف العيّنة.

أمّا أن نُكبِّر العَيّنة تحت المجهر، حتّى يُمكن اكتشاف وفهم الجزئيّات الدقيقة منها الّتي لا تخضع للعين الـمُجرَّدة، أو نصغِّر المساحة مع الاحتفاظ بكلّ مُقوّماتها وأركانها ونختزلها، حتّى يُمكن استيعاب المساحة الواسعة بنظرة واحدة، وفي دائرة صغيرة.

و (عاشوراء) من النوع الثاني (اختزال شديد لحركة التاريخ وما في هذه الحركة من السُنَن والقوانين)، وهذا الاختزال يتّصف بالتمثيل الدقيق لمساحة التاريخ الكبيرة وسُنَنها وقوانينها.

* * *

ذلك أنّ (عاشوراء) من بين نماذج الصراع بين أولياء الله وأولياء الطاغوت، نموذج نادر من الصراع الحقيقي الحاسم في التاريخ.

ففي هذه المعركة التاريخيّة الحاسمة يتقرَّر مصير الإسلام، وبالتالي مصير رسالات الله تعالى، الّذي كاد أن يسقط في أيدي السلاطين الرسميِّين الّذين كانوا يحكمون باسم الإسلام.

وهذه المعركة وحدها استطاعتْ أن تضع حدّاً للسلطة الزمنيّة الحاكمة، وتفصل بين (الإسلام) وما كان في قصور الخلفاء وأجهزتهم، من لَهوٍ وسقوط في لذّات الحياة الدنيا، ومن ظلم واضطهاد واعتداء وتجاوز لحدود الله تعالى وأحكامه.

في (عاشوراء)، يتقابل صفوة مؤمنة خالصة، وعلى رأسهم ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والصفوة الصافية من أهل بيته وأصحابه، مع رؤوس الإجرام والنفاق.

وفي هذا التقابل والمواجهة لا أدري ماذا يحسّ الإنسان من بَوْنٍ شاسِع وفاصل كبير بين نَمطين من الناس، وبين هذا السقوط إلى الحضيض والصعود إلى القمَّة، بين النور والظُلمة.

يشعر الإنسان بوجود نَمطين مختلفين تماماً من الناس، وبالفاصل الكبير

٢١

الشاسع الّذي يفصل في الأهداف والقِيَم، والأخلاق والتربية والقُرب والبُعد من الله، ثمّ يجد هذين النَمطين من الإنسان في مواجهة حقيقيّة حاسِمة في ساحة الطفّ.

يدعو أحدهما إلى الله تعالى، وإلى إقامة الصلاة وإلى العودة إلى الإسلام، وإلى الأخذ بأسباب العبوديّة.

ويدعو الآخر إلى الطاغوت والانقياد له.

يطلب أحدهما وجه الله ومرضاته في هذه الحركة والصراع ويقول:

إنْ كانَ دِينُ مُحمّد لم يَسْتَقمْ

إلاّ بقَتْلِي يا سيِوفُ خُذيني

ويقول:

والله إنْ قَطَعْتُم يَميْني

إنّي أُحامي أبداً عن دِيني

ويطلب الآخر سَقْط المتاع في الحياة الدنيا ويقول:

املأ رِكابي فِضّة أو ذهباً

إنّي قتلتُ السيّد الـمُهذّبا

يُجسِّد أحدهما في سلوكه وقتاله أسمى القِيَم وأنبلها، حتّى في القتال، ويُجسِّد الطرف الآخر أحطّ ألوان السلوك في ابتغاء الدنيا وفي الإجرام.

إنّ التقابل العجيب بين هاتين الفئتين اللّتين تُقاتِلان في كربلاء وبين أهدافهما، يعتبر واحداً من أغرب نماذج الصراع بين الحقّ والباطل في التاريخ.

لقد كان أحد الطرفين حقّاً امتداداً لإبراهيم وموسى وعيسى ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويحمل معه ميراث هؤلاء الصدّيقين وهمومهم وطموحاتهم، ويُعدّ الآخَر حقّاً امتداداً لقابيل وفرعون ونمرود، والقتَلة والـمُجرمين في التاريخ.

وعلى نتائج هذا الصراع يتوقّف مصير هذا الخطّ أو ذاك.

لقد كان أحد الخطّين يستجمع كلّ قِيم وعطاء وتضحيات الأنبياء، والخطّ الآخر يستجمع كلّ ألوان الانحطاط والسقوط الّذي يشهده الناس في التاريخ لهذا الخطّ.

