الحسين نبراس الإصلاح العالمي

الحسين نبراس الإصلاح العالمي0%

الحسين نبراس الإصلاح العالمي مؤلف:
المحقق: السيد علي جلال الشرخات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 114

الحسين نبراس الإصلاح العالمي

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: السيد علي جلال الشرخات
تصنيف:

الصفحات: 114
المشاهدات: 44990
تحميل: 4734

توضيحات:

الحسين نبراس الإصلاح العالمي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 114 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 44990 / تحميل: 4734
الحجم الحجم الحجم
الحسين نبراس الإصلاح العالمي

الحسين نبراس الإصلاح العالمي

مؤلف:
العربية

وفي النهج الزيدي - مع الأسف - قد أخفقوا في هذه النقطة، بابتعادهم عن أهل البيتعليهم‌السلام فأصبحوا لا يتحسَّسون كثيراً حول مصدر الشرعيَّة أو التشريع أو السلطة التشريعيَّة، وإنَّما تحسُّسهم هو حول السلطة السياسيَّة، دون شرعيَّة السلطة التشريعيَّة.

٣ - جهة اشتراك أُخرى في المذهب الزيدي مع الخوارج، أنَّهم لا يتقيَّدون بالعصمة، وعندما نتقيَّد نحن بالعصمة، نتقيَّد بالأنموذجيَّة، بلْ ينبوع الأنموذجيَّة المرتبط بالسماء.

٨١

حقوق الإنسان وثورة الإمام الحسينعليه‌السلام :

السؤال:

شعار حقوق الإنسان هو شعار دولي الآن، أين نجد ذلك في ثورة الحسينعليه‌السلام وحركته الرساليَّة؟

الجواب:

مِن الأُمور البارزة جِدَّاً في الشعار الذي حمله سيِّد الشهداء، في خُطبه في مَكَّة، وفي طريقه إلى كربلاء، وفي كربلاء، هو المناداة بحقوق المسلمين في مُقابل طغيان طغمة على رقابهم، بلْ إنَّنا وجدنا في تعامل سيِّد الشهداء عِدَّة فقرات، تنمُّ عن أنَّه يُطالب أوَّلاً بتثبيت الحقوق الإنسانيَّة على صعيد فطري إنساني، قبل أنْ يُطالب بتثبيت الحقوق الإسلاميَّة، فخاطبهم:(إنْ لم يكن لكم دين، فكونوا أحراراً في دنياكم) ، فيجب ألاَّ يستعبدكم أحد ويطغى عليكم ويستأثر عليكم، هذا خطاب فطريٌّ إنساني قبل أنْ يكون إسلاميَّاً. وحتَّى في خطابه الإسلامي (سلام الله عليه)، لم يقل:(إنِّي خرجت للإصلاح في شيعة أبي) ، وإنَّما قال:(في أُمَّة جَدِّي) ، فنهجه هكذا، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. والواضح في بنود وخطاب سيِّد الشهداء، في جملة مِن النصوص الواردة عنه (سلام الله عليه)، والشعارات التي حملها، وأراد أنْ يبني وعي الناس عليها، هي في البدء حقوق إنسانيَّة قبل أنْ تكون حقوقاً إسلاميَّة، و قد استعرضنا ذلك مِن قَبل.

٨٢

ذكر السياسة في اللطم:

السؤال:

ما هو رأيكم في ذكر السياسة في العزاء؟

الجواب:

ذكر السياسة في العزاء هو على نمطين: فنمط ضروريٌّ واجب، ونمط غير مُستحسن.

ربَّما يُنادي الكثيرون بفصل السياسة عن الشعائر الحسينيَّة، بهدف التركيز وتمركز العزاء حول سيِّد الشهداء في نيَّاتهم وقصدهم، لكنَّهم مِن جانب قد يُقْصون الحسين - مِن حيث لا يلتفتون - إلى جِهة مُعيَّنة، وكذلك الذين يُريدون أنْ يُركِّزوا على الجانب السياسي في العزاء يهدفون إلى مُعايشة مدرسة أهل البيت في الوضع الراهن، لكنَّهم - أيضاً - يُقْصون سيَّد الشهداء مِن جانب قد لا يلتفتون إليه.

