المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية0%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 180902
تحميل: 6431

توضيحات:

المذاهب الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180902 / تحميل: 6431
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عقائد الوهابية

4

حرمة التوسّل بالأنبياء والصالحين

يعتبر التوسّل بأولياء الله وأحبّائه من المسائل المعروفة بين المسلمين في أنحاء العالم كافّة، وقد وردت أحاديث كثيرة في جوازه واستحبابه، فهو ليس ظاهرة غريبة؛ بل هو أمر ديني تعارف عليه المسلمون منذ فجر الإسلام حتّى هذا اليوم، ولا تجد مسلماً ينكره.

وطوال أربعة عشر قرناً لم ينكره أحد سوى ابن تيميّة وتلاميذه في القرن الثامن الهجري، وبعد قرنين جاء محمّد بن عبد الوهّاب فاعتبر التوسّل بأولياء الله بدعة تارة وعبادة للأولياء أُخرى.

فنقول: إنّ القرآن الكريم حثّ المسلمين على الإتيان إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وطلب الاستغفار منه، وهو نوع توسّل بدعاء النبيّ في حياته، قال سبحانه: ( وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ) (1) .

____________________

(1) النساء: 64.

٣٢١

وقال سبحانه: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رُسُولُ اللّهِ لَوّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (1) .

وقال سبحانه ناقلاً عن أبناء يعقوب: ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ ) (2) .

ولأجل هذا قبل الوهّابيّون التوسّل بدعاء النبيّ في حال حياته، وإنّما يمنعون موردين آخرين:

1 - التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحيله.

2 - التوسّل بذات النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وجاهه وحرمته مطلقاً، سواء أكان النبيّ حيّاً أم ميّتاً.

وليس لهم دليل صالح على المنع، مع أنّ الأدلّة تؤيّد كلا التوسّلين، فإليك دراسة التوسّل بمقام النبيّ وذاته وجاهه وحرمته، ثُمَّ دراسة التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحيله.

التوسّل بذات النبيّ ومنزلته:

إنّ الدعاء الّذي علّمه النبيّ للضرير جاء فيه التوسّل بذات النبيّ وقدسيّته، والحديث من الأحاديث الصحاح الّتي اعترف بها حتّى ابن تيميّة.

روى عثمان بن حنيف أنّه قال:

____________________

(1) المنافقون: 5.

(2) يوسف: 97.

٣٢٢

إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: ادع الله أن يعافيني.

فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرتَ وهو خير».

قال: فادعه!، فأمره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يتوضّأ فيحسن وضوءه، ويصلّي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء:

«اللَّهُم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهم شفّعه فيّ».

قال ابن حنيف: والله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا كأنّه لم يكن به ضر. (1)

إنّ دلالة الحديث على أنّ النبيّ أمر الضرير أن يتوسّل بنفس النبيّ، وفي الحقيقة أنّ حرمته ومكانته عند الله واضحة، وإليك بيانها:

1 - (اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك):

إنّ كلمة (بنبيّك) متعلّقة بفعلين: (أسألك) و(أتوجّه إليك)، والمراد من النبيّ نفسه المقدّسة وشخصه الكريم، لا دعاؤه.

إنّ من يقدّر كلمة (دعاء) قبل لفظ (نبيّك) ويصوّر أنّ المراد: أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك، فهو يتحكّم بلا دليل، ويؤوّل بلا جهة، ولو أنّ محدّثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهميّة والقدريّة.

____________________

(1) سنن ابن ماجة: 1/444، برقم 1385، مسند أحمد: 4/138.

٣٢٣

2 - (محمّد نبيّ الرحمة):

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وشخصه جاء بعد كلمة (نبيّك) جملة (محمّد نبيّ الرحمة)، لكي يتّضح الهدف بأكثر ما يمكن.

3 - (يا محمّد إنّي أتوجّه إلى ربّي):

إنّ هذه الجملة تدلّ على أنّ الرجل اتّخذ النبيّ نفسه وسيلة لدعائه، أي انّه توسّل بذات النبي لا بدعائه.

4 - (وشفّعه فيّ):

قوله هذا معناه: يا ربّ اجعل النبيّ شفيعي وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي.