لقد كان مشهد (عاشوراء) مشهداً غريباً في نوعه، ولم يكن يلتبس الأمر في

٢٢

تمييز الحقّ والباطل وتشخيصهما على أحد بين هذين الـمُعسكرين، فقد بانَ الحقّ وبانَ الباطل وامتاز أمرهما، ولم يبق موضع للالتباس لأحد.

فمَن دخل مع هؤلاء، دخل على بيِّنة وبصيرة، وما بعدها بيّنة وبصيرة، ومَن انساق من وراء أُولئك، كان ممَّن أضلّه الله على عِلم.

فقد كان يوم عاشوراء يوماً من أيّام الفرقان في التاريخ حقّاً، افترق فيه الحقّ والباطل، ولم يعد لأحد فيها موضع للشكّ واللَبس.

كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء:

إذن، عاشوراء مرآة لكلّ حركة التاريخ، وامتداد للصراع القائم بين الحقّ والباطل في التاريخ.

والعكس أيضاً صحيح، فإنّ كلّ صراع في التاريخ بين الدعاة إلى الله وأولياء الطاغوت، نسخة من عاشوراء، على درجات مختلفة من التمثيل، وهذا هو معنى الكلمة المأثورة والدقيقة المعروفة: (كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء).

ففي كلّ أرض وفي كلّ يوم صراع بين الحقّ والباطل، بموجب قانون حتميّة الصراع بين أولياء الله وأولياء الطاغوت، ولا تخلو أرض من هذا الصراع، ولا يخلو يوم من أيّام التاريخ منه.

وكلّ صراع في هذه السلسلة الطويلة من الصراعات والحروب والقتال، يُعتبر نسخة من (كربلاء) ومن (عاشوراء)، على درجات مختلفة من التمثيل، حسب سِعَة وعُمق هذا الصراع وأبعاده في حياة الإنسان.

فالزمان: (كلّ يوم)، والمكان: (كلّ أرض)، أكثر من وعاءين لحضارة الإنسان.

إنّهما وعاءان لحضارة الإنسان، ومقوّمان لها أيضاً، يتفاعلان مع الإنسان،

٢٣

يمنحانه ويأخذان منه. والإنسان في تفاعل مستمرّ مع الزمان والمكان، يأخذ منهما ويمنحها ويُؤثِّر فيهما ويتأثَّر بهما.

فالزمان والمكان - إذن - لا يُعتبران وعاءين لحضارة الإنسان فقط - بالمعنى المعروف للوعاء، الّذي ليس له أيّ تأثير فيما تحتويه -، إنّ الزمان والمكان جزءان مُقوّمان لحضارة الإنسان، ويحملان شُحنة وطاقة حضاريّة مُعيَّنة في تاريخ الإنسان، وعندما نقول (كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء)، يعني أنّ الصراع جزء حتميّ لا يتجزّأ من حضارة الإنسان.

وهذا الصراع يمتدّ زماناً ومكاناً مع حضارة الإنسان، وفي كلّ مراحله يُعتبَر نسخة مُمثّلة لكربلاء وعاشوراء، على درجات مختلفة من التمثيل.

فهذه ثلاثة أُصول وثلاثة قوانين:

1 - حتميَّة الصراع.

2 - استمراريَّة الصراع على خَطَّي الزمان والمكان.

3 - تمثيل عاشوراء بدرجات مختلفة.

* * *

إذن عاشوراء مرآة للتاريخ، والتاريخ مرآة لعاشوراء، ومن خلال عاشوراء نطِلُّ على حركة التاريخ، ومن خلال حركة التاريخ نطلُّ على عاشوراء.

إنّ عاشوراء تصغير واختزال شديد لمساحة التاريخ الكُبرى، وحركة التاريخ الـمُمتدَّة على بُعْدَي الزمان والمكان، تكبير لِعَيِّنَة عاشوراء، وتمديد لها. ولو وضعنا هذه العَيِّنَة - (عاشوراء) - تحت المِجهَر، شاهدنا حركة التاريخ، ولو اختزلنا حركة التاريخ وصغّرناها بدرجة عالية جدّاً، التقينا بعاشوراء.

* * *

إنّ (عاشوراء) ينبغي أن يُدرَس من خلال هذا الأفق التاريخي الواسع، من

٢٤

خلال حركة التاريخ وسُنَن الله في التاريخ، وسقوط الأُمم وصعودها، وصراع الحقّ والباطل الـمُمتدّ في أعماق التاريخ، وفي ساحة التاريخ الكبرى.

وأعتقد أنّ الجمهور يَعي (عاشوراء) بمثل هذه الرؤية الشامِلة، من خلال وَعيه الفطري البسيط، ومن خلال تفاعله الروحي والوجداني العميق مع عاشوراء.

أمّا طريقة بعض الباحثين في دراسة عاشوراء، في اقتطاع هذا اليوم العجيب من مساحة التاريخ، ودراسته بمَعزَل عن مساحة التاريخ وحركة التاريخ الكبرى، وبَتْره عمّا قبله وبعده، وتَكلِيس عاشوراء وتعتيم هذه الرؤية النافذة، الّتي تنفذ بنا من خلال عاشوراء إلى مساحة التاريخ الواسعة، فهو من الظلم لهذا اليوم وقيمته التاريخيّة.

ولابدّ من الاعتراف بأنّ جمهور الناس أوعى لقيمة هذا اليوم من بعض الباحثين، الذين تناولوا هذا اليوم بهذه الطريقة التجزيئيّة.

وتبلغ السذاجة ببعض الكُتّاب أن يتصوَّر أنّ جذور معركة الطفّ تكمُن في قضيّة (أُرَينب)، وما تلفّ هذه القضيّة من ظروف، أو الخلاف والتنافس التاريخي بين (هاشم) و (أُميَّة).

إنّ عاشوراء أعمق بكثير من المستوى الذي يتناوله هؤلاء الكُتّاب وأمثالهم.

٢٥

٢٦

ثأر الله

* رُؤية قرآنيّة للنصر والهزيمة

* القيمة الذاتيّة للشهادة

* القيمة الحَركيّة للشهادة

* رِحلة الشهادة في القرآن الكريم

* رحلة الشهادة في السُنّة الشريفة

٢٧

٢٨

ثأرُ الله

رُؤيَة قرآنيَّة للنَصرِ والهَزيمَة

من المفاهيم العميقة الواردة في زيارة الحسينعليه‌السلام مفهوم (ثأر الله)، وهذا المفهوم يفتح عليناً آفاقاً واسعة للتفكير والتأمّل، ويطرح علينا مسائل من صُلب الرسالة والعمل والحركة والجهاد، وهي مسائل بالغة الحسّاسيّة والأهمِّيّة ممّا تواجهها أُمّتنا اليوم؛ ولذلك فسوف نتوقّف قليلاً عند هذه الكلمة، لنتأمَّل مُعطَياتها وإيحاءاتها.

الجذور اللُغَويّة للثأر:

يقول ابن سيده: (الثأر: الطَلَب بالدَم)(1) ، والثائر: الطالِب بالدم، وقيل: الثأر طلب الـمُكافأة بالجناية، والثائر: الطالِب بالـمُكافأة بالجناية والدَم.

ومنه حديث محمّد بن مسلم يوم خيبر: (أنا له يا رسول الله الـمَوتور الثائِر)، أي: طالِب الثأر، وهو طالِب الدَم(2) . ولهذه الكلمة جذور تاريخيّة وأصل قرآني؛ فقد كان الدم يستثير أولياء المقتول وذَويه للقصاص والانتقام من القاتل، وهذه

____________________

(1)يُراجَع: لسان العرب: 2 / 77، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

(2)النهاية، لابن الأثير: 1 / 204، دار إحياء الكتب العربيّة.

٢٩

سُنّة تاريخيّة قديمة، والعرب قبل الإسلام كانوا من أكثر الأُمم والشعوب اهتماماً بمسألة القصاص والانتقام - (الثأر) - ومُلاحَقة الـمُجرِم، وكانوا يعتقدون أنّ الرجُل إذا قُتِل تمثَّلت روحه بشكل طير يُقال له: (الهامة)، ووقفتْ على قبره وصاحت: (اسقوني)، أي: اسقوني من دَمِ قاتلي، ولا يزال كذلك حتّى يثأر أهل القتيل من قاتله، ومن الـمَعيب على ذوي الـمَقتول أن يتركوا القاتِل ينعم بالحياة، دون أن يثأروا منه ويقتلوه.

يقول السَموأل في مَفاخر قومه:

وما ماتَ مِنّا سَيّدٌ حَتْفَ أنْفِه

ولا طُلَّ مِنّا حَيثُ كان قَتِيلُ

أي: لم يذهب دم قتيل منّا هَدراً دون أن نثأر له.

والعرب في الجاهليّة كانوا يتجاوزون في الثأر الحدود الـمَعقولة، حتّى قتلَ (مهلهل) بأخيه (كليبي) من بكر بن وائل مَقتلة كبيرة، وكاد يُفني بكر بن وائل، حتّى جاء الإسلام وشرَّع القصاص والمساواة والعدل في الأخذ بالثأر.

