في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193923
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193923 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(لا يُقبَل قول إلاّ بعَمَل، ولا يُقبَل قول وعَمل ونيّة إلاّ بإصابة السُنّة)(1) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: (سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: عليكم بالسُنّة، فعَمَل قليل في سُنّة، خَيْر من عمل كثير في بُدْعة)(2) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن تَمسّك بسُنّتي في اختلاف أُمّتي، كان له أجر مئة شهيد)(3) .

وعن عليّ بن مَهزيار، عن منصور بن أبي يحيى، قال: سمعتُ أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: (صعدَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المنبرَ فتغيّرَت وَجْنتاه والتمع لَونُه، ثُمّ أقبل بوجهه فقال: يا معشرَ المسلمين، إنّما بعثْتُ أنا والسّاعة كهاتين، ثُمّ ضمّ السبّاحتين(4) .

ثُمّ قال: يا معشر المسلمين، إنّ أفضل الهُدى هدى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير الحديث كتاب الله، وشرّ الأُمور مُحدَثاتها. ألا وكلّ بُدعَة ضلالة، ألا وكلّ ضلالة في النار)(5) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (في القلب نور لا يضيء إلاّ من اتّباع الحقّ وقَصْدِ السبيل، وهو نور من المرسلين الأنبياء يُودَع في قلوب المؤمنين)(6) .

وعن ابن حميد، رَفعَه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين فقال: أخبرني عن

____________________

(1)بحار الأنوار: ج2 / ص261.

(2)المصدر السابق: ص262.

(3)المصدر السابق: ص262.

(4)السبّاحة: الإصبع التي تلي الإبهام.

(5)بحار الأنوار: ج2 / ص263.

(6)بحار الأنوار: ج2 / ص265.

٣٢١

(السُنّة) و (البُدعَة)، وعن (الجماعة) وعن (الفُرقة).

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ((السُنّة) ما سَنّ رسول الله، و (البُدعَة) ما أُحدِث من بعده، و (الجماعة) أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً، و (الفُرقة) أهل الباطل وإن كانوا كثيراً)(1) .

وعن موسى الكاظمعليه‌السلام : (ثلاثُ مُوبِقات: نكث الصَفقة، وترك السُنّة، وفِراق الجماعة)(2) .

وفي النصّين الأخيرين تتبيَّن أبعاد التلاحم العضوي الوثيق في بناء الأُمّة، في الارتباط بمنابع التشريع (السُنّة)، والارتباط بالقيادة (البَيعة)، والارتباط العضوي بالأُمّة (الجماعة).

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (رحمَ اللهُ خُلفائي، فقيل: يا رسول الله، ومَن خلفاؤك؟ قال: الّذين يُحيون سُنّتي، ويُعلّمونها عباد الله)(3) .

والارتباط بين الخلافة والسُنّة يُلفت النظر في هذا الحديث، فالخلافة تتحقّق باتّباع سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأيضاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أمّا بعد، فإنّ خير الأُمور كتاب الله، وخير الهُدى هدى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشرّ الأُمور مُحدَثاتها، وكلّ بُدعَة ضلالة)(4) .

____________________

(1)بحار الأنوار: ج2 / ص266.

(2)بحار الأنوار: ج2 / ص266.

(3)بحار الأنوار: ج2 / ص25.

(4)سنن ابن ماجة: ج1 / ص17 / الحديث 45.

٣٢٢

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن أحيى سُنّة من سُنّتي، فعمل بها الناس، كان له مثل أجر مَن عمل بها، لا ينقص من أُجورِهم شيئاً، ومَن ابتدعَ بُدعَة، فعُمل بها، كان عليه أوزار مَن عمل بها، لا ينقص من أوزار مَن عمل بها شيئاً)(1) .

وكأنّ الذي يبتدع في الدِين ويقطع الأجيال اللاحقة عن اتّباع السُنّة، يتحمّل وزر كلّ الذين ينقطعون عن المسيرة والخطّ، دون أن ينقص من أوزارهم شيء.

بين التقليد والثوابت:

يُلاحظ كثيراً: أنّ بعض علماء الاجتماع يضعون علامة الاستفهام أمام حالة النزوع إلى السُنّة، ورفض البدَع في الأديان، وبشكل خاصّ في الإسلام، ويُفسِّرون هذه الحالة بالنزوع إلى القديم، والميل إلى التقليد، ورفض التجديد والتحرّك.

ومن هذه الزاوية يُدرِجون المجتمعات الدينيّة في قائمة المجتمعات المحافِظة، التي ترفض التحرّك والتجديد والتطوّر، في قِبال النوع الآخر من المجتمعات، وهي المجتمعات الّتي تَتَّسِم بالحركيّة، وترفض الجمود على القديم والركود والتقليد.

يقول الباحثان الاجتماعيّان (W. F. Ogburn) و (M. F. Nimkoff): (المجتمعات الجامِدة - بعكس المجتمعات الحركيَّة - لا تستجيب للتحوّلات الاقتصاديّة، وترفض التجديد، وتخضع الحياة في هذه المجتمعات لنظام ثابت تقريباً، والسُنَن والأعراف تتحكّم في حياة الناس بصورة قاهرة. والإنتاج

____________________

(1)سُنَن ابن ماجة: ج1 / ص76.

