في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193904
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193904 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنه لذلك كاره)(1) .

وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال في صفّين:

(أيّها المؤمنون، إنّه مَن رأى عدواناً يُعمَل به، ومُنكَراً يُدعَى إليه، فأنكره بقلبِه، فقد سَلِمَ وبَرئ، ومَن أنكرَه بلِسانه، فقد أُجِر، وهو أفضل من صاحبه، ومَن أنكره بالسيف، لتكون كلمة الله العُليا، وكلمة الظالمين السُفلى، فذلك الّذي أصاب سبيل الهُدى، وقامَ على الطريق)(2) .

والخروج والثورة لإنكار الـمُنكَر والأمر بالمعروف، ولتحريك المسلمين وتنبيههم، من أوضح مصاديق (الإنكار باليَد)، وأقوى عوامل التحريك والتوعية في صفوف المسلمين، وعندما نستعرض كلمات الإمام في مسيره من المدينة إلى كربلاء، نجد أنّ مسألة رفض البيعة، وإعلان الرفض كموقف سياسي ضدّ النظام الحاكم، لا تُعبِّر عن كلّ أبعاد حركة الحسينعليه‌السلام وثورته، فهناك بُعد آخر لهذه الحركة هو: الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكَر؛ لتحريك المسلمين لمواجهة الطاغية ومُجابهته وإسقاطه.

وعنصر الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكَر عنصر بارز في حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ، كما نقرأ في زيارته (أشهدُ أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكَر)(3) .

يقول أصحاب السيَر: إنّ الحسينعليه‌السلام لمّا تهيَّأ لـمُغادَرة المدينة، زار قبر جدّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصلّى ركعتين، ثُمّ قال: (اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن

____________________

(1)وسائل الشيعة: 6 / 407، دار إحياء التراث، بيروت - 1391هـ، عن تفسير الإمام العسكري.

(2)وسائل الشيعة: 6 / 405. وكذلك روضة الواعظين للفَتّال النيسابوري: 2 / 364 - 365، المطبعة الحيدريّة النجف - 1386هـ. ق.

٣٦١

بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت.

اللهمّ إنّي أُحبّ المعروف؛ وأكره المنكَر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام، بحقّ هذا القبر ومَن فيه، إلاّ ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى)(1) .

وعندما نستعرض كلمات الإمام في مسيرته من المدينة إلى كربلاء، نجد أنّ الإمام يُؤكِّد كثيراً في حركته هذه على عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الكثير من المواقف، ويُعلِن للمسلمين أنّ خروجه على بني أُميّة لم يكن من أجل أن ينال سلطاناً أو مُلكاً، وإنّما ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وفي وصيَّتهعليه‌السلام الّتي أودعها عند أخيه محمد بن الحنفيّة، قبل الخروج من المدينة إلى مكّة، يقول:

(إنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطراً، ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكَر، وأسيرُ بسيرة جدّي محمّد، وسيرة أبي علي بن أبي طالب)(2) .

وفي مكّة، كتب الإمام نسخة واحدة إلى رؤساء الأخماس بالبصرة، جاء فيها:

(وأنا أدعوكم إلى كتاب الله، وسُنّة نبيِّه، فإن السُنّة قد أُميتَت، وأنّ البُدعة قد أُحييَت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري، أُهدكم سبيل الرشاد)(3) .

____________________

(1)الفتوح لابن أعثم: 5 / 27. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 328. مقتل الخوارزمي: 1 / 186. وكذلك مقتل الـمُقرّم: 130. وكذلك نفس المهموم: 73.

(2)مقتل الخوارزمي: 10 / 188. وكذلك الفتوح لابن أعثم: 5 / 33 - 34. وكذلك نفس المهموم: 74. وكذلك معالم المدرستين: 3 / 61. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 329.

(3)الطبري: 7 / 240. وكذلك مقتل المقرّم: 142 - 143. وكذلك نفس المهموم: 90.

٣٦٢

وفي منزل (البيضة(*) )، في طريق العراق، خطب الحسينعليه‌السلام في أصحابه وأصحاب الحرّ، فقال:

(أيّها الناس، إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مُستحِلاًّ لحرمِ الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالِفاً لسُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثمِ والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله، ألا أنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفَيء، واحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيّر)(1) .

وفي منزل (ذي حسم) (بالقُربِ من كربلاء)، خطب الحسينعليه‌السلام بعد أن حمد الله وأثنى عليه قائلاً:

(إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وأنّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت، وأدبرَ معروفها، واستمرّت جذّاء، فلم يبقََ منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل. ألا ترَون أن الحقّ لا يُعمَل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليَرغب المؤمنُ في لقاء الله مُحقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً)(2) .