المعنى الاجتماعي للدَم:

ولمسألة (الثأر) تأريخ ينفعنا أن نلُمّ به في هذا العَرض، فقد كان الدم في حياة العرب القَبَليَّة، قُبيل الإسلام، مسألة اجتماعيّة تخصّ كرامة القَبيلة كلّها، ضدّ القَبيلة الّتي صدر العدوان منها كلّها.

فإذا اعتدى فرد من قبيلة على فرد من قبيلة أُخرى، لم يكن الدم يخصّ وليّ المقتول والقاتِل فقط، وإنّما كانت القبيلة الّتي وقعتْ عليها الظُلامة هي صاحبة الدم، والقبيلة الّتي كان الـمُعتدِي منها هي الّتي تتحمّل مسؤوليّة الدم، وليس شخص الـمُعتدي فقط، وكان كلّ فرد من القبيلة الأُولى يعطي لنفسه الحقّ أن يثأر من كلّ فرد من القبيلة الثانية، وإن كان الثائر بعيداً عن المقتول، والفرد الّذي يُقتَل به لا علاقة له قريبة بالقاتِل.

والسِرّ في هذا الاهتمام والتعميم في مسألة الدم، أنّ القبيلة العربيّة كانت تعتبر

٣٠

الدم حقّاً للجميع، وعلى الجميع أن يعملوا لحماية دمائهم، وللثأر من القاتل أو القبيلة التي تُؤوي القاتل وتمنحه الحماية.

فالدم للقبيلة وليس للفرد، والدفاع عن الدم يقع على القبيلة وليس مسألة فرديَّة.

ولهذا التصوّر لمسألة الدم أصل صحيح في الإسلام في بعض الحدود، وإن كان الإسلام يختلف في أمر الدفاع عن الدم وحمايته والثأر من القاتل اختلافاً كبيراً عن قوانين الثأر في الجاهليّة، فالدم مسألة تخصُّ الجميع، ولا تخصّ المقتول فقط، يقول القرآن الكريم في التعقيب على أوَّل عدوان وقع على يَدِ قابيل ضدّ أخيه هابيل:

( مِن أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعا ً ... ) (1) .

فالعدوان على شخص عدوان على الجميع، أو كأنّه عدوان على الجميع.

إلاّ أنّ الإسلام هذَّبَ قانون الثأر، ولم يسمح للجميع بالثأر، وإنّما خصّ أولياء الدم بذلك، فإن لم يكن للمقتول وليّ تولَّى ولي الأمر هذا الأمر؛ وذلك لئلاّ يكون الأمر فوضى، ولم يسمح مطلقاً بالقصاص والثأر من غير القاتل، يقول تعالى:

( ... وَمَن قُتِلَ مُظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنصُوراً ) (2) .

فجعل الله تعالى لوَلي الدم الّذي أُريق بغير حقّ سلطاناً، ينتقم من الظالم ويقتصّ منه، على أن لا يُسرف في القتل ولا يتجاوز حدود الله (تعالى)، يقول تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ

____________________

(1)المائدة: 32.

(2)الإسراء: 33.

٣١

وَالأُنْثَى‏ بِالأُنْثَى‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتّبَاعٌ بِالـمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) .

فلكلّ دم أُريق بغير حقّ - إذن - ثأر، ولوليّ الدم أن يُطالب بإنزال العقوبة على الـمُعتدي مقابل الجريمة، فيُوكَل الأمر إلى وليّ الدم ليثأر للمقتول، وإن لم يكن للمقتول وليّ، فوَليّ الأمر؛ لأنّ هذا الدم من حقّ الأُسرة ووليّ الدم ينوب عن الأُسرة في الثأر، وإذا لم يوجد فوليّ الأمر يقوم بالثأر للأُسرة والقصاص من القاتل.

وهذا كلّه يُؤكد الصِبغة الاجتماعيّة أو العائلية للدم، وحقّ الأُسرة في المطالبة بالثأر من خلال وليّ الدم أو وليّ الأمر.

الثأر في أُسرة التوحيد:

وعندما تكون إراقة دم من أجْل قضيّة التوحيد والعبوديّة لله وتحكيم رسالة الله في الأرض، فإنّ الأمر يختلف؛ فالدم هنا أُريق في قضيّةٍ رساليّةٍ وليس في قضيّةٍ شخصيّة، والأمر يتعلّق بأُسرة التوحيد، ولا يتعلّق بالأسرة العائليّة بمعناها الضيِّق.

