في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193915
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193915 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قِيمة الوراثة في حياة الإنسان

* تأمُّلات في زيارة وارِث

* 1 - القِيمة التكوينيّة للوراثة

دراسة في الشريحة الحضاريّة

الإطار الاجتماعي للشعائر الإسلاميّة

* 2 - القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة

كرامة الأُسرة وموقعها الاجتماعي

٣٠١

٣٠٢

قيمة الوراثة في حياة الإنسان

تأمُّلات في زيارة وارث

تمهيد:

للوراثة في حياة الإنسان نوعان من التأثير، لهما قيمة وفاعليّة كبيرة، وهاتان القيمتان هما:

1 - القيمة التكوينيّة للوراثة.

2 - القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة.

وسوف نستعرض هذين النوعين من التأثير، وما لهما من دَور فاعل ومُؤثِّر في حياة الإنسان.

فنتحدّث أوّلاً عن القيمة التكوينيّة للوراثة، ونقصد بها التأثير الطبيعي والتكويني الّذي تتركه الوراثة في حياة الإنسان، في مقابل التأثير التربوي والإيحائي للوراثة، ونتحدّث ثانياً عن الإيحاءات التربويّة التي تتركها الوراثة في حياة الإنسان، وما لهذه الإيحاءات التربويّة من أثر فعّال في حياة الإنسان.

1 - القِيمة التكوينيَّة للوراثة:

في ضوء دراسة النظريّة الإسلاميّة من التاريخ، والارتباط السَبَبي بين مراحل التاريخ المختلفة، نقول: إنّ الحضارة الواحدة امتداد واحد على مراحل زمنيّة

٣٠٣

مختلفة، وكلّ مرحلة من هذه المراحل ترتبط بالمراحل السابقة، تحكيها وتَرِثها.

ولا يمكن من الناحية العلميّة تفكيك المراحل المختلفة للحضارة الواحدة، واعتبار كلّ شطر منها وحدة قائمة بالذات.

إنّ اليوم الحاضر مرآة للأمس الماضي، وجزء لا يتجزّأ منه، ولا نستطيع أن نفهم اليوم إن لم نربطه بالأمس، ولا نستطيع أن نفْهم الشطر المعاصِر من أيّة حضارة، إذا لم نبحث عن جذورها ومكوّناتها في المراحل السابقة من التاريخ.

دراسة في الشريحة الحضاريّة:

إنّ كلّ شريحة حضاريّة تُعتبَر حصيلة جهود طويلة لأجيال من أبناء هذه الحضارة، في مراحل مختلفة من التاريخ، ووراثة لميراث الأجيال السابقة، في العادات والتقاليد والأعراف، والثقافة والتصورّات، والحبّ والبغض...، وعندما نقتطعُ نحن هذه الشريحة المعاصرة، أو هذا الجيل المعاصر من الحضارة عن جذوره وأُصوله، لا نكاد نستطيع أن نفهمه حقّ الفَهم.

ومن السذاجة أن نتصوّر أنّ هذه الشريحة أو تلك من الشرائح الحضاريّة قد تكوَّنت بصورة عفويّة، وبمَعزل عن التاريخ الّذي ترتبط به.

يقول الدكتور محمّد زكي العشاوي، في بحث له في مجلّة (عالم الفِكر):

(ونحن مع إيماننا الـمُطلَق بحركة التطوّر التي لا تعرف النكوص أو الرجوع إلى الخلف، فإنّنا نؤمن في الوقت ذاته، بأنّ كلّ ما يدَّخره الإنسان ويختزنه من ماضي الحياة البشريّة ليس حياة ميِّتة، بل لا يمكن أن تموت؛ لأنّها جزء لا يتجزّأ من الحياة الكبرى الّتي لا تفنى، والتي لا تهرم ولا تدركها الشيخوخة)(1) .

____________________

(1)مجلّة (عالَم الفكر) / المجلّد الرابع / العدد الأوّل / ص: 13 / الحاضر ضمير المستقبل، للدكتور العشماوي.

٣٠٤

البُعْد الأُفقي والبُعْد العمودي لكلِّ حضارة:

إنّ من الخطأ أن نفهم المجتمع والحضارة الإنسانيّة في البُعد السطحي فقط، وأن يغيب عنّا البُعد العمودي الّذي يُعتبَر المصدر والأساس لأيّة حضارة.

فليست الحضارة - بالتأكيد - هي مجموعة التفاعلات الاجتماعيّة الّتي تحدث على مقطع زمني خاصّ، وعلى السطح المرئي من الحضارة فقط، وإنّما هناك من وراء هذا السطح المرئي من الحضارة الأعماق غير المرئيّة للحضارة.