وممّا يُؤكِّد عزم الإمام على الخروج والثورة، أنّ الإمام صادر أموالاً كان قد بعثها عامل يزيد على اليمن إلى يزيد (بالتنعيم) بالقرب من مكّة المكرّمة. يقول الطبري:

____________________

(*) البيضة: ما بين واقصة إلى عذيب الهجانات، وهي أرض واسعة لبَني يربوع بن حنظلة.

(1)تاريخ الطبري: 7 / 300. وكذلك نفس المهموم: 190. وكذلك مقتل المقرّم: 197 - 198.

وفي بحار الأنوار - رواه باختلاف يسير، بعنوان كتاب بعثه الإمام من كربلاء إلى أشراف الكوفة -: 44 / 381 - 382. وكذلك الفتوح لابن أعثم: 5 / 143 - 144.

(2)الطبري: 7 / 300 - 301. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 381. وكذلك نفس المهموم: 191.

٣٦٣

(ثُمّ أنّ الحسين أقبل حتّى مرّ بالتنعيم، فلقى بها عِيراً قد أُقبل بها من اليمن، بعث بها مجير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن، وعلى العِير الوَرس والحَلّ، ينطلق بها إلى يزيد، فأخذها الحسين، فانطلق بها. ثُمّ قال لأصحاب الإبل: (لا أُكرهكم، مَن أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفَينا كِراءه، وأحسنّا صُحبته، ومَن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا، أعطيناه من الكِراء على قدر ما قطَع من الأرض))(1) .

* * *

وعليه، فإنّ حركة الإمامعليه‌السلام - كانت ذات بُعدَين: سياسي، وحركي.

فيالبُعد الأوّل ، كان هدف الإمام الحسينعليه‌السلام رفض البيعة، وإعلان هذا الرفض على المجتمع الإسلامي - يوم ذاك - والاستفادة من الجانب الإعلامي للفرض.

وفيالبُعد الثاني ، كان الإمام يُخطِّط للخروج على النظام الحاكِم، وما يُسمّى اليوم بـ (الثورة الـمُسلَّحة)، والجهاد الـمُسلَّح؛ بهدف تحريك المجتمع ضدّ الظلم، وإيقاظ الأُمّة، وبعث روح الجهاد ومقاومة الظالم في نفوسهم، ودفع الناس للثورة على الظالم وإسقاطه، وكسر حاجز الخوف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر.

وهذان البُعدان واضحان من كلمات الإمام ومواقفه في مسيره من المدينة إلى كربلاء، كما رأينا طرفاً من ذلك في هذه الدراسة.

وقد كان الإمام خلال هذه الحركة السياسيّة الجهاديّة على بيّنة من أمرَين اثنين، لابُدّ أن نُشير إليهما؛ لنتمكن من رسم الصورة الكاملة للمسيرة الحسينيّة:

____________________

(1)تاريخ الطبري: 7 / 277. كذلك راجع: الكامل لابن الأثير: 4 /40. والبداية والنهاية: 8 / 166. ومقتل الخوارزمي: 1 / 220. ونفس المهموم: 171 - 172. ومقتل المقرّم: 181.

٣٦٤

الأمر الأوّل: إنّ هذه الحركة - ببُعدَيها السياسي، والحركي - غير قادرة على إسقاط النظام الأموي، فقد كان النظام الأموي قويَّاً مرهوب الجانب، قد أعدَّ له معاوية كلّ أسباب القوّة والمنعة، من مال وقوّة عسكريّة، وإعلام، وإرهاب، وإدارة، ولم يكن الإمامعليه‌السلام بقادر - بما كان يتهيّأ له يوم ذاك من أنصار - أن يُقاوم قوّة الشام المركزيّة، بصورة أكيدة.

كما أنّ النظام الأموي استطاع خلال هذه الـمُدّة أن يُخمِد جذوة الثورة في نفوس الناس، وأن يُقنِع الناس بأنّ من الخير لهم أن يُؤثروا السلامة والعافية على الثورة والتمرّد على النظام، وأن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة والسمع والطاعة، ولا يُفكِّروا في شيء من أُمور الدولة ونظامها، ولا ينقادوا لدعوات دُعاة المعارضة. وقد أفلح معاوية بشكل خاصّ في تدجين الناس للنظام، وتثبيت رهبة النظام وسطوته في نفوس الناس، وتعويدهم على الاستسلام والرضوخ.

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يعرف هذا جيداً ولا يجادل فيه، ولم يكن يأمل أن يجد في العراق جيشاً قويّاً، يدعمه في موقفه ضدّ سلطان بني أُميّة، ويتبنَّى دعوته لإسقاط النظام، ويقف إلى جانبه ويثبت، وكان يعلم جيّداً أنّ هؤلاء الناس الّذين تجمّعوا لدعوته وبيعته وكتبوا إليه، سُرعان ما ينقشعون أمام قوّة الشام والحكومة المركزيّة، ولا يبقى معه غير قلَّة قليلة من شيعته، الّذين دبّ فيهم التفكّك والضعف، وروح الاستسلام والانهزاميّة.

