في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء0%

في رحاب عاشوراء مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 402

في رحاب عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: نشر الفقاهة
تصنيف: الصفحات: 402
المشاهدات: 193925
تحميل: 7246

توضيحات:

في رحاب عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193925 / تحميل: 7246
الحجم الحجم الحجم
في رحاب عاشوراء

في رحاب عاشوراء

مؤلف:
الناشر: نشر الفقاهة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقى عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسولَ الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهادُ النَفْسِ)(1) .

الـمُقارَنة بين الهوى والطاغوت:

والمقارنة هنا بين مكافحة الهوى ومكافحة الطاغوت تُلفِت الانتباه؛ فإنّ العَقَبَة في طريق الإنسان إلى الله عقبتان: الهوى، والطاغوت. وكلاهما يُعيقان طريق الإنسان إلى الله.

وللطاغوت دَور بارز وفاعل ومُؤثِّر في تحدّي الأنبياء ورسالات الله، وإعاقة حركة الأنبياءعليهم‌السلام ، والصراع بين الأنبياء والطاغوت أبرز أحداث التأريخ، بل هو التأريخ، وما عدا ذلك أحداث على هامش التأريخ.

ومع ذلك، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ مواجهة (الطاغوت) من (الجهاد الأصغر)، ومواجهة (الهوى) من (الجهاد الأكبر).

الصِيغة الإيجابيّة للتقوى:

والأداة الـمُفضَّلة والقويّة في مكافحة الهوى ومجاهدة النفس في الإسلام هي التقوى، و (التقوى) هي: ضبط النفس على حدود الله وأحكامه، وتحكيم حدود الله وشريعة الله على تصرّفات الإنسان وتحرّكه وعملِه، وليست التقوى كَبْتاً للنفس، ولا حظراً على الإنسان من الاستجابة لرغبات النفس ومُشتهياتها، وإنّما هي: ضبط النفس فقط على حدود الله من الحلال والحرام، وفرْض سلطان الحدود الإلهيّة على النفس.

ليست التقوى حِرمان النفس من الاستجابة لـمُتطلَّباتها ورغباتها ومُشتهياتِها

____________________

(1)بحار الأنوار: 17 / 116.

٦١

الـمُحرَّمة فقط، وإنّما التقوى قبول سلطان الحدود الإلهيّة، وتحكيمها على النفس، والتمكّن من نزوات النفس ورغباتها، والتحرّر من سلطان الهوى، وانتزاع النفس من قبضة (الأهواء) و (الفِتن).

والتقوى بهذا المعنى معنى إيجابيّ، وهو التمكّن من النفس، والقُدرة على انتزاع النفس من سلطان الأهواء والشهوات، وليس معنىً سلبيّاً، بمعنى ترْك الحرام، وهي بهذا المعنى (الشوط الأوّل لحركة الإنسان إلى الله).

الشوطُ الثاني من حَرَكةِ الإنسان:

والمرحلة الثانية من هذه الرِحلة هي: العروج والصعود إلى الله، والدخول في دائرة ولاية الله تعالى، بعد أن يتمكَّن الإنسان من انتزاع نفسه من محوَر الأنا والذات والهوى.

ولابدّ في الشوطين جميعاً من الطاعة، فهو العنصر الـمُشترَك في كلٍّ مِن هاتين المرحلتين، إلاّ أنّ المرحلة الأُولى تتميَّز بالتحرّر من محوَر الهوى والأنا، والمرحلة الثانية تتميَّز بالتحرّك للدخول في دائرة نفوذ وسلطان ولاية الله، والارتباط بالمحوَر الإلهي.

ومعنى الارتباط بالله: أن يجعل الإنسان تعالى هَدَفاً في كلّ أعماله وتصرّفاته، ويُخلِص في كلّ أعماله لله:( قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ‏ِ رَبّ الْعَالَمِينَ ) ، ويجعل مَرضاة الله محوراً ثابتاً لكلّ حياته وتصرّفاته، ولا يبتغي غير مَرضاة الله شيئاً، وأن يدخل بشكلٍ كامل في دائرة ولاية الله، فلا يكون له رأي أو حُكْم، أو هوىً أو حُبّ أو بُغض أو عمل أو حركة أو كلمة، في غير ما يحكم الله (تعالى) ويُريد.

ويُحِبّ ويُبغض في الله، ويُحَكِّم إرادة الله ومشيئته وحُبّه وبُغضه على قلبه وصدره وعقله، وعواطفه وأحاسيسه وجوارحه وأعضائه، ويتجرَّد عن كلّ صِبغة ورأي وهوى، ويتَّخذ صِبغة الله تعالى صِبغة لنفسه،

٦٢

ويُوجِّه نفسه ورأيه وهواه وحُبّه وبُغضه حيث يُريد الله، ويرضى به الله، ويُمكِّن حُبّ الله من قلبه ونفسه، فلا يكون هناك شيء أحبّ إليه من الله ورسوله.