التوسّل بدعاء النبيّ والصالحين بعد رحيلهم:

من أقسام التوسّل الرائجة بين المسلمين هو التوسّل بدعاء النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الصالحين بعد رحيلهم.

ولكن ثمّة سؤالاً يطرح نفسه، وهو:

إنّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حيّاً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو الله سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سؤالك، أمّا إذا كان

٣٢٤

المستعان به ميّتاً، فكيف يصحّ التوسّل بمن انتقل إلى رحمة الله وهو لا يسمع؟

والجواب: إنّ الموت - حسب ما يوحي به القرآن والسنّة النبويّة - ليس بمعنى فناء الإنسان وانعدامه؛ بل معناه الانتقال من دار إلى دار، وبقاء الحياة بنحو آخر والّذي يعبّر عنه بالحياة البرزخيّة.

وقد استوفينا الكلام في هذا الموضوع من كتابنا (بحوث قرآنيّة في التوحيد والشرك). (1)

____________________

(1) بحوث قرآنيّة في التوحيد والشرك: 116.

٣٢٥

عقائد الوهابية

5

حرمة طلب الشفاعة من النبيّ

اتّفقت الأُمّة الإسلاميّة على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب والسنّة النبويّة وأحاديث العترة الطاهرة، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصيّاتها.

وأجمع العلماء على أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أحد الشفعاء يوم القيامة، إلاّ أنّ الكلام في المقام هو في طلب الشفاعة من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهل يجوز أن نقول: يا رسول الله اشفع لنا عند الله، كما يجوز أن نقول اللّهم شفّع نبينا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فينا يوم القيامة، أو لا يجوز؟

فلنذكر نصّ محمّد بن عبد الوهّاب في هذا الصدد:

إنّ طلب الشفاعة يجب أن يكون من الله لا من الشفعاء بأن يقول:

اللّهم شفّع نبيّناً محمّداً فينا يوم القيامة، أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك أو نحو ذلك ممّا يُطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا وليّ الله أسألك الشفاعة أو غيرها ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله، فإذا طلبت ذلك في أيّام البرزخ كان ذلك من أقسام الشرك. (1)

____________________

(1) الهديّة السنية: الرسالة الثانية: 42.

٣٢٦

يلاحظ عليه: أنّ شفاعة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وسائر الشفعاء هي الدعاء إلى الله وطلب المغفرة منه سبحانه للمذنبين، والله سبحانه أذن لهم في الدعاء في ظروف خاصة، فيستجاب فيما أذن، وهم لا يدعون في غير ما أذن الله لهم.

وعلى هذا فالشفاعة هي دعاء الشفيع للمذنب، وطلب الشفاعة منه هو طلب الدعاء منه، وقد سمّي في الأحاديث: دعاء المسلم لأخيه المسلم شفاعة له.

هذا هو انس بن مالك يقول: سألتُ رسول الله يشفع لي يوم القيامة قال: «أنا فاعل...» (1) . ولو كان طلب الشفاعة شركاً، لزجره عنه.

روى مسلم في صحيحه، عن ابن عبّاس، عن النبيّ، أنّه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله إلاّ شفّعهم الله فيه». (2)

دليل الوهّابيّين على حرمة طلب الشفاعة:

قد مرّ آنفاً أنّ طلب الشفاعة ليس إلاّ طلب الدعاء من الشفيع الّذي تُستجاب دعوته إذا أذن الله سبحانه، غير أنّ للوهّابيّين شبهة ربَّما يغترّ بها البسطاء؛ وهي أنّ المشركين كانوا يطلبونها من أصنامهم، فسمّى الله طلب الشفاعة منهم عبادة لهم، فيكون طلب شفاعة المسلم من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عبادة له، يقول سبحانه: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ إِتُنَبّؤُنَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السّماوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (3) .

____________________

(1) تاريخ ابن عساكر: 9/360، لاحظ ذيل الحديث.

(2) صحيح مسلم: 3/54.

(3) يونس: 18.