ولقد كان الإمامعليه‌السلام يعرف ذلك أيضاً معرفة جيدة. ولم يكن خروج أخيه الحسنعليه‌السلام لقتال معاوية، وما أصاب جيشه من التفكّك والخيانة، واضطرار الإمام الحسن لإيقاف القتال، ببعيد عنه، ولم يكن الإمام الحسينعليه‌السلام يتوقَّع أن تتهيَّأ له من الظروف السياسيّة والقتاليّة أفضل ممّا توفَّرت لأخيه الحسنعليه‌السلام من قَبل.

٣٦٥

التحذير من الخروج إلى العراق:

ولم يكن يغيب عن الإمام الحسينعليه‌السلام ما كان يراه، ويُذكّره به الكثير من شيعته والناصحين والـمُحبِّين له، ممَّن كان الإمام لا يَتّهم نُصحهم وصدقهم، وفَهْمَهم لساحة العراق.

يقول ابن أعثم في (الفتوح)، والخوارزمي في (الـمَقتَل): (قدم ابن عبّاس إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسينعليه‌السلام عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مُسلِّماً، ثُمّ قال له: جعلت فداك، إنّه قد شاع الخبر في الناس، وأرجفوا بأنّك سائر إلى العراق. فقال: (نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي إن شاء الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم)، فقال ابن عبّاس: أُعيذك بالله من ذلك، وأنت تعلم أنّه بلد قد قُتل فيه أبوك، واغتِيل فيه أخوك)(1) .

ودخل عليه عُمَر بن عبد الرحمان بن هشام المخزومي، فقال: يابن رسول الله، إنّي أتيتُ إليك لحاجة أُريد أن أذكرها، فأنا غير غاشّ لك فيها، فهل لك أن تسمعها؟ فقال الحسين: (هات، فو الله ما أنت عندي بسيّء الرأي، فقُل ما أحبَبت).

فقال: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مُشفِق عليك من ذلك، أنّك تَرِد إلى قوم فيهم الأُمراء، ومعهم بيوت الأموال، ولا آمن عليك أن يُقاتِلك مَن أنت أحبّ إليه من أبيه وأُمّه؛ ميلاً إلى الدينار والدرهم، فقال له الحسين: (جزاك الله خيراً يا بن عمّ، فقد علمتُ أنّك أمرت بنُصح. ومهما يقضي الله من أمرٍ فهو كائن، أخذتُ برأيك أم تركته)(2) .

ولم يكن الإمام يُكذِّب هؤلاء، أو يتردّد في كلامهم، وقد كانوا يُؤكِّدون للإمام

____________________

(1)مقتل الخوارزمي: 1 / 216. وكذلك الفتوح لابن أعثم: 5 / 111 - 112.

(2)الفتوح لابن أعثم: 5 / 110 - 111. وباختلاف يسير، مقتل الخوارزمي: 1 / 216.

٣٦٦

أنّ أهل العراق لا يثبتون طويلاً أمام جيوش الشام، وأنّ العاقبة لن تختلف عن عاقبة الجيش الّذي صحب أخاه الحسنعليه‌السلام من قبل.

كان الإمام يتقبَّل كلّ ذلك ويُصدّقه، من دون مناقشة أو تردّد.

يقول الخوارزمي: إنّ الإمام عندما بلغ (ذات عرق)، في خروجه إلى العراق، لَقيه رجل من بني أسد، يُقال له بِشر بن غالب، فقال له الحسينعليه‌السلام : (ممَّن الرجُل؟ قال: من بني أسد.

قال: فمن أين أقبلت؟ قال: من العراق.

قال: فكيف خلّفت أهل العراق؟

فقال: يا بن رسول الله، خلّفت القلوب معك، والسيوف مع بني أُميّة.

فقال له الحسين: صدقت يا أخا بني أسد. إنّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد)(*) .

وفي الطريق في منزل (الصفاح)، لقي الإمامُ الفرزدقَ بن غالب (الشاعر)، فواقف حسيناً فقال له: (أعطاك سؤلك، وآملك فيما تحبّ. فقال له الحسينعليه‌السلام : بيّن لنا نبأ الناس خلفك، فقال له الفرزدق: من الخبيرِ سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة... والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.

فقال له الحسينعليه‌السلام : صدقت، للهِ الأمر، ويفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا في شأن)(1) .

ولمّا بلغ عبد الله بن جعفر سفر الحسينعليه‌السلام إلى العراق، أرسل إليه كتاباً مع وَلدَيه، عون ومحمّد، يُخبِره بأنّه خائف عليه من الوجه الّذي يسير إليه

____________________

(*) مقتل الخوارزمي: 1 / 220 - 221. وكذلك مثير الأحزان لابن نما: 31. وكذلك المقتل للمقرّم: 182 - 183.