وفي ضوء هذا الارتباط السَبَبي بين الماضي والحاضر، في المقاطع الزمنيّة الـمُتعدِّدة، والتفاعل بين عناصر الحضارة الواحدة في المقطع الزمني الواحد، نستطيع أن نفْهم الحضارة.

التبادل والتفاعل بين عناصر الحضارة الواحدة:

ففي المقطع الزمني الواحد، نجد أنّ عناصر المجتمع الواحد تتفاعل مع بعض في تأثيرٍ وحركة مُتبادَلة.

فالمدرسة تُؤثِّر في العائلة تأثيراً قويّاً، كما أنّ العائلة تُؤثِّر في المدرسة، ولا نستطيع أن نفهم عناصر الحضارة الواحدة إذا لم نفهم هذا التأثير الـمُتبادَل والمتقابل بين عناصر الحضارة الواحدة، وفي مقطع زمني واحد.

الأعماق الحضاريَّة:

وبمقياس أقوى وأبلغ، يكون تأثير الماضي في الحاضر في سلسلة مترابطة من الحلقات، من الأسباب والعِلل.

فمبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً، في القرن السادس الميلادي، له تأثير بليغ وفوق

٣٠٥

حدود التصوّر، في كلّ مراحل حضارتنا، خلال القرون الأربعة عشر التي مرّت على هذه الأُمّة.

ولا يمكن عزل هذا الحادث الكَوني الكبير عن كلّ مراحل تاريخنا وحضارتنا، وليس من الممكن أن تكون أيّة شريحة من شرائح هذه الحضارة معزولة عن هذا السَبب، أو نفهم أيّة شريحة من حضارتنا بمَعزل عنه.

والكلام نفسه يصدق في معركة بدر (يوم الفرقان)، ويوم الأحزاب، وفتح مكّة، ووقعة الطّف، وهكذا...

إنّ لكلّ واحد من هذه الأحداث وغيرها دوراً تأسيسيَّاً في بناء هذه الحضارة، وليس في الإمكان أن تتكوّن هذه الحضارة، بكلّ خصائصها القائمة فعلاً، بمعزل عن العوامل التاريخيّة التي ساهمت في بناء وتكوين تاريخنا ومجتمعنا.

وكلّما يزداد هذا العُمق، كلّما تزداد قيمته الحضاريّة في بناء المجتمع. فالمجتمع الذي تمتدُّ جذوره آلاف السنين، يتمتّع بقوّة وصلابة أكثر من المجتمع والحضارة التي تكوّنت في عدّة مئات من السنين فقط.

ذلك أنّ العمق التاريخي البعيد يُعتبَر تراكماً كبيراً من الأسباب والعلل من وراء المقطع الحضاري الذي نُعاصره.

فقد يكون من السهل أن يتجاوز الإنسان الظروف السياسيّة التي تكوّنت في عصره، من الحبِّ والبغض، والولاء والبراءة، والأخلاق والسلوك والتصوّرات، ولكن من الصعب جدّاً - ولا أقول من المستحيل - أن يتجاوز الإنسان الحبّ والبغض الذي تكوّن خلال ألف سَنة من الزمان.

فإنّ مرور هذه الحُقبة التاريخيّة الطويلة على هذه الحضارة، يُكسِبها الكثير من الصلابة والثبات، ممّا يجعل من الصعب جدّاً أن يتجاوزها الإنسان، وهذا هو (الميراث الحضاري) الّذي نتحدّث نحن عنه في الدراسة.

٣٠٦

عراقة الميراث الحضاري:

كلّما يطول الزمن، فالظاهرة الحضاريّة تزداد تأصّلاً وعراقة وعُمقاً في وجود الأُمّة، وتتمتّع بقوّة وأصالة وقُدرة أكثر على مواجهة التحدّيات؛ ولذلك فإنّ التاريخ تراكم من العمل والجهد والتَبنِّي.

وكلّما يكون التاريخ أطول، يكون الجهد والعمل المبذول في تَبنِّي أيّة ظاهرة اجتماعيّة أكثر، ونتيجة لذلك؛ تكون الظاهرة الاجتماعيّة أقوى وأثبت، وأكثر أصالة وعُقماً ومَتانة، وأقوى على مواجهة التحدّيات.

فـ (الصلاة) مثلاً، ظاهرة حضاريّة عميقة الجذور في التاريخ، وميراث حضاري عريق في الأجيال، تنتقل من جيل إلى جيل، وكلّما يمرّ علينا زمن أطول تزداد أصالة وثباتاً وعمقاً في حياة الإنسان.