وأُسرة التوحيد بمجموعها ثائرة لهذا الدم، وليس ذَوو الدم من الأُسرة الشخصيّة للمقتول بمعناها المحدود والضيِّق، وكما أنّ الظُلامة تقع على كلّ أفراد أُسرة التوحيد، كذلك العدوان يصدر من أُسرة الشِرك بأسرها، وليس من فرد أو أفراد بخصوصهم، ما دام يجمعهم الرضا بذلك، فإنّ الآمر بالعدوان والـمُنفِّذ له، والّذي يعدّ له أسبابه ومُقدّماته، والـمُشاهِد لساحة الظلم الراضي به، كلّ أُولئك يجمعهم الرضا بالظلم، وكلّ أولئك مطالَبون بهذا الدم: (لعَن الله أُمّة قتلتك، ولعَن الله

____________________

(1)البقرة: 178.

٣٢

أُمّة ظلمتك، ولعن الله أُمّة سمعتْ بذلك فرضيتْ به).

فالثأر - في مثل هذه القضيّة - لا يخصّ الأيدي الّتي تلطَّخت بالجريمة مباشرة، وإنّما يعمّ كلّ الراضين بذلك، والناس يجمعهم ويُفرّقهم الحُبّ والبُغض، والولاء والبراءة، والرضا والسخط، في مثل هذه الأمور الّتي ترتبط بالعقيدة والجهاد.

والناس في هذا الأمر ينقسمون إلى شطرَين وولاءَين وعقيدتَين، وأُسرتَين:

أحدهما: أُسرة (التوحيد).

والأُخرى: أُسرة (الشِرك).

والدم الّذي يُراق من أجْل قضيّة التوحيد دمٌ لا يخصّ ذوي المقتول فقط، وإنّما يعمّ كلّ أعضاء هذه الأُسرة، كما أنّ الـمُطالَبة بهذا الدم لا تتوقّف عند القاتل والـمُعتدِي فقط من أُسرة الشِرك والجاهليّة، وإنّما تعمّ كلّ أطراف العدوان من تلك الأُسرة، (الآمِر والـمُنفِّذ والـمُعِدّ، وحتّى الـمُشاهِد الراضي بذلك).

فالجريمة إذن من أُسرة الشِرك على أُسرة التوحيد، والثأر لأُسرة التوحيد من أُسرة الشِرك.

وحقّ الثأر هنا لا يتحدَّد بعصرٍ أو جيل، فما دامت الظُلامة باقية، وما دام هناك دمّ أُريق ظلماً وعدواناً على أُسرة التوحيد، وأُسرة الشِرك تَتَبَنَّى هذا العدوان وتدافع عنه وترضى به، فإنّ الثأر حقّ لهذه الأُسرة من أُسرة الشِرك والجاهليّة، وكلّ جيل من أجيال التوحيد لا بدّ أن يطالب بالثأر ويسعى له، ليرفع الظلامة.

والدم - وهو هنا دم الشهيد - لا يفتأ يستصرِخ الضمائر ويستثير الهِمَم في أعضاء الأُسرة للثأر، ولا يزال يغلي في ضمائر المؤمنين من كلّ جيل حتّى يثأروا له.

ثأرُ الله:

وإذا كان دم الشهيد يستصرخ كلّ الضمائر المؤمنة في كلّ الأجيال للثأر، وكانت مسؤوليَّة دم الشهيد على عُهْدَة كلّ عضوٍ في هذه الأُسرة، ومن كلّ

٣٣

الأجيال، حتّى يتمّ الثأر؛ فإنّ وليّ الدم هنا ليس من قبيل وليّ الدم في الدماء الّتي تُراق في القضايا الشخصيّة، فهناك وليّ الدم الأب والجدّ، وإذا فُقدا فوليّ الأمر، وهنا في دم الشهيد الّذي يُراق من أجْل قضيّة توحيد الله و حاكميّته تعالى، فإنّ وليّ الدم هو الله تعالى، وهو وليّ أُسرة التوحيد كلّها:

( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َ ) (1) .

والله تعالى هو الّذي يتولّى الثأر لدم الشهيد، ويضمن له أن يأخذ بثأره من بين سائر الدماء.

وهذا هو معنى (ثأر الله) الوارد في زيارة وارث، أي أنّ الله تعالى هو وليّ الدم والـمُتصدِّي للثأر للشهيد، وأنّ دم الشهيد ثأر الله. فإنّ الدم هنا لكلّ أسرة التوحيد ولكلّ الأجيال، والله تعالى هو عميد هذه الأُسرة ووليّها الّذي يُطالِب بالثأر لدمها.

ومن هذا الباب، نُخاطب الحسين بن عليّعليهما‌السلام في زيارة (وارث)، فنقول: (السلام عليك يا ثأر الله وابن ثأره).