٣٢٣

الاقتصادي يجري بصورة تقليديَّة.

ولا تتبدّل التصوّرات والأفكار الدِينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

والموقع العائلي والطَبقي والاجتماعي لأيّ شخص يُحدِّد دَوره الاجتماعي، وموقعه في المجتمع، وحتّى زواجه وموته، ويتحكّم العرفُ والتقليد على الأخلاق، ويندر الخروج على القواعد والأعراف والأساليب الحاكمة في المجتمع، وإذا حدث شيء من ذلك، يواجه ردود فعل قويّة مُعاكسة.

والطاعنون في السنِّ يُشكِّلون مصادر السُنَن والأعراف التقليديّة، ويتحكّمون في حركة المجتمع.

إنّ البيئة الاجتماعيّة لا تُمارس أيّ دور تحريكي على الأفراد، ولا تدفعهم إلى الإبداع والتجديد، ويجري كلّ شيء تقريباً بشكل تقليدي وثابت. حتّى الزيّ واللباس والأكل، يتحدَّد شكله بصورة مُسبَقة، ولا أمل يساور أحداً في أن تتطوّر مثل هذه المجتمعات وتتحرّك للأمام، وتجري في جوّ قائم ثابت غير مُتطوِّر.

هؤلاء الناس يعيشون للطموحات وللأفراح والمسرّات الصغيرة في مسير حياتهم اليوميّة، وسُعداء من ناحية أُخرى بالحياة الأبديّة السعيدة التي ينتظرونها بعد الموت)(1) .

مثل هذا التصوّر عن المجتمعات الخاضعة للسُنَن أمر شائع في الكتب الاجتماعيّة، وعلماء الاجتماع - في الغالب - ينظرون إلى المجتمعات المرتبطة بالسُنن والمواريث الحضاريّة بهذه النظرة السلبيّة والقاتِمة.

وبطبيعة الحال، فإنّ هذا التصوّر يشمل المسيرة الإلهيّة على وجه الأرض في التاريخ، فإنّ هذه المسيرة مُرتبطة بسُنن ثابتة، تتوارثها جيلاً بعد جيل، وتحكمها ضوابِط وحدود، وأعراف وقِيم وأخلاق ثابتة وغير مُتغيِّرة، وتحرص أجيال هذه

____________________

(1)نقلاً عن كتاب (علم الاجتماع)، لـ أ. ج. آريان بور: ص478 - 479.

٣٢٤

المسيرة أن لا تنحرف عن الخطِّ والطريق، وأن لا تُستبدَل المواريث الحضاريّة التي ورِثوها من السلف بالأعراف والقِيم والتصوّرات الجاهليّة التي استحدثها الناس، ويعتبرون أيّ انحراف عن طريق السَلف من البدعة الـمُحرَّمة، وكلّ اتّباع لمسيرة السّلف الصالح من السُنّة الواجبة والمندوبة.

وهذا التصوّر في حساب هذه الفئة من علماء الاجتماع، يُدخِل المجتمع ضمن التصنيف المذكور، في عداد المجتمعات الجامدة وغير الحركيّة.

ولابدّ أن نُشير هنا إلى المفارقة العلميّة الّتي يقع فيها كثيراً من الباحثين من هذا النمط. يختلط لديهم حساب الثوابت القائمة في حياة الإنسان، بحساب القديم وتقليد القديم والجمود على القديم، وهذا الخلط هو سَبب المفارقة الّتي يقع فيها هؤلاء.

إنّ في حياة الإنسان ثوابت لن تتغيَّر، ولا تخضع لحسابات الزمن، وهذه الثوابت هي الأبعاد الرئيسيّة للإنسان، والقِيم الحقيقيّة لشخصيّة الإنسان، وتجاوز هذه الثوابت يُؤدِّي إلى مَسخ شخصيّة الإنسان وتشويهه.

وللمحافظة على شخصيّة الإنسان بأبعاده الحقيقيّة، لابدّ من المحافظة على هذه الثوابت، وقد تكون هذه الثوابت في المحتوى فقط، وقد تكون في المحتوى والشكل معاً.

فالحاجة الجنسيّة من الحاجات الثابتة في حياة الإنسان، وطريقة تصريف هذه الحاجة أيضاً من العناصر الثابتة في حياة الإنسان، فلا يمكن أن يتجاوز الإنسان الحاجة الجنسيّة من حيث المحتوى والمضمون، كما لا يمكن أن يتجاوز الزواج وبناء العائلة من حيث الشكل.

ويصحّ أيضاً في حاجة الإنسان إلى المعاشرة الاجتماعيّة، من حيث المضمون أحياناً فقط دون الشكل، ومن حيث المضمون والشكل أحياناً

٣٢٥

ويصحّ أيضاً في الجانب الاقتصادي من حياة الإنسان.

