من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 28634
تحميل: 4092

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28634 / تحميل: 4092
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من وحي الثورة الحسينيَّة

تأليف:

هاشم معروف الحسني

دارُ القَلَم

بيروت - لبنان

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

من وحي الثورة الحسينيَّة

يعرض هذا الكتاب صوراً عن مواقف الحسينعليه‌السلام من الحاكمين قبل ثورته وأهداف الثورة بعد أن وجد لها المناخ المناسب، كما يقدِّم صوراً عن بطولات العقيلة زينب بنت علي والعلويِّين والطالبيِّين، وعن حياة العقيلة منذ طفولتها حتّى فارقت الدنيا وعن مرقدها، والمآتم الحسينية والمراحل التي مرَّت بها ومواقف الحاكمين منها، معتمداً أوثق المصادر وأقربها من المنطق والواقع لإبراز هذه الجوانب من سيرة أهل البيت على واقعها، وأرجو أن أكون قد وفِّقت لذلك.

هاشم معروف الحسني

٥

٦

المقدِّمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيِم

والصلاة والسلام على محمد وآله والأئمة الهداة المهديِّين ورحمته وبركاته.

وبعد، فإن المتتبِّع في بطون الأسفار والمصادر يجد الكثير من الأبطال وعظماء الرجال الذين دفعهم دينهم وإيمانهم إلى الجهر بكلمة الحق والدعوة إلى العدالة باقتحام ميادين الجهاد والثورة على الظلم هنا وهناك؛ لينالوا شرف الدفاع عن عقيدتهم والمعذَّبين في الأرض من جور الطغاة وفراعنة العصور ولو أدى ذلك إلى استشهادهم والتضحية بكل ما يملكون. ولقد سجَّل التاريخ عشرات الثورات والانتفاضات لأولئك الأبطال المجاهدين وتحدَّث عن انتصاراتهم ومنجزاتهم، ولكنَّه لم يحدِّث عن ثورة في تاريخ الشعوب والأمم عاشت كما عاشت ثورة

٧

الحسين وكان لها من الضجَّة في عالمها وما بعده - في كل زمان ومكان - ما كان لثورة الحسين، وأعطت وقدَّمت للإنسان المسلم وغيره من المنجزات والقيم والمُثُل العليا ما أعطته وقدَّمته ثورة الحسين، ولا تزال حيَّة تعكس تفاعل الأمَّة مع التاريخ في تحرُّكٍ وعطاءٍ مستمرٍ في حاضر المسلمين كما كانت في ماضيهم الغابر، وأغنت بعطائها وأفكارها وأهدافها النبيلة تاريخ الإسلام، كما كشفت زيف أدعيائه والمتَّخذين منه ستاراً يخفون وراءه ما يضمرونه من شركٍ وشرّ وسوء لدعاته المخلصين؛ ولم يكن ذاك إلاَّ لأنَّها لم تكن لعصر دون عصر ولا لفئة من الناس دون فئة، كما لم تكن وليدة ظروف طارئة أو تحرُّكات سياسيَّة محدودة الآثار والدوافع وبعيدة عن أحاسيس الأمَّة وانفعالاتها، بل كانت النور الساطع للمسلمين في جميع تحرُّكاتهم الهادفة لإتمام المسيرة بالإسلام إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى التي أُرسل محمد بن عبدالله - رسول الرحمة والكرامة والحريف - من أجلها، وكانت المرآة الصافية للحاضر الذي كانت تعيشه الأمَّة، ولواقعها الذي كانت ترسف في أغلاله، والحقيقة الدائمة التي تتَّصل بالتكوين الدائم لعقل الإنسان وقلبه ومجتمعه وتلبِّي جميع حاجاته وطموحاته.