فلن يكون الإنسان ذائباً في هذا المحوَر الربّاني، ولن يكون إيمانه من الإيمان الكامل، ولن يأمَن عذاب الله ومَكْره، إذا كان هناك في حياته شيء أحبّ إليه من الله ورسوله.( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (1)

ذلك أنّ هؤلاء لم يتمكَّنوا بعدُ من الانتقال من المحوَر الأوّل، ولم يتوفَّقوا في انتزاع أنفسهم من سلطان الآباء والأبناء، والإخوان والأزواج والعشائر، والأموال والتجارة والمساكن، وما زالوا تحت سلطان ونفوذ هذه الـمُغريات والـمُثيرات من مَتاع الحياة الدنيا، وعلاقاتها و (فِتَنِها).

أمّا الّذين آمنوا، والّذين انتزعوا أنفسهم من سلطان الهوى، وارتبطوا بمحوَر الإيمان بالله وولاية الله، فإنّهم أشدّ حبّاً لله من كلّ ذلك.

وهذا هو معنى الانفصال من محوَر الأنا، والانتقال إلى محوَر ولاية الله.( ... وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبّاً للّهِ...‏ ) (2) .

وقد ورَد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (لا يُمَحِّض رجُل الإيمان بالله، حتّى يكون الله أحبّ إليه من نفسه، وأبيه وأُمّه ووُلده وأهله، ومن الناس كلّهم)(3) .

وعن الفُضيل بن يسار قال:سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن الحُبِّ والبُغضِ، أمِن الإيمان هو؟ فقال: (وهل الإيمان إلاّ الحُبّ والبُغض؟!)(4) .

____________________

(1)التوبة: 24.

(2)البقرة: 165.

(3)بحار الأنوار: 70 / 24.

(4)الكافي: 2 / 125.

٦٣

وفي الحديث الشريف:(الدِينُ هو الحُبُّ والحُبُّ هو الدِين)(1) .

ذِكرُ الله للعروجِ إلى الله:

والأداة الـمُفضّلة والـمُؤثِّرة في تحكيم وتوثيق الارتباط بين المؤمنين وبين الله (عزّ وجلّ)، وتعميق الصِلة والعلاقة بين العبد وربّه، وربط الإنسان بهذا المحوَر الربّاني في الحياة، وإخلاص عمله وجهده لله تعالى...

أقول: إنّ الأداة التربويَّة الـمُفضّلة في الإسلام لتحقيق هذه الغاية هي (الذِكر)، وإنّ للذِكرِ دَوراً كبيراً وأساسيّاً في ربط الإنسان بالله، وفي انشداده بهذا المحوَر الإلهي الّذي تحدَّثنا عنه، وفي حركته التكامليّة إلى الله.

فإنّ (الذِكر) هو الصِلة القلبيَّة التي تربط الإنسان بالله، وتجعله على ذِكرٍ منه، ويجعل الإنسان واعياً وشاعراً لحضور الله (سُبحانه وتعالى) بصِفاته وأسمائه الحسنى، ومُستحضراً لعظمة الله وجلاله وجماله، ويُنبّه الإنسان إلى حضور الله، ويزيل عن نفسه الغفلة.

يقول (تعالى):( وَاذْكُر رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ والآصَالِ وَلاَ تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ ) (2) .

ويَعصم صاحبه عن الذنْب. رُوي عن الباقرعليه‌السلام : (ثلاثٌ من أشدِّ ما عمل العباد: إنصاف الـمَرء من نفسه، ومواساة الـمَرء أخاه، وذِكر الله على كلّ حال. وهو أن يذكر الله (عزّ وجلّ) عند المعصية؛ يَهمّ بها، فيَحول ذِكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عزّ وجلّ:( إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ ) ) (3) .

____________________

(1)نور الثَقلين: 5 / 205.

(2)الأعراف: 205.

(3)بحار الأنوار: 93 / 379، والآية في سورة الأعراف: 201.

٦٤

وسِرّ هذه (العصمة) و (الحصانة): أنّ الذِكرَ استحضار لسلطان الله وحضوره الدائم، واستحضار لحضور العبد في كلّ حالاته بحضور الله تعالى، وهذا الإحساس والوعي لحضور الله يُعَمِّق في النفس حالة المراقبة الدائمة والانتباه الدائم، ويحجز الإنسان عن الانزلاق مع الشهوات والأهواء إلى معصية الله تعالى.

عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : (الذِكرُ نور العقول وحياة النفوس وجَلاء الصدور)(1) و (ذِكرُ الله مُجالَسة الـمَحبوب)(2) و (الذِكرُ يُؤنس اللُبّ)(3) .

إذن، (الذِكر) يؤنس الإنسان بالله تعالى ويُشوّقه ويُحبِّبه إليه، ويقرِّب الإنسان من الله، كما يقرِّب الجليس من جليسه ويأنس به، وحاشاه سُبحانه من مُشابَهة خلْقه ومُجالَستهم.

وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ موسى بن عمرانعليه‌السلام لمّا ناجى ربَّه (عزّ وجلّ)، قال: يا ربّ، أبعيدٌ أنت منّي فأُناديك، أمْ قريب فأُناجيك؟ فأوحى الله جلّ جلاله: أنا جليس مَن ذَكرني)(4) .

ومن الذِكرِ الذِكر الخفيّ، ومنه الدعاء والمناجاة، والأذكار الواردة والصلاة.( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (5) .