وقد كان من عادة العرب قبل الإسلام أن تنصب راية حمراء على قَبرِ القتيل حتّى يتمّ الثأر له، وتبقى هذه الراية؛ لتُذكِّر أفراد القبيلة بالدم الّذي أُريق ظُلماً، ولتستصرِخ ضمائر أفراد القبيلة.

والذين يزورون مَرقد الإمام الحسينعليه‌السلام اليوم، يرَون على قُبَّة الـمَرقد هذه الراية الحمراء، تُرفرف لتُذكِّر الأجيال من أُسرة التوحيد بالثأر؛ لئلاّ تنام هذه الأُمّة على الظلم، ولئلاّ تقرّ لها عَين، ولمّا يثأر المؤمنون بعد للدم الذي أُريق بكربلاء ظُلماً وعدواناً.

____________________

(1)البقرة: 257.

٣٤

مَوقع الثأر في الصراع الحضاري بين التوحيد والشِرك:

ولنَقِف قليلاً عند هذه الكلمة؛ لننظر كيف يكون هذا الدم (ثأر الله) من دون سائر الدماء.

ليس المقصود بـ (الثأر) هنا القصاص؛ فإنّه تشريع عامّ لكلّ مَن قُتِل بغير حقّ، إذا طالب أولياء الدم بذلك، وليس للشهيد خصوصيّة في هذا الـمَجال. كما ليس المقصود بذلك معاقبة القاتل والـمُعتدي في الآخرة؛ فهو أيضاً حُكْم عامّ لا يخصّ عدواناً دون عدوان، فلابدّ أن يكون للثأر هنا معنى آخَر، غير المعنى المألوف الذي يعرفه الناس، فالثائر هنا الله، وهو تعالى وليّ الثأر.

فما عسى أن يكون معنى (الثأر) هنا؟

وكيف يتولَّى الله تعالى المطالَبة بدم الشَهيدَين، الولد والوالِد (ثأر الله وابن ثأره)؟

وما هو المقصود من كلمة (ثأر الله) الواردة في هذه الزيارة؟

إنّ الصراع هنا ليس صراعاً شخصيّاً؛ ليكون ثأراً من شخص - كما هو المألوف في الدماء والثارات -، وإنّما الصراع صراع حضاري، فيكون الثأر ثأراً للقضيّة والرسالة، وانتقاماً من الخطّ الحضاري الذي يريد أن ينالَ من خطّ الرسالة.

فالشهيد يقاتل في سبيل الله، ولتثبيت كلمة الله على وجه الأرض، ولإسقاط الطاغوت وإحباط دوره وعمله في الأرض وفي المجتمع، ولإزالة الفتنة الّتي تُعيق الناس عن سبيل الله.

الجريمة هنا ليست جريمة على شخص، وإنّما جريمة على الخطّ والرسالة الّتي يقاتل من أجْلها الشهيد، وهي تحكيم شريعة الله في الحياة.

فلابدّ أن يكون (الثأر) إذن من جنس الجريمة ومن جنس القضيّة، ثأراً

٣٥

للقضيّة وانتقاماً من الخطّ الحضاري الـمُناوئ لسبيل الله وللصراط المستقيم، وانتصاراً للرسالة الّتي ضحّى من أجْلها الشهيد، وإحباطاً لدَور الطاغية وسَعيه في الأرض.

فكما أنّ إنزال العقوبة الـمُكافئة للإجرام بشخص المجرم من الثأر والانتقام، كذلك تَسقيط الطاغية و (المجرم) وإحباط دَوره في الأرض، والانتصار للرسالة وتأييدها ودعمها وإسنادها، يُعدّ انتقاماً من الطاغية وثأراً للشهيد.

والثائر الّذي يطلب بدماء الشهداء من أُسرة التوحيد (الإبراهيميّة)، ويتولّى الانتقام من الظالمين والمجرمين، والانتصار للشهداء، هو الله تعالى، فهو وليّ الثأر ووليّ الدم، والـمُنتقِم الثائر.

كربلاء الساحة النموذجيَّة للصراع بين الحقّ والباطل:

هذا المعنى من الثأر والانتقام الإلهي قد تحقَّق في الصراع التاريخي الّذي حدث في كربلاء سنة (61 هـ)، بين سيّد الشهداء الحسينعليه‌السلام ، ويزيد بن معاوية وجيشه.