إنَّها الثورة الوحيدة من بين تلك الثورات والانتفاضات التي عبَّأت الإنسان المسلم وغيره منذ حدوثها ودفعت به في الطريق الدامي الطويل؛ طريق النضال والتحرير من الاستغلال والاستعباد والتسلُّط، وأسهمت - ولا تزال تُسهم - بدور هامٍ في تكوين الشخصية الثقافية والاجتماعية والسياسية، بعد أن كان المسلمون يوم ذاك يفقدون حريَّتهم وروحهم النضالية وحتّى وجودهم بفعل سياسة الحاكمين الأمويِّين، وقدَّمت مع ذلك للأمَّة نماذج من القيادات والأتباع ترسم لها مواقعها في مواجهة الأحداث والمواقف التي تعترض طريقها في مسيرتها نحو المستقبل الأفضل والمجتمع الأفضل. واستمرَّت تلك القيادات في مسيرتها بالرغم ممَّا كان

٨

يعترضها من انتكاسات تعرقل مسيرتها، وأحياناً تودي بها إلى الفشل الذي كان من نتائج تشدُّد تلك الأنظمة في إجراءات القمع والإرهاب لترسيخ أنظمتهم التي فرضوها على المجتمع من جميع نواحيه، ومع كل ما مرَّت به تلك القيادات خلال مسيرتها التاريخية من مراحل الصراع والجهاد تعرَّض فيها الشيعة لألوان من الأذى والعدوان، فقد كان لها مواقف مشهورة وبطولات رائعة كانت ثورة الحسين تمدُّها بالعزيمة والثبات وتدفع بهم إلى الأمام.

واستمرَّت تلك الثورات التي كانت روح كربلاء تسيِّرها يتلو بعضها بعضاً في مواجهة تلك الدولة الجائرة حتّى أنهكتها وقضت عليها وحلَّت محلَّها دولة أخرى قامت بسواعد الشيعة التي كانت تمثِّلها دولة الحسين، ولكنَّها مثّلت أسوأ الأدوار التي كانت تمثِّلها الدولة الأموية، فكانت الثورات والانتفاضات تتلو الواحدة الأخرى بقيادة العلويِّين وغيرهم، إلى غير ذلك من الانتفاضات التي لا يخلو منها عصر من العصور ولا زمان ومكان، ولكن البعض من تلك الثورات لم يكتب لها ولا لقادتها الخلود إلاّ لفترات محدودة من الزمن؛ لأنَّها كانت وليدة ظروف محدودة أو انفعالات عاطفية أو مصالح مخصوصة إلى غير ذلك من الدوافع، وكان عمرها محدوداً بعمر محتواها، ومن ثمَّ طواها التاريخ كما طوى غيرها من الأحداث.

إنَّ ثورة الحسين كانت الوهج الساطع الذي أضاء المسالك لمَن أراد المسيرة بالإسلام في طريقها الصحيح، والمرآة الصافية للتخلُّص من الحاضر الذي كانت تعيشه الأمَّة ومن واقعها الذي كانت ترسف في أغلاله، ومن أجل ذلك فقد دخلت في أعماقهم جيلاً بعد جيل، وستبقى خالدة خلود

قادتها؛ تستمدُّ بقاءها وخلودها من إخلاص قادتها وتفانيهم في سبيل الإسلام والمُثُل العليا ما دام التاريخ.

وكنتُ قد تحدَّثت عن ثورة الحسين ودوافعها بشكل أقرب إلى الإيجاز منه إلى التبسيط في كتابيالانتفاضات الشِّيعيَّة في العصر الأموي ،

٩

وعرضت فيه صوراً عن مواقف العقيلة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة في كربلاء والكوفة وقصر الخضراء في مجلس يزيد بن ميسون، وبعد تقديم الكتاب إلى الناشر وتقديمه إلى المطبعة وجدت رغبة ملحَّة من بعض الشباب المؤمن في إصدار كتاب مستقل حول أهداف الثورة الحسينية ومراحلها، وحياة العقيلة ومراحلها، من طفولتها إلى آخر مرحلة منها، ومرقدها الذي لا يزال مجهولاً ومردَّداً بين المدينة وضاحية الشام ومحلَّة الفسطاط من القاهرة، وعن المآتم الحسينية والمراحل التي مرَّت بها خلال تلك العصور التي تلت مصرع الحسينعليه‌السلام ؛ لتكون في متناول الجميع على حدِّ تعبير أولئك الشباب.