٨٣

إذاً، هناك جنبة إيجابيَّة عند الجانبين، ويجب أنْ تُصلح الجنبة السلبيَّة عند الطرفين، فإنِّي إذا أردت أنْ أُركِّز على أهل البيتعليهم‌السلام ، لا يصحُّ أنْ أُقصي أهل البيت عن الاقتداء بهم في وضعي الراهن، ولا أكون بذلك قد أحييت ذكر أهل البيت، إنَّما في الواقع، أقصيتهم مِن حيث لا أشعر؛ لأنَّني هكذا أجعل أهل البيت بمعزل عن الوضع الراهن والوضع السائد، بكوني لا أقتبس مِن أهل البيتعليهم‌السلام شيئاً، فأعزلهم وأُخمد ذكرهم - والعياذ بالله -.

كذلك لو أتيت بالوضع الراهن دون التركيز على قبسات مِن أهل البيت، بمُجرَّد الحديث على الوضع الراهن وانتقادي له، والأفكار المطروحة ضمن ما يُردَّد في العزاء، أو حتَّى في خطابة الخطيب الحسيني، فأكون هنا - أيضاً - قد أقصيت وعزلت أهل البيتعليهم‌السلام عن الوضع الراهن. الحلُّ الأمثل هو أنْ أستعرض الوضع الراهن، وآتي بحلوله مِن مواقف سيِّد الشهداء، كالمرهم والدواء للداء الموجود في الوضع الحالي.

٨٤

أذكر بعض الشعراء في القديم مِمَّن لديهم ثقافة وذكاء لطيف، فيأتي بالمشكلة التي يعيشها المؤمنون في هذا البلد، ثمَّ يأتي بموقف لسيِّد الشهداء أو للعقيلة أو لأبي الفضل العباس، ويضرب في الصميم - كما يُقال -، وهذا ذكاء ووعي أدبيٌّ، بحيث نقتدي بأهل البيت، ونقتبس مِن أهل البيت حلولاً لمشاكلنا الراهنة، مِن دون أنْ نجعل نماذج لغير أهل البيت، نماذج للوضع الراهن، فنُركِّز ونجعل المحور وقطب الرحى هُمْ أهل البيت، ونتعايش معهم في معيشتنا، ونحيا بحياتهم في حياتنا الراهنة، فإنَّنا إذا حيينا في حياتنا الراهنة ولم نحيَ بلون حياة أهل البيت، نكون قد عزلنا أهل البيت، وإنْ حاولنا أنْ نحيا حياة أهل البيت في شكلها المأثور فقط، مِن دون أنْ نسحبها إلى تبيان رؤى مِن مواقفهم ومِن كلماتهم للوضع الراهن، فأرى مِن كلا الجانبين إفراطاً وتفريطاً.

٨٥

إذا أردنا أنْ نأتمَّ بأهل البيتعليهم‌السلام يجب علينا أنْ نعيش معهم في عيشتنا الراهنة، لا أنْ نعزل الوضع الراهن عن أهل البيت، و لا نعزل أهل البيت عن الوضع الراهن، ولا أنْ نجعل أمثولة الحلول للوضع الراهن، أمثلة لغير أهل البيتعليهم‌السلام .

يحتاج هذا بالطبع إلى براعة أدبيَّة، وعلم ثقافي عند الخطيب أو الشاعر، بحيث يقتبس مِن مواقف أهل البيت وكلمات أهل البيت حلولاً في الصميم، وبالتعبير الدارج (نغزة) أو (كناية) كنماذج لاستلال حلول لمواقف ومُشكلات الوضع الراهن مِن أهل البيتعليهم‌السلام .

٨٦

دور أمير المؤمنينعليه‌السلام في الفُتوحات:

السؤال:

ما هي الملفَّات التي تُدلِّل على أنَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام هو المخطِّط للفتوحات الإسلاميَّة لتوسعة الرقعة الجغرافيَّة في عهد مَن سبقه مِن خُلفاء ثلاثة؟ مع العلم أنَّ الكثير مِن الباحثين كانوا يَعيبون عليهم الاهتمام بالفتوحات الخارجيَّة دون الاعتناء بالداخل، وحتَّى سماحتكم بيَّنتم في طيِّ كلامكم أفضليَّة الاهتمام بالداخل أكثر مِن التوسعة الجغرافيَّة للإسلام، أرجو التوضيح.