فالعراقة الّتي نجدها نحن في حياتنا اليوميّة للصّلاة، ليست حصيلة جهد وعمل فردي، وفي مقطع زمنيٍّ خاصّ، وإنّما هي حصيلة جهود وأعمال كبيرة وكثيرة عبر التاريخ، في تَبنِّي الصلاة وإقامتها، والدعوة إليها وتأكيدها وترسيخها، وهذه الجهود جميعاً تتمثّل اليوم في (الصلاة) التي نقيمها نحن في بيوتنا ومساجدنا.

و (الحجّ) ظاهرة حضاريّة وميراث حضاري، ورثناه نحن من أبي الأنبياء إبراهيم، خليل الرحمانعليه‌السلام .

ولهذه الظاهرة الحضاريّة عراقة وعُمق خاصّ، وأصالة في حياتنا، وجاذبيّه خاصّة في نفوسنا، فإذا حان وقت الحجّ، توجّه مئات الآلاف من المسلمين، من كلّ فجٍّ عميق، رجالاً وعلى كلّ ضامر إلى البيت العتيق؛ لأداء فريضة الحجّ.

يقول تعالى لعبده وخليله إبراهيمعليه‌السلام :

٣٠٧

( وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى‏ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ ) (1) .

التَبنّي الجَمعي والعُمق الحضاري لفريضتَي الصلاة والحَجّ:

وما دُمنا نتحدّث عن (الصلاة) و (الحجّ) كمثالين للظواهر والمواريث الحضاريّة، فلا بأس أن نقف وقفة قصيرة عند هاتين الظاهرتين الربّانيّتين في حياة الإنسان، فنقول:

إنّ القيمة والفاعليَّة والجاذبيَّة الّتي تملكها هاتان الفريضتان في حياتنا، تعود إلى أمرين اثنين:

الجُهد الجمعي الكبير المبذول في إقامة هاتين الفريضتين، في المقطع الزماني الواحد، في اجتماعات كبيرة وحاشِدة.

ولا شكّ أنّ هذا الجهد والاهتمام الجمْعي بهاتين الفريضتين، من قِبل الملايين من المسلمين، ينعكس في الصلاة والحجّ بشكل واضح، ويُكسِب هاتين الفريضتين هذه الجاذبيّة والتعاطف والقيمة والفاعليّة في نفوس جماهير المؤمنين.

وإلى جَنْب هذا البُعد، هناك بُعد آخر للصلاة والحجّ، وهوالبُعد التاريخي الذي تحدّثنا عنه.

فإنّ الإقامة الطويلة للصلاة والحجّ، والـمُمارَسة التاريخيّة الطويلة لهاتين الفريضتين عبر القرون، تمنح هاتين الفريضتين قيمة كبيرة، وفاعليّة وجاذبيّة خاصّة، وهذا هو الّذي نقصده من كلمة (الميراث).

ولهذا السَبب؛ يؤكِّد الإسلام تأكيداً كبيراً على الاهتمام بالإطار الاجتماعي: (البُعد الأوّل)، وبالإطار التاريخي: (البُعد الثاني) للفرائض.

____________________

(1)الحَجّ: 27.

٣٠٨

الإطارُ الاجتماعي للشَعائِر الإسلاميَّة:

ففي الإطار الاجتماعي، وهو الإطار الأوّل، يتفاعل الفرد - تفاعُلاً قويّاً - مع الجوّ الاجتماعي الذي تُقام فيه الفريضة، فإنّ الصلاة جماعة وجُمعة لها تأثير مُتقابل في نفوس المصلِّين، والفرد الذي يُقيم الصلاة في وسط حاشد من جماعة المسلمين، يكتسب من حضور الآخرين اندفاعاً وقوّة وإقبالاً على فريضة الصلاة، وتفاعلاً معها، في الوقت الّذي يُكسِب الآخرين بحضوره نفس الاندفاع والقوّة والتفاعل والإقبال.

وهذا التعاطي والتبادل الـمُتقابَل من قِبل المصلِّين، يُكسب الصلاة في نفوس الجميع أصالة وثباتاً، وقوّة وجاذبيّة.

ولعلّ الاهتمام بالجُمعة والجماعة في الإسلام من هذا الـمُنطلَق.

ورغم أنّ الإنفراد والخَلوة في ذكر الله تفيد الإنسان في الإقبال على الذِكر كثيراً، رغم ذلك تُفضِّل الشريعة إقامة الصلاة جماعة على الصلاة فُرادى، وتُؤكِّدها، حتّى روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (لا صلاة لـمَن لا يُصلِّي في الـمَسجدِ مع المسلمين، إلاّ مِن عِلَّة)(1) .