بعد تردُّد دام وقتاً ليس بالقصير وبعد الإلحاح لتحقيق هذه الأمنية وضعت هذا الكتاب، وافتتحته بفصل عن الثورة الحسينية وأهدافها، استخلصت قسماً من ذلك الفصل ممَّا عرضته في كتابيالانتفاضات الشِّيعيَّة ، وأضفت إليه ما انتهيت إليه في هذه الدراسة، وعرضت أبرز الجوانب من حياة العقلية منذ طفولتها وما قيل حول مرقدها، كما تعرَّضت للمآتم الحسينية ومراحلها ومواقف الحاكمين منها؛ الموالين والمخالفين، وقد جرَّني البحث عن مراقد الأئمَّة والأولياء إلى الوقوف قليلاً مع أولئك الحاقدين على الشيعة من شيوخ الوهابيِّين وغيرهم، وأرجو أن أكون قد وفِّقت لكشف بعض الحقائق التي لا يزال يكتنفها الغموض ولتلبية رغبات الشباب وبقيَّة القرَّاء، ومنه سبحانه أستمد العون والتوفيق وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن لا يحرمني من شفاعة الحسين وأبيه وجدِّه إنَّه قريب مجيب.

هاشم معروف الحسني

١٠

موقف الحسين عليه‌السلام من معاوية وتحرُّكاته

لقد اتخذ معاوية وغيره من الحاكمين الأمويِّين من الإسلام طلاء خفيفاً يسترون به نزعاتهم الجاهلية التي كانوا يعملون لإحيائها وتحوير الإسلام إلى مؤسَّسة تخدم مصالحهم وأهوائهم، وكان المجتمع الإسلامي يتململ تحت وطأة الظلم والاضطهاد الذي عبَّرت عنه مواقف حجر عن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما الذين قاوموا ظلم معاوية وأنصاره، ولكنَّ تلك المقاومة لم تأخذ مداها ولم تضع حدَّاً لتصرُّفات الحاكمين وجورهم، بل سرعان ما كانت تهمد أو تموت في مهدها عندما يلاحق أولئك الجزَّارون طلائعها بقتلهم أو زجِّهم في السجون والمعتقلات بدون أن يحرِّك المجتمع ساكناً، وإذا تحرك إنسان أغدقوا عليه الأموال وأغروه بالوعود كما حدث لمالك بن هبيرة السكوني الذي غضب لمصرع حجر بن عدي وأصحابه وراح يستعد للثورة، ولمَّا علم بتحركه معاوية، أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم، فأخذها وطابت نفسه.

لقد عاصر الحسينعليه‌السلام جميع تلك التحرُّكات التي قام بها الأمويُّون

١١

والحاقدون على الإسلام ومبادئه الإنسانية العادلة، لقد عاصرها منذ أن نشأت مع أبيه وأخيه وأصحابهما الكرام، وها هو بعد استشهاد أخيه بجنود العسل التي أعدَّها معاوية لكل مَن كان يخشى منه على دولته وأمويَّته، يقف وحيداً في وجه معاوية وأجهزة حكمه الإرهابي، ويرى بعيته اولئك الصفوة، بقيَّة السيف من شيعة أبيه وأخيه، يساقون أفواجاً إلى الجلاَّدين والجزَّارين في مرج عذراء وقصر الخضراء، ويرى منهج معاوية وحواشيه الذي اعتمدوه للوصول بالأمَّة إلى هذا المصير الكالح، وكيف يطاردون ويضطهدون العشرات والمئات من المسلمين عندما ينكرون ظلماً وعدواناً على القيم والمقدَّسات وكرامة الإنسان.

لقد عاصر مع أبيه وأخيه جميع تحرُّكاتهم المعادية للإسلام، وبقي وحيداً في ساحة الصراع مع معاوية وأجهزة حكمه الإرهابي المستبد الذي أراد للأمَّة أن تتحوَّل عن أهدافها، وللإسلام أن ينحرف عن مسيرته، ورآهم كيف يحوِّرون الإسلام ويزوّرون مبادئه الإنسانية التي جاء بها محمد بن عبدالله رحمة للعالمين، ورأى حملة التخدير على حساب الدين والكذب على رسول الله وكيف يبيع المسلم نفسه وحياته وحريَّته وكرامته بحفنة من الدراهم للحاكمين الظالمين ويرضى بحياته على ما فيها من نكد وقسوة وحرمان.