وهذه المجوعة من الثوابت، تُشكّل مجموعة كبيرة وواسعة من الحاجات الأساسيّة في شخصيّة الإنسان، لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها أو يستبدلها بشكل من الأشكال، وأيّ محاولة لتخطّي هذه الحاجات، تجرّ الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه.

وهذه الأبعاد الأساسيّة الثابتة لشخصيّة الإنسان، هي الّتي ترسمها الأديان الإلهيّة بالإجمال والتفصيل، ويدعو إليها ويعمل بها الأنبياء والمرسلون، وعباد الله الصالحونعليهم‌السلام ، وهي ما أسميناه بالتُراث والمواريث والسُنَن، في مقابل البُدَع التي تُعبِّر عن تجاوز الإنسان للسُنن الإلهيّة الثابتة في حياة الإنسان.

وإزاء هذه الحالة (حالة الالتزام بالثوابت الإلهيّة في حياة الإنسان)، هناك حالة أُخرى، وهي حالة التبعيّة والجمود على القديم، والتهيّب من تجاوز كلّ شيء قديم، والتعصّب للآباء.

والقرآن الكريم يذمّ هذه الطائفة من الناس:

( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) (1) .

( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) (2) .

( قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُهْتَدُونَ ) (3) .

( وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى‏ مِمّا وَجَدْتّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم

____________________

(1)الأعراف: 28.

(2)يونس: 78.

(3)الزخرف: 22.

٣٢٦

قَالُوا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) (1) .

وهذه هي حالة الجمود والتبعيّة والتقليد غير الواعي، وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن حالة اتّباع السُنَن الإلهيّة التي يأمر بها الإسلام، والتي تُشكِّل العُمق الحقيقي للإنسان وأصالته، والثوابت الإلهيّة في حياته.

الثوابت والفطرة والصِبغَة:

وهذه الثوابت في شخصيّة الإنسان، هي التي يُعبِّر عنها القرآن الكريم بـ (الفطرة)، كما يبدو:

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ) (2) .

ويظهر من الآية الكريمة أنّ الفطرة هي: مجموعة الخصائص التي أودَعها الله تعالى في الإنسان(3) ، والتي خلَق الله الإنسان عليها.

وهذه الخصائص تُشكِّل الجانب الثابت من شخصيّة الإنسان، وتُعقِّب الآية الكريمة على ذلك بقوله تعالى:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ، أي: لا يمكن التلاعب والتغيير والتبديل في خلْق الله بشكلٍ من الأشكال.

وإنّما (الدِين) استجابة تشريعيّة لهذه الحاجات والأبعاد التكوينيّة الثابتة في شخصيّة الإنسان، والإنسان عندما يستجيب لسُنَن الله التشريعيّة، ومنهجه الذي

____________________

(1)الزخرف: 23 - 24.

(2)الروم: 30.

(3)معنى الفطرة: الخلْق والإبداع، ومعنى الآية الكريمة على هذا تكون كما يلي: لا تبديل لخلق الله في الكيفيّة والشكل الذي خلَق الله الناس وأبدعهم عليها.

٣٢٧

سلَكَه الأنبياء والمرسلون، يستجيب لهذا الجانب الثابت من شخصيّته.

وقد ورد التعبير عن هذه الثوابت في شخصيّة الإنسان في القرآن بـ (صِبغَة الله):(صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (1) .

وهو تعبير بديع عن الجانب الثابت في الإنسان.

فإنّ الله تعالى قد خلق الإنسان بلَونه وصِبغته الخاصّة التي ميّزه بها، وهذه الصبغة واللون الذي يتميّز به الإنسان صِبغة من صِبغِ الله، صبغَ بها شخصيّة الإنسان، والدِين، هو الآخر، الجانب التشريعي من هذه الصِبغة، الذي يتناسق مع الصِبغة الإلهيّة في جانبه التكويني، وهما معاً صِبغة الله، أحدهما الوجه التكويني والأُخرى الوجه التشريعي لها؛ ولذلك فهما متناسِقان مُنسجمان.

أمّا الأصباغ والألوان الجاهليّة الّتي يصبغون بها حياة الإنسان، في الأخلاق والأعراف والقوانين والتصوّرات والرؤى، فهي لَمّا كانت صِبغة غير صِبغة الله؛ تأتي غير مُتناسقة لهذه الصِبغة الإلهيّة التي صبغَ الله تعالى شخصيّة الإنسان بها في التكوين.

روي عن رسول الله قال: (يا عباد الله، أنتم كالـمَرضى، وربّ العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعلَمه الطبيب، وتدبيره به، لا فيما يشتهيه المريض ويَقترحه، ألا فَسلِّموا لله أمره تكونوا من الفائزين)(2) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام للـمُفضّل بن عُمَر:

____________________

(1)البقرة: 138.

(2)مجموعة ورّام: ج2 / ص117.

٣٢٨

(ولكنّه خلقَ الخلقَ، فعلـمَ ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلَّه لهم وأباحه، تفضُّلاً منه عليهم، لـمَصلحتِهم، وعَلِم ما يضرّهم، فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم)(1) .