٨٧

الجواب:

طبعاً ملفُّ الفتوحات ملفٌّ قديم شائك وَعْرٌ، خطر في الثقافة الإسلاميَّة، وفي الرؤية الإسلاميَّة، وفي العلوم الإسلاميَّة، وفي النظرة الإسلاميَّة.

ما جذبني إلى الخوض في هذا الملفِّ، كانت ندوة في الحوزة العلميَّة، بيني وبين أحد نجوم الثقافة في إيران، مِن مجلَّة واسعة الانتشار في إيران وخارج إيران، حول بحث مواقف أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والرؤية المعاصرة لها، ثمَّ أُقيمت ندوة بيني وبينه في الحوزة العلميَّة في قُمْ المقدَّسة، برعاية الحوزة العلميَّة وجامعة المدرِّسين وغيرهما، وكان الحضور مِن تيَّارات مُختلفة.

٨٨

فصار تجاذب الحديث لساعتين، رجعت بعدها إلى البحث، وحاولت أنْ أخوض في هذا الملفِّ أكثر، مع أنَّه كانت لي إجابات كثيرة ومُداولات فيه، وأصبح لدينا نوع مِن الموسم أو الانعكاس الثقافي الشديد المتجاذب، الذي أثرى الساحة الفكريَّة.

حينها - سبحان الله - وقعت عيني على رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة، أنَّ أمير المؤمنين يتعجَّب مِن قريش؛ لأنَّها تنسب الفتوحات لأُمرائها، مع أنَّ الفتوحات مِن تخطيطهعليه‌السلام ، لكنَّ الجيل الذي كان يَعرف أنَّ هذه مِن تخطيطه ذهب، وجاء جيل جديد لا يدري.

٨٩

والعبارة لأمير المؤمنينعليه‌السلام :(.. ثمَّ فتح الله عليها الفتوح، فأثرت بعد الفاقة، وتموَّلت بعد الجُهد والمَخمصة، فحسن في عيونها مِن الإسلام ما كان سَمجاً، وثبت في قلوب كثير منها مِن الدين ما كان مُضطرباً، وقالت: لولا أنَّه حَقٌّ لما كان كذا، ثمَّ نَسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها، وحُسْن تدبير الأُمراء القائمين بها، فتأكَّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنَّا نحن مِمَّن خمل ذكره، وخَبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتَّى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير مِمَّن يَعرف، ونشأ كثير مِمَّن لا يعرف. وما عسى أنْ يكون الولد لو كان!...) (١) .

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ج ٢٠ ص ٢٩٨.

٩٠

هذه العبارة استوقفتني، فأمير المؤمنين يُصرِّح هذا الشيء، وهو عين اليقين وحقُّ اليقين؛ لذا يجب أنْ نبحث في الملفِّ. فعدتُّ لكتاب الطبري في التاريخ، وكتاب الفتوحات لابن أعثم، ومصادر تاريخيَّة عديدة، فوجدت هذه الحقيقة بشكل عجيب، لكنَّها مُقصَّصة مُبعثرة، مثل اللوحة الكبيرة التي تُمثِّل الحقيقة، يأتي الذين يُعتِّمون على الحقيقة، يَقصُّون الحقيقة قَصاصات، ويُبعثرونها في الكُتب، وعندما تجمعها، ترى الحقيقة جليَّة.

وأقمت بحثاً مُفصَّلاً ووجدت ملفَّاً كاملاً(١) حتَّى إنَّ الكثير مِن المحقِّقين قالوا لي: (الطريق وعر وخطر، لا تدخل فيه، وكثير مِن علمائنا الكبار، الفقهاء والمؤرِّخين والمفسِّرين لم يخوضوا فيه)، فقلت لهم: إنِّي أخوضه - إنْ شاء الله - بكلِّ عزيمة، ببركات أمير المؤمنينعليه‌السلام .

____________________

١ - راجع حلقات سلسلة عدالة الصحابة التي في مجلة تراثنا، وموجودة في الانترنت في موقع رافد التابع لمرجعيَّة آية الله العظمى السيِّد علي السيستاني دام ظلُّه، وقد طُبعت مُؤخَّراً هذه الحلقات في كتاب باسم (عدالة الصحابة) لسماحة الأُستاذ آية الله الشيخ محمد سند دام ظِلُّه.

