من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 28792
تحميل: 4163

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28792 / تحميل: 4163
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والي المدينة ما جرى للحسين بن علي قائد معركة فخ، أمر بهدم داره ودور الطالبيِّين وصادر أموالهم وممتلكاتهم.

وجاء في مقاتل الطالبيِّين للإصفهاني أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مرَّ بفخ، فنزل وصلَّى ركعتين، وقبل أن ينتهي منهما بكى وهو في صلاته، فلمَّا رآه المسلمون بكوا لبكائه، ولمَّا سألوه عن سبب بكائه قال: (نزل عليّ جبريل لمَّا صلَّيت الركعة الأولى وقال: يا محمد، إنَّ رجلاً من ولدك يُقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين)(1) .

ولمَّا جاء دور الرشيد - الخليفة العبَّاسي الخامس - مثَّل أسوأ الأدوار معهم، وأقسم - كما جاء في الأغاني، ط دار الكتب بالقاهرة - على استئصالهم وكل مَن يتشيَّع لهم وقال: حتَّام أصبر على آل أبي طالب، والله لأقتلنَّهم وأقتل شيعتهم أينما حلُّوا. وأمر بأخراجهم من بغداد إلى المدينة وأمر واليه عليها أن يأخذ الضمانات منهم ويتعهَّد بعضهم ببعض، وعندما أرسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد أمره أن يغير على دور آل أبي طالب ويسلب ما على نسائهم من الثياب، ولا يترك لكل واحدة منهنَّ إلاّ ثوباً واحداً يسترها.

ولم يكتفي بذلك حتّى هدم قبر الحسين وقطع السدرة الكبيرة التي كانث إلى جانبه؛ لا لشيء إلاّ لأنَّ زوَّار قبر الحسينعليه‌السلام كانوا يستظلٌُّون تحتها من حرارة الشمس، وقد تولَّى له تنفيذ هذه المهمة موسى بن عيسى بن موسى العبَّاسي(2) .

____________

(1) انظر: أبو الفرج، مقاتل الطالبيِّين، ص 290 وما بعدها.

(2) المظفَّر، تاريخ الشيعة، و الشيخ عبَّاس القمي، الكنى والألقاب، والمناقب لابن شهر آشوب، والكامل لابن الأثير.

١٦١

وتوَّج موبقاته كلِّها بحبس الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وأخيراً بقتله بالسم بواسطة جلاّديه وجلاوزته، وفي عهده امتلأت سجونه من العلويِّين وشيعتهم وكل مَن يُتَّهم بالتشيُّع لهم على حدِّ تعبير أحمد أمين في المجلَّد الثالث من ضحى الإسلام.

واشتهر المتوكِّل بعدائه الشديد للعلويِّين؛ فقد جاء في تاريخ ابن الأثير وهو يستعرض حوادث سنة 236 أنَّ المتوكِّل العبَّاسي كان شديد البغض والكراهة لعلي وآل علي، وإذا بلغه أنَّ أحداً يتولَّى عليَّاً وآل علي، صادر أمواله وقتله. وأضاف إلى ذلك أنَّه كتب إلى واليه في مصر يأمره بإخراج آل أبي طالب منها وطردهم إلى العراق، وكانوا في مصر يردِّدون في مجالسهم ما صنعه الأمويُّون مع الحسين وأسرته وأصحابه ويبكون لِمَا

أصابهم، فأخرجهم الوالي منها واستتر أكثر مَن كان فيها من شيعة آهل البيت، كما استعمل على المدينة ومكَّة المكرَّمة عمر بن الفرج الرجحي فمنعه من البرِّ بآل أبي طالب كما منع العلويِّين من التعرُّض للناس والاتصال بأحد، ولم يبلغه عن أحدٍ برَّ علوياً إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله عزماً، فساءت حالة العلويِّين واضطر نساؤهم إلى التزام بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقَّع في الصلاة الواحدة تلو الأخرى، ويجلسن عاريات على منازلهنَّ لكي يشترين ما يسد رمقهن من خبز الشعير بأثمان غزلهن.

لقد قضت مشيئة خليفة المسلمين العبَّاسي في نسبه الأموي الحاقد في روحه ومشاعره أن تعتكف العلويَّات الطاهرات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع إذا حضرت أوقات الصلاة، ثم يجلسن على مغازلهن عاريات ليشترين بأثمان غزلهن ما يسد رمقهن من الخبز، وأن تختال نساؤهم وجواريهم الفاجرات الراقصات بالحلي وحُلل الحرير والديباج بين الغلمان والسكارى من حواشي الخليفة، ويجلسن على موائد الطعام المؤلفة من جميع المأكولات والخمور، وأهل البيت ونساؤهم

١٦٢

وأطفالهم يتلوُّون من آلام الجوع، أذلَّاء صاغرين، وكان يقرِّب إليه كلَّ مَن يكره علياً أمير المؤمنين كعلي بن الجهم وأمثاله ممَّن كانوا يشتمون

عليَّاًعليه‌السلام ، ونظراً لأنَّ أباه الجهم بن بدر كان من الموالين لعلي قال بعض شعراء الشيعة في علي بن الجهم:

لعمرك ليس الجهم بن بدر بشