الحسين نبراس الإصلاح العالمي

الحسين نبراس الإصلاح العالمي33%

الحسين نبراس الإصلاح العالمي مؤلف:
المحقق: السيد علي جلال الشرخات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 114

الحسين نبراس الإصلاح العالمي
  • البداية
  • السابق
  • 114 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53268 / تحميل: 6231
الحجم الحجم الحجم
الحسين نبراس الإصلاح العالمي

الحسين نبراس الإصلاح العالمي

مؤلف:
العربية

الحسين نبراس الإصلاح العالمي

مِن مُحاضرات:

آية الله الشيخ محمّد سند (حفظه الله)

بقلم: السيِّد علي جلال الشرخات

١

٢

المقدِّمة:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمّد وعلى أهل بيته الطيِّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم ومُنكري مقاماتهم وفضائلهم إلى قيام يوم الدين..

تَميَّز منهج أهل البيتعليهم‌السلام عن المناهج الإسلاميَّة وغير الإسلاميَّة الأُخرى، في كثير مِن الأُمور، ومِن هذه الأُمور الاعتماد على حُجِّيَّة العقل.

حُجِّية العقل في شرعيَّة عَلاقتك مع الله، ومع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومع الإمامعليه‌السلام وحتَّى مع مرجعيَّتك الرشيدة.

٣

فقد تميَّز منهجهم (سلام الله عليهم) بالدقَّة البالغة في التحسُّس مِن الشرعيَّة، وكذلك الدقَّة في كلِّ حيثيَّات الإصلاح، مِن بدايته إلى مُنتهاه.. مِن أين جئت؟ وإلى أين تذهب؟ وكيف تصل؟

علَّمنا سيِّد الشهداء (سلام الله عليه) - وهو القائل:(وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قَبِلني بقَبول الحَقِّ فالله أولى بالحَقِّ، ومَن ردَّ عليَّ هذا، أصبِر حتَّى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين) (١) - أنْ نتحسَّس حول الشرعيَّة في كلِّ حيثيَّاتها، وكذلك نتحسَّس في شرعيَّة البديل، فما الفائدة في بديل يزيد في استفحال الداء في البشريَّة؟!

____________________

١ - عوالم الإمام الحسينعليه‌السلام ص ١٧٩.

٤

وقد تطرَّق إلى هذه المباحث القيِّمة، سماحة آية الله المحقِّق الشيخ محمّد سند (دام ظِلُّه) في مُحاضراته في مأتم رأس رمان في مَملكة البحرين، في نهاية ذي القعدة ١٤٢٥ للعام الهجري.

وقد قارن سماحته (دام ظِلُّه) بين منهج الثورة الحسينيَّة المباركة، وبين المناهج الإسلاميَّة الأُخرى، مثل: منهج الخوارج، ومنهج الزيديَّة، ومنهج السُّنَّة (المهادَنة)، وبيَّن خوائها في قِبال المنهج الحسيني.

وتطرَّق سماحته إلى مُشكلة النُّخبة المثقفة عند أهل السُّنة والجماعة، وربط الإسلام الحنيف بالسلطان وإنْ كان جائراً مثل صدام.

٥

وفي نهاية المحاضرات سُئل سماحته عن مواضيع مُتعدِّدة، وأهمُّها الفتوحات الإسلاميَّة، ودور أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وما في هذا البحث مِن أُمور غامضة وقصاصات تاريخيَّة عجيبة في كشف الدور الحقيقي لأمير المؤمنينعليه‌السلام في الفتوحات الإسلاميَّة.

ولا أنسى أنْ أتقدَّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل، إلى الأخ العزيز الشريف محمّد حسين دام توفيقه، على التصحيحات اللغويَّة والنحويَّة والإملائيَّة في كلِّ البحث، وأسأل الله أنْ يوفِّقنا جميعاً لخدمة الدين الحنيف.

علي الشرخات

الأربعاء ٢٤ ذي الحجة ١٤٢٦ هـ

٦

القسم الأوَّل: الحسين نِبراس الإصلاح العالمي

أعوذ بالله السميع العليم مِن الشيطان الغويِّ الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، محمّد وآل بيته الطيِّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين..

صلَّى الله عليك يا أبا عبد الله، صلَّى الله عليك يا ابن رسول الله، صلَّى الله عليك وعلى الأرواح التي حلَّت بفِنائك، عليكم منِّي جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، وبقي الحسين نِبراساً للبشريَّة.

٧

الشرعيَّة الدوليَّة:

نرى في الظرف الحالي - مِن كلِّ الزوايا - تعطُّشاً ملحوظاً في الساحة البشريَّة أو الساحة الدوليَّة، تِجاه الحسينعليه‌السلام ؛ هناك نداءات للضمير البشري في الشعوب الفقيرة، شعوب العالم الثاني أو الثالث، تجاه طغمة الدول العُظمى، فالسائد في العرف البشري الدولي، أنَّ هناك شرعيَّةً دوليَّةً، وشرعيَّةً مِن نُخب المجتمعات عِبر هياكل الأنظمة، لا يُمكن التمرُّد عليها؛ لأنَّ ذلك يهزُّ السُّلَّم العالميِّ و التعايش المدني، ويهزُّ الرُّقيَّ والتطوُّر البشريِّ، باعتبار أنَّ البشريَّة وصلت إلى مكاسب وثروة علميَّة مُزدهرة، لا يُمكن التفريط بها في ظِلِّ هذا الازدهار البشري، والثروة العلميَّة والثورة التقنيَّة والصناعيَّة والمعلوماتيَّة.. وغيرها، إلاَّ أنَّ الشعوب الفقيرة ترزح وتئنُّ تحت وطأة الطَّغام البشري، قراصنة الأموال في الدول العُظمى، و هذا - في الواقع - ليس مخصوصاً بالشعوب الفقيرة، بلْ إنَّ الشعوب الغنيَّة - أيضاً - ترزح وتئنُّ تحت هذا الكابوس.