وروي عن الصادقعليه‌السلام : (أنّ أُناساً كانوا على عهدِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبطأوا عن الصلاة في المسجدِ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لَيُوشك قوم يُدعَون للصلاة في المسجد أن نأمر بحَطَب ليُوضع على أبوابهم، فتُوقد عليهم نار، فتحرق عليهم بيوتهم)(2) .

____________________

(1)عِلل الشرائع، للصدوق: ص325. ووسائل الشيعة: ج 5 / ص377.

(2)التهذيب، للشيخ الطوسي: ج 3 / ص 25.

٣٠٩

والجماعة - بحُكم هذا التأثير المتبادَل الذي يتركه كلّ واحد من الجماعة في الآخَرين - ليست كميّة عدديّة فقط، تساوي مجموعة الأفراد، وإنّما يتحوّل هذا الكَم إلى كيف خاصّ، تُعبِّر عنه الروايات بـ (يد الله)، فالجماعة ليست فقط مجموعة الأفراد، وإنّما تساوي (مجموعة الأفراد + يد الله).

يدُ الله على جماعةِ المسلمين:

وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يدُ الله على الجَماعة، والشيطانُ مع مَن خالَفَ الجماعة)(1) .

ويدُ الله هنا هي القوّة والبركة والرحمة، فعندما يجتمع جَمْع من المؤمنين تنزل عليهم رحمة الله وبركاته، ويمنحهم الله القوّة والرحمة.

وهذا هو ما ذكرناه من أنّ الـمُمارَسة الاجتماعيّة للفرائض الإسلاميّة تمنح الفرائض الإسلاميّة كثيراً من الجاذبيّة والقوّة، والصلابة والأصالة، وتشدّ الناس إلى هذه الفرائض شدّاً نفسيّاً وعاطفيّاً قويّاً. وهذا هو بعض السرِّ في قوّة وجاذبيّة فريضة الحجّ، التي تجتذب الناس من كلّ فجٍّ عميق إلى هذا الوادي غير ذي الزرع حول بيت الله الحرام.

وبنفس الملاك، يصحّ أن نقول: إنّ هذه التجمّعات القائمة على ذكر الله تعالى وتقوى الله، تمنح الإنسان تقوى وعصمة، وتعصِم عن الشطَطِ والزَيغ والضّلال، وتُعتبَر الحصن الذي يُحصِّن المؤمنَ من عدوان الهوى والشيطان.

فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يدُ اللهِ على الجَماعة، فإذا اشتَذّ الشَاذّ منهم، اختَطَفَه الشيطانُ، كما يَختَطِفُ الذِئْبُ الشاةَ الشاذَّة من الغَنَم).

____________________

(1)كنز العمّال: الحديث 1031.

٣١٠

وهذا هو الإطار الأوّل (الاجتماعي)، (الأُفقي) للصلاة والحَجّ.

الإطار التاريخي للشَعائر الإسلاميَّة:

والبُعد الآخر للشعائر والفرائض الإسلاميّة هو: البُعد التاريخي (العمودي).

ولهذا البُعد تأثير كبير في تعميق مشاعر العبوديَّة والإقبال على ذكر الله تعالى في حياة الناس؛ ولهذا الأمر يهتمّ القرآن كثيراً بالبُعد التاريخي للصلاة، والإيمان، والدِّين.

يقول تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدّينِ مَا وَصّى‏ بِهِ نُوحاً وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏ وَعِيسَى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيه ِ ) (1) .

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ ) (2) .

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (3) .

وانطلاقاً من هذا التصوّر للتاريخ والميراث، نقول: إنّ حَجَّ إبراهيمعليه‌السلام له تأثير في حجِّنا، وصلاة موسى وعيسىعليهما‌السلام لها تأثير في صلاتنا، ودعوة نوحعليه‌السلام لها تأثير مباشر وغير مباشر على دعوتنا إلى الله تعالى.

وأنّ جهاد الحسينعليه‌السلام في كربلاء ووقعة الطّف له تأثير مباشر على مسيرتنا ودعوتنا

____________________

(1)الشورى: 13.

(2)البقرة: 136.

(3)الأنبياء: 72 - 73.

٣١١

ومواجهتنا اليوم لطواغيت عصرنا، وأنّ أجزاء هذه المسيرة الواحدة - من آدم ونوحعليهما‌السلام ، إلى اليوم الحاضر - أجزاء مُترابِطة مُتماسكة، السابق منه يدعم اللاحق، واللاحق منه يرِث السابق.

وعلى هذه المسيرة تنتقل القِيم والتُراث، والولاء والبراءة، والحُبّ والبغض، والتصوّرات والأخلاق، من جيل إلى جيل.

وحدة الـمَسيرة ووحدة الـمُعاناة ووحدة الثواب:

ومن أروع ما في هذا التصوّر الإسلامي للميراث، أنّ الأجيال اللاحقة لا ترِث فقط المواريث الحضاريّة من الأجيال السابقة، وإنّما تُشاركها أيضاً في ثواب معاناتها وعنائها الطويل، في صراعها مع الكفر والنفاق؛ لإقامة هذه الفرائض الإسلاميّة وتثبيتها.

فقد تحمّل سَلَفُنا الصالح على هذا الطريق الكثير من العناء والمعاناة في الصراع مع الطاغوت؛ لإقامة هذه الفرائض وتثبيتها، وتعبيد الإنسان لله.

ونحن (الوارثون)، لا تنتقل إلينا فقط هذه القِيم والمواريث - (العبوديَّة، والإيمان، والصلاة) - من سَلَفِنا، وإنّما ينتقل إلينا أيضاً ثواب معاناتهم وصبرهم وعنائهم، دون أن يكون لنا فِعل وتحمُّل في هذه المعاناة والعناء.

والجسر العجيب الذي ينتقل عليه هذا الثواب والأجر - من دون معاناة وعناء، ويُشرِك أُناساً في ثواب أُناس آخرين سبقوهم - هو الولاء والحُبّ.

وعجيب أمر الولاء والحُبّ! فهو يُوحِّد أطراف هذه المسيرة المتباعدة، ويجعلها قطعة واحدة، ويُشرِك اللاحق في ثواب السابق، ويجعل السابق مورداً ومُعيناً للاّحق. وهذا هو البُعد الثالث (المستقبليّ) لمسيرة الدعوة إلى الله.

روى الحكم بن عيينة، قال: لمّا قتلَ أمير المؤمنينعليه‌السلام الخوارجَ يوم

٣١٢

النهروان، قام إليه رجُل فقال: يا أمير المؤمنين، [ طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف، وقتلنا معك هؤلاء الخوارج ]، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام (1) : (والّذي فلقَ الحبّة وبرأ النسمة، لقد شهدنا في هذا الموقف أُناس لم يخلق اللهُ آباءَهم ولا أجدادهم بَعدُ، فقال الرجل: وكيف يشهدنا قوم لم يُخلَقوا؟ قال:بلى، قوم يكونون في آخِر الزمان، يشركوننا فيما نحن فيه، ويسلِّمون لنا، فأُولئك شُركائنا فيما كنّا فيه حقّاً حقّاً)(2) .

وروى محمّد بن سلَمة، رفَعَه، قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : (إنّما يجمعُ الناسَ الرضا والسُخط، فمَن رضي أمراً فقد دخلَ فيه، ومَن سخطه فقد خرجَ منه)(3) .

وعن سُليمان بن خالد، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: (لو أنّ أهل السماوات والأرض لم يُحبِّوا أن يكونوا شهداء مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكانوا من أهل النار)(4) .

وروى أبو جعفر، محمّد بن أبي القاسم الطبري، في كتابه (بِشارة المصطفى)، عن عطيّة العوفي، قال: (خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسينعليه‌السلام ، فلمّا ورَدْنا كربلاء، دَنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل ثُمّ ائتزرَ بإزار وارتدى بآخر، ثُمّ فتح صُرَّة فيها سُعْد، فنشرها على بدنه، ثُمّ لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله تعالى، حتّى دَنا من القبر، قال: ألمسنيه، فألمستُه، فخرَّ على القبر مَغشيّاً عليه، فرَششتُ عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال:

يا حسين، ثلاثاً. ثُمّ قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه، ثُمّ قال: وأنّى لك بالجواب، وقد شَخُبَت أوداجُك على أثباجِك، وفُرِّق بين بدنك ورأسك، فأشهدُ أنّك ابن خاتم النبِّيين، وابن سيِّد

____________________

(1)ما بين المعقوفتين زيادة من المصدر.

(2)المحاسن: ص262.

(3)نفس المصدر.

(4)نفس المصدر.

٣١٣

المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسَليل الهُدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيِّد النقباء، وابن فاطمة سيِّدة النساء.

وما لك لا تكون هكذا، وقد غَذَّتكَ كفّ سيِّد المرسلين، ورُبِّيت في حِجرِ الـمُتّقين، ورضعتَ من ثديِ الإيمان، وفُطِمتَ بالإسلام.

فطبتَ حيّاً وطبتَ ميِّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيِّبة لفراقِك، ولا شاكَّة في الخِيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه.

وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.