2 - القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة:

تُعطي التربية الإسلاميّة أهمِّيّة خاصّة للوراثة في بناء شخصيّة الإنسان المسلم؛ ذلك أنّ تعميق الإحساس بالوراثة للأنبياء والشهداء والصدِّيقين، والارتباط بهذه المسيرة المباركة، يمنح الإنسان حالة الاستعلاء على الحياة الدنيا وزُخارفها، والترفّع عن الهوى والأنا والشهوات.

فإنّ الإنسان إذا عمّقَ في نفسه الإحساس بالارتباط الأُسري، لا يسمح لنفسه التفريط في ما أعطاه الله من المواهب والنِعَم.

كرامة الأُسرة وموقعها الاجتماعي:

وهذا هو سرّ تأثير الوضع العائلي للإنسان في سلوكه ومعيشته، فإذا شَعَر الإنسان بأنّه يرتبط بأكرمِ أُسرة في حضارةِ الإنسان، وهي أُسرة الأنبياءعليهم‌السلام ، وأنّه خَلَف هذه الأُسرة، وحلقة الارتباط بين أجيال هذه الأُسرة، فليس من شكٍّ أنّ هذا الإحساس يبعث في نفسه قدرة كبيرة على الترفّع على الـمُنكَرات والـمُرْديات، ويمنحه القدرة على مكافحة الشهوات والأهواء، ويضعه في موضع الاستعلاء على اللذّات والشهوات التي حرَّمها الله عليه.

إنّ الشعور بالبنوَّةِ والوراثة لأُسرة التوحيد والارتباط بها، يمنح الإنسان

____________________

(1)وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة / ص 236. عن المصدر السابق.

٣٢٩

إحساساً قويّاً بقيمته التاريخيّة والحضاريّة، فلا يُفرِّط في قِيَمِه وموقعه.

وهذا هو سرّ اهتمام الإسلام بالأساليب التي تشدّ الإنسان بهذا المحور الحضاري الربَّاني.

فالقرآن الكريم يعتبر إبراهيمعليه‌السلام أباً للمؤمنين:( مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) .

ولاشكّ أنّ هذه البنوّة ليست هي البنوّة النسبيَّة، وإنّما هي بنوّة العمل، ووراثة العقيدة والرسالة.

وعن هذه النبوّة والانتماء يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمان الفارسيّ: (سلمانُ منّا أهل البيت).

وينفي القرآن الكريم أن يكون ابن نوحعليه‌السلام من أهلِه:( إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

والأهليّة هنا تساوي العمل، والعمل وحده هو الّذي يرفع الإنسان، ويضع الإنسان، ويربطه بإبراهيم خليل الرحمانعليه‌السلام وأُسرته من الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، ويقطعه عنهم، ويجعله في امتداد هذه المسيرة المباركة ويَبتره عنها.

إذن، فهناك تَداعي مباشر بين الوراثة والعمل، فالعمل يُحقّق الوراثة الصالحة، والإحساس بالوراثة يعدّ الإنسان للعمل الصالح.

ومن هنا تأتي قيمة زيارة الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام بعد وفاتهم، وخطابهم بالنصوص الواردة في الزيارات.

فإنّ السعي لزيارة الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام يُعمِّق في نفس الإنسان الإحساس بالارتباط بهم باستمرار، ويغذّي هذا الشعور بصورة مُستمرّة، كما أنّ إحياء مناسباتهم يُؤدِّي دوراً فعّالاً في تحقيق هذه الصلة الروحيّة، بين الإنسان المؤمن وهذه المسيرة الحضاريّة الربّانيّة المباركة.

٣٣٠

وبشكلٍ خاصّ، تؤكِّد النصوص على زيارة الحسينعليه‌السلام ، سيّما زيارة عاشوراء، وفي كلّ يوم؛ للموقع الحسّاس الّذي يحتلّه سيِّد الشهداء الحسينعليه‌السلام في هذه المعركة المصيريّة بين مُعسكَر الرحمان ومُعسكَر الشيطان، ولأجل تعميق الصِلة بالموقف الحسيني الشامخ والصلب في كربلاء.

والذين يُحرِّفون ويُكافحون هذه الشعائر الإسلاميّة، يفهمونها ويتعاملون معها بسطحيَّة ظاهرة، وباسم الشريعة.

إنّ الارتباط بالأنبياء والمرسلين والأئمّة والصالحينعليهم‌السلام ، بالوسائل والطُرق المشروعة، من المسائل الّتي يتّخذها الإسلام أداة للتربية، وشدّ الإنسان المسلم بالمسيرة الإسلاميّة الكبرى في التاريخ؛ ولذلك يُذكِّر القرآن بقصص الأنبياء والصالحين، وبصورة مُكثَّفة، وبتكرار وتأكيد بليغ.

ولاشكّ أنّ توفير هذا المناخ الحضاري للإنسان المسلم، والارتباط بهذا الجوّ، منذ آدمعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أهمِّ أهداف القرآن الكريم في التذكير بقصص الأنبياء والصالحين.