٨

في إحصائيَّة نقلتها الأُمَم المتَّحدة - سَمِعْتُها عَبر الإذاعات قبل ثلاث أو أربع سنين تقريباً - ويُمكن مُراجعة المصادر الموثوقة في هذه الإحصائيَّة، جاء أنَّ ثروة ألمانيا تُقارب ٩٠%، يمتلكها ٤% مِن الشعب الألماني فقط، ونفس النسبة بتراوح يسير في الشعب الأمريكي، فبين ٤% و ٣. ٨% مِن الشعب الأمريكي يمتلك أيضاً ٩١% أو ٨٩% مِن الثروة الماليَّة؛ فليس الأمر حسب طبقيَّة الشعوب، إنَّما هناك عِبء يقضُّ كاهل البشريَّة بأكملها، حتَّى الشعوب الغربيَّة، الأمريكيَّة، التي كلَّما أرادت أنْ تصحو، يُسارَع بإعطائها إبراً مُنوُّمة مُخدِّرة، مع أنَّ هناك بشارة في المسير البشري: أنَّ هذه الشعوب رغم الترسانة الإعلاميَّة اليهوديَّة المكبِّلة لها، كما في إحصائيَّة قبل أشهُر، أنَّ أكثر الشعوب الأوروبيَّة - مثلاً - ترفض النهج الإسرائيلي الصهيوني، رغم كلِّ ما قام به في سنين وعقود، بأساليب فتَّاكة، ثقافيَّة و إعلاميَّة؛ لأجل غسيل العقل الأوروبي، لكنَّ قلب الإنسان الأوروبي لا زال ينبض بالفطرة.

٩

١٠

المدارس و المناهج الإسلاميَّة:

في ظِلِّ هذه الشرعيَّة الدوليَّة الموجودة، هناك هتافات إسلاميَّة، وغير إسلاميَّة، لتغيير الوضع الدولي الحالي، بالنسبة إلى الأُمَّة الإسلاميَّة، مِن عِدَّة شرائح ومذاهب:

١- المدرسة المخالِفة لأهل البيتعليهم‌السلام التي رُبَّما تطرح أُسلوب الخوارج، و بصريح العبارة: (نموذج القاعدة)، وهذا نموذج في التاريخ الإسلامي على شاكلة الخوارج، يُريد أنْ يَهدم هذا الكيان الفاسد، لكنْ بنهج الخوارج.

١١

٢- نداء آخر مِن الأُمَّة الإسلاميَّة، مِن نُخب الأنظمة والشعوب الإسلاميَّة، يدعو للمهادنة، كما هو أُسلوب جُملة مِن الصحابة والتابعين، الذين هادنوا السقيفة أو هادنوا السلطة الأُمويَّة ونحوها، وأمثلته ونماذجه موجودة في التاريخ، نظير مُبايعة كثير مِن الصحابة وإقرارهم للوضع الموجود.

٣- نماذج أُخرى، كثورة المذهب الزيدي، بغضِّ النظر عن شخص زيد بن عليِّ بن الحسين (رضوان الله تعالى عليه)، المقصود المذهب الزيدي، هذا نموذج آخر، يلتقي في نقاط مُشتركة مع مذهب الخوارج، لكنَّه يختلف عنه في نقاط أُخرى.

١٢

٤- شريحة الأُمويِّين، الذين استغلُّوا الوضع السائد، وانقضُّوا عليه، وتسلَّقوا للوصول إلى القِمَّة، وربَّما يُسمُّون بالقاسطين، الناكثين، القاسطين، المارقين...

وهناك نماذج ومناهج أُخرى عاشها العقل الإسلامي في غابر التاريخ.

٥- النموذج الحسيني، والذي يبقى نموذجاً مُتميِّزاً، لا يُمكن أنْ يؤخَذ عليه مأخذ مِن ناحية التفريط في المكاسب البشريَّة، ولا مِن ناحية التفريط في الإنجازات التي تزدهر بها أيُّ ديانة أوْ أيُّ مُجتمع أوْ أيُّ عُرفٍ بشريٍّ، فهو في حين لم يُفرِّط بالمكاسب، لم يُهادِن على المفاسد، واستخدم أُسلوب التغيير بشكل راقٍ، مُحافظ على كلِّ الحُرمات والإنجازات، التي يحترمها البشر وتحترمها الديانات. ورُبَّما أحتاج إلى مؤونة كثيرة في التعرُّض لها في طيَّات الكلام، حول المفارقة بين النهج الحسيني ونهج الخوارج، بين النهج الحسيني والنهج الزيدي، بين النهج الحسيني والنهج السلطوي، نهج السُّنَّة والجماعة.

١٣

هناك نداءات إسلاميَّة تُحيي الجماعة الدوليَّة والسُّنَّة البشريَّة، تقول: بأنَّ منهج الصلاح والإصلاح هو أنْ نكون مع سُنَّة البشر وجماعة البشر، وأنَّ الخارج عن جماعة البشر مارق. الأُمَّة الإسلاميَّة الآن انفتحت على البشر، والبشر قد انفتحوا على الأُمَّة الإسلاميَّة، يبقى النهج الحسيني فريداً جِدَّاً مِن نوعه، كأُصول، كمنظومةٍ قانونيَّةٍ، وكمنظومة تغيير، أرشدت إلى عدم الإقرار بالوضع الفاسد، و مُحاولة الإصلاح مِن دون فساد، كان ذلك مِن باب النموذج الفهرسي أذكره؛ لكي أصل إلى المصبِّ الأصلي للبحث.

نهج الحسينعليه‌السلام ونهج الخوارج:

إنَّ التمايز واضح بين نهج الحسينعليه‌السلام ونهج الخوارج. نهج الخوارج، الذي ينتهجه (تنظيم القاعدة) بكلِّ حذافيره؛ لأنَّ هذا التنظيم ابتعد عن مدرسة أهل البيتعليه‌السلام ، مِن أُصولٍ وفكرٍ وقوانين، وعمل بنهج الخوارج في مُقابل ذلك، المذهب الذي ضحَّى بمبادئ كثيرة، مُقابل الوصول إلى شعارٍ وهتك حُرمات كثيرة، وفرَّط في حُرمات كثيرة، زعزع العيش المدني، والسلم الاجتماعي، والأموال والفروج والدماء والأعراض، والأفكار، حتَّى الأفكار الصحيحة رفضها رفضاًَ مُطلقاً، فلاحظوا ذلك في تاريخ الخوارج، صحيح أنَّهم طُلاَّب حَقٍّ، أو شعارهم حَقٌّ، لكنَّها كلمة حَقٍّ يُريدون بها باطلاً مِن حيث لا يشعرون.

١٤

التغيير الذي يُريده الكيان البشري المتعطِّش، والحاجة البشريَّة هي إلى نموذج الإمام الحسينعليه‌السلام هي الآن على قدمٍ وساق، وفي أشدِّ ما يُمكن، والكثير مَن رَمَزَ مراحل حركة المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)، هي على شاكلة نهج الحسين (سلام الله عليه)، لكنْ مع تكليله بالظفر والنصر، لا سِيَّما وأنَّ الإمام الحسين كان مُقدَّراً أنْ يكون مهديَّ آل محمّدٍ، إلاَّ أنَّه بدا لله (عَزَّ وجَلَّ).

فانظر في نموذج الخوارج الذين قالوا - كلمة حَقٍّ -: (الوضع الفاسد يجب أنْ يُغيَّر)، لكنَّه لا يجب أنْ يُغيَّر بكلِّ قيمة، بحيث تُنسَف مُقدَّرات المجتمع، تُبرْكنها و تُزلزلها، أهذا هو الهدف وهو الوصول إلى الحَقِّ؟ الحَقُّ هو بناء هذه المقدَّرات، والحِفاظ على هذه الحُرمات، فالدم الإنساني مُحترم ما لم يأتِ موجب لإراقته، وليس مِن منطق الحسين (سلام الله عليه) نسف المدنيِّين الأبرياء بحُجَّة الوصول إلى هدف مُعيَّن.

١٥

منهج الإمام الحسينعليه‌السلام ومنهج السُّنَّة (المهادَنة):

في حين أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام لا ينتهج نهج أهل السُّنَّة والجماعة، أهل سُنَّة الوضع الدولي السائد، والشرعيَّة الدوليَّة في النظام السائد مع الجماعة ما دامت الجماعة، ولونُ الجماعة في أيِّ اتِّجاه لنتلوَّن بلونه. أيضاً الحسينعليه‌السلام افترق عن عبد الله بن عمر، فعبد الله بن عمر بايع يزيد وبايع رِجْل الحَجَّاج (١)، واختطَّ ابن عمر نموذجاً لمدرسة أهل السُّنَّة والجماعة.

____________________

١ - تاريخ الكامل لابن الأثير ج٤ ص١٢٤، الفتوح ج٢ ص ٤٨٦.

١٦

نهج الحسينعليه‌السلام يختلف، فهو نهج يقول بعدم التفريط في المكاسب البشريَّة، والمقدَّرات البشريَّة، والحُرمات البشريَّة، لكنْ هذا لا يعني الإقرار بالفساد، وكذلك عدم الإقرار بالفساد ورفض الفساد، لا يعني التفريط بالمقدَّرات المنجَزة. نهج الحسين نهج دقيق وصعب جِدَّاً، نهج مُصلح، ولكنَّه إصلاح بمُعادلة وموازين صعبة، بحيث إنَّه رغم تطوُّر الفكر البشري - القانوني الثوري - وحتَّى النُّظم والأعراف، لكنْ - وإلى الآن - لم يُسجِّل لنا النهج البشري نهجاً كنهجهعليه‌السلام .

١٧

النهج الذي نهجه سيِّد الشهداء نهجٌ إعجازيٌّ، فسيِّد الشهداء في يوم عاشوراء لم يبدأ بالقتال، ولم يسُدَّ - أصلاً - باب الحوار مع الطرف الآخر. ولو بقوا مع سيِّد الشهداء أشهُراً وسنين لما أغلق باب الحوار معهم، ولما استخدم لُغة العُنف. التقى الحسين (سلام الله عليه) مع الحِرِّ بن يزيد الرياحي، وكان يستطيع أنْ يستأصل جيشه بضربة قاضية ويتَّجه للكوفة، لكنَّه لم يفعل، كما لم يفعل أصحابه، كمسلم بن عقيل، وغيره. يستطيع الكثير أنْ يتجاوز المبادئ والمقرَّارت الشرعيَّة، وينتهز الفُرص مُقابل الدوس على المبادئ، للوصول إلى القدرة.

رفض الحسينعليه‌السلام ذلك؛ لأنَّ هؤلاء الذين في المدرسة الحسينيَّة، روَّاد وطُلاَّب مبدأ، وليسوا طُلاَّب قُدرة، وهذا المبدأ صعب جِدَّاً.

١٨

لم يرفض الحسينعليه‌السلام لغة الحوار، لم يرفض لغة التسالم والسِّلم، لكنَّه لم يُقرَّ معهما على الوضع الفاسد، وعلى هذا الخواء العَفن في روح وجسم الأُمَّة الإسلاميَّة. كذلك الوضع الدولي السائد، مِن عدم التفريط بالسِّلم الدولي، عدم التفريط بالتعايش الدولي، عدم التفريط بالحُرمات الدوليَّة والأعراف الدوليَّة الموجودة، يجب ألاَّ يجعلنا ذلك نُهادن الإباحيَّة الجنسيَّة الصريحة، أوْ نقول: بأنّ الرِّبا الذي يُمارِسه بنك مؤسَّسة النقد الدولي صحيح! بلْ فيه إضعاف، وقصم لظهور الشعوب الفقيرة، وهذا التوزيع الغير عادل في قوانين التجارة، وفي قوانين البنك، والاقتصاد، والملاحة، مِمَّا لا يُمكن الرضا به، وكلُّه يصبُّ في حُلقوم الإقطاع الدولي.

عدم التسليم بهذا - في ذات الوقت - لا يعني أنْ نُفجِّر الأبرياء، أنْ نَهزَّ السِّلم والأمن الاجتماعي لشعوب دولٍ كثيرة، فكما نقتدي بنهج الحسينعليه‌السلام ، لا نُفرِّط ولا نرفض هذه المنجزات البشريَّة، لا نُقرُّ على الوضع الفاسد العَفن، نتلقَّى حوار الشعوب بالترحاب والإكرام، لكنَّنا لا نتلقَّى مجاري الأوساخ، بلْ يجب أنْ نُعالجها لهم، لا أنْ نتلقَّاها: الإباحة الجنسيَّة، التبذُّل، تفكُّك الأُسرة، سقوط الأخلاق، سقوط الجانب الروحي إلى الجانب المادِّي الجافَّ، الذي يحطم الروح.. لا نقبل بذلك كلِّه، و لا نيأس، كما الحسينعليه‌السلام أبيُّ الضيم، الذي أُجريت معه مُساومات كثيرة، مُساومات تِجاه عرضه وماله وحياته وفَلذات كَبده، لكنَّ الحسين لم يقبل أنْ يتراجع أمام النظام الخاطئ والفساد الذي كان موجوداً، ورفض أنْ يكون مِن وِعَّاظ السلاطين.

١٩

يجب علينا أنْ نرفض أنْ نكون مِن وِعَّاظ السلاطين؛ فإنْ كنَّا مِن الذين يُقرُّون و يُقرِّرون هذه السُّلطة - الإقطاع الدولي - نكون حينئذٍ وعَّاظاً للسلاطين، بلْ نرفضهم، ولو خاطرونا بمُقدَّرات كثيرة، ولكنَّنا في حين لا نستخدم لغة العُنف ابتداءً، لُغة الحوار موجودة دائماً، وهنا نصل إلى مَحطِّ البحث في نهج الإمام الحسين (سلام الله عليه).

ظروف الأنبياء و ظروف الخاتم و آله:

لا نعلم في مسيرة الأنبياء، عن أيِّ نبيٍّ مِن الأنبياء، أنَّه سنَّ وبنى وأسَّس مثل هذا الباب في الديانة، مثل الأُمور التي ضخَّها الإمام الحسين (سلام الله عليه) في الوعي البشري، حتَّى أنبياء أُولي العَزم. ولهذا قلنا: إنَّنا نستطيع أنْ نُعبِّر ببرهانٍ قانونيٍّ على فوقيَّة الخمسة أصحاب الكساء، في النهج الذي ضخُّوه في الوعي البشري الدياني على مَن قبلهم مِن الأنبياء و الرُّسل، ففي نموذج النبي إبراهيم - مثلاً - في أهل زمانه خطأ واضح، مُقابل دعوة النبي إبراهيم إلى صواب واضح، لم يكن في الأمر صعوبة كبيرة، عُبدت الأوثان والكواكب، ولم تكن هناك عدالة اجتماعيَّة،

٢٠

لكنْ وإنْ واجه النبي إبراهيم صعوبات في الفكر فهي أمر سهل، أنْ يُبيِّن النبي إبراهيم للبشريَّة طريق الصواب بين طرق الخطأ والضلال والتعاسة. كذلك النبي نوح، وكذلك النبي موسى، في دعوته لفرعون وقومه. الأمر فيه شيء مِن التعقيد عند النبي عيسى، في الخطوة التي تقدَّم بها مُقابل الدَّجل الديني في السياسة عند علماء اليهود، والأمر أكثر تعقيداً فيما واجهه خاتم الأنبياء؛ ومِن ثَمَّ فالدور الذي قام به خاتم الأنبياء في ظلِّ ظروف مُعقَّدة في التطوُّر البشري، لم يَقُم به نبيٌّ مِن الأنبياء قطُّ؛ لأنَّه واجه شرعيَّة تتوشَّح بها قريش، فتسلَّحت بأنَّها على لون المِلَّة الإبراهيميَّة الحنيفيَّة، وخاطبت سيِّد الأنبياء بأنَّه صبَّأ فتية قريش ومرَّقهم عن الديانة الإبراهيميَّة الحنيفيَّة، وكان لديهم تسلُّح بالشرعيَّة مثل بيت الله الحرام، والكعبة ونحوها، وتسلَّح بكونهم أهل جوار بيت الله، ومِن نَسل إبراهيم الخليل. كانوا يتلبَّسون بألبسة مِن الشرعيَّة، التي قد تُغفِل الطرف الآخر، في ظِلِّ هذا التعقيد، لكنْ ومع ذلك، اختطَّ خاتم الأنبياء هذا النهج، نهج صراط السماء.

٢١

وسيِّد الشهداء (سلام الله عليه) مِن بعد أبيه وأخيه، واجه ما هو أكثر تعقيداً؛ لأنَّه كان في ظِلِّ شرعيَّة تُدعي الشرعيَّة الإسلاميَّة، و أنَّها شرعيَّة خاتم الأديان، وأبرز ما بناه سيِّد الشهداء مِمَّا لم يَبنه الأنبياء السابقون - بالطبع غير جَدِّه سيِّد الأنبياء وأبيه سيِّد الأوصياء و أخيه سيِّد الأسباط -، فأبرز شيء بناه سيِّد الشهداء هو إثارة الوعي في التحسُّس والإحساس حول الشرعيَّة. فما المقصود بالشرعيَّة؟

نقول: هذا شرعيُّ أو غير شرعيٍّ، الخروج عن الشرعيَّة السائدة هو أمر لا شرعي، أو أنَّ هذه الشرعيَّة مُتلِّونة بالشرعيَّة، فيجب القضاء عليها بأُسلوب سلمي إلى أنْ يُبيِّن مقدار الزيف ومقدار الصِحَّة فيها.