ثمّ جال ببصره حول القبر وقال:

السلام عليكم - الشهداء من أصحاب الحسين وأهل بيته - أيّتها الأرواح التي حلَّت بفناء الحسين، وأناخَتْ برَحلِه، وأشهد أنّكم أقمتُم الصلاة، وآتيتُم الزّكاة، وأمرتُم بالمعروف ونهيتُم عن الـمُنكَر، وجاهدتُم الـمُلحِدين، وعبَدتُم الله حتّى أتاكم اليقين.

والذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتُم فيه.

قال عطيّة: فقلت له يا جابر: كيف ولم نهبط وادِياً، ولم نعلُ جَبَلاً، ولم نضرِب بسيف، والقوم قد فُرِّقَ بين رؤوسهم وأبدانهم، وأُوتمتْ أولادهم، وأُرملَتْ أزواجهم؟!

فقال: يا عطيّة، سمعتُ حبيبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (مَن أحبَّ قوماً حُشِرَ معَهم، ومَن أحبّ عمل قوم أُشرِكَ في عملِهم).

والذي بعثَ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ، إنّ نيَّتي ونيَّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابهعليهم‌السلام )(1) .

المواريث الحضارية والمواريث المدنية:

إنّ ما يُقال عن الظواهر الحضاريَّة كـ (الصلاة) و (الحجّ) و (التقوى) و (الإيمان) و (العفاف)، يُقال عن الظواهر المادّيّة للحضارة كـ (المسجد) و

____________________

(1)بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ص74 - 75، ط النجف 1383 هـ.

٣١٤

(المنبر) و (المدرسة)، وغير ذلك من الظواهر والأدوات المادّيَّة للحضارة، أو ما يُطلَق عليها أحياناً بـ (الـمَدنيّة)، في مقابِل (الحضارة).

فانّ لهذه الظواهر المادِّيَّة - أيضاً - أبعاداً اجتماعيّة وتاريخيّة، كما للظواهر الحضاريّة، وكُلّما تتَّسع أبعادُها الاجتماعيّة، وتتعمَّق أبعادها التاريخيّة، تزداد أصالة وعُمقاً ورسوخاً في ضمير الأُمّة.

فـ (المساجد) مثلاً، تمتلك عُمقاً قيميّاً تاريخيّاً في حياة هذه الأُمّة، وهذا العمق التاريخي يمنح (المسجد) قيمة خاصّة في حياتنا الاجتماعيّة، ومركزاً حسّاساً، يجعل من الصعب تجاوزه أو تحدِّيه من قِبَل أعداء الإسلام.

وهذه القيمة والأصالة والرسوخ في ضمير الأُمّة، هي الّتي حفظت المساجد في تاريخ العدوان على الأُمّة وتراثها من اعتداء الـمُعتَدين.

وهكذا (الحجاب) للمرأة المسلمة، يمتلك بفضل هذا العُمق التاريخي قيمة كبيرة واحتراماً في ضمير الأُمّة، كما يُضفي احتراماً خاصّاً على شخصيّة المرأة.

وسوف نرى أنّ العُمق التاريخي لهذه الظواهر المادِّيَّة تجعل منها قِلاعاً، تحمي وتُحصِّن الكثير من القِيم الحضاريّة في الأُمّة، وتحميها من الاعتداء.

فالحجاب يحمي العفاف عند المرأة المسلمة...

والمسجد والمنبر يحميان الصلاة...

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحميان الفرائض والحدود الإلهيّة...

والحركة والثورة يحميان النظام الإسلامي وسيادته...

وللـمُحافظة على هذه القِيَم الحضاريّة، ينبغي أن نحافظ على الأدوات المادِّيّة لهذه الظواهر، وأحياناً نحرص على إبقائها على شكلها وهندَستِها الخاصّة.

فنحافظ على العِمارة التقليديَّة للمساجد، وعلى التصميم التقليدي للمنابر، وعلى الصورة التقليديّة المعروفة للمصاحف في طباعة المصاحف.

٣١٥

وبهذا الترتيب، نحرص على المحافظة حتّى على الوسائل المادِّيّة للحضارة الإسلاميّة - قدر الإمكان -، على صورتها التاريخيّة التي تتمتّع باحترام وتقدير خاصّ في ضمير الأُمّة(1) .

وهذا بعض سِرّ قوّة المواريث الحضاريّة في حياتنا.

وفشل أعداء الإسلام في إزالة هذه المواريث من الحياة، فليس الجُهد الذي يبذله أعداء الإسلامي في القضاء على الفرائض الإسلاميّة كالصلاة والحَجّ باليَسير، وليس الجُهد الّذي بذلوه للقضاء على الشَعائِر والشعارات والأعراف الإسلاميّة، كالحجاب، ومجالس عزاء الحسين، والتحيّة والسلام، بالشيء الهَيِّن.