لقد رأى كل ذلك، وكان القلق يستبدُّ به والألم يحزُّ نفسه وقلبه لمصير الرسالة والإنسانية في ظل هذا التحوُّل الخطير الذي كان الأمويُّون يعملون على تعميقه واستئصال الشخصية الإسلامية؛ ليطمئن الحاكمون أنَّ تصرُّفاتهم لن تثير أي استنكار لدى الجماهير ويختفي من ضمائرهم الشعور بالإثم الذي يدفع المسلم إلى الثورة على الظلم والظالمين.

لقد استخدم الأمويُّون لاستئصال الروح الإسلامية والشخصية الإسلامية، بالإضافة إلى الأموال وجميع وسائل الإرهاب، مدرسة الرواة

١٢

والمحدِّثين والقصَّاصين، وعلى رأس هذه المدرسة أبو هريرة وكعب الأحبار وسمرة بن جندب وغيرهم ممَّن استخدموهم لصنع الأحاديث، وأفرزت مصانعهم ألواناً من الأحاديث نسبت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله افتراءً وبهتاناً، ومن أبرزها وأرضاها لمعاوية والحزب الأموي ما كان يتضمَّن القدح في علي وآل علي.

لقد بذل معاوية ما يعادل نصف المليون من الدراهم لسمرة بن جندب ليروي له عن الرسول أنَّ الآية:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... *... وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ )

في علي بن أبي طالب، وأنَّ الآية:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ ) في قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فروى له ما أراد، إلى كثير من أمثال ذلك حتّى أصبح تسخير المحدِّثين لهذه الغاية من السُّنَن المتَّبعة عند من جاء بعده من الأمويِّين والعبَّاسيِّين.

فقد جاء عن هشام بن الحكم أنَّه طلب من شهاب الزهري أو غيره من الرواة أن يروي له عن الرسول أنَّ الآية:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) نزلت في علي بن أبي طالب، فروى له ما أراد، وعندما أوعز الحاكمون لأنصارهم بتدوين الحديث دوَّنوا جميع هذه الأنواع من المخترعات، ولم يأذنوا لهم بتدوين ما جاء عن النبي في فضله، فقد جاء في المجلَّد الثاني من ضحى الإسلام لأحمد أمين أنَّ خالد بن عبدالله القسري طلب من الزهري أن يكتب سيرة النبي، فقال له الزهري: إنَّ سيرة النبي يمرُّ بها الكثير من سيرة علي ومواقفه الخالدة في خدمة الإسلام فما أصنع بهذا النوع من المرويات؟ فلم يأذن له بتدوين شيء يشير إلى فضل علي وتمجيده إلاَّ إذا تضمَّن قدحاً أو ذماً.

ومن تلك الألوان التي أفرزتها تلك المدرسة ما يرجع إلى تمجيد بني أميَّة وبلاد الشام؛ وما إلى ذلك ممَّا يتعلق بعثمان بن عفَّان ومعاوية بن هند

١٣

وإعطائهما صفات القدِّيسين؛ كالذي رواه أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال:(إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة: أنا وجبرائيل ومعاوية) وأنَّه قال:(إذا لقيتم بعدي اختلافاً، فعليكم بالأمين عثمان بن عفَّان) .

ومن تلك المرويات ما يرجع إلى تخدير المسلمين عن الثورة والتحرُّك ضد الحاكمين مهما بالغوا في الجور والظلم، وأنَّ مقاومتهم لاستبدالهم بغيرهم - حتّى ولو كان البديل من أعدل الناس وأحرصهم على مصالح المسلمين وعلى مسيرة الإسلام - لا يقرُّها الإسلام.

فمن ذلك ما رواه أصحاب الصحاح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه كان يقول:(مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإنَّ من فارق الجماعة شبراً ومات، مات ميتة جاهلية) ، وأنَّه كان يقول:(ستكون هنات وهنات، فمَن أراد أن يفرَّق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً مَن كان) إلى غير ذلك ممَّا رواه البخاري في صحيحه وغيره من محدِّثي السُّنَّة في مجاميعهم.

وإلى جانب ما أنتجته مصانع أبي هريرة وغيره من تلك العصابة، اخترع الحاكمون لوناً آخر من ألوان التضليل الديني وهو تأسيس الفرق الدينية التي تقدِّم للجماهير تفسيرات للدين تخدم تسلُّط الحاكمين وتبرِّر جورهم وظلمهم؛ كفرقتي المرجئة والمجبرة اللَّتين ظهرتا في عهد معاوية، وساعد على دعمهما وانتشارهما حتّى أصبحتا من أوفر المذاهب حظَّاً لدى الحاكمين وفراعنة العصور، هذا بالإضافة إلى عدالة الصحابة التي لا تقلُّ خطراً عن فكرتي الإرجاء والجبر، والتي تجعله وأباه والمروانيِّين الأوزاغ من الكذَبة والمجرمين في صفوف الصلحاء، ولا تسمح لأحد أن ينالهم بسوء.

لقد رافق أبو عبد الله كل ذلك، وكان يتلوَّى ويتألَّم للمصير الذي ينتظر الإسلام من معاوية وغيره من القردة الذين سينزون على منبر الرسول ويستخدمون الإسلام لجاهليَّتهم الأولى، وكانت مبرِّرات

١٤

الثورة على الحكم الأموي موفورة في عهد معاوية، والحسين يدركها ويعرفها، وأحياناً كان يعبِّر عنها في المجالس والمجتمعات والمناسبات ويصارح بها معاوية في الرسائل التي كان يوجهها إليه بين الحين والأخر.

وجاء في بعض أجوبة رسائله إليه: (وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتَّى أفرطت، واستأثرت حتَّى أجحفت، ومنعت حتّى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقِّه من نصيب حتّى أخذ الشيطان حظَّه الأوفر ونصيبه الأكمل).

وفي رسالة ثانية وجَّهها إليه جاء فيها: (أولَستَ المدَّعي زياد بن سُمية، المولود على فراش عبيد عبد ثقيف، فزعمت أنَّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فتركت سنَّة رسول الله واتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلَّطته على أهل العراق، فقطع أيدي المسلمين وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم على جذوع النخل، كأنَّك لست من هذه الأمة، وليسوا منك؟!

أولَستَ صاحب الحضرميين الذين كتب إليك فيهم ابن سمية: أنَّهم على دين علي ورأيه، فكتبت إليه اقتل كل مَن كان على دين عليعليه‌السلام ورأيه، فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك، ودين علي - والله - وابن علي الذي كان يضرب عليه أباك، وهو أجلسك بمجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك، لكان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشُّم الرحلتين اللَّتين بنا من الله عليكم فوضعهما عنكم؟ وقلت فيما تقول: (أنظر نفسك ولدينك ولأمَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتَّق شقَّ عصا هذه الأمة وأن تَرِدَهم في فتنة)، فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي وولدي وأمَّة جدِّي أفضل من جهادك).

وكان معاوية يتمنَّى عليه أن يخفِّف من أسلوبه معه ويتوسَّل لذلك، بالشدة حيناً وباللين والمغريات حيناً آخر، وبخاصة عندما عزم على البيعة لولده من بعده؛ لأنَّ سكوته يؤمِّن له انقياد الأمَّة ويمكِّنه من ممارسة سياسته بدون خشية، ولكن الشدة لم تكن لتحدَّ من نشاطه ولا المغريات

١٥

لتخدعه عمَّا يؤمن به ويعمل من أجله؛ لأنَّ دوره الرسالي يفرض عليه أن لا يسكت ولا يهادن، وأن يثور راجياً أن تهزَّ ثورته ضمير الأمة التي انحنت وخضعت لجبروت السلطة زمناً طويلاً، ولأن المجتمع الذي خضع طويلاً لجبروت الأمويِّين وانحنى لكبريائهم لم يعد يصلحه الكلام ولا بدَّ له من شيء جديد يهزه ويحركه.

هذا الواقع الكالح الذي كانت تتخبط فيه الأمَّة وضع الحسينعليه‌السلام وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي ورسالته النضالية، وفرض عليه أن يثور من أجل كرامة الأمة وإنقاذ شريعة جده من أعدائها الألداء عندما يجد أن ثورته ستعطي ثمارها المرجوة وأن شهادته ستقضّ مضاجع الظالمين والطغاة المستبدين وتبقى المثل الغني بالعطاء لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان في شرق الأرض وغربها.