والإحساس بالوراثة يُعمِّق شعور الإنسان بالمسؤوليّة، بصورة مؤثِّرة وقويّة؛ ذلك أنّ الإنسان عندما يشعر أنّه جزء لا يتجزّأ من مسيرةٍ طويلة، ذات جذور بعيدة في التاريخ، يستشعر بمسؤوليّة الـمُحافَظَة على خطِّ الآباء والأسلاف ومكاسبهم وإنجازاتهم، وتثمينها ودعمها، ويشعر أنّ عليه مسؤوليّة نقل هذه الأمانة الّتي استلمها من الجيل السابق إلى الأجيال التي تأتي من بعد، وأنّه حَلَقَة من حلقات هذه السلسلة الطويلة، يربط الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، والجسر الّذي يمتدّ بين الأجيال، يصل فيما بينها.

إنّ هذه المحاسبة في المواريث تُعمّق شعور الإنسان بالمسؤوليّة، وتبعث في نفسه الغيرة على مواريث السَلف، والوفاء لهم، والحرص على الأجيال الـمُقبِلة، وتُشعِره أنّه جزء لا يتجزّأ من سلسلة طويلة مُمتدَّة، وليس من حقِّه أن يُفرِّط في

٣٣١

هذا الميراث الكبير الذي ورثه من أسلافه وآبائه الصالحين.

وهذه الحالة تختلف كثيراً عمّا لو كان الإنسان يشعر أنّه لوحده مشروع مُستقلّ، غير مرتبط بمَن قبله ومَن بعده، وهو كيان قائم بنفسه، ولا يرتبط بمسؤوليّة تجاه الآباء، ولا بمسؤولية تجاه الأبناء.

وشتّان ما بين هذين الشعورين، وما ينشأ عنهما من مواقف.

إنّ النمط الأوّل هو النمط المسؤول من الناس، والنمط الثاني هو النمط اللامسؤول من الناس. والإحساس من النوع الأوّل هو الإحساس الّذي يبني في نفس الإنسان الشعور العميق بالمسؤوليّة، والإحساس من النوع الثاني يرفع الإحساس بالمسؤوليّة عن كاهل الإنسان.

والإحساس من النوع الأوّل يبني في نفس الإنسان شعوراً بأنّه جزء من كلّ مُترابِط ومُتضامن على البُعدين، الزماني والمكاني. والإحساس من النوع الثاني يخلق في نفس الإنسان شعوراً بأنّه شيء مُنفصِل عن التاريخ، وعن المستقبل، ولا يحمل أيّ مسؤوليّة عن الماضي والمستقبل، وإنّما يعيش لنفسه، وفي حدود إطار ذاته وشخصيّته.

وهكذا نجد أنّ الإحساس بالارتباط بالسَلف يحمي الإنسان عن سلطان الهوى والشهوات، ويمنحه المناعة ويُحصِّنه ضدّ الشيطان ووساوسه ووسائله ومَكْره، ويُعطي الإنسان قدرة على الصمود والثبات أمام الضغوط الّتي يمارسها الطاغوت على المؤمنين لحرفهم عن مسيرة السَلف.

ونذكر هنا بعض الشواهد التاريخيّة على هذه النقطة:

موقف الحسينعليه‌السلام من البيعة ليزيد:

لمّا مات معاوية، أرسل يزيد إلى الوليد بن عتبة، عامله على المدينة، ليأخذ

٣٣٢

البيعة من الحسينعليه‌السلام ، وعبد الله بن عمر، وعبد الرّحمان بن أبي بكر، وعبد الله ابن الزبير.

فأرسل الوليد إلى الحسينعليه‌السلام وابن الزبير منتصف اللّيل، فصار إليه الحسينعليه‌السلام في ثلاثين من مواليه وأهل بيته وشيعته، شاكِّين الأسلحة؛ ليكونوا على الباب فيمنعوه إذا علا صوته، وبيده قضيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا استقرّ المجلس بأبي عبد اللهعليه‌السلام ، نعى الوليد إليه معاوية، ثُمّ عرضَ عليه البيعة ليزيد، فقال له الحسينعليه‌السلام :

(مثلي لا يُبايِعُ سرّاً، فإذا دعوتَ الناس إلى البيعة، دعوتنا معهم، فكان أمراً واحداً).

فاقتنع الوليد منه، لكنَّ مروان ابتدرَ قائلاً: إنْ تركته وفارقك الساعة ولم يُبايِع، لم تقدر منه على مثلها حتّى تَكثُر القتلى بينكم، ولكنْ احبس الرّجل حتّى يُبايِع أو تضرب عُنقه.

فقال الحسينعليه‌السلام : (يا ابن الزرقاء(1) ، أنتَ تقتُلني أم هو؟! كذبتَ وأثمتَ).

ثُمَّ أقبل على الوليد وقال:

(أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومُختلَف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسِق شارب الخَمر، قاتل النفس الـمُحترَمة، مُعلِن بالفِسق، ومثلي لا يُبايِعُ مثله، ولكن نُصبِح وتُصبِحون، ونَنظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة).