فقد استخدم أعداءُ الإسلام كلّ الوسائل الـمُمكنة، من إغراء، وإرهاب، وترغيب، في اجتثاث هذه الأُمّة من جذورها، وتمييع أصالتها ومَسخ شخصيَّتها الحقيقية، واستيراد الأفكار والتصوّرات والظواهر الحضاريّة الشرقيّة والغربيّة، من هنا وهناك.

ولكنّ هذه الأعمال كانت تبوء غالباً بالفَشل، ولا يَجني منها أصحابها إلاّ القليل.

لقد بذلَ (رضا خان بهلوي) في إيران، و (مصطفى كمال أتاتورك) في تركيا، جُهداً ليس بالقليل في مكافَحة المواريث الإسلاميَّة، كالصلاة والحجّ، وحتّى أنّ رضا بهلوي منع الحجَّ، بحُجَّةٍ أو بأُخرى، لعدّة سنوات، وحارب الحجاب، وألزم النساء المؤمنات بالسفور، وحارب شعائر العزاء الحسيني الذي يُمارِسه المسلمون

____________________

(1)ينبغي ألاّ نُسيء فَهْم هذه الجملة، ونفسِّرها بما لا يريد الكاتب، فإنّني أقصد بهذا الكلام المحافظة على الصور التي تختزنها ذاكرة الأُمّة، وتتمتّع باحترام وتقدير خاصّ في ضمير الأُمّة، والاستفادة من هذه الصورة في تحصين وحماية القِيَم الحضاريّة الإسلاميّة.

٣١٦

الشيعة في كلّ أقطار العالم الإسلامي.

لكنّ بهلوي أخفق في تحقيق أكثر طموحاته، واستعادت الأُمّة رُشدها ووعيها، وارتباطها الرسالي التاريخي بالإسلام، وسُرعان ما طُهِّرت ساحة البلاد من مُخلَّفات بهلوي ونظامه.

ومن أسباب ذلك عراقة هذه الظواهر الحضاريّة في تاريخ الأُمّة.

مواقِع الثورة والمناعة في حياة الأُمّة:

إنّ هذه النقاط (المواريث الحضاريّة)، تُعتبَر نقاط القوّة ومراكز المناعة في حياة الأُمّة، وتشبه تماماً الجذور العميقة التي تحفظ الشجرة الباسقة من السقوط.

إنّ هذه الجذور هي الّتي تمدّ الشجرة بالغذاء والماء، وتحفظ الشجرة من السقوط، كذلك المواريث الحضاريّة، تُعتبَر الجذور والامتدادات العميقة، الّتي تحفظ الأُمّة وتمنحها المناعة وتحصّنها ضدّ الغزو الأجنبي(1) .

____________________

(1)روى أحد العلماء عن بعض السياسيِّين، أنّ الانجليز كانوا مندفعين بقوّة للقضاء على الإسلام في إيران، وكانوا يعملون لاستبدال الحضارة الإسلاميّة في إيران - في عهد بهلوي - بالحضارة الغربية، وربط البلد بعَجَلَة الحضارة الغربيّة بشكل كامل.

ولمّا توفّي السيِّد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله) - أحد كبار مراجع التقليد في النجف الأشرف -، أحدثت وفاته هزّة عميقة في كلّ إيران، ولبست إيران الحداد أربعين يوماً لوفاة هذا العالم الجليل، وأُقيمت له مجالس العزاء على مساحة واسعة جدّاً في إيران، فبدأ الانجليز يُراجِعون حساباتهم من جديد، في إمكانيّة القضاء على الإسلام بشكل كامل، في بلد يهتزّ من أقصاه بهذا الشكل القوي العنيف، لوفاة عالم من علماء الإسلام.

فكيف يُمكن القضاء على الإسلام، واجتثاث جذوره من قلوب وصدور هذه الأُمّة؟!

يقول هذا السياسي - وكان من الـمُرتبطين بعَجَلَة الاستكبار الغربي -: إنّ حادث وفاة السيّد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله) أثّرَ في تخفيف الضغط الـمُناوئ للإسلام من قبل الانجليز على إيران، لفترة من الوقت.

٣١٧

وفي تأريخنا السياسي المعاصر، كلّما تحرّك أعداء الإسلام لغزو المنطقة الإسلاميّة، فكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، اصطدموا بواحد من هذه المراكز - (مراكز القوّة والمناعة في حياة الأُمّة) - وتراجعوا أمامه.