١٦

لماذا حارب الحسين يزيداً ولم يحارب معاوية؟

والسؤال الذي يراود الأذهان في المقام ويفرض نفسه هو: إنَّ الحسينعليه‌السلام قد عاصر معاوية مع أبيه وأخيه وعاصره بعد أخيه كما ذكرنا نحواً من عشر سنوات، وكان وحده مهوى الأفئدة ومحطَّ آمال المعذَّبين والمشرَّدين والمضطهدين، ولم يترك معاوية خلال تلك المدة من حكمه باباً من أبواب الظلم إلاّ وانطلق منه، ولا منفذاً للتسلُّط على الناس إلاّ وأطلَّ منه؛ فقتل آلاف الصلحاء وعذَّب وشرَّد واضطهد مئات الألوف بلا جرم ارتكبوه ولا بيعة نقضوها، وكان ذنبهم الأوَّل والأخير هو ولائهم لعلي وآل علي. وكان القدوة لجميع مَن جاء بعده من الأمويِّين في جورهم واستهتارهم بالقيم والمقدَّسات وتحوير الإسلام إلى الشكل الذي يحقِّق أحلام أبي جهل وأبي سفيان وغيرهما من طواغيت القرشيِّين والأمويِّين، ولم يكن ولده ابن ميسون إلاَّ صنيعة من صنائعه وسيئة من سيآته، فلماذا والحالة هذه قعد عن الثورة المسلَّحة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرِّراتها واكتفى بالثورة الإعلامية في حين أنَّ المبرِّرات التي

١٧

دفعته على الثورة على يزيد كانت امتداداً لتلك التي كان يمارسها معاوية من قبله؟

هذا التساؤل يبدو - ولأول نظرة - سليماً ومقبولاً، ولكنَّه بعد التدقيق ومتابعة الإحداث التي كان المسلمون يعانون منها، وواقع معاوية بن هند والوسائل التي كان يستعملها لتغطية جرائمه لم يعد لهذا التساؤل ما يبرِّره؛ ذلك لأنَّ الواقع المرير الذي فرض على الإمام أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام أن يصالح معاوية ويتنازل له عن السلطة الزمنية فرض على الحسين أن لا يتحرَّك عسكرياً في عهد معاوية، وأن يفرض على شيعته وأصحابه الخلود إلى السكينة وانتظار الوقت المناسب؛ لأنَّ الحسن لو حارب معاوية في تلك الظروف المشحونة بالفتن والمتناقضات مع تخاذل جيشه وتشتيت أهوائهم وآرائهم، ومع شراء معاوية لأكثر قادتهم ورؤسائهم بالأموال والوعود المغرية، بالإضافة إلى ما كان يملكه من وسائل التضليل والإعلام التي كان يستخدمها لتضليل الرأي العام، لو حارب الحسن في تلك الظروف، فكل الدلائل تشير إلى أنَّ الحرب ستكلِّفه نفسه ونفس أخيه الحسين واستئصال المخلصين من أتباعه وشيعته، ولا ينتج منها سوى قائمة جديدة من الشهداء تضاف إلى القوائم التي دفنت في مرج عذراء ودمشق والكوفة وغيرها من مقابر الشهداء الأبرار.

وبلا شك فإنَّ الإمام أبا محمد الحسن لم يكن يتهيَّب الشهادة لو كانت تخدم المصلحة العامة وتعدُّ المجتمع الإسلامي إعداداً سليماً للثورة والتضحية بكل شيء في سبيل المبدأ والعقيدة كما فعلت ثورة الحسين في حينها؛ التي قدَّمت للإنسان المسلم نمطاً جديداً من الثوَّار لا يستسلم للضغوط مهما بلغ حجمها، ولا يساوم على إنسانيته ودينه ومبدأه مهما كانت التضحيات، ولم يكن الحسين أقلُّ إدراكاً لواقع المجتمع العراقي

١٨

من أخيه الحسن، فقد رأى من خيانته وتخاذله واستسلامه للضغوط مثل ما رأى أخوه وأبوه من قبله؛ لذلك كلِّه فقد آثر التريُّث بينما تتوفَّر لشهادته أن تعطي النتائج التي تخدم الإسلام وتبعث اليقظة والروح النضالية في نفوس المسلمين، وراح يعمل على تهيئة المجتمع الإسلامي للثورة وتعبئته لها بدل أن يحمل على القيام بثورة ستكون فاشلة في عهد معاوية وتكون نتائجها لغير صالحه.