____________________

(1)نقل سبط ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص: ص218، ط النجف) عن الأصمعي، عن ابن إسحاق: أنّ أُمّ مروان اسمها أُميّة، وكانت من البغايا في الجاهليّة، وكان لها راية مثل راية البيطار تُعرَف بها، وكانت تُسمَّى (أُمّ جبتل الزرقاء)، وكان مروان لا يُعرَف له أب، وإنّما نُسِب إلى الحَكمِ كما نُسِب عمرو إلى العاص.

٣٣٣

فأغلظَ الوليد في كلامه وارتفعت الأصوات، فهجمَ تسعة عشر رجلاً قد انْتَضَوا خناجرهم، وأخرجوا الحسينعليه‌السلام من منزلِه قَهراً(1) .

والذي يتأمّل في الحوار الّذي جرى بين الحسينعليه‌السلام ومروان، يلمس بوضوح خلفيّات كلام كلّ منهما. أنّ مروان يتسلَّح بقوّة الأمير (الوليد)، وقُدرته على السجن والقتل والبطش: (ولكن احبس الرّجل حتّى يُبايِع، أو تضرب عُنقه).

وأمّا الحسينعليه‌السلام ، فهو يتحدَّث عن خلفيَّة تاريخيّة ذات جذور راسخة وعميقة، وأصالة، ويقول:

(إنّا أهلُ بيت النبوّة) من بيت النبوّة وأُسرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(ومعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة) والنبع الصافي.

وللرسالة والنبوّة جذور عميقة في هذه الأُسرة، كما أنّ للـمَعدن جذور عميقة في الأرض.

(بِنا فتح الله وبِنا يختم) وقد فتح الله تعالى الرسالة بهذه الأُسرة، وختمها بها.

ومن الأُسرة أبو الأنبياءعليه‌السلام ، ومن هذه الأسرة خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يقول:

(ويزيد شارب الخَمر، قاتِل النفس الـمُحترَمة، مُعلِن بالفسق) فالفاصلة بين هاتين الأُسرتين كبيرة، ولا يمكن أن يُصافِح الحسينعليه‌السلام يزيد، أو يبايعه ويعترف بإمارته، وهو الفاسق الـمُعلِن للفسق، شارب الخمر، وقاتل الأنفس البريئة، (ومثلي لا يُبايع مثله).

الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء:

وللحسينعليه‌السلام كلام آخر في يوم عاشوراء، خاطب به جيش عُمَر بن سعد، ننقل منه الجملة التي نُريد أن نستشهد بها فقط.

____________________

(1)مقتل الحسينعليه‌السلام ، للسيّد عبد الرزّاق المقرّم: ص127 - 128. نقلاً عن ابن الأثير، الكامل: ج4 / ص6. ومقتل الخوارزمي: ج1 / ص183. والطبري: ج6 / ص189. ومناقب ابن شهر آشوب.

٣٣٤

(ألا وأنّ الدَّعيَّ قد ركَزَ بين اثنتين: بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذِلّة، يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحُجور طابَت وطَهُرت، وأُنوف حَميّة ونفوس أبيَّة، مِن أن نُؤثِر طاعة اللئام على مَصارِع الكرام)(1) .

وما أروع الصورة التي يرسمها الحسينعليه‌السلام - وهو في قلب الأعداء يوم عاشوراء - لهذه المعركة.

إنّه يُشخِّص أوّلاً العدوّ تشخيصاً دقيقاً، ويُشخِّص موضعه وأصله ونَبعه، أنّه على وجه الدّقّة (الدعيّ ابن الدعيّ)، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من هذا التشخيص والتوضيح، ويَصفع الطاغية بهذا الكلام أمام جُنده وقُوّاته، وهو في قبضتهم، ويُعلِن أنّ الدعيّ ابن الدعيّ يُخيِّره بين (الذِلّة) ومبايعة يزيد بن معاوية الفاسق، وبين (سِلَّة) البطش والقتل.

ثُمّ يعلِن موقفه من هذا الخيار الصعّب: (وهيهات منّا الذِلّة).

يقول لهم: إنّ هذا الموقف ليس موقفاً شخصيّاً، يمكن أن يتزلزل أو يخضع للإغراء والوعود، أو للضغط والإرهاب، وإنّما هو موقف يفرضه عليه (الله) و (رسوله)، وهذا هو البُعد الأوّل لموقف الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، ينبع من الولاء (لله) و (الرسول)، والإيمان بالله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ يقولعليه‌السلام : (والمؤمنون)، وهذا هو البُعد الثاني للموقف.

فالمؤمنون في كلّ مكان يرفضون له الاستسلام والانقياد للفاسق يزيد بن معاوية، ويطلبون منه الثبات والصمود، وعدم الخضوع للإغراء والإرهاب.

____________________

(1)نقلَ الخطبة السيّد عبد الرزّاق المقرّم في مقتله: ص262 - 263، عن اللُهوف، للسيّد ابن طاووس: ص54. وابن عساكر في، تاريخ الشام: ج4 / ص334. والخوارزمي في، المقتل: ج3 / ص6.