٢٢

تحسُّس الشرعيَّة:

أبرز الأُمور التي سنَّها سيِّد الشهداء للقانون الدولي، وللوعي البشري الإنساني، الذي تتعطَّش إليه البشريَّة الآن، هو إثارة الإحساس البشري والتساؤل البشري حول الشرعيَّة، وهو أبرز ما تتعطَّش له البشريَّة أيضاً بالنسبة لمدرسة سيِّد الشهداء ونهجهعليه‌السلام ، وأنَّه يجب على الشعوب إثارة السؤال حول شرعيَّة هذه الشرعيَّة الدوليَّة المزعومة، أنْ تبدأ البشريَّة بالنِقاش وإثارة السؤال حول شرعيَّة هذا النظام الدولي المطروح وهذه القوانين المطروحة التي لا تسمح للشعوب الفقيرة، ولا تسمح للشعوب الغربيَّة المكبَّلة بهذا النظام الإقطاعي الرأسمالي السوقي أيضاً، بأنْ يفتحوا أعيُنهم، أو يوقظوا أسماعهم، بالالتفات إلى كيفيَّة استطاعتهم للتغيُّر، فهم مُكبَّلون، وأيُّ مُنادٍ بالتغيير لهذا النظام السائد، يُقالُ بخروجه عن الشرعيَّة الدوليَّة، وتحوُّله إلى نهج لا شرعي. وهي المشكلة في الإقطاع الدولي الآن، الذي استطاع أنْ يُيئس حركة التغيير البشري، سِيَّما بريادة المسلمين، والخطوة التي نجح فيها مع الأسف، أنَّه قَدَّم نموذجاً إصلاحيَّاً إسلاميَّاً، كنموذج الخوارج، ليقولوا: (انظروا إلى المسلمين، يُريدون التغيير، ولكن بنموذج الخوارج الذي يُفرِّط بكلِّ الحُرمات وبكلِّ المكاسب)، ومِن ثَمَّ تتشوَّه صورة الإسلام لدى شعوب العالم وشعوب الغرب، ويتزعزع أمامهم القول: بأنَّ الحلََّ كامنٌ في دين الإسلام، وفيما يطرحه نظام الإسلام، ورُبَّما هذه مِن أقوى الضربات القاضية، ولكنْ هيهات لهذا الإسلام العملاق، ولصاحب الزمان، أنْ ينكسر.

٢٣

فإذاً، كان الحَجر الأساس في مدرسة الحسينعليه‌السلام هو إثارة الوعي البشري حول الشرعيَّة، والتساؤل حولها عَمَّا إذا كانت صحيحة أم مُزيَّفة. إذا أردنا أنْ نغوص في هذا الملفِّ وهذا البند، فقد تميَّزت مدرسة أهل البيت في هذا النهج بشكل مُركَّز جِدَّاً، هو التساؤل حول الشرعيَّة، وهذا تَحَدٍّ قانونيٌّ، فلسفيٌّ، تَحَدٍّ بلحاظ علوم الاجتماع، تَحَدٍّ علميٌّ، تاريخيٌّ، أديانيٌّ، تَحَدٍّ إداريٌّ - بحسب علوم الإدارة -، وتَحَدٍّ بحسب علوم مُختلفة. إنَّك لن تجد مذهباً كمذهب أهل البيت، أكثر تحسُّساً حول الشرعيَّة، في تساؤله عن مصدرها وعن وجهة مسارها.. لن تجد في المسيحيَّة، ولا في القانون البشري الجديد، ولا في الأُمَم المتَّحدة، فحتَّى بنود الأُمَم المتَّحدة في مجالاتها المختلفة، لا تُثير في الوعي البشري التساؤل حول الشرعيَّة، بقدر مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لذا فإنَّ بصمات مدرسة ومذهب أهل البيت فريدة جِدَّاً؛ لأنَّه دين السماء، وهو دين الأنبياء الصحيح.

٢٤

شرعيَّة عَلاقتك مع الله:

يُثير هذا المذهب التساؤل حول الشرعيَّة حتَّى في علاقتك مع الله (سبحانه و تعالى)، كما يقول الصادق مِن آل محمد في كتاب الكافي: بأنَّه حتَّى تسليمنا لله (عَزَّ وجَلَّ) - وهذا الذي تطرحه الحداثويَّة الجديدة، هُمْ يطرحون هذه المدارس، ظَنَّاً منهم أنَّهم يُدركون العقل الإسلامي - حتَّى في عَلاقتك مع الله (عَزَّ وجَلَّ)، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :(إنَّ أوَّل الأُمور ومبدأها وقوَّتها وعمارتها التي لا ينتفع شيءٌ إلاَّ به العقل، الذي جعله الله زينة لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عَرف العباد خالقهم، وأنَّهم مَخلوقون، وأنَّه المدبِّر لهم، وأنَّهم المدبَّرون، وأنَّه الباقي وهم الفانون، واستدلُّوا بعقولهم على ما رأوا مِن خَلقه، مِن سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، وليلة ونهاره، وبأنَّ له ولهم خالقاً ومُدبِّراً لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحَسَنَ مِن القبيح، وأنَّ الظُّلمة في الجهل، وأنَّ النور في العلم، فهذا ما دلَّهم، عليه العقل) (١) ،

____________________

١ - تكملة الحديث الشريف: (قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟

قال:(إنَّ العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته، علم أنَّ الله هو الحَقُّ، وأنَّه هو ربُّه، وعلم أنَّ لخالقه مَحبَّة، وأنَّ له كراهيَّة، وأنَّ له طاعة، وأنَّ له معصية، فلم يجد عقله يدلُّه على ذلك، وعلم أنَّه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنَّه لا ينتفع بعقله، إنْ لم يُصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلاَّ به) الكافي ج ١ ص ٢٩.

٢٥

ليس عقلك مُغلقاً، وليس فِكرك أصمَّاً، ولا وجدانك، بلْ يجب أنْ تُحكِّم بني عقلك و صميم قلبك، وهذا غير مطروح في اليهوديَّة و المسيحيَّة المحرفتين طبعاً؛ لأنَّ ما بُعث به الخاتم هو ما بُعث به جميع الأنبياء، فهو دين واحد وإنْ اختلفت الشرائع، بكون التفاصيل الجزئيَّة مُختلفة لكنَّ الأُسس واحدة، والشرعيَّة الدولية المنتهجة والمذاهب الإسلاميَّة الأُخرى، والبوذيَّة والسيخيَّة وغيرها، فَتِّش فيها، ولن تجد ديانة يحملها روَّاد كأئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام مُنادين بفتح الفكر والعقل، حتَّى في عَلاقتك مع ربِّك، فضلاً عن عَلاقتك مع نبيِّك.