لقد مضى على ذلك في حياة أخيه وبعد وفاته؛ ففي حياته حينما جاءته وفود الكوفة تطلب منه أن يثور على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة أخيه، قال لهم: (صدق أبو محمد: فليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيَّاً) كما جاء في الأخبار الطوال للدينوري، وبعد أخيه كتبوا إليه وأكَّدوا عليه يسألونه القدوم عليهم ومناهضة معاوية، فأصرَّ على موقفه الأول، وقال لهم: (أمَّا أخي، فأرجو أن يكون قد وفَّقه الله وسدَّده فيما يأتي، وأمَّا أنا، فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا - رحمكم الله - بالأرض، واَكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنَّة ما دام معاوية حيَّاً) إلى كثير من مواقفه التي تؤكِّد بأنه كان يرى أن الثورة على معاوية لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن الخلود إلى السكينة والابتعاد عن كل ما يثير الشبهات وضغائن الأمويِّين عليه وعلى شيعته وأنصاره في حياة معاوية أجدى وأنفع لهم وللمصلحة العامة، وفي الوقت ذاته كان كما ذكرنا يعمل لإعداد المجتمع وتعبئته بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه بأن شهادته ستعطي النتائج المرجوَّة.

وبالفعل! لقد اتسعت المعارضة في عهده وظهرت عليها بوادر التغيُّر والميل إلى العنف والشدَّة، وبخاصة بعد أن جعل ولاية عهده لولده الخليع المستهتر، فكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدوِّياً في أوساط المدينة وخارجها حيث الإمام الحسين الرجل الذي اتجهت إليه الأنظار

١٩

من كل حدب وصوب، وهو ما حدا بالأمويِّين إلى التحسُّس بهذا الواقع والتخوُّف من نتائجه. فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذِّره من التغاضي عن الحسين وأنصاره، وجاء في كتابه إليه: (إن رجالاً من أهل العراق ووجوه الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وإنِّي لا آمن وثوبه بين لحظة وأخرى، وقد بلغني استعداده لذلك، فاكتب إليَّ برأيك في أمره). ولم يكن معاوية في غفلة عن ذلك، وكان قد أعدَّ لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة، والحسين يعرف ذلك ويعرف بأن ثورته لو كانت في ذلك الظرف ستنجلي عن استشهاده، والاستشهاد بنظره لا وزن له ولا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس وفي قلوبهم وهجاً ساطعاً تسير الأجيال على ضوئه في ثورتها على الظلم والطغيان في كل أرض وزمان.

وكان معاوية يدرك ويعي بما للحسين من منزلة في القلوب وبأن ثورته عليه ستزجُّه في أجواء تعكر عليه بهاء انتصاراته التي أحرزها في معركة صفِّين وفي صلحه مع الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام ، ولو قدِّر لها أن تحدث يوم ذاك، فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل ليتخلَّص منه قبل

استفحالها، وقبل أن يكون لها ذلك الصدى المفزع في الأوساط الإسلامية ولو بواسطة جنود العسل التي كان يتباهى بها ويستعملها للفتك بخصومه السياسيين حينما كان يحسُّ بخطرهم على دولته وأمويَّته، ولو تعذر عليه ذلك، فسوف يمارس جميع أشكال الاحتيال والتضليل والمراوغة حتّى لا يكون لشهادة الحسين ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ إلى الأعماق ويحرِّك الضمائر والقلوب للثورة على دولته وأعوانها، ولكي يبقى أثرها محدوداً لا يتجاوز قلوب أهله ومحبِّيه وشيعته إلى حين ثمَّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات والإحداث.

ولعل ذلك هو الذي اضطر الحسين إلى التريُّث وعدم مواجهة معاوية بالحرب، ودعوة أصحابه وشيعته الذين كانوا يراسلونه ويتوافدون

٢٠