(1)تاريخ الطبري: 7 / 277 - 278. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 365. وكذلك إرشاد المفيد: 218. وكذلك مقتل المقرّم: 182. والكامل: 4 / 40. وكذلك الفتوح لابن أعثم: 5 / 124.

وبين النصّ الأوّل وبين النصوص اختلاف يسير.

٣٦٧

(العراق)(1) ، فلم ينثنِ الإمام عن عزمه.

ومع هذه التأكيدات الّتي ذكرنا طرفاً منها هنا، فإنّ من غير المعقول أن يغيب عن الإمام ما كان يعرفه هؤلاء الناس، الّذين لم يكن الإمام يشكّ في نصحهم وصدقهم وحُبّهم له.

فلم يكن الإمام - إذن - يطمح في إسقاط نظام بني أُميّة بهذه القوّة الّتي تطّوعت له في العراق، وكلّ القرائن التاريخيّة الّتي رافقت خروج الإمام تنفي هذا الاحتمال من الأساس.

إذن، لم يُفكِّر الإمام في خروجه إلاّ بتوعية الرأي العامّ، وإثارة سخط الناس ضدّ حُكم بني أُميّة، وتثوير المجتمع الإسلامي وتحريكه ضدّ سلطان بني أُميّة، دون الإسقاط المباشر.

والأمر الثاني: إنّ الإمامعليه‌السلام كان مُصمّماً على الشهادة، عالماً بأنّ غاية خروجه هذا هي الشهادة في سبيل الله، وكلّ القرائن الّتي رافقت حركة الإمامعليه‌السلام تُؤكِّد هذه الحقيقة.

فلم يكن من الممكن أن يترك بنو أُميّة الحسينعليه‌السلام مُعلِناً رفضه للبيعة، خارجاً على بني أُميّة في رفضه وامتناعه عن البيعة، ولم يكن الإمام يقبل بالتنازل عن رفضه للبيعة وإعلانه للرفض، وخروجه على يزيد، مهما بلغ الأمر، في وقت لم تكن له قوّة تحميه.

فليس بُدّ - إذن - من الشهادة، إلاّ أن يتنازل الحسينعليه‌السلام عن رفضه للبيعة والخروج على يزيد، ويتقبّل بيعة يزيد، أو يعتزل الساحة السياسيّة إلى بعض شعاب الجبال أو البوادي، وهو ما كان يرفضه الإمام رفضاً قاطعاً وأكيداً لا يقبل المناقشة، وكلمات الإمام في هذه المسيرة صريحة أيضاً على عزمه الأكيد على الإقدام على الشهادة.

ونذكر فيما يلي بعض النصوص:

____________________

(1)الكامل: 4 / 40. وكذلك الطبري: 7 / 279. وكذلك الفتوح لابن أعثم: 5 / 115. وكذلك الإرشاد للمفيد: 219، مكتبة بصيرتي - قم.

٣٦٨

أوّلاً: كان الإمام الحسينعليه‌السلام قد وعد أخاه محمّد بن الحنفية، بأن ينظر في رأيه في الإعراض عن العراق، فلمّا غادرعليه‌السلام مكّة مُتوجِّهاً إلى العراق، جاءه محمّد بن الحنفية، وأخذ بزمام ناقته، واستنجزَه الوعد، فقال:

يا أخي، ألَم تعِدني النظر فيما سألتُك؟!، قال: بلى. قال: فما حداك على الخروج عاجِلاً؟

قال: أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، اخرج، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً.

فقال محمّد بن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حمْلك هؤلاء النسوة معك، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟!

قال: فقال ليصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا.

فسلَّم عليه ومضى)(1) .

ثانياً: لمّا عزم الإمام على الخروج من المدينة، أتتْه أمّ سَلَمَه - رضي الله عنها - فقالت: (يا بُني، لا تحزنِّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعتُ جدّك يقول: يُقتَل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرض يُقال لها كربلاء.

فقال لها: يا أماه، أنا والله أعلـمُ ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بُدّ)(2) .

ثالثاً: في الليلة الثانية، أو الثالثة، من دعوة الوليد الإمام إلى البيعة، ذهب الإمام إلى قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقضى الليل كلّه في الصلاة والدعاء، حتى إذا كان في بياض الصبح، وضع رأسه على القبر، فأغفى ساعة، فرأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كوكبة من الملائكة... حتّى ضمّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، وقبّل بين عينيه، وقال: (يا بُنيّ يا حسين، كأنّي عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء

____________________

(1)الملهوف: 56. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 364. وكذلك نفس المهموم: 164 - 165. وكذلك مقتل المقرّم: 174.

(2)بحار الأنوار: 44 / 331.

وقريباً من هذا المضمون، في إثبات الوصية: 141. ونفس المهموم: 77. ومقتل المقرّم: 135.

٣٦٩

من عصابةٍ من أُمّتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقَى، وظمآن لا تروى، وهُم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة)(1) .