٣٢٧

والشاهد في قوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) ، مع ملاحظة ما في ذيل الآية: ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) ، وكان وجه عبادتهم لهم هو قولهم: ( هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا ) . (1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ظاهر الآية أنّهم كانوا يقومون بأمرين:

أ - كانوا يعبدونهم؛ ويدلّ عليه قوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) .

ب - يعتقدون بشفاعتهم، وبالتالي يطلبون منهم الشفاعة؛ ويدلّ عليه قوله ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا ) .

والعطف يدلّ على المغايرة؛ بمعنى أنّ هنا عبادة، وأنّ هناك أمراً آخر وهو طلب الشفاعة، فما هذا الخلط؟!

والحاصل: إنّ عبادتهم للأوثان شيء وطلب الشفاعة شيء آخر، وإلاّ لما عَطف الثانية على الأُولى.

وثانياً: نفترض أنّ عبادتهم للأوثان كانت متحقّقة بطلب الشفاعة منهم، ولكن هناك فرق بين طلب شفاعة المشرك من الأوثان وطلب شفاعة المسلم من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فالمشرك كان يطلب الشفاعة من الوثن معتقداً بأنّه إله فُوِّض إليه أمر الشفاعة، وأمّا المسلم فكان يطلب الشفاعة معتقداً بأنّ النبيّ عبد مقرّب تستجاب شفاعته إذا أذن الله.

أفهل يمكن جعل القسمين على حدٍّ سواء؟!

____________________

(1) مجموعة الرسائل والمسائل: 1/15.

٣٢٨

عقائد الوهابية

6

حرمة النذر للأنبياء والأولياء

ذهبت الوهّابيّة تبعاً لابن تيميّة إلى حرمة النذر للأنبياء والأولياء؛ يقول ابن تيميّة: وإذا كان الطلب من الموتى - ولو كانوا أنبياء - ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور أو لسكان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان. (1)

أقول: يجب تفسير النذر شرعاً كي يتّضح الفرق بين نذر المشركين للأوثان والأصنام ونذر المسلمين للأنبياء والأولياء، فالمشابهة بينهما مشابهة لفظيّة وبينهما بون شاسع، فالنذر معناه أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقّق هدفه وقُضيت حاجته، فيقول: لله عليَّ أن... ويذكر نذره إذا كان... ويذكر حاجته.

مثلاً يقول: لله عليَّ أن أختم القرآن إذا نجحت في الامتحانات الدراسيّة.

هذا هو النذر الشرعي، ويجب أن يكون لله فقط، فإذا قال الناذر: نذرت لفلان، ففي قوله مجاز، والمعنى: نذرت لله على أن يكون ثوابه لفلان، وثواب النذر يقع على ثلاثة أقسام:

____________________

(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: 103.

٣٢٩

1 - أن يكون الثواب لنفس الإنسان الناذر.

2 - أن يكون لشخص حيّ.

3 - أن يكون لشخص ميّت.

فقد يخصّص الإنسان الناذر ثواب نذره لنفسه، أو لشخص حيّ - واحد كان أو أكثر ـ، أو لشخص ميّت واحد كان أو أكثر.

وهذه الأقسام الثلاثة كلّها جائزة، ويجب على الناذر الوفاء بنذره إذا قُضيت حاجته.

وقد تعارف بين المسلمين النذر لله وإهداء ثوابه لأحد أولياء الله وعباده الصالحين.

وهذه السيرة موجودة عبر القرون إلى يومنا هذا، ولم يقدح فيها إلاّ ابن تيميّة ومن تبعه؛ محتجّاً بأنّ عمل المسلمين كعمل المشركين، يقول ابن تيميّة:

من نذر شيئاً للنبيّ أو غيره من النبيّين والأولياء من أهل القبور، أو ذبح ذبيحة، كان كالمشركين الّذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير الله، فيكون بذلك كافراً. (1)

يُلاحظ عليه: وجود الفرق بين النذرين، فإنّ المشركين ينذرون للأصنام والأوثان فيكون المنذور له هو آلهتهم المزعومة، وأمّا المسلمون فإنّما ينذرون لله سبحانه؛ فيقول الناذر: لله عليَّ إن نجحت في امتحاني أن أذبح شاة للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، واللاّم في قوله (لله) يقصد بها وجه الله سبحانه، وأمّا اللاّم في قوله للنبيّ يقصد بها انتفاع النبيّ بإهداء ثوابه إليه، وابن تيميّة زعم أنّ اللاّم في قوله للنبيّ نفسها اللاّم

____________________

(1) فرقان القرآن، العزامي: 132.