٢٦

شرعيَّة علاقتك مع نبيِّك:

لا يعني الاتِّباع والخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عدم السماح بالمساءلة، فالمساءلة شيء والرفض الأعمى والعناد والتكبُّر شيء آخر، والتساؤل شيء والإباء والرفض النزوي شيء آخر. كلامنا في التساؤل، حتَّى في العَلاقة مع سيِّد الأنبياء، بلْ مع الأنبياء جميعاً، ليس هناك غلق للفكر البشري، فبحث الشرعيَّة مطروح، (مِن أين؟ وكيف؟ وإلى أين؟)، وحتَّى في علاقتنا مع أئمَّتناعليهم‌السلام ، بالنظر إلى سيرة أتباع أهل البيت، لا نراهم عَمياويِّين في اتِّباعهم لأئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام .

٢٧

رصد شعبيٌّ عجيب أوَّلاً لسيِّد الأنبياء، سيِّد الأنبياء الذي أوجد فلسفة تسع زوجات، وهؤلاء التسع زوجات في الواقع، هي عيون خبريَّة لشعوب وقبائل مُختلفة، حول الوضع الداخلي لسيِّد الأنبياء، مِن مصر، ومِن شمال الجزيرة، ومِن وسط الجزيرة، ومِن جنوب الجزيرة، فهؤلاء النساء في الحقيقة قنوات خبريَّة ترصد سيِّد الأنبياء، في حركته حتَّى الداخليَّة، البيتيَّة، وفي صدق مصداقيَّة نبوَّته و سؤدده على الأنبياء في مُمارساته و سلوكه الخفيِّ؛ لأنَّ الإنسان - غالباً - مثل الرؤساء أو عظماء التاريخ، سلوكهم في الظاهر شيء، وسلوكهم في البيت مع الأُسرة شيء آخر، والكثير منهم عِبْر الإعلام شيء، وفي الواقع الخارجي شيء آخر.

له تسع زوجاتصلى‌الله‌عليه‌وآله ! وفي الواقع لا يستطيع الإنسان التوفيق بين الاثنتين والثلاث والأربع، فكيف بالتسع مع سيِّد الأنبياء؟! وكيف لم يختلَّ تدبيره الإداري معهنَّ؟! إنَّ عهده (عليه وآله الصلاة والسلام) إعجاز حتَّى في الإدارة والتدبير.

٢٨

مع هذه المسؤوليَّات الضخمة الجبَّارة، التي كانت على كاهل سيِّد الأنبياء، مِن إقامة دين جديد، ودعوة الأُمَم المختلفة إلى ديانة الإسلام، وتدبير الدولة الإسلاميَّة، وتربية المجتمع( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (١) ، ومِن جهة تسع زوجات، كيف الوفاق بينهن؟!! هو إعجاز في الإدارة والتدبير، بحيث لم يشهد المسلمون شكاية ولا عَرْكَة داخليَّة أُسريَّة. هو كلُّه مُراقبة وضعها الله (عَزَّ وجَلَّ) ليُقيم الحُجَّة على البشر، عِبر شهودهم تدبير سيِّد الكائنات وإدارته وقيادته وخلقه:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) .

____________________

١ - سورة الجمعة آية ٢

٢ - سورة القلم آية ٤

٢٩

شرعيَّة علاقتك مع إمامك:

وكذلك كان شيعة أهل البيت مع أئمَّتهم، فلم يكن إمام مِن الأئمَّة، يقفز على البيِّنات أو الإثباتات العلميَّة، أو التجسُّم العلمي. مدرسة أهل البيت في علاقتها مع أئمَّتها، هي علاقة العقل المفتوح، بالبرهان وعدم التعامي عن البيِّنات. ولم يكن النوَّاب الخاصُّون للحُجَّة (عجَّل الله فرجه الشريف) في الغيبة الصُّغرى، يتسلَّمون هذا المنصب عبثاً، بلْ كان فُقهاء الشيعة وعلماؤهم والشيعة تَرْقَبهم، وترصدهم، في كلِّ خُطوة يخطونها، وقد وثَّقهم الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، فلا بُدَّ - قطعاً - أنَّ سند الوثاقة ومُستنداتها باقية معهم.

٣٠

شرعيَّة علاقتك مع مرجعيَّتك:

تؤهَّل المرجعيَّة الشيعيَّة وفقهاء الشيعة تحت شرائط مُعيَّنة للمرجعيَّة والفقاهة، ولابُدَّ مِن توافر الشرائط لهم استمراراً لبقائهم، فبتعبير أحد المحقِّقين الفُقهاء في الحوزة العلميَّة في قُمْ: (رُبَّما قَلَّ نظيره في مجموعة بشريَّة اجتماعيَّة، أنْ تَرصِد و تُراقِب قيادتها كرصد الطائفة الشيعيَّة لمراجعها، ومِن قبل لأئمَّتها). كلُّ فئات المجتمع ترصده، وتُراقبه، تلتحم معه، وتُباشره، في السَّراء وفي الضراء وفي سلوكه الداخلي أو الخارجي، ثمَّ يؤهَّل لقيادة الطائفة الشيعيَّة، نيابةً عن المعصوم.

أيُّ فئةٍ مِن المجتمعات البشريَّة تُمارس هذا الترشيح والمراقبة، والدراسة والامتحان كما في الشيعة، حتَّى إنَّ الإعلام لا يُنجز ذلك، وهُمْ أشدُّ تحسُّساً، فلديهم قضيَّة المرجعيَّة، بلْ لابُدَّ أنْ يكون إمام الجماعة - كما في شرائط مدرسة أهل البيت - عادلاً، ورجل الدين كذلك، فهو إنْ كان مُنكبَّاً على باب السلطان فهو طالب دنيا، أمَّا إنْ كان مُعرضاً عن باب السلطان الذي هو يأتي إليه، فهو طالب آخرة، ومِن هذا القبيل.