لقد كانت هذه المعركة على صِغر مساحتها العسكريّة تُجسّد صراعاً ضخماً بين معسكرَين وحضارتين، وفكرَتَين ومدرستَين، بين الإسلام والجاهليّة، والّذي ينظر إلى هذه المعركة من بعيد تتراءى له أنّ المعركة كانت بين طائفتين من المسلمين، ولِخلافات ومسائل داخليّة وسياسيّة تتعلّق بالحُكم والسلطان في الحياة الدنيا.

ولكنّ الأمر أعمق بكثير من هذا البُعد؛ لقد اتّخذت الجاهليّة الأُولى - بعد هزيمتها أمام انطلاقة الرسالة الإسلاميّة - دولة بَني أُميّة مظلّة إسلاميّة واقية لها؛ لتعود من جديد إلى صُلب الحياة، ولتُصادر كلّ مكاسب الإسلام في الحُكم

٣٦

والإدارة والاقتصاد، والتربية والتعليم والأخلاق والعقيدة. ونجحت هذه المحاولة الجاهليّة نجاحاً كبيراً، حتّى استطاعت أن تتسلّل من خلال آل أُميّة إلى الخلافة، وهو قمّة النجاح السياسي والحضاري.

والذي ينظر بإمعان في تأريخ معاوية وابنه يزيد، من غير تعصّب، لا يحتاج إلى عناء كبير؛ ليلمس عودة الجاهليّة الأُولى من خلال ولايتهما على المسلمين، في البَذخِ وتبذير أموال المسلمين، وفي استعمال الـمُحرّمات من غناءٍ وخَمْرةٍ وقِمار، وفي الاستهانة بحدود الله، وفي تَصْفِية قادة الأُمّة (الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه)، وفي الاعتداء على معاقِل العالم الإسلامي (مكّة المكرّمة والمدينة المنوَّرة)، وعشرات النماذج الأُخرى الّتي تكشف عن هذه الحقيقة، والّتي لا يحتاج فَهْمها إلى أكثر من التجرّد عن التعصّب.

وكان الحسينعليه‌السلام يُدرك هذه الحقيقة إدراكاً جيّداً، ويرى رؤية واضحة عودة الجاهليّة إلى صُلب المجتمع من جديد، تحت مظلّة بَني أُميّة، ويرى غفلة الأُمّة عن هذه المأساة، فلم يجد بدّاً من أن ينهض بأهل بيته وأصحابه؛ ليُكافح هذا التيَّار الجاهلي، ويصبغ هذه المقاومة بدمه ودماء الثُلّة المؤمنة الّتي واكَبَتْه في هذه المسيرة، وليُنبِّه الأُمّة إلى ضخامة الجريمة والمؤامرة الّتي تُنسَج خيوطها في قصور بَني أُميّة ضدّ الإسلام.

فكانت (واقعة كربلاء) مقاومة جريئة وفدائيّة وخالصة، دارت رَحاها حول مسألة حضاريّة مهمَّة هي: (إيقاف الرِدَّة الجاهليّة) إلى صُلب المجتمع - بعد أن أزاحها وعَزَلها الإسلام عنه - وإيقاف التيَّار الجاهلي وصدّه من التقدّم وفَضْحِه، وكَشْف أبعاد هذه الجريمة، وتنبيه الأُمّة إلى عُمقِ المأساة وخطورة تلك الرِدَّة، الّتي تسلَّلت إلى موقع الخلافة من خلال يزيد بن معاوية، ومن قبله أبيه معاوية بن أبي سفيان.

٣٧

إنّ الانتقام الحقيقي لدماء شهداء كربلاء ليس في إنزال عقوبة ماديّة مُماثلِة بالقَتَلة، وإنّما الانتقام الحقيقي والـمُكافِئ للجريمة هو: تحقيق الغاية الّتي قاتلَ من أجْلها أهل البيتعليهم‌السلام ، وكشف حقيقة ونوايا الجهاز الحاكِم، وإيقاف تيّار الرِدَّة الجاهليّة، وإحباط المؤامرة الجاهليّة.

هذه النقاط في الحقيقة هي النقاط الأساسيّة للانتقام من الظالم، والانتصار للمظلوم، وتحقيق إرادة الشهيد وإحباط إرادة الطاغية.

والله (تعالى) هو الّذي يتولّى تحقيق هذه الغايات، وتوفير هذه الضمانات جميعاً للشهيد، فهو وليّ الدم وصاحب الثأر والـمُنتقِم من الطاغية، والـمُنتصِر للشهيد.