٣٣٥

ثُمّ يقولعليه‌السلام : (وحُجور طابَتْ وطَهرتْ وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة). وهذا هو البُعد التاريخي الثالث، والجذور التاريخيّة العميقة لهذا الموقف.

وكأنّ الحسينعليه‌السلام يريد أن يقول لجيش ابن زياد يومئذٍ: إنّه ليس كسائر الناس؛ خَشَبة عائمة على مجرى الماء، يأخذه التيّار حيث يتَّجه، وإنّما هو جزء من بُنيان كبير وعريق وأصيل، يرتبط بالله ورسوله من جانب، ويرتبط بالمؤمنين من جانب آخر، ويرتبط بأُسرة طاهرة نقيّة، أبيَّة للضَيم رافضة للظلم من جانب ثالث، فلا يمكن أن يختار طاعة اللئام على مصارع الكرام.

محمّد بن أبي عُمير في سجون العبّاسيِّين:

وأودّ أن أذكر نموذجاً آخر من نماذج الصمود والثبات من تاريخنا، من المؤمنين الذين تعرّضوا للفتنة، فحماهم الله تعالى بمواقف آبائهم وإخوانهم الذين سبقوهم في الإيمان والابتلاء، فلم يخضعوا للإرهاب والتعذيب، وهو (محمّد بن أبي عمير (رحمه الله)).

كان من خِيار أصحاب الإمام موسى بن جعفر، والإمام الرضا (عليّ بن موسى)، والإمام الجواد محمّد بن عليّعليهم‌السلام ، وقد أدرَكهم جميعاً، وروى عن الإمام الرضا والجوادعليهما‌السلام .

ذكر ابن بطّة: أنّ له أربعاً وتسعين كتاباً(1) .

يقول النجاشي: (رُوي أنّه حبسَه المأمون، وقيل أنّ أُخته دفنَت كُتبَه في حالة اختفائه، وكونه

____________________

(1)معجم رجال الحديث، لآية الله السيّد الخوئي: ج14 / ص281.

٣٣٦

في الحبسِ أربع سنين، فهلكت الكتب. فحدَّث مِن حفْظِه، وممّا كان سَلَف له في أيدي الناس؛ فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله. وقد صنَّفَ كُتباً كثيرة)(1) .

وقد كان (رحمه الله) طويل السجود، كثير الذِكر والعبادة.

روى الكشّي عن الفضل بن شاذان، قال: (دخلتُ العراقَ فرأيتُ واحداً يُعاتِب صاحبه ويقول له: أنت رجل عليك عيال وتحتاج أن تكسب عليهم، وما آمن عليك أن تذهب عيناك لطولِ سجودك.

فلمّا أكثر عليه، قال: أكثرتَ عليّ، ويحك، لو ذهبت عين أحد من السجود، لذهبت عين ابن أبي عمير. ما ظنَّك برجل سجدَ سجدة الشكر بعد صلاة الفجر، فما يرفع رأسه إلاّ زوال الشمس؟!)(2) .

ويقول فضل بن شاذان: أخذ يوماً شيخي بيدي، وذهب إلى ابن أبي عمير، فصعدنا في غرفة وحوله مشايخ له يُعظِّمونه ويُبجِّلونه. فقلت لأبي: مَن هذا؟ قال: هذا ابن أبي عمير.

قلت: الرجل الصالح العابد؟ قال: نعم(3) .

وقد ألقى هارون عليه القبض (وضُرِبَ ابن أبي عمير مئة خشبة، وعشرين خشبة بأمر هارون - تولَّى ضربه السندي بن شاهك - على التَشيّع)(4) .

وروى الفضل بن شاذان قال: (سُعِيَ بمحمّد بن أبي عمير إلى السلطان، أن يُعرِّف أسامي الشيعة بالعراق،

____________________

(1)رجال النجاشي: ص229، الطبعة الحجرية.

(2)رجال الكشّي: ص494، طبعة النجف.

(3)المصدر السابق.

(4)المصدر السابق.

٣٣٧

فأمَره السلطان أن يُسمِّيهم، فامتنع، فجُرِّد وعُلِّق بين القفّازين، فضُرِبَ مئة سوط.

قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لمّا ضُربتُ فبلغَ الضربُ مئة سوط، أبلغ الضرب الألم إليّ، فكدتُ أن أُسمِّي، فسمعت نداء محمّد بن يونس بن عبد الرحمان يقول: يا محمّد بن أبي عمير، اذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقوَّيتُ بقوله وصبرت، ولم أُخبر، والحمد لله)(1) .

والإنسان العامل، عندما يشعر أنّه جزء لا يتجزّأ من مسيرة مُتّصلة، بعيدة الأغوار في التاريخ، مُمتدَّة على امتداد الزمان، لا يشعر بالفشل والانكسار والضّعف.

فإنّ الفشل يُصيب الإنسان، إذا كان لوحده مشروعاً قائماً بالذات، يموت العمل بموته، ويعيش بحياته، وينجح بنجاحه ويسقط بفَشلِه.