٣١

قَلَّ نظير تحسُّس الشرعيَّة في المذاهب غير مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لذلك فالمذاهب الأُخرى تشطب على حُجِّيَّة العقل، مثل مذهب السلفيَّة (الوهابيَّة) أو حتَّى المذاهب الأُخرى، العقل أيضاً يُحاسَب في المذهب الشيعي، بالقلب والوجدان. مُراقبة مصدر الشرعيَّة على مصدر آخر؛ لأنَّ قوى الإنسان المختلفة في التفكير أو في تحديد الرؤية، تُراقِب بعضها البعض برؤية مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، و إلاَّ فالعقل الظنِّي أو النظري التجريدي الحدسي التخميني، لا يجعل الإنسان يُسلِّم زمام قيادته لأحد، فإنْ كانت له تجربة - مثلاً - يستخلص منها نظريَّة ظنيَّة، لا يستطيع أنْ يؤسِّس عليها رؤية، وهو نوع مِن التثبُّت في مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، فلابُدَّ مِن الإثبات، ولا يُمكن البناء على نظريَّات حدسيَّة مِن دون تثبُّت؛ ولذلك بحث الحُجِّيَّة وعدم الحُجِّيَّة، وبعبارة أُخرى نستطيع أنْ نصل إلى نفس بحث الإمامة والقيادة.

٣٢

الحساسيَّة حول الإمامة:

يُقال: كثيراً ما تُثيرون - أنتم أتباع مذهب أهل البيت - حساسيَّة حول الإمامة. وفي الواقع إنَّ إثارة الحساسيَّة حول الإمامة هي حول الشرعيَّة، فإذا خَمد في وعي الشيعة هذا التحسُّس تحت عناوين وشعارات مُغفَّلة، اعلموا أنَّ وعينا قد خَمد، والبحث في الإمامة موقع رامز للبحث حول الشرعيَّة.

لا تجعلك مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام مُتعامياً تمشي لا تدري مِن أين جئت وإلى أين تذهب؟ فالتساؤل المطروح دائماً هو: مِن أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ هذا هو الذي نُريده في هذا البحث، إذا أردنا أنْ نكون شيعة للحسين، كيف نوصِّل؟ وكيف نُربِّي المجتمع الدولي والشعوب الدوليَّة برسالة الحسينعليه‌السلام ، وأنْ لا نكون نحن في خطواتنا - و العياذ بالله - أعداءً لسيِّد الشهداء في حركته؟ هو مُنقذ البشريَّة بحركته مِن بُراثن الشرعيَّة المزيَّفة، نتساءل هنا: هل نحن دُعاة لهذه المدرسة؟ أم أنَّنا - والعياذ بالله - نوجد خمود هذه المدرسة؟ هذا ما سنواصل الحديث فيه إنْ شاء الله، مع تكملة البحث والتحسُّس حول الشرعيَّة.

٣٣

التحسُّس حول شرعيَّة البديل:

مِن الأُمور التي سنَّها سيِّد الشهداء - أيضاً - لجميع البشريَّة مِن أتباع الديانات، التحسُّس حول الشرعيَّة في البديل. رُبَّما هناك خَطٌّ إصلاحي، أو جماعة إصلاحيَّة بشريَّة تُشخِّص الداء في النظام البشري أو النظام الاجتماعي، لكنَّها تغفل عن تشخيص الدواء والعلاج، فتخوض في مُعالجة الداء، وتُنكِب وتُبلي الجسم البشري بداءٍ هو أكثر عيَّاً، فيستفحل داءُ البشريَّة أكثر مِمَّا هو عليه.

إذاً؛ فتشخيص الفساد في النظام البشري، وتشخيص المرض والإحساس بضرورة التغيير، هو بمُفرده ليس كافياً؛ لأنَّ الإنسان يَشرع له أنْ ينتهج خَطَّ الإصلاح الصحيح؛ كي يكون إصلاحاً، لا إفساداً أكثر مِمَّا هو عليه الفساد القائم، وهذا أمر يغفل عنه الكثير مِن الإصلاحيِّين - مع الأسف -.

٣٤

تميَّز سيِّد الشهداء (سلام الله عليه) عن بقيَّة الإصلاحيِّين في تاريخ البشريَّة، وعمَّن أتى بعده حتَّى يومنا هذا، هو في هذا البُعد مِن التحسُّس في الشرعيَّة. التحسُّس في الشرعيَّة لا يعني فقط التحسُّس مِن شرعيَّة النظام القائم، بلْ إنَّ هناك تحسُّساً لأمر رُبَّما لا يقلُّ خطورة، وربَّما يزيد خطورة عن التحسُّس والتساؤل عن شرعيَّة النظام الذي يعيش فيه البشر، فالتحسُّس وإدراك أهميَّة وخطورة البديل في منطق سيِّد الشهداء ومنطق أهل البيتعليهم‌السلام ، يفوق تشخيص نفس الداء أهميَّةً، وقد عاشت البشريَّة الكثير مِن دُعاة الإصلاح، لكنَّها بُليت بفساد أكبر مِن سابقه.

٣٥

مِثال على عدم التحسُّس حول البديل:

عاشت البشريَّة في القَرن الأخير دعوات الإصلاح، كالشيوعيَّة والاشتراكيَّة، شخَّصت الداء إجمالاً، فأخبرت بوجود مرض سرطانيٍّ في الرأسماليَّة، في نظام السوق، إلاَّ أنَّها لم تُشخِّص الدواء والعلاج. قد تُشخِّص أنت وجود الداء، ووجود العدوِّ، ووجود ما يجب تغييره في أيِّ بند مِن بنود النظام البشري الحاكم على البشر، أو الحاكم على المجتمع، سواء في أشخاصه التنفيذيِّين أم في نظامه التشريعي، أم في برنامجه القضائي أم أيِّ برنامج آخر، قد يُشخِّص الإنسان إجمالاً وجود الفساد، لكنْ مِن الأهميَّة بمكان، التفكير في رُفقاء الإصلاح، فمَن تُرافِق أنت في نهجك الإصلاحي؟ وأيُّ برنامج تتبنَّى وتتَّخذ بديلاً في الإصلاح؟

٣٦

أدركت الشيوعيَّة أنَّ هناك إقطاعاً مُدمِّراً للمجتمع، يوجب رزح عموم المجتمع تحت سطوة الإقطاعيِّين وقراصنة المال، لكنَّهم أرادوا أنْ يُعالجوا الداء بما هو أدهى، وهذا الذي حدث؛ فعاشت البشريَّة عقوداً مِن السنين، ورُبَّما قرابة القَرن، ثمَّ تبيَّن لها أنَّ هذا العلاج مُفسد أكثر مِن فساد الرأسماليَّة.

مَرَّ بنا أنَّ الخوارج، وحتَّى النماذج الأُخرى المطالبة بالتغيير، قد لاحظوا بُقعة فساد في النظام الاجتماعي، واستهدفوا إصلاحها بكلِّ حماس، لكنْ بنحو جعلهم يُفرِّطون ببيت البشريَّة، كما أنَّ الإنسان الذي يرى جانباً مِن الحائط يوشك أنْ ينقضَّ، ويُريد أنْ يتداركه، لكنَّه بهوجائيَّة مُعيَّنة يهدم بقيَّة الجدار! فيكون إفساده هذا أكثر مِن إصلاحه، فهو وإنْ سمَّاه إصلاحاً لكنَّه في الواقع إفساد، وأعمى بذلك العين بدل أنْ يُكحِلها.

٣٧

فإذاً، التحسُّس حول شرعيَّة نفس بنود الإصلاح، ورسميَّة وشرعيَّة الإصلاح البديل أمر مُهمٌّ جِدَّاً، وهذا ما أثاره سيِّد الشهداء في مدرسته ونهجه بشكل مُؤكَّد ومُغلَّظ وبتحسُّس كبير، ومِن ثمَّ كان أعضاء البطولة في حركة سيِّد الشهداء مُتقيدين بالمبادئ، لا يتهاونون ولا يُفرطون في مبدأ مِن مبادئهم؛ لأنَّ هذا البرنامج الإصلاحي لديهم أهمُّ مِن مُجرَّد قلع الفساد، فأنت إنْ قلعت الفساد ووضعت مرضاً أدهى بدلاً عنه، أنكبت بذلك البشريَّة وأنكبت النظام الاجتماعي. لذا نرى مبدأه هذاعليه‌السلام في كلِّ حركاته وسكناته وخطواته، وهذا نهج أبيه سيِّد الأوصياء وجَدِّه مِن قَبلُ سيِّد الأنبياء.

التحسُّس في الشرعيَّة وفي البنود البديلة أمر هامٌّ جِدَّاً، وأهميَّة التفكير في الدواء تفوق أهميَّة التفكير في الداء، كثير منَّا يُفكِّر في الداء، عندما يستهوينا الإصلاح وتغيير ذلك الداء وذلك الفساد، ونتغافل أو نتناسى ونعيش سُبات لذَّة الإصلاح والتغيير السريع دون أنْ نشرع البديل الصالح، المعالج للكلِّ.

قلَّما نرى مدرسة بشريَّة إصلاحيَّة أو خطَّاً إصلاحيَّاً بشريَّاً في دول عديدة تأتي بالبديل الصالح، أو تُفكِّر أو تولِي أهميَّة عظيمة للبديل، تفوق تشخيص الداء، بينما كان هذا نهج سيِّد الشهداء، وفي الواقع هو نهج مدرسة أهل البيت وأتباع مدرسة أهل البيت، فهذا التحسُّس فائق الوجود عندهم، وقد طالعتنا الأحداث الأخيرة بذلك الأمر حتَّى عند شيعة العراق.

٣٨

موقف المرجعيَّة الدينيَّة وشيعة العراق:

قدَّمت مرجعيَّة العراق وشيعته خلال مُخاض، نماذج عِدَّة نَيِّرة لمدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، عندما بدأ العدوان الأمريكي على العراق مِن جانب، وكان الطاغية صدام مِن الجانب الآخر، فأصبحوا في موقف بين المطرقة و السِندان.

هناك صيحات مِن فِئات إسلاميَّة عديدة، صاحت بالمرجعيَّة الشيعيَّة، ونادت شيعة العراق، مُسائلةً عن موقفهم تجاه هذا العدوان، هذا الاحتلال. ورُبَّما نحن أيضاً - شيعة البحرين - لم نُشخِّص الرؤية التي شخَّصتها المرجعيَّة الشيعيَّة بذلك الوعي، عندما تختلط الأوراق يصعب إبصار الطريق - ذكرنا أنَّ عظمة سيِّد الأنبياء وسيِّد الأوصياء وسيِّدي شباب أهل الجَنَّة كانت؛ لأنَّهم واجهوا تعقيداً في النظام الاجتماعي البشري، ليس نظير الحياة البدائيَّة البشريَّة في زمن النبي إبراهيم ونوح وموسى وعيسى - على نبيِّنا وعلى آله وعليهم السلام - هنا تعقيد، وإلى يومنا يزداد التعقيد أكثر فأكثر، وهذه عظمة الإصلاح الذي سيقوم به مهدي آل محمّدٍ (صلوات الله عليه) - تختلط الأوراق فيصعب عليك تشخيص الدواء - فضلاً عن تشخيص الداء - أين الداء؟ وأين الدواء؟ أين الدواء الشرعي ذو الصلاحيَّة؟

٣٩

القانونيَّة الطبيَّة للإصلاح:

هتف الكثير بالطعن في موقف شيعة العراق، لكنَّه كان موقفاً ذكيَّاً بين سَبْعَينِ يتصارعان، كان شيعة العراق في جملة مِن مواقفهم، يُدافعون عن حُرمات وطنهم، لكنْ بنحو لا يصبُّ في مصلحة السبع الضاري صدام والبعثيِّين، وهذا تشخيص دقيق، كثير مِن المنظِّرين الإسلاميِّين نادوا: (هيَّا بكم، انضووا تحت راية صدام والبعثيِّين! حتَّى ندفع السبع الأكبر أمريكا - على الأقل -!)، رُبَّما استهوت هذه المقولة بعضاً منَّا أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، فمِن أجل عدم التضحية بالعراق، لننضوِ تحت راية صدام والبعثيِّين، لكنَّ الموقف الحكيم للمرجعيَّة والشيعة في العراق كان أبصر وأنفذ مِن هذا التحليل؛ لأنَّ المعركة الضروس لم تكن قد حُسمت بعد بين السَّبْعَين، والدخول فيها سيؤدِّي بهم ضحيَّة لسَبْع أو سَبْع آخر؛ لذا فالموقف النموذجيّ والمثاليّ، كان أنْ تواجِه بطريقتك السبع الآخر بعد أنْ تُحسم المعركة بين السَّبْعَين، حين يتفرَّد لك الميدان.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114