وهذا (الثأر الإلهي) من الظالم، يعمّ كلّ الشهداء بدرجات مختلفة، فكلّ دم أُريق في سبيل الله دم مضمون القضيّة، والله تعالى وليّ كلّ دم أُريق في سبيله، وهذه الضمانة الإلهيّة لدم الشهيد تُعطي دم الشهيد قِيمة حركيّة كُبرى في التأريخ، فهو الدم المضمون والـمُؤمَّن الّذي يتولّى الله تعالى الثأر له وتحقيق قضيّته ورسالته، ودَحْضِ أعدائه وإسقاطهم وفَضْحِهم، وقلّما يتمتّع شيء في حياة الإنسان بمثل هذه الحركيّة الّتي يمنحها الله تعالى لدم الشهيد.

الضمانة الإلهيّة لدم الشهيد:

وهذه الضمانة الإلهيّة لمسيرة الدعوة، يرسمها القرآن الكريم في أكثر من آية بطريقته الخاصّة؛ لِيَبعث في نفوس المؤمنين الثِقة والطمأنينة بالعاقبة، ولِيُثبِّتهم على طريق ذاتِ الشوكَة.

وآيات القرآن تتناول هذه الحقيقة - الضمانة الإلهيّة للمسيرة - بتعابير وصِيَغ مختلفة، وبصورة مؤكّدة وواثقة؛ وذلك إذا أخلص المؤمنون لله وصَدقوا وثبتوا، وانتزعوا من قلوبهم حُبّ الدنيا، وآثروا رضوان الله على كلّ شيء، وابتغوا طاعة

٣٨

الله وحده، يقول تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (1) .

( إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا... ) (2) .

( قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ... ) (3) .

( ... وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ ) (4) .

( بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ ) (5) .

( وَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) (6) .

( ... وَاعْتَصِمُوا بِاللّهِ‏ِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) (7) .

( ... فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (8) .

( ... وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِيراً ) (9) .

( ... وَكَفَى‏ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) (10) .

وليست هذه الآيات المباركات ضمانات اعتباطيّة وخارجة عن دائرة السُنَن الإلهيّة، الّتي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، وإنّما تأتي هذه الضمانات الإلهيّة بموجب

____________________

(1)محمّد: 7.

(2)غافر: 51.

(3)التوبة: 14.

(4)الحجّ: 40.

(5)آل عمران: 150.

(6)الأنفال: 40.

(7)الحجّ: 78.

(8)المائدة: 56.

(9)النساء: 45.

(10)الفرقان: 31.

٣٩

سلسلة من الأسباب والعِلَل، منها ما يرتبط بالقلب والجوانِح، ومنها ما يرتبط بالجوارح، وجملة هذه الأسباب هي الّتي تستنزِل النصر والقوّة من عند الله تعالى للجماعة المؤمنة، في صراعها مع قِوى الكُفر والجاهليّة على وجه الأرض.

وأهمّ هذه الأسباب هو: الإيمان والتوكّل على الله والثقة به، والجهاد والعمل في سبيله، والإخلاص وابتغاء وجهه الكريم، والانتصار لدِينه، والصبر والثبات، والصِدق في الموقِف، والإعداد الميداني للمعركة، وغير ذلك من الأسباب الّتي تستنزِل النصر من الله تعالى، وتُؤمّن الضمانة الإلهيّة للنصر في ساحات القتال والمواجهة.

والشهداء في طليعة المؤمنين، إيماناً وثِقة بالله، وجهاداً وتضحيةً، وعطاءً وبذلاً في سبيل الله تعالى، وابتغاءً لوجهه الكريم، وثباتاً وصِدقاً في القول والعمل، وصبراً في مواجهة التحدّيات.

هذه كلّها مفاتيح النصر، والأسباب الّتي تستنزِل النصر من عند الله تعالى، ودم الشهيد يجمع هذه الخِصال جميعاً، ويشهد للشهيد بالصِدق والصبر والعطاء.

معنى النصر والهزيمة:

وقبل أن نَسترسِل في الحديث عن الضمانة الإلهيّة لدم الشهيد، ومواكب الشهداء في التاريخ، ووَعْد الله تعالى لَهم بالنصر والتأييد والغَلَبة على معسكر الجاهليّة، لابدّ أن نقف هنا وقفة قصيرة لنقول:

إنّ هذا النصر ليس بالمعنى العسكري للنصر، فقد كان بنو أُميّة هُم المنتصرين يوم الطفّ على معسكر الحسينعليه‌السلام ، لو كُنّا نقصد بالنصر هذا المعنى الّذي يفهمه الناس من النصر عادةً، ولكنّنا عندما نتجاوز الشعاع المنظور للمعركة، والأبعاد العسكريّة والسياسيّة القريبة لها، نجد أنّ الحسينعليه‌السلام قد تَمَكَّن من

٤٠