٩١

فعزلت بين حيثيَّات ثلاث أذكرها لاحقاً بالترتيب، إحدى هذه الحيثيَّات أصل التخطيط، فأصعب الدول في الإدارة دولة الحرب؛ لأنَّه لابُدَّ للدولة أنْ تُدير الوضع الداخلي وتُدير الفعاليَّة الحربيَّة في الخارج، فالوضع صعب جِدَّاً ومُتكهرب، مَن يقوم بهذا العبء؟

فوجدت أنَّ تخطيط دولة الحرب في نصوص الكتب التاريخيَّة للمذاهب الإسلاميَّة، هو بشكل مُبعثر، مُعتَّم عليه، لكنَّ يأبى الله إلاَّ أنْ يُظهر هذه الصفحة الذهبيَّة مِن كتاب أمير المؤمنين (سلام الله عليه). وجدت أنَّ التخطيط لدولة الحرب لم يكن لولا أمير المؤمنين، حتَّى ما يُسمونه بحروب الرِّدَّة هناك نصوص تاريخيَّة عثرت عليها، وأبلغت الكثير مِن المحقِّقين في الحوزة العلميَّة في قُمْ المقدَّسة، وألقيتها في ندوات أُخرى وفي أندية علميَّة أُخرى بشكل مُسلسل، وفي قُمْ المقدَّسة بشكل حلقات، وجدت أنَّ التخطيط لدولة الحرب كلِّه لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ووجدت عظمة علي بن أبي طالب في هذه الصفحة مِن حياته، التي استهوتني أكثر مِن صفحات أُخرى لعلي بن أبي طالب؛ لأنَّه قام بعمل جبَّار عَلِم أنَّه لن يُنسَب له، ما هذا الإخلاص! أنْ تعلم بأنَّ هذا العمل الجبَّار العظيم سوف لن ينسبه لك التاريخ المظلم وهذه الأقلام المظلمة المكمَّكمة، ومع ذلك تعمله بينك وبين الله؛ لأجل تشييد صَرْح الدين والإسلام! ووجدت أنَّ هذا ليس عند علي بن أبي طالب فقط، إنَّما عند الحسن والحسين وبقيَّة الأئمَّة، والمهدي صاحب العصر والزمان، كلُّهم لهم أدوار خفيَّة عظيمة، غير معلومة - في العلن - أنَّها لهم.

٩٢

في المعركة التي مع الأكاسرة الفرس، معركتان مُهمَّتان مصيريَّتان (القادسيَّة ونهاوند) نصوص تاريخيَّة عجيبة، تُدلِّل على أنَّه عندما عبَّأت القوميَّات المختلفة - مِن ملوك الفرس والترك وغيرهم مِن الأكاسرة، سِيَّما في نهاوند - خُطَّةً لطرد المسلمين، واسترجاع العراق كلِّه (البصرة والكوفة) والانقضاض حتَّى على المدينة المنوَّرة. ونصُّ العبارة التاريخيَّة يقول: إنَّه لما جاء البريد إلى الخليفة الثاني بأنَّ كسرى عنده هذا التخطيط، وقد استعان بملوك مِن دول الجوار الكثيرة، ولهم ضربة قاضية، أخذت أسنان الخليفة الثاني تصطكُّ وسُمع أطيط أسنانه مِن في المسجد مِن الخوف، وقال أشيروا عليٍّ.. فقام فلان وفلان وفلان مِن الأسماء المطنطِنة، كلٌّ يُبدي برنامجاً هزيلاً، إلى أنْ خاطب هو عليَّاً - في مصادرهم هم وليس في مصادرنا(١) -:(يا أبا الحسن، لم لا تُشير بشيء كما أشار غيرك؟) فقام أمير المؤمنين بتبيين برنامجه الداخلي لدولة الحرب وبرنامج النصر. عجيبٌ تعتيمهم! لكنَّ القَصاصات كلَّها موجودة. قال له بعدها:(مَن أُعيِّن قائداً؟) حتَّى الخطوات التفصيليَّة، لم يكتفِ بالخطوط العامَّة مِن عليِّ بن أبي طالب، وطالبه بخطوط وصفحات تفصيليَّة في البرنامج، وأخذ أمير المؤمنين يُتابع المعركة، وهو في المدينة المنوَّرة في أثناء خوضها.