وفي الحجِّ الكثير من الذِكر، والجهاد لا يتمّ إلاّ بذِكر الله واستحضار صفاته الجلاليّة والجماليّة، والشوق إلى لقاء الله وإيثار لقاءه على الحياة الدنيا.

____________________

(1)غُرر الحِكم: 111.

(2)غُرر الحِكم: 369.

(3)غُرر الحِكم: 101.

(4)بحار الأنوار: 93 / 153.

(5)طه: 14.

٦٥

وعلى نحو الإجمال، فإنّ العبادات في الإسلام تشتمل على الكثير من أبواب الذِكر وألوانه؛ ولأهمّيَّة الذِكر بشكل خاصّ، فقد ورَد الأمر بالإكثار من الذِكر والمداومة على الذِكر في النصوص الإسلاميّة.

يقول تعالى في الإكثار من الذِكر:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (1) .

وفي الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (عليك بتلاوة القرآن وذِكر الله كثيراً، فإنّه ذِكرٌ لك في السماء، ونورٌ لك في الأرض)(2) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (أكثروا ذِكر الله ما استطعتُم، في كلّ ساعة من ساعات الليل والنهار؛ فإنّ اللهَ أمَر بكثرةِ الذِكر له)(3) .

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في داوم الذِكر: (المؤمنُ دائِم الذِكر، كثير الفِكر).

وفي وصيّة الإمام لابنه الحسنعليهما‌السلام : (وكُن للهِ ذاكراً على كلِّ حال)(4) ، وورد في الدعاء: (إلهي فألهِمْنا ذكرك في الخَلأ والـمَلأ، والليلِ والنَهار، والإعلان والإسرار، وفي السَرّاءِ والضَرّاء، وآنِسْنا بالذِكر الخَفيّ)(5) .

وبعد، فهذا هو المنهج العلمي في الإسلام لحركة الإنسان من محوَر (الأنا) إلى (الله)، ويتمّ هذا المنهج ضمن مرحلتين:

المرحلة الأُولى : في الإقلاع عن مِحوَر الذات والهوى، وأداة هذه المرحلة (التقوى).

والمرحلة الثانية : في الارتباط بالمِحوَر الإلهي، والدخول في دائرة ولاية الله، وأداة هذه المرحلة (الذِكر).

____________________

(1)الأحزاب: 41 - 42.

(2)بحار الأنوار: 92 / 198.

(3)بحار الأنوار: 93 / 160.

(4)بحار الأنوار: 42 / 203.

(5)بحار الأنوار: 94 / 151.

٦٦

الـمَنهَجُ الأخلاقيّ في حَرَكَةِ الإنسان إلى الله:

وإلى جَنْب هذا المنهج العملي، هناك منهج تربوي وأخلاقي في الإسلام، يُعين الإنسان - في هذه المرحلة - في الحركة من الأنا إلى الله، ويُسرّع عمليّة الانفصال والانتقال التي تحدَّثنا عنها.

والفصل الأوّل من هذا المنهج، يُعين الإنسان على التغلّب على النفس وأهوائها ونزواتها، مثل: (الإيثار) و (الزُهد) و (الجُود) و (حُسن الظَنِّ)، الّذي يُكافِح حالات: (الحرص) و (الطَمع) و (البُخل) و (سوء الظنِّ) في نفس الإنسان، وغير ذلك من الوسائل الأخلاقيّة الّتي تُمكِّن الإنسان من أهوائه وشهواته.

والفصل الثاني ، يُعين الإنسان على الارتباط بالله، كـ (الشُكر) و (التسليم لله) و (والرضا بأمرِ الله) و (الأُنس بالله) و (الحُبّ)، وما إلى ذلك من أبواب وفصول الأخلاق الّتي تُعين الإنسان على الارتباط بالمحور الإلهي.

وبهذه الطريقة الـمُزدَوَجة (العمليّة - الأخلاقيّة)، يسعى الإسلام لنقل الإنسان من محوَر الأنا إلى محوَر ولاية الله.

ولا يُمكن أن يستغني الإنسان بأحد من المنهجين - العملي أو الأخلاقي - عن الآخر، فإنّ طريق الإنسان في الانتقال من الأنا إلى الله طريق شاقّ عسير وكادِح:( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (1) ، ولا يتيسَّر للإنسان أن يسلك هذا الطريق الكادِح والـمُتعِب، إلاّ بالتنفيذ الكامل لهذا المنهج الإسلامي الـمُزدوَج (المنهج العملي والأخلاقي).

____________________

(1)الانشقاق: 6.

٦٧

واستعينوا بالصَبْرِ والصَلاة:

ومع كلّ هذا الإعداد التشريعي والتربوي للإنسان، فإنّ مشقَّة الطريق وعناء الرحلة، والـمَزالِق الخطرة على الطريق وبُعْد الشُقَّة وطَور الـمُعاناة، والمراصِد الـمَبثوثة للشيطان على امتداد الطريق هنا وهناك، ووُعورَة السَير فيما بين هذين المِحورَين؛ يؤدِّي بالكثير من الناس إلى التباطؤِ والضعف عن مواصلة السَير، وإيثار العافية والراحة على وَعْثاءِ الحَركة والسَير، والتراجع والتساقط أثناء السَير.