وأمّا حينما يكون الإنسان جزءاً من مسيرة مُترابِطة متماسكة، تمتدّ عبر الزمان، فلن تتوقّف المسيرة إذا مات، ولن تفشل إذا فشل، ولن يكون الفشل إلاّ انتكاسة في المسيرة، سرعان ما تستطيع المسيرة أن تتجاوزه، وأن تجبر الخسارة.

إنّ هذه المسيرة قد جاوزت نمرود وفرعون، وقوم عاد وثمود، ومئات الجبابرة والطغاة الـمُستكبرين على وجه الأرض، الذين كانوا يتحدّون الأنبياء والمرسلينعليهم‌السلام ، فلم تتوقّف المسيرة، وواصلت عملها وتقدّمها.

ومن هذه الزاوية، فليس في حساب هذه المسيرة الفشل والهزيمة، بالمعنى الذي يعرفه الناس، وأكثر ما فيها انتكاسة، أو كما يقول القرآن الكريم: قرح، قد أصاب العدوّ مثله أو أكثر منه.

وسُرعان ما تتجاوز المسيرة الانتكاسة، ويَندمِل

____________________

(1)تنقيح المقال في علم الرجال للعلاّمة المامقاني / ج2، حرف الميم، ص62.

٣٣٨

القَرح، وتنشط المسيرة، ولن يكون القَرح إلاّ تمحيصاً وتزكية للّذين آمنوا، وهذا هو شعور الدُعاة إلى الله، العاملين في سبيل الله، إذا أصابهم قرح في المعركة، أو أصابتهم انتكاسة في ساحات القتال والصراع.

ولنتأمّل هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران:

( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (1) .

لم تنزل هذه الآيات بعد معركة ظافرة، وبعد نشوة من نشوات النصر، وإنّما نزلت بعد مرارة نكسة أُحد بالذات.

بعد هذه النكسة الـمُرَّة يقول الله تعالى للمؤمنين:( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ) .

وليس من مُوجِب للإحساس بالوَهنِ والحُزن؛ فإنّ ما أصابهم في أُحُد لن يزيد على أن يكون قرحاً قد أصاب العدوّ مثله.

( وأنتم الأعلَون ) ، ومسيرتكم هي الظافرة الـمُؤيَّدة من عند الله، والنصر لا يتجاوزكم.

وما أصابكم من قرح في (أُحد) فهو لكم تمحيص وتطهير وتزكية، ويريد الله أن يزكّيكم به، ولن تدخلوا الجنّة ما لم يصبكم أمثاله، وما لم يُطهِّركم الله ويزكِّيكم ويمحِّصكم به.

إنّ الإنسان العامل الداعية إلى الله يشعر أنّ هذه المسيرة لن تُبتَدأ به، ولن تُختَم به، ولن يكون جهده وعمله إلاّ جزءً من المجهود الكبير المتواصل الّذي تبذله

____________________

(1)آل عمران: 139 - 142.

٣٣٩

الأجيال من المؤمنين.

وهذا المجهود عتيد ومُتّصل عبر الأجيال والزمان، ولن ينقطع.

فإذا نصره الله خلال تحرّكه وعمله، فسوف يُضيف على مكاسِب السَلف مكسباً جديداً، وعلى إنجازاتهم إنجازاً جديداً في حساب النصر.

وإذا ابتلاه الله بقَرح وانتكاسة، فسوف يكون سَبَباً في تمحيصه وتمحيص المؤمنين، وتمحيص المسيرة جميعاً، ويُطهِّر المسيرة والصفّ من نشوات النصر، وما يلحق هذه النشوات من الغرور والبَطر والرياء.

فلا مُوجِب إذن للإحساس بالوَهن والحزن، ولا موجب للشعور باليأس والخوف.

إنّ الداعية عندما يندمج في المسيرة، ويتحوَّل من مشروع مُستقلّ قائم بذاته إلى جزء من هذه المسيرة، لا يكاد أن يُساوره شعور بالخوف واليأس، والوهن والضعف، إلاّ عندما تنتابه حالات ضعف الإنسان، فيُدركه الله تعالى برحمته ونوره وقوّته، ويبعث في نفسه الأمل والقوّة والثقة بالله تعالى، ويشرح صدره ويُذهب عنه الخوف واليأس والشكّ.

وممّا يُصيب العاملين في سبيل الله، عندما ينهضون برسالة الله في أجواء الجاهليّة، الإحساس بالوَحشة والغُربة.

الغُربة في كلّ شيء، في التصوّرات والأفكار والعقائد، والأعراف والـمُصطلحات، والأخلاق والتقاليد، والصلاة والصيام وذكر الله.

والشعور بالوحشة والغربة، عندما يتعمَّق في نفس الداعية، يعزله ويَزويه، ويبعث في نفسه اليأس والوَهن، وأحياناً الخوف.

إنّه يتحرّك على عكس التيّار، وماذا تراه يستطيع أن يفعل في وسط هذا الجوّ الحاشد بمظاهر الجاهليّة والفساد.

٣٤٠