رابعاً: روي أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا عزم على الخروج إلى العراق من مكّة، قام خطيباً فقال: (الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله وسلَّم.

خُطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جِيد الفتاة، وما أولَهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطِّعها عسلان الفلَوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم.

رضا الله رضانا أهل البيت. لن تشذَّ عن رسول الله لُحمَته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تُقِرُّ بهم عينه، وتنجز لهم وعْده، مَن كان فينا باذلاً مُهجَته، موطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مُصبِحاً إن شاء الله تعالى)(2) .

خامساً: يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : (لمّا مضى الإمام مُتوجّهاً، دعا بقرطاس وكتُب فيه إلى بني هاشم: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ بن أبي طالب، إلى بني هاشم.

أمّا بعد، فإنّه مَن لحقَ بي منكم استُشهد، ومَن تخلَّف لم يبلغ مبلَغ

____________________

(1)الفتوح لابن أعثم: 5 / 27 - 28. وقد أورد هذه الرواية آخرون:

كالمقتل للخوارزمي: 1 / 186 - 187. والمجلسي في البحار: 44 / 328. وكذلك نفس المهموم: 72 - 73. وكذلك مقتل المقرّم: 130 - 131. ورُويت الرواية أيضاً في معالم المدرستين: 2 / 185 - 186. ط 1، 1405هـ.

(2)بحار الأنوار: 44 / 366 - 367. وكذلك اللهوف: 52 - 53. وكذلك نفس المهموم: 163. وكذلك معالم المدرستين: 2 / 199. وكذلك لواعج الأشجان للسيّد محسن الأمين، مكتبة بصيرتي: 63. وكذلك الوثائق الرسميّة لثورة الحسين: 77 و 78، دار التعارف للمطبوعات.

٣٧٠

الفتح والسلام)(1) .

سادساً: كتَب الإمام من كربلاء إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة:

(بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليعليه‌السلام ، إلى محمّد بن عليّ، ومَن قبلَه مِن بني هاشم.

أمّا بعد، فكأنّ الدنيا لم تكن، والآخرة لم تزل، والسلام)(2) .

فالإمام إذن، كان قد خرج بدافع إعلان رفض البيعة، وإعلان الثورة على يزيد، ولم تكن لدعوة أهل العراق أثَر في مسيرة الحسينعليه‌السلام وحركته، إلاّ بقَدرِ ما يتعلَّق بتحديد الجِهة في حركة الإمام وسَيره.

ولمّا تبيَّن الإمام أنّ القوم قد انقلبوا عن رأيهم وموقفهم، عندما اعترضه الحُرّ بن يزيد الرياحي بجيشه، عرض عليهم الحسين أن ينصرف عنهم إلى حيث يشاء من الأرض، على أن يختار هوعليه‌السلام الجهة الّتي يريدها، لا أن تُفرَض عليه من قِبل ابن زياد.

وقد عرض الإمامعليه‌السلام هذا الأمر على الحُرّ مرّتين يوم اللقاء، مرّة بعد صلاة الظهر، ومرّة بعد صلاة العصر(3) .

وليس في كلام الإمام هذا إشارة إلى أنّه إن انصرف عن العراق فسوف يكفّ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ودعوة الناس للثورة ضدّ سلطان

____________________

(1)اللهوف: 57. وكامل الزيارات: 75. والمقتل للمقرّم: 48. ونفس المهموم: 75.

وفي الروايات اختلاف يسير في النصّ.

(2)كامل الزيارات: 75، المطبعة المرتضويّة في النجف، 1956. وكذلك مثير الأحزان للجواهري: 48.

(3)الفتوح لابن أعثم: 5 / 135 - 137. وكذلك الإرشاد للمفيد: 224 - 225. ونفس المهموم: 188 - 190.

إلاّ أنّ رواية الإرشاد حدَّدت المرّتين، قبل صلاة الظهر وبعد صلاة العصر من نفس اليوم، واتبعه في ذلك الشيخ عبّاس القمّي في نفس المهموم.

٣٧١

بني أُميّة، أو يحتجب برأيه وموقفه السلبي تجاه بني أُميّة في بعض شعاب الجبال أو ثغور المسلمين.

ولم يتعهّد الإمام للحُرّ يوم ذاك بشيء من هذا، وإنّما طلب منه أن يتنحّى عنه، حتّى ينصرف إلى حيث يشاء من أرض الله الواسعة. وقد ذكرنا قبل هذا كلمة عقبة بن سمعان - الّتي رواها الطبري - في امتناع الحسينعليه‌السلام من أن يضع يده بيَد يزيد، أو يعتزل الناس في ثغرٍ ناءٍ من ثغور المسلمين.