ولذلك يأمرنا القرآن الكريم بالصبر والصلاة في هذه المسيرة الكادِحة دائماً:( وَاسْتَعِينُوْا بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) (1) .

الصبر على عناءِ الطريق، ووَعْثاءِ السَفر ومواجَهة المتاعِب، والصلاة والدعاء والاستعانة بالله، والاستمداد من حول الله وقوَّته في هذه المسيرة الصعبة والطريق الطويل.

فإذا استسلم الإنسان للضعف والعَجزِ وحُبّ العافية والراحة، فلن يتمكّن من مواصلة السَير، وإذا اطمأنّ إلى حَوله وقوَّتِه، دون حَول الله وقوَّته، ووَثَقَ بقدرته على الاستمرار في الطريق، دون أن يطلب العَون والـمَدَد في هذا الطريق من الله، فلا يكاد يتمكّن من الاستمرار والـمُضِيّ في هذه الرحلة الكادِحة.

فلابدّ إذن - في هذه المرحلة - من (الصبر) ومن (الصلاة) معاً؛ حتّى يتمكّن الإنسان من الاستمرار والـمُضِيّ على هذا الطريق الطويل.

ضَريبَة الحَرَكَةِ إلى الله:

وبعد، فهذه النُبْذَة إجمال شديد الاختصار لمسيرة الإنسان الكادِحة، من مِحور

____________________

(1)البقرة: 45.

٦٨

(الأنا) إلى محوَر (الله)، والّتي يقول عنها القرآن الكريم:( ... إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) .

وهذه الرحلة يقطعها الإنسان في عناءٍ ومَشقَّةٍ بالِغة:( لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلّ بِهذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (1) ، فقد خلق الله تعالى الإنسانَ لهذه المسيرة الكادِحة في وَسَطٍ من العناء والجُهد والمشقّة والكَبَدِ، ولن ينال الإنسان حظّه من الكمال الّذي أعدَّه الله تعالى له، إلاّ في هذه الرحلة المحفوفة بالابتلاء والعناء والآلام والكَدح.

وليست هذه السُنّة الإلهيّة في الابتلاء خاصّة بهذه الأُمّة دون سائر الأُمم، وإنّما هي سُنّة لله تعالى عامّة، شملتْ مَن قَبْلنا من الأُمم كما شملتنا، وأحاطتْ مسيرتهم بالعناء والابتلاء كما حفَّتْ مسيرتنا:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ... ) (2) .

الشهادةُ اختزالٌ للحَركةِ من الأنا إلى الله:

والشهداء - وهنا نريد أن ننتقل إلى صُلب الموضوع، بعد هذه الجولة الواسعة في مسيرة الإنسان - يقطعون هذه المسيرة بحركةٍ سريعةٍ وقويّةٍ وخفيفةٍ واحدة، بالشهادة والتَضحية، فتنقلهم الشهادة والتضحية مرّة واحدة من محوَر الأنا والهوى إلى محوَر الله.

وتنتزعهم انتزاعاً كاملاً من الأهواء والشهوات، ومن كلّ العلاقات الّتي تربطهم بهذه الدنيا، إلى محوَر ولاية الله نقلةً واحدة من حُبّ النفس وحُبّ الدنيا إلى حُبِّ الله، ومن ولاية الطاغوت إلى ولاية الله، ومن الانهماك في لذَّات الدنيا إلى الاستغراق في رضوان الله تعالى، ومن ألوانِ التَعلُّقات والحُبِّ

____________________

(1)البلد: 1 - 4.

(2)البقرة: 214.

٦٩

والبُغض الّتي تصبغ مشاعر الإنسان في هذه الدنيا، إلى صِبغةِ الله الفريدة.

هذه القفزة السريعة والخفيفة الّتي تنقل الإنسان مرّة واحدة من محوَرٍ إلى محوَر، هي من خصائص الشهادة، والشهيد عندما يُقْدِم على الشهادة، بوَعيٍ وبصيرة من أمرِه، ينتزع نفسه بحركةٍ قويّة وخفيفة واحدة من وَسَطِ كلّ العلاقات والصِلات والأواصر الّتي تشدّه إلى هذه الدنيا، من مالٍ وبنين وزوج، ومتاع الدنيا، ولذّات وشهوات، وجَاه واعتبارات اجتماعيّة، وبحركةٍ واحدة، يقطع كلّ هذه الحبال والخيوط والوشائج الّتي تشدّه إلى الدنيا، ويَخِفّ للصعود إلى الله.

أرأيت المِنطاد عندما تتقطع الحبال التي تشدّه إلى الأرض، كيف يَخِفّ للصعود ويرتفع إلى السماء؟

كذلك الشهيد، لا يُعيقه شيء - بعد أن ينتزع نفسه من وَسَطِ هذه الأواصِر الدنيويَّة - عن التحرّك والصعود إلى الله.

إنّ الشهادة عمليّة مباركة مُزدوَجة: انتزاع النفس من أواصِرها الّتي تشدّها بهذه الدنيا، والّتي قِوامها في هذه النفس، والصعود إلى الله.