٣٣٠

في قوله لله، ولم يفرّق بين المضمونين، وأنّ اللام في الأوّل للغاية وفي الثاني للانتفاع، وقد ورد في الحديث أنّ سعداً سأل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أيُّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟، فقال:«الماء».

فحفر بئراً، وقال: هذه لأُمّ سعد. (1)

واللاّم في قوله: (هذه لأُمّ سعد) هي اللاّم الداخلة على الجهة الّتي وجّهت إليه الصدقة، لا على المعبود المتقرَّب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين فهم سعديّون لا وثنيّون.

يقول الخالدي ردّاً على ابن تيميّة: إنّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين، وإنّما الأعمال بالنيّات، فإن كان قصد الناذر الميّت نفسه، والتقرّب إليه بذلك، لم يجز - قولاً واحداً، وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء - بوجه من الوجوه - به، وإهداء ثوابه لذلك المنذور له - وسواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه، وكان هناك ما يطرد الصرّف فيه في عرف الناس، أو أقرباء الميت، أو نحو ذلك - ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور. (2)

ومن وقف على أحوال الناذرين يجد أنّهم ينذرون لله تعالى ولرضاه ويذبحون الذبائح باسمه عزّ وجلّ، لكن بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها وانتفاع الفقراء بلحومها، فلو قالوا: هذا نذر للنبيّ؛ أيّ هذا النذر لله سبحانه لغاية انتفاع النبيّ به بإهداء ثوابه إليه، فاللاّم في قوله للنبيّ كاللاّم في قوله: ( إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) (3) .

____________________

(1) سنن أبي داود: 2/130 برقم 1681، باب في فضل سقي الماء.

(2) صلح الإخوان، الخالدي: 102.

(3) التوبة: 70.

٣٣١

عقائد الوهابية

7

حرمة التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين

تعتقد الوهّابيّة بأنّ التبرّك بآثار أولياء الله شرك بالله، وتعتبر الّذي يُقّبل محراب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومنبره مشركاً وإن لم يأت بذلك بنيّة العبادة؛ بل كانت المحبّة والمودّة تجاه النبيّ الكريم هي الدافع له إلى التبرّك والاستشفاء بآثاره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

إنّ المنع من التبرّك بآثار الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف هو من أشدّ الإجراءات الّتي يتّخذها الوهّابيّون ضدَّ المسلمين، وقد استخدموا مجموعة من الشرطة الإرهابيّين باسم (الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر) ووزّعوهم في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للحيلولة دون تقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف ومحراب مسجده المبارك، وهؤلاء الوهّابيّون يواجهون المسلمين الحجّاج بكلّ خشونة وصلافة ويمنعونهم عن التبرّك والتقبيل، وطالما أمسكوا بأيديهم العصا أو الأسلاك الغليظة، وطالما أراقوا في هذا السبيل دماء الأبرياء وهتكوا الأعراض والنواميس في حرم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) زعماً منهم أنّ التبرّك والتقبيل عبادة لصاحب القبر!!

٣٣٢

القرآن والتبرّك:

إنّ النبيّ يوسف (عليه السّلام) أرسل قميصه إلى أبيه، وقال لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا وأُلقوه على وجهه يرتدّ بصيراً. يقول سبحانه حاكياً عن النبيّ يوسف: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (1) .

ثُمَّ يقول: ( فَلَمّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى‏ وَجهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً ) (2) .

فالآية صريحة بجواز التبرّك بآثار الأنبياء والأولياء حتّى لنبيّ آخر، فهذا النبيّ يعقوب يتبرّك بقميص النبيّ يوسف (عليه السّلام)، ومن الواضح أنّ الشفاء من الله سبحانه، فهو المؤثّر في الأشياء، إلاّ أنّ التبرّك بالقميص صار وسيلة للشفاء كما يكون الدواء كذلك بإذن الله تعالى.