فقد احتلّ العدوّ القلاع والحصون والقواعد العسكريّة الضخمة، ولكنّه عندما اصطدم بالمسجدِ اضطرّ للتراجع والانسحاب. وقد احتلّ العدوّ الإذاعة والتلفزيون والصحافة، وأخضعها جميعاً لحركة التغريب، ولكنّه عندما اصطدم بصَخرةِ المِنبَر والحوزات والمدارس الدينيَّة، والمساجد والأذان والصلاة، ومجالس العزاء الحسيني، اضطرّ للتراجع والانسحاب.

والسرّ كلّ السرّ في هذه القوّة، هو الامتداد التاريخي العميق لهذه المواريث الحضاريّة والمدنيّة في ضمير الأُمّة، ممّا يجعل من الصعب جدّاً مُداهَمة هذه المراكز من قِبل الأعداء واحتلالها والقضاء عليها.

المحافظة على المواريث الحضارية:

ومن هذا المنظور، يجب علينا نحن الدّعاة إلى الله تعالى، المحافظة على هذه المواريث الحضاريّة في حياة الأُمّة، وحمايتها وتَبنِّيها؛ لتحصين شخصيّة الأُمّة وتَثْبِيتها، والمحافظة على أصالتها وعراقتها.

وبعكس ذلك؛ فإنّ تعريض المواريث الحضاريّة العريقة للإهداء والضياع، يُعرِّض شخصيّة الأُمّة للـمَسخِ والضّياع.

ففي سورة مريم بعدما يستعرض القرآن الكريم شطراً من قصّة إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريسعليهم‌السلام ، يقول تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ

٣١٨

خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) (1) .

هؤلاء الخَلف الذين يذمُّهم القرآن الكريم، هُم الذين أضاعوا الصلاة - ميراث الآباء والسَلَف - واتّبعوا الشهوات. ويُنذرهم القرآن الكريم بأنّهم سوف يلقون غَيّاً.

إنّ من الناس مَن يحفظ الأمانة في مواريث السَلَف، ويستلمها ويُحافظ عليها من الضياع والدسّ والانحراف، ثُمّ يسلِّمها إلى الخَلف الّذين يلُونَهم من الجيل الجديد، وهؤلاء هم الخَلفُ الصالح للسَلَف الصالح، وحمَلَة الأمانة، الذين يصلون الرحِم، ولا يقطعونه.

ومن الناس مَن لا يحفظون الأمانة والعهد، وتضيع على أيديهم مواريث السلف. هؤلاء هم الذين تَعنِيهم الآية الكريمة:( ... فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ... ) .

إنّ من الناس مَن يكون جسراً بين جِيلَين: جِيل سابق عليه، وجيل يلحقه، ينقل مواريث الصالحين من الآباء والأسلاف إلى الجيل الذي يلي جيله، وهؤلاء هم الأُمناء.

ومن الناس مَن يُشكِّل فجوَة وقطيعة وحاجزاً بين جيلين، الجيل السابق والجيل اللاحق، فيفصل هذا الجيل عن ذلك الجيل، ويقطع الخَلفَ عن السَلَفِ، وهذه القطيعة هي أبرز صور الخيانة، والعقوق، وقطيعة الرّحم.

السُنّة والبُدْعَة:

وقد ورد التعبير في النصوص الإسلاميّة عن حالَتي الارتباط بالسّلف

____________________

(1)مريم: 58 - 59.

٣١٩

والقطيعة اللَّتَين تَحدَّثنا عنهما بالعمل بـ (السُنّة) و (البُدعَة).

فالعمل بـ (السُنّة) هو: الارتباط السلوكي بالسَلف الصالح، وحالة الاقتداء والتبعيّة الواعية.

في مقابل (البدعة) وهي: حالة القطيعة عن السلف وقطع الجسور، والانحراف عن مسيرة السلف الصالح إلى الأنماط الجاهليّة الـمُستحدَثة والقديمة.

إنّ الاهتمام الكبير في النصوص الإسلاميّة بمسألة السُنّة، قد ينشأ من هذه النظرة، ويُعبِّر عن اهتمام الإسلام بربطِ الأجيال الـمُتعاقِبة بميراث الأنبياء والـمُرسلين من السَلف الصالح، وشَدّهم بالأنبياء والأولياء والصالحين من سَلفنا.

والقرآن الكريم يدعو المسلمين إلى التأسّي بالأنبياء والصالحين بشكل عامّ، وبأبي الأنبياء إبراهيمعليه‌السلام ، وبخاتم الأنبياء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل خاصّ:

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ ) (1) .

( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ ) (2) .

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ) (3) .

وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(عَمَلٌ قليل في سُنّة، خَير من عَمَلٍ كثير في بُدعَة)(4) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(1)الممتحنة: 6.

(2)الممتحنة: 4.

(3)الأحزاب: 21.

(4)بحار الأنوار: ج 2 / ص 261.

٣٢٠