ثمّ التحرّك إلى رضوان الله، وقوامه الحُبّ والتسليم والرضا، والطاعة والذِكر واليقين.

نَقْلَةُ الحُرّ (رحمه الله) من مِحوَر الطاغوت إلى مِحوَر الله:

فقد كان الحرّ بن يزيد الرياحي (رحمه الله) قائداً في جيش عُمَرِ بن سعد، وكان يقع تماماً في الجهة الـمُقابِلة للحسينعليه‌السلام ، فانتقل في أحرجِ اللَحظات بحركة سريعة وخاطِفة إلى جبهة الحسينعليه‌السلام .

يقول أصحاب السِيَر: إنّ الحرّ أقبل على عُمَر بن سعد وقال له: أمُقاتِل أنت هذا الرجُل؟

قال: إي والله، قتالاً أيسَره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال: ما لكم فيما عَرَضَه عليكم من الخِصال؟

فقال عُمَر بن سعد: لو كان الأمر إليّ لقَبِلتُ، ولكنّ أميرك (ابن زياد) أبى ذلك

٧٠

فتركه ووقف مع الناس، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس، فقال لقرّة: هل سَقيت فرَسك اليوم؟

قال: لا.

قال: فهل تريد أن تسقيه؟

فظنّ قرّة أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يُشاهده، فتركه، فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟

فسَكَتَ وأخذته الرِعْدَة، فارتاب الـمُهاجر من هذا الحال وقال له: لو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة لَما عدَوتُك، فما هذا الّذي أراه منك؟

فقال الحرّ: إنّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار، والله لا أختار على الجنَّة شيئاً ولو أُحرِقت، ثمّ ضربَ جواده نحو الحسينعليه‌السلام ، مُنْكِساً برأسه حياءً من الحسين، حيث جَعجَعَ بهم في هذا المكان(1) .

هكذا، في لحظات قصيرة وسريعة، وبحركةٍ خفيفة، ينتقل الحرّ من محوَر إلى محوَر، ومن مَوقعٍ إلى موقع مُعاكِس للأوّل تماماً، ويُهاجر من إمارَة جيش عُمَر بن سعد إلى جُند الحسين، ومِن الأنا إلى الله تعالى، وتلك هجرتان تتمّان في اللحظات الأخيرة من حياته، في لحظة قصيرة وسريعة.

نقلةُ زُهير (رحمه الله) من ولايةِ الطاغوت إلى ولايةِ الله:

ومثال آخَر على هذه الحركة السريعة إلى الله تعالى - عِبر الشهادة - هِجرة زهير بن القَيْن (رحمه الله).

فقد كان عُثماني الهوى، ولم يكن هواه مع آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حجَّ البيت في عام (60 هـ) وكان يُسايِر موكب الحسينعليه‌السلام في الطريق إلى العراق، إلاّ أنّه كان يحرص ألاّ ينزل بالقُرْب من خيام الإمام؛ مَخافة الاجتماع به، حتّى انتهتْ قافلة الإمام إلى (زَرود)، فلم يجد زهير (رحمه الله) بُدّاً من أن ينزل بخيامه

____________________

(1)مقتل الـمُقرّم: 265 - 266.

٧١

بالقُرب من خيام الحسينعليه‌السلام .

فأرسل إليه الحسينعليه‌السلام رسولاً يدعوه إليه، وكان زهير مع صَحْبه يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول دعوة الحسين، فطرحوا ما في أيديهم من طعام وكأنّ على رؤوسهم الطير، فأنكرت عليه زوجته - رحمها الله - ذلك، وقالت: (سُبحان الله، يبعث إليك ابن بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه! لو أتيته فسمعتْ كلامه).

فانطلق زهير على كراهيّة منه إلى الإمام، فلم يَلْبث أن عاد مُسرعاً وقد تهلَّل وجهه وامتلأ غِبطة وسروراً، ثمّ أمر بفِسطاطِه وما كان عنده من ثِقْل ومَتاع، فحوَّله إلى خيام الإمام، وقال لزوجته: (أنت طالق)، ثمّ قال لأصحابه: سأُحدّثكم حديثاً:( غزونا (بلنجر)(1) ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، ففرحنا وكان معنا سلمان الفارسي، فقال لنا: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟

فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتُم سيّد شباب آل محمّد، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم)(2) .

وينقلب زهير (رحمه الله)، وينقلب هواه من بَني أُميَّة إلى آل عليّ، وينتزع نفسه من كلّ ما يربطه بهذه الدنيا، حتّى زوجته الّتي أنكرت عليه تباطؤه عن استجابة دعوة الحسينعليه‌السلام ؛ حتّى يستطيع أن يَخفّ للقاء الله.