____________________

١ - ابن أعثم ج ٢ ص ٢٩٥.

٩٣

وأنتم تسمعون في كتب السُّنَّة أنَّ جيش المسلمين في نهاوند سمعوا صوت عمر:(يا سارية الجبل!) هذه القِصَّة لها حقيقة، وحقيقتها يذكرها السيِّد هاشم التوبلاني البحراني، هذا السيِّد العظيم والعالم الجهبذ، يذكر هذه الرواية في كتابه مدينة المعاجز، ويذكر قصاصاتها التاريخيَّة مِن كُتب القوم، أنَّه في أثناء المعركة حدث خطأ عسكريٌّ مُعيَّن كاد يستأصل جيش المسلمين؛ لأنَّ لديهم جيوشاً عظيمة، ١٥٠ ألفاً بجميع الوسائل الحربيَّة القويَّة، بينما جيوش المسلمين كانت ٣٠ ألفاً تقريباً، أين ٣٠ ألفاً مِن ١٥٠ ألف!!! وأين العُدَّة هنا مِن العُدَّة هناك!!!

عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنَّا بين يدي أمير المؤمنينعليه‌السلام في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ دخل عمر بن الخطَّاب، فلمَّا جلس قال للجماعة:إنَّ لنا سِرَّاً فخفِّفوا رحمكم الله. فتهيَّزت وجوهنا وقلنا له: ما هكذا كان يفعل بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! ولقد كان يأتمننا على سِرِّه، فما بالك أنت لما وليت أُمور المسلمين تستَّرت بنقاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فقال: للناس أسرار لا يُمكن إعلانها بين الناس، فقمنا مُغضبين وخلا بأمير المؤمنينعليه‌السلام مليَّاً، ثمَّ قاما مِن مجلسهما حتَّى رقيا منبر رسول الله جميعاً.

٩٤

فقلنا: الله أكبر، أترى ابن حَنتمة رجع عن طغيانه وغيِّه ورقى المنبر مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ليخلع نفسه ويُثبته له؟!

فرأينا أمير المؤمنينعليه‌السلام وقد مسح بيده على وجهه، ورأينا عمر يرتعد ويقول: لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم، ثمَّ صاح ملء صوته: يا سارية الجبل الجبل، ثمَّ لم يلبث إلى أنْ قَبَّل صدر أمير المؤمنين ونزلا وهو ضاحك، وأمير المؤمنينعليه‌السلام يقول له:(يا عمر، افعل ما زعمت أنَّك فاعله وإنْ كان لا عهد لك ولا وفاء) ، فقال له: أمهلني يا أبا الحسن حتَّى أنظر ما يردُّ مِن خبر سارية وهل ما رأيته صحيح أم لا؟

٩٥

فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام :(ويحك! إذا صحَّ ووردت أخباره عليك بتصديق ما عاينت ورأيت، وأنَّهم قد سمعوا صوتك ولجأوا إلى الجبل كما رأيت، هل أنت مُسلِّم ما ضَمنت؟) ، قال: لا يا أبا الحسن، ولكنِّي أُضيف هذا إلى ما رأيت منك ومِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والله يفعل ما يشاء ويختار.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :(يا عمر، إنَّ الذي تقول أنت وحزبك الظالمون إنَّه سحر وكهانة، إنَّه ليس منهما!)، فقال له عمر: يا أبا الحسن، ذلك قول مَن مضى والأمر فينا في هذا الوقت، ونحن أولى بتصديقكم في أعمالكم وما نراه إلاَّ مِن عجائبكم إلاَّ أنَّ الملك عَقيم.

٩٦

فخرج أمير المؤمنينعليه‌السلام فلقيناه، فقلنا له: يا أمير المؤمنين ما هذه الآية العظيمة وهذا الخطاب الذي قد سمعناه؟

فقال أمير المؤمنين:(هل علمتم أوَّله؟) .

فقلنا: ما علمناه يا أمير المؤمنين، ولا نعلمه إلا منك.