التبرّك وسيرة المسلمين:

إنّ إلقاء نظرة سريعة على سيرة المسلمين بدءاً من الصحابة وانتهاءً إلى عصرنا الحاضر يكشف لنا عن السنّة الجارية بينهم، وهي التبرك بآثار النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الشريفة.

قال ابن حجر: كلّ مولود ولد في حياة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يُحكم بأنّه رآه. وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للتحنيك والتبرّك، حتّى قيل: لمّا افتُتحت مكّة جعل أهل مكّة يأتون إلى النبيّ بصبيانهم ليمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة. (3)

____________________

(1) يوسف: 93.

(2) يوسف: 96.

(3) الإصابة: 3/631.

٣٣٣

إنّ النهي عن التبرّك بالضريح النبويّ الطاهر وآثار رسول الله كان من دأب الأمويّين، لا سيّما مروان بن الحكم اللّعين ابن اللّعين على لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

أخرج الحاكم في (المستدرك) عن داود بن صالح، قال:

أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته ثُمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم، إنّي لم آت الحجر؛ إنّما جئت رسول الله ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقول: «لا تبكوا على الدِّين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا على الدِّين إذا وليه غير أهله». (1)

هذا وقد نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبيّ ويتبرّك بمسّه ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا، يريد بذلك التقرّب إلى الله عزّ و جلّ، فقال: لا بأس بذلك. (2)

وقد روى ابن تيميّة في (الجواب الباهر) تقبيل منبر النبيّ عن ابن عمر. (3)

روى أبو بكر بن أبي شيبة في (المصنّف)، عن زيد بن الحباب، قال: حدّثني أبو مودود، قال: حدّثني يزيد بن عبد المطلب بن قسيط، قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك. (4)

____________________

(1) المستدرك: 4/515.

(2) العلل ومعرفة الرجال: 2/492، برقم 3243.

(3) الجواب الباهر: 31.

(4) المصنف: 4/357، برقم 537، باب في مسّ منبر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

٣٣٤

إلفات نظر:

إنّ محقّق كتاب (العلل ومعرفة الرجال) لمّا كان من المتحمّسين لآراء ابن تيميّة ورأى أنّ ما نقله عن ابن شيبة يمسّ كرامة إمام مسلكه حاول أن يفسّر الرواية على نحو لا يمسّ كرامة المذهب؛ فقال:

وهذا [قوله: تقبيل رمّانة المنبر] كان لمّا كان منبره الّذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعيّة مسحه تبرّكاً به.

وأمّا جواز مسح قبر النبيّ والتبرّك به، فهذا القول غريب جداً، لم أجد أحداً نقله عن الإمام.

وقال ابن تيميّة في الجواب الباهر لزوّار المقابر: اتّفق الأئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ ولا يقبّل، وهذا كلّه محافظة على التوحيد.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ التفريق بين المنبرين: المنبر الّذي لامس جسمه الشريف والمنبر الّذي لم يلامسه يُضادّ أُصول الوهّابيّة، فإنّهم لا يرون لما سوى الله سبحانه تأثيراً وعلّية وما شابه ذلك، فلو قلنا بأنّ لجسمه الشريف الملامس للمنبر تأثيراً في المنبر فهو على طرف النقيض من توحيد الربوبيّة.

و ثانياً: لو كان التبرّك منوطاً بملامسة جسم النبيّ فلماذا وصّى الشيخان بدفنهما في حجرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، مع أنّ القبر الّذي دُفنا فيه لم يمسّ بترابه جسم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

و ثالثاً: كيف ينكر مسّ قبر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويقول: اتّفق الأئمّة على أنّه لا

٣٣٥

يُمسّ قبر النبيّ ولا يُقبّل، مع أنّ الصحابي العظيم مضيف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان

يمسّ قبر النبيّ على رؤوس الأشهاد، وقد منع عنه مروان بن الحكم مناوئ النبيّ وأهل بيته.