ولمّا جمع الحسينعليه‌السلام أصحابه وأهل بيته، قُرب المساء قبل مقتله بليلة، فقال لهم: (إنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذِمام، وهذا الليل قد غَشيَكم فاتّخذوه جَمَلاً، وليأخذ كلّ رجُل منكم بيَد رجُلٍ من أهل بيتي

____________________

(1)احتملُ أنّ الكلمة الصحيحة هي (بالبَحْرِ). وقد بدأت عساكر المسلمين في ذلك التاريخ غزوات البحر، ولكنّ الكلمة وردتْ خطأً بأقلام بعض النُسّاخ (بلنجر). وقد وردتْ الكلمة في بعض المصادر (بالبَحْرِ).

(2)حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ، للشيخ باقر القرشي: 3 / 66 - 67. نقلاً عن الإرشاد: 264، وتأريخ ابن الأثير: 3 / 177، وأنساب الأشراف: ق 1 / 1، والدرّ النظيم: 167.

٧٢

وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو أصابوني لذَهِلوا عن غيري).

قال زهير - بعدما سمع كلام الحسينعليه‌السلام -: والله لوَدَدْتُ أنّي قتلتُ، ثمّ نُشرت ثمّ قتلت، حتّى أُقتل كذا ألف مرّة، وإنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك(1) .

هكذا تُحرِّر الشهادةُ الإنسان من كلّ القيود والأواصر الّتي تربطه بالحياة الدنيا مرّة واحدة، وبقوَّةٍ وخِفّة، وتدفعه إلى لقاء الله.

فالشهادة إذن: اختزال شديد، واختصار للطريق بين هذين المحورين. والمسافة التي يقطعها عامّة الناس بتكلُّفٍ وتعثُّر ومَشَقّة، يتعثَّر فيها أُناس ويتساقط فيها آخَرون، ويضعف عن السَير فيها قوم ويقوى عليه آخَرون، يقطعها الشهيد بوَعيٍ وبصيرة، وقوّة وثبات، في لحظات قصيرة وحركة خفيفة، تنتزعه من الدنيا وتعرُج به إلى لقاء الله.

* * *

____________________

(1)مقتل الحسينعليه‌السلام ، للـمُقرّم: 234 - 235.

٧٣

ثأرُ الله

القِيمَة الحَرَكِيَّة للشَهادَة

تحدَّثنا في الفصل السابق بشيءٍ من التفصيل عن القِيمة الذاتيّة للشهيد، ودَور الشهادة في نموِّ وتكامل شخصيّة الشهيد.

والآن نتحدَّث من البُعْدِ الثاني (الأُفقي) للشهادة: (دَور الشهيد في تحريك المجتمع، والقيمة الحركيّة للشهادة في حياة الأُمّة).

ونبدأ حديثنا عن الشهيد من مادّة اشتقاق هذه الكلمة، ومنها نسترسل في الحديث عن دَور الشهيد في تحريك المجتمع.

(الشاهد) و (الشهيد) بمعنى واحد تقريباً، فإنّ الشاهد اسم الفاعل من هذه الكلمة، والشهيد فَعيل بمعنى الفاعل، كالنصير والناصر.

وَقْفَة عند اشتقاق كلمة (الشهيد):

وأصل الاشتقاق في هذه الكلمة: (الشهود) و (الشهادة)، وهما بمعنى: الحضور؛ يُقال: شَهِدَ المعركة، أي: حضرها، وفي المصطلح الشرعي، الشهادة تُستعمَل في معنيَين:

1 - تحمّل (الشهادة): بمعنى الحضور والرؤية؛ فإنّ الشخص الّذي يحضر

٧٤

وَقْعَة ويراها عن قُرب، رؤيّة حسّية واضحة، يتحمَّل مسؤوليّة هذا الحضور والرؤية، فإذا حضر جريمة وشَهِدَها، تحمَّل مسؤوليّة هذه الرؤية والشهادة، وكأنّما تُحمِّله هذه الشهادة مسؤوليّة شرعيّة يجب عليه أن يُبرئ ذمّته منها.

2 - أداء الشهادة: وهذا المعنى شائع أيضاً في استعمالات الشهادة، فإذا بلّغ الشاهد ما شَهِدَه، أدّى ما تحمَّله من مسؤوليّة الشهادة، ولا يتحلّل الشاهد من مسؤوليّة الشهادة حتّى يُؤدِّيها ويُبلّغها.

والشهادة بهذا المعنى هي معيار ومِلاك الحُكمِ للقاضي، إذا كان الشاهد عدلاً.

ففي كلّ واقعة يختلف فيها الأطراف، قد يَجْنَح فيها بعض الأطراف أو كلّ الأطراف عن الحقّ، فيأخذ القاضي بشهادة الشاهد، فإنّ أمانة الأداء تتطلَّب منه أن يُؤدِّي ما رآه بالحسِّ من الواقعة، ويعتبر القاضي هذه الشهادة مِلاكاً للقضاء، ويَحكم بموجِبها - إذا تمَّت الشهادة بالموازين الشرعيّة -، فيكون الشاهد بهذا المعنى مِلاكاً للحُكْمِ ودليلاً عليه.

الشهيدُ مِقياسٌ للتَقييم:

واحتُمل أن تكون تَسْمِية الشهيد بالشهيد مُتأثرةً بالمعنى الثاني، وهو أداء الشهادة؛ فإنّ (الشاهد) و (الشهيد) يُستعملان بمعنى الدليل والميزان، والمِعيار والمقياس الذي نَزِن به الأحكام والأُمور كثيراً.