فقال:(إنَّ هذا ابن الخطاب قال لي: إنَّه حزين القلب، باكي العين على جيوشه التي في فتح الجبل في نواحي نهاوند، فإنَّه يُحبُّ أنْ يعلم صحَّة أخبارهم وكيف هم مع ما دُفِعوا إليه مِن كثرة جيوش الجبل، وأنَّ عمرو بن معد يكرب قُتل ودُفِن بنهاوند، وقد ضعف جيشه وانحلَّ بقتل عمرو، فقلت له: ويحك يا عمر! تزعم أنَّك الخليفة في الأرض والقائم مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت لا تعلم ما وراء أذنك، وتحت قدمك، والإمام يرى الأرض ومَن فيها ولا يخفى عليه مِن أعمالهم شيء، فقال: يا أبا الحسن، فأنت بهذه الصورة، فأيُّ شيء خبر سارية الساعة؟ وأين هو ومَن معه وكيف صورتهم؟

٩٧

فقلت له: يا بن الخطَّاب، إنْ قلت لك لم تصدقني، ولكنِّي أُريك جيشك وأصحابك وسارية، وقد كمُن لهم جيوش الجبل في واد قفر، بعيد الأقطار، كثير الأشجار، فإنْ سار جيشك إليهم يسيراً أحاطوا به فقُتل أوَّل جيشك وآخره، فقال لي: يا أبا الحسن، فما لهم مِن ملجأ منهم ولا مخرج مِن ذلك الوادي، فقلت: بلى، لو لحقوا إلى الجبل الذي إلى الوادي؛ لسلموا وملكوا جيش الجبل، فقلق وأخذ بيدي وقال: الله الله يا أبا الحسن في جيوش المسلمين، إمَّا أنْ ترينَّهم كما ذكرت، أو تُحذِّرهم إنْ قدرت، ولك ما تشاء، ولو خلع نفسي مِن الخلافة هذا الأمر وأردُّه إليك.

فأخذت عليه عهد الله وميثاقه - إنْ رقيت به المنبر، وكشفت له عن بصره، وأريته جيشه في الوادي، وإنَّه يصيح عليهم فيسمعون منه ويلجأون إلى الجبل فيَسلمون ويظفرون فيه - أنْ يخلع نفسه مِن الخلافة ويُسلِّم حَقِّي إليَّ، فقلت له: قُمْ يا شقيُّ، فوالله لا وفيت بهذا العهد والميثاق، كما لم تفِ لله ولرسوله ولي بما أخذناه عليك مِن العهد والميثاق والبيعة في جميع المواطن.

٩٨

فقال لي: بلى والله، فقلت له: ستعلم أنَّك مِن الكاذبين، ورقوت المنبر ودعوت بدعوات وسألت الله أنْ يُريه ما قلت له، ومسحت بيدي على عينيه، وقلت له وكُشف عنه غطاؤه ونظر إلى سارية وسائر الجيش وجيش الجبل، وما بقي إلاَّ الهزيمة لجيشه وقلت: صِحْ يا عمر إنْ شئت، قال: وأُسمِع؟ قلت له: وتُسمع، وتُنادي بصوتك إليهم، فصاح الصيحة التي سمعتموها (يا سارية الجبل الجبل)، فسمعوا صوته ولجأوا إلى الجبل، فسلَّموا وظفروا ونزل ضاحكاً كما رأيتموه، وخاطبته وخاطبني بما قد سمعتم) .

٩٩

قال جابر: فآمنَّا وصدَّقنا وشكَّ آخرون، إلى أنْ ورد البريد بحكاية ما حكاه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورآه عمر ونادى بأعلى صوته، فكان أكثر العوامِّ المتمرِّدين وابن الخطَّاب جعلوا هذا الحديث له مَنقبة، والله ما كان إلا مَثلبة..)(١) .

كان ليحتاج إلى رادارات و فضائيَّات، ويحتاج إلى فاكس سريع، بلْ يحتاج إلى أقمار صناعيَّة تُغطِّي أرض المعركة! وهذا كلُّه قام به علي بن أبي طالبعليه‌السلام بالعلم اللدُني، وقصاصات حقائق الفتوحات موجودة في كُتب التاريخ التي كتبوها هم! لكنَّها مُبعثرة، وجمعناها بحمد الله كنُبذه وكعيِّنة لمشروع علمي يستقصي البحث عسى الله تعالى يُقيِّض له ذوي الهِمَم لإنجازه.

____________________

١ - مدينة المعاجز ج ٢ ص ١٤-١٨.

١٠٠