إذن، كان الحسينعليه‌السلام مُقدِماً على إعلان الخروج على يزيد على كلّ حال، وكان يبحث عن الفرصة الّتي تُهيّئ له هذا الإعلان، ووجد في دعوة أهل العراق وبَيعتهم هذه الفرصة، وكان على يقين أنّ هذا الموقف السياسي والثوري سوف يُكلِّفه نفسه، والنُخبة الصالحة من أهل بيته وأصحابه، ولم يكن من ذلك بُدّ، ولذلك فقد قدمَ الإمام على الشهادة، راضياً مُطمئنّ البال.

وكان هناك من شيعة الإمام الناصحين له مَن كان يحمل رأياً آخر، يختلف عن رأي الإمام، ويعتقد أنّ الإمام إذا خرج وقُتل، انتُهكت بقتله حُرمة الإسلام، ولا يحترم بعده بنو أُميّة أحداً من وجوه المسلمين وأعلامهم، ومن هؤلاء ابن عمّه عبد الله بن جعفر، وكان ممَّن لا يشكّ الإمام في صدقه ونُصحه.

أرسل إلى الإمام كتاباً مع ولديه، عون ومحمّد - كما أسلفنا -، والإمام في طريقه إلى العراق، يقول فيه للإمام:

(فإنّي مُشفِق عليك من هذا الوجه، أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك.

إن هلكتَ اليوم، أُطفئ نور الأرض، فإنّك علَم الـمُهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسَير، فإنّي في أثَرِ كتابي)(1) .

____________________

(1)الكامل: 4 / 40. وكذلك الطبري: 7 / 279. والبداية لابن كثير: 8 / 163. وكذلك الإرشاد للمفيد: 219. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 366. وكذلك مقتل المقرّم: 174 - 175. وكذلك مقتل الخوارزمي: 1 / 218. وكذلك لواعج الأشجان: 77 و 78.

٣٧٢

ومنهم عبد الله بن مطيع العدوي، التقى الإمام في الطريق إلى العراق، على ماء من مياه العرب، فقال للإمام:

(بأبي أنت وأُمّي يا بن رسول الله، ما أقدَمك؟ فقال له الحسينعليه‌السلام : (كتَب إليّ أهلُ العراق، يدعونني إلى أنفسهم). فقال له عبد الله بن المطيع: أُذكّرك الله يا بن رسول الله، وحرمة الإسلام أنّ تنتهك... فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أُميّة ليقتُلنَّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً)(1) .

وكان الإمامعليه‌السلام يرى على خلاف هؤلاء، أنّ الشهادة هي الفتح، وأنّ هذه الأُمّة لا يُمكن تحريكها، ولا يُمكن أن تُبعَث فيها الحياة والحركة والعزم من جديد إلاّ بشهادته، وشهادة النُخبة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه. وقد كتب بذلك إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة:

(بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن علي، إلى محمّد بن علي، ومَن قَبِلَه من بني هاشم.

أمّا بعد، فإنّ مَن لَحقَ بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح، والسلام)(2) .

وليس من الـمُمكن الإجابة بأفضل من هذا الجواب، فمَن لحق بالحسينعليه‌السلام لابُدّ أن يستشهد، ومَن لم يلحق به فاتَته الشهادة، وهي الفتح الّذي لا يشكّ به الحسين؛ عندما ينظر إليها في امتداداتها البعيدة، والنتائج التي تُحقّقها في حياة المسلمين.

فلولا شهادة الحسينعليه‌السلام ، والنخبة المؤمنة التي خرجت معه إلى العراق،

____________________

(1)الطبري: 7 / 290. وكذلك بحار الأنوار: 44 / 371. وكذلك نفس المهموم: 179. وكذلك معالم المدرستين: 2 / 202. وجاء في المصدر السابق: 3 / 63 (لا يهابون بعدك أحداً أبداً).

(2)كامل الزيارات لابن قولويه: 75 / الباب الثالث والعشرون. وكذلك اللهوف: 57. وكذلك مقتل المقرّم: 48. وكذلك نفس المهموم: 75.

٣٧٣

والهزَّة العميقة الّتي أحدثَتها في وجدان الأُمّة وضميرها... لـمَضى بنو أُميّة في غَيِّهم وطيشهم، وعبثهم بمُقدَّرات الأُمّة ورسالتها.

بَيد أنّ شهادة الحسينعليه‌السلام أعادت الأُمّة إلى وعيها ورشدها، وأحسَّتها بمسؤوليّتها الشرعيّة في مواجهة طغيان بني أُميّة وضلالهم.

يقول الشيخ جعفر التُستري (رحمه الله) في كتابه القيِّم (الخصائص الحسينيّة):

(فلو كان الحسين يُبايعهم [ بني أُميّة ] تقيّة، ويُسلِّم لهم، لم يبقَ من الحقِّ أثَر، فإنّ كثيراً من الناس اعتقدوا أنّه لا مُخالِف لهم في جميع الأُمّة، وأنّهم خلفاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حقّاً.