وهو معنى قريب من المعنى الثاني للشهادة، الذي أشرنا إليه قريباً.

والقرآن، وإن كان لم يستعمل هذه الكلمة في معناه الـمُصطلَح، إلاّ أنّه استعمل هذه الكلمة في هذا السِياق بالذات.

يقول تعالى:( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً

٧٥

لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... ) (1) .

وهذه الآية تُصرِّح بأنّ الأُمّة المؤمنة بالله - الـمُعتدِلة - شهيدة على الناس، والرسول شهيد على هذه الأُمّة.

فماذا يُمكن أن يكون معنى الشهيد - في هذه الآية الكريمة - في الشهادتين جميعاً، شهادة الأُمّة المؤمنة على الناس، وشهادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الأُمّة؟

وبأيِّ مِلاك تكون هذه الأُمّة شهيدة على الناس جميعاً، ويكون الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شهيداً عليها؟

أعتقد أنّ الإجابة على التساؤل الثاني يفتح الطريق للإجابة على السؤال الأوّل.

إنّ المِلاك الذي جعل هذه الأُمّة شهيدة على سائر الناس هو الاعتدال والوسطيَّة، وعدم الجنوح إلى اليمين واليسار، وهذا الاعتدال والوسطيّة يُؤهِّلها لتكون شهيدة على الناس.

ونفس المِلاك - بالتأكيد وبدلالة السِياق - هو السبب في شهادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على الأُمّة، وهذا التفسير واضح من متْن الآية الكريمة:( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ... ) .

إذن، سرُّ الشهادة كامِن في حالة الاعتدال والوسطيّة بالذات، وهذه الحالة هي الّتي تُؤهِّل الأُمّة لكي تكون شهيدة على الناس.

إنّ الناس يَجنحون لليمين واليسار في الأكثر، وترى هذه الكُتَل البشريّة تمتدّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتتلاعب بهم أمواج الفِتَنِ، والشهوات والأهواء، والانفعالات النفسيّة والمصالِح والعواطِف، في اتّجاهاتٍ شتّى، ولابدّ لهذه الكُتَل البشريّة التائهة والضائعة في هذا الخِضَمّ البَشري الواسع، من (مَعالِم مَحسوسَة وملموسة) في الطريق، تستهدي بها، وتُميِّز بها الصحيح من السَقيم،

____________________

(1)البقرة: 143.

٧٦

والاستقامة من الاعوِجاج والهُدى من الضلال، كما لابدّ لها من (كتابٍ) ووَحْيٍ وشريعة وتعاليم، ولا يُغنِي أحدهما عن الآخَر.

لابدّ لها من تعاليم ودروس وتوجيهات، ولابدّ لها كذلك من مَعالم ملموسة وقائِمة على الطريق.

والخاصيّة المطلوبة في هذه المعالم: أن تكون مُعتدلَة ومتوسّطة وعلى الطريق تماماً، ليس على اليمين ولا على اليسار، ولا تَجنح إلى يمين أو يسار.

وعند ذلك يمكن أن تكون (مَعالِم) على الطريق، يَهتدي الناس بمواقعِهم ومواقفهم قبل أن يهتدوا بكلامهم وتوجيهاتهم.

فمِن الناس مَن يكون موقفه وموقعه حُجَّة على الآخَرين، فيهتدي الناس بمواقفه ومواقعه وأعماله كما يهتدون بكلامه ورأيه وتوجيهه، وهؤلاء هُم (القدوات) في حياة الناس و (معالم الطريق) على الطريق، وهؤلاء سكوتهم وكلامهم، وحركتهم وسكونهم، وغضبهم وثورتهم وقيامهم وقعودهم، قُدْوة للآخَرين وحُجّة عليهم.

وهؤلاء هُم الشهداء؛ لأنّهم مقاييس للآخرين ومعالم على الطريق، ومعايير للحُكم وللحقِّ، كما يكون (الشاهد) معياراً للقاضي في معرفة الحقّ من الباطل، وتمييز الصحيح من السقيم، وفَرْز الرَديء عن الجيّد.

هذه الأُمّة شهيدة على سائر الأُمم:

وبهذا المعنى، فإنّ هذه الأُمّة - بما هداها الله تعالى إلى الوَسط من الطريق، وبما منحها الله من الاعتدال في الرأي والحياة - شهيدة على سائر الناس وقُدوة لهم، ومَعلَم على الطريق، ومقياس للناس في تصحيح أعمالهم وحركاتهم.

إنّ هذه الأُمّة - المتوسّطة - تصلح لأن تكون المقياس الذي يقيس به الناس أنفسهم، ويُصحِّحون به أعمالهم وتحرّكاتهم.

٧٧

لقد أراد الله تعالى لهذه الأُمّة أن تكون قدوة للناس جميعاً، وأن تكون شهيدة على الناس جميعاً، ومَعْلَماً على طريق الناس، وأن تكون أفعالهم ومواقعهم مثالاً ونموذجاً للناس جميعاً، والّذي يُؤهّل هذه الأُمّة لهذا الموقع الرائد هو الاعتدال والتَوسّط في التفكير والعمل. (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ).