٣٣٦

عقائد الوهابية

8

حرمة تكريم مواليد أولياء الله ووفيّاتهم

إنّ من المنكرات والبدع عند ابن تيميّة وابن عبد الوهّاب هو تكريم مولد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالاحتفال وقراءة القرآن وإنشاد القصائد والأشعار، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام، إلى غير ذلك ممّا يُعدّ مجالي لحبّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتكريمه ورفعه، كما رفعه الله سبحانه، وقال: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (1) .

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:

وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور الّتي تُعبد من دون الله، ويسمّونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لِمَا يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة. (2)

وقال محمد حامد الفقّي: والمواليد والذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء، هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم. (3)

إنّ السبب الرئيسيّ من وراء كلّ هذه الانحرافات هي أنّ الوهّابيّين لم

____________________

(1) الانشراح: 4.

(2) قرّة العيون: 154.

(3) تعليق فتح المجيد: 154.

٣٣٧

يحدّدوا معنى التوحيد والشرك والعبادة حتّى الآن، وبالتالي يعتبرون كلّ تكريم لأولياء الله عبادة لهم وشركاً بالله، وحتّى أنّ المؤلف الوهّابي (الفقّي) خبط خبطة عشواء فقرن بين كلمتي العبادة والتعظيم، وقد ذكرها كأنّهما مترادفان، ظنّاً منه أنّ المعنى فيهما واحد.

فالعبادة عبارة عن التعظيم أمام من يُعتقد بألوهيّته وربوبيّته، سواء أكان خالقاً للعالم أو كان مخلوقاً لكن فُوِّض إليه تدبيره، وبكلمة موجزة، إمّا أن يكون إلهاً حقيقيّاً أو إلهاً مزعوماً فُوِّض إليه أفعال الإله الحقيقي، وأمّا احترام الإنسان بما أنّه من عباد الله الصالحين، فهو تكريم له لا عبادة؛ وإلاّ لَمَا أمكن تسجيل اسم أحد في ديوان التوحيد لو فسرنا العبادة بالتكريم والتعظيم.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين لتعظيم النبيّ؛ ويقول: ( فَالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) . إنّ الكلمات الواردة في هذه الآية هي:

1 - ( آمَنُوا بِهِ ) .

2 - ( عَزّرُوهُ ) .

3 - ( نَصَرُوهُ ) .

4 - ( اتّبَعُوا النّورَ ) .

والمراد من قوله عزّروه هو التكريم والتعظيم، فالله سبحانه يريد أن يكون

____________________

(1) الأعراف: 157.

٣٣٨

حبيبه المصطفى معظّماً ومكرّماً حتّى الأبد، وهذه الاحتفالات تجسيد لقوله سبحانه ( وَعَزّرُوهُ ) .

إنّ من أُصول الإسلام هو حبّ النبيّ، دلّت عليه الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، يقول سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (1) .

1. وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ إليه من والده وولْده والناس أجمعين». (2)

2. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ إليه من والده وولْده». (3)

3. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً». (4)

وعلى ضوء ذلك فإقامة الاحتفالات والمهرجانات في مواليدهم، وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر منزلتهم في الكتاب والسنّة، تجسيد للحبِّ الّذي أمر الله ورسوله به، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالحرام، ومن دعا

____________________

(1) التوبة: 24.

(2 و3 و4) جامع الأُصول: 1/237 - 238 برقم 20 و21 و22.

٣٣٩

إلى الاحتفال بمولد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في أيّ قرن من القرون فقد انطلق من هذا المبدأ؛ أي حبّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذي أمر به القرآن والسنّة.

هذا هو الديار بكري مؤلّف (تاريخ الخميس) يقول في هذا الصدد: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (1)

وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم... فرحم الله امرئ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدَّ علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء. (2)

***

هذه هي أُمّهات عقائد الوهّابيّة وأُصولهم الّتي يتدارسوها في جامعاتهم وينشرونها بين المسلمين بجدٍّ وحماس، وقد عرفت أنّها أُصول لا أساس لها, وكلّها رؤى شخصيّة انتُزعت من الكتاب والسنّة، وليس لها لمسة من الصدق أو مسحة من الحقّ.

____________________

(1) تاريخ الخميس: 1/323.

(2) المواهب اللّدنيّة: 1/27.

٣٤٠