فبعد أن حاربهم الحسينعليه‌السلام ، وصدر ما صدر إلى نفسه، وعياله وأطفاله، وحُرَم الرسول، تَنبَّه الناس لضلالتهم، وأنّهم سلاطين الجَور، لا حُجَج الله وخلفاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وقد سأل إبراهيم بن طلحة بن عبد الله الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، عن الغالب في معركة الطفّ، حين الرجوع إلى المدينة، فقال الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

(إذا دخل وقت الصلاة، فأذِّن وأقِمْ، تعرف الغالِب)(2) .

وجواب الإمام السجادعليه‌السلام دقيق متين، لـمَن يتمكّن أن ينفذ من ظواهر الأحداث وسطحها إلى الأعماق، وعندما يتمكّن الإنسان من رؤية الامتدادات والنتائج البعيدة للأحداث.

____________________

(1)الخصائص الحسينيّة للشيخ جعفر التستري: 44، المطبعة الحيدريّة في النجف - 1956م.

(2)مقتل الـمُقرّم: 48. عن أمالي الشيخ الطوسي: 66، مكتبة الداوري - قم.

٣٧٤

عاشوراء (ودّ) و (قُدوة)

* ودّ يقذفه الله في قلوب المؤمنين،

وقُدوة في حياتهم

* عصمة الإمام

* شهادة رسول الله والأُمّة الشاهِدة

٣٧٥

٣٧٦

عاشوراء (ودّ) و (قُدوة)

وُدّ يقذفه الله في قلوب المؤمنين وقدوة في حياتهم:

إنّني ألـمَس في تفاعل الجماهير مع (عاشوراء) أمرين، لا أشكّ فيهما مهما شككت في شيء:

ألـمَس يد الله عزّ وجلّ في هذا التلاحم العجيب بين الجماهير وعاشوراء، فلا يكاد يتمّ هذا التلاحم والتعاطف والتفاعل بصورة عفويّة، وصدفة، ويدوم ويستمرّ بهذه الدرجة من القوّة، لو لم تتدخّل الإرادة الإلهيّة في تحريك جماهير المؤمنين باتّجاه عاشوراء، وربط عواطف جمهور المؤمنين ومشاعرهم بهذا اليوم.

الوُدّ الذي يجعله الرحمان للذين آمنوا:

إنّ حُبّ الصالحين ومودّتهم، أمْر يقذفه الله تعالى في قلوب عباده، ولا يمكن أن يصنعه الناس، أو ينتزعه الناس.

والأساليب الإعلاميّة الـمُتطوّرة قد تُحرِّك عواطف الناس باتّجاه مُعيَّن، وتخلق موجة من العواطف والأحاسيس تجاه شخص، وترفع شخصاً من حالة الخمول إلى قمَّة الـمَجد أيّاماً أو سنين، وتُحيطه بهالَة من العواطف والمشاعر والأحاسيس.

ومن الممكن أن تخدع وسائل

٣٧٧

الإعلام عواطف الناس وأحاسيسهم، ولكنّ ذلك شيء يختلف اختلافاً كيفيّاً وكميّاً عن حالة التعاطف والتفاعل الوجداني العميق، الـمُستقرَّة والثابتة في قلوب المؤمنين، كما كانت تختلف عصا موسىعليه‌السلام عمّا كان يصنعه سحَرة فرعون، عندما حاولوا أن يعارضوا معجزة موسىعليه‌السلام بسِحرِهم.

وهذا هو الودّ والحُبّ الذي يجعله الله للصالحين في قلوب عباده:

( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمنُ وُدّاً ) (1) .

وهذا الودّ الـمُتميّز هو ممّا يجعله الله تعالى في قلوب عباده، وليس للإنسان دور في ذلك، إلاّ أن يُعدّ نفسه لذلك إعداداً، ويجعل نفسه في موضع نزول الرحمة الإلهيّة.

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُعلِّم عليّاًعليه‌السلام أن يقول في دُعائه (اللّهمّ أجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودّاً)(2) .

فإنّ الله تعالى يتصرّف في قلوب عباده كما يشاء، وقد ورد في الرواية: أنّ قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان(3) .

ولا شكّ أنّ للقلوب جَذْب ودَفْع، فقلوب الصالحين تنجذب للصالحين وتُحبّ الصالحين، وتنفر من الفاسدين وتبرأ منهم، والقلوب الفاسدة تنجذب لأمثالها، وتنفر من الصالحين. وهذا الجذب والدفع من خلقِ الله تعالى وصنعه.

ونحن نعلم، علم اليقين، أنّ الله تعالى يتصرّف في قلوب عباده كما يُحبّ ويشاء، ويبعث فيها ما يشاء من حُبٍّ ونفور، وإقبال وإدبار، واستجابة وإعراض، كما يصنع الله تعالى في سائر مُلكه وسُلطانه.

والتعبير القرآني دقيق ورقيق في هذا المجال.

____________________

(1)مريم: 96.

(2)تفسير الميزان: 14 / 115، ط بيروت.