وكما أنّ الله تعالى أراد لهذه الأُمّة أن يكون لها موقع السيادة والقيادة والحاكميّة على وجه الأرض وعلى الناس، كذلك أراد الله تعالى لهذه الأُمّة أن يكون لها موقع القدوة والرِيادَة على وجه الأرض وبين الناس.

ورَسول الله شاهِد على هذه الأُمّة:

وبنَفْسِ المِلاك، فإنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يحتلّ موقع القدوة والريادة من هذه الأُمّة:( ... وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً... ) ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... ) (1) ، كما يحتلّ موقع القيادة والإمامة والحاكميّة من حياة هذه الأُمّة:( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ... ) (2) ، هذا إلى موقع التبليغ والرسالة:( ... وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (3) .

عَودة إلى مُصطلَح (الشهيد):

والآن نعود إلى الشهيد في الـمُصطلَح الإسلامي، ضِمن هذه الصورة القرآنيّة.

____________________

(1)الأحزاب: 21.

(2)الأحزاب: 6.

(3)الحشر: 7.

٧٨

فالشهيد ضمن هذا التصوّر يُعتبَر مقياساً في حياة الأُمّة، يقيسون به أنفسهم، وأساساً لمعرفة الحقّ والباطل وتمييز الرديء عن الجيّد.

إنّ الشهيد تَبَلْوُرٌ للصِدق والعطاء والوعي والبصيرة، يقيس به الناس أنفسهم، وعطاءهم ووَعْيهم، وصِدقهم وبصيرتهم واستقامتهم و...، والشهيد الـمَثَل الأعلى دائماً في حياة الناس، وهو القمّة في كلّ ذلك.

التوجيه بـ (التثقيف) و (القدوة):

لابدّ في هذه المسيرة الربّانيّة على وجه الأرض وفي حياة الناس من (قدوات)، للاقتداء والتأسّي، كما لابدّ من مُعلِّمين ومُوجّهين للتعليم والتوجيه والتثقيف، ولا يُغنِي أحدهما عن الآخَر. فإنّ التحرّك على طريق ذات الشوكة يُكلّف الإنسان الكثير، ويتطلَّب منه العناء والعطاء والتضحية والصدق، ولا يتيسَّر للإنسان أن يتجرَّد لهذه المسيرة الإلهيّة بسهولة ويُسْر.

ولابدّ من توجيه وإعداد وتربية، وتثقيف مُركَّز للدُعاة إلى الله تعالى، وللمؤمنين عامّة؛ ليتمكّنوا من مواصلة السَير والاستمرار على الطريق، ولئلاّ يتيهوا في متاهات الطريق، ويخضعوا لإغراءات الشيطان ومزالِق النفس.

وهذا الإعداد والتوجيه يتمّ على شَكلين، هما:

1 - (الإلقاء) والتَثقيف.

2 - (القُدوة).

ولا تقلّ قيمة التوجيه والإعداد بـ (القدوة) عن قيمة التوجيه والإعداد بـ (التثقيف).

والقرآن الكريم يُشير إلى كلّ من هذين النحوَين من التوجيه، يقول تعالى:( هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ

٧٩

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) .

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتلو على الناس آيات الله ويُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة، وهذا يدخل في حقِّ التعليم والتثقيف، وهو الشطْر الأوّل من شطْرَي عمليّة الإعداد.

والشطْر الآخَر هو: التربية بـ (القدوة الصالحة) على طريق ذات الشوكة.( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

إنّ دَور (التثقيف) في إعداد الناس هو دَور التوجيه و (الدلالة)، بينما دَور القدوة هو دَور القيادة إلى الله تعالى.

الـمُعلِّم الـمُربِّي يدلُّك إلى الله تعالى دلالة، بينما (القدوة الصالحة) يأخذك معه إلى الله.

وإنّ الإنسان ليُعطي للـمُعلِّم سَمْعَه وعَقله، ولكنّه عندما يجد قدوة صالحة، يُعطيه سَمْعَه وعقله وقلبه جميعاً، ويُمكِّنه من عقله وقلبه لِيَقوده إلى الله تعالى.

القدوة والأُسوة على طريق ذات الشَوكة:

إنّ حضور القدوة الصالحة على أرض المعركة ينفع العاملين في أمرَين، يأخذون منهم صبرهم وجهادهم وعطائهم، وتَرَفُّعهم عن الدنيا من جانب، ومن جانب آخَر يشهدون إمداد الله تعالى لهم، وتمكينهم من الـمُجابَهة، وتثبيتهم على أرض المعركة، ويشهدون مَعِيَّة الله تعالى لهم.

وهذه الإيحاءات الرساليّة التي تُعطيها حياة القدوات الصالحة، لا تتأتّى دائماً من الدرس والتعليم.

إنّ (القدوة الصالحة) تُوَطِّئ طريق ذات الشوكة الطويل للعاملين والسائرين، فعلى رأس كلِّ مُنعطَف وعند كلّ صعود وهبوط، وعند ملتقى كلّ طريق،

____________________

(1)الجمعة: 2.

٨٠