(3)قد سمعت هذه المأثورة كثيراً. ولم أعثر عليها في مظانّها من كُتبِ الحديث.

٣٧٨

( ... وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ... ) (1) .

ولكلّ امرئ ما يشتهيه ويكرهه ويُحبُّه ويبغضه، وهذا قِوام شخصيّة (الإنسان)، والحُبّ والبغض، والرغبة والنفور، من فِعل القلب...

ومع ذلك، ومع هذا الالتصاق الشديد بين (المرء وقلبه) فإنّ الله تعالى (يحولُ بين المرء وقلبه).

ولا أعرف تعبيراً أبلغ من هذا التعبير في نفوذ سلطان الله تعالى على القلوب، وانقياد القلوب ورضوخها لمشيئة الله تعالى وصُنعه وفعله.

وقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة، عن الإمام الصادقعليه‌السلام : أنّ الإنسان قد يشتهي شيئاً بسمعه وبصره، فإذا أراد أن يغشى شيئاً منه أنكره قلبه(2) .

ومهما أنعم الإنسان النظر، فلا يكاد يبلغ عُمق هذا التعبير القرآني، في نفوذ سلطان الله تعالى ومشيئته على القلوب.

فهذه القلوب - الّتي يقول عنها الإمام الصادقعليه‌السلام : (إزالة الجبال أهوَن من إزالة قلبٍ عن موضعه)(3) ـ تستجيب هكذا، طائعة ومُنقادَة لمشيئة الله تعالى، ويَنفذ فيها أمر الله تعالى نفوذاً مُطلقاً، في الحُبّ والبُغض، والإقبال والإدبار، والاستجابة والإعراض، والرغبة والكراهيّة. ويصنع الله تعالى فيها ما يشاء وما يُحبّ، كما يصنع في سائر مُلكه وسلطانه.

وليس من مؤمن صالح، أو مُتكبِّر طالح، إلاّ كان قلبه تحت نفوذ سلطان الله تعالى، وأمره المباشر.

____________________

(1)الأنفال: 24.

(2)بحار الأنوار: 70 / 58 أوردتُ الرواية بالمضمون، ونصّ الرواية: (يشتهي الشيء بسمعه وبصره ولسانه ويده، أمّا أنّه لا يغشى شيئاً منها، وإن كان يشتهيه، فإنّه لا يأتيه إلاّ وقلبه مُنكر، لا يقبل الذي يأتي، يعرف أنّ الحقّ ليس فيه).

(3)بحار الأنوار: 78 / 197.

٣٧٩

وقد حكى لنا القرآن الكريم كيف جعل الله عزّ وجلّ في قلب فرعون حُبّ موسىعليه‌السلام ، منذ أن التقطه من البحر، وكيف ألقى الله عزّ وجلّ حُبّ موسىعليه‌السلام على قلب عدوِّه فرعون(1) .

ولست أشكّ أنّ هذا الالتحام والتفاعل، الّذي يشدّ جمهور المؤمنين بيوم عاشوراء، شيء من أمر الله تعالى، وإرادة الله تعالى، هيَّأ له أسبابه.

عاشوراء قُدوة للجمهور في حركته إلى الله:

والأمر الآخر الذي ألـمَسه في هذا الانشداد والتفاعل الجمعي العجيب هو: أنّ الجمهور يجد في (عاشوراء) شيئاً يتفاعل مع ضميره وعقله وقلبه، ويجد في هذا اليوم بُغيته التي يطلبها في حركته ومسيرته.

فإنّ الناس يحتاجون في حركتهم الشاقّة إلى الله في الحياة الدنيا إلى (توجيه) وإلى (مثال)، يقتدون به، ولا يكفي التوجيه وحده. والإنسان يحتاج دائماً إلى مَن يُرشده ويُعلّمه، وهذه ضرورة لا نقاش فيها. ولكنّه يحتاج أيضاً إلى مَن يتقدَّمه ليمشي خلفه باطمئنان وثقة.

وهذا الاطمئنان والثقة في الحركة، لا يصنعه التوجيه والإرشاد وحده، وإنّما يصنعه الّذي يتقدّم المسيرة بنفسه، ويكون قدوة ومقياساً ومعياراً عينيّاً مُتجسّداً، في حركة واقعيّة على طريق العاملين.

والناس في مسيرة الحياة، كما (يطلبون الـمُعلِّم) والـمُوجِّه، يطلبون (القُدوة) والمثال أيضاً، فإنّ الحركة إلى الله تعالى شاقّة وعسيرة وكادحة، وعندما تكون الحركة شاقّة وكادحة، لا يكفي التوجيه وحده، وإنّما يحتاج الإنسان إلى قُدوة أمامه، يضع خُطاه في موضعِ خُطاه، ويسير من خلفه.

إنّ الحركة الكادحة إلى الله، تختلف عمّا يتلقّاه الطلبة في المعاهد والمدارس من

____________________

(1)طه: 39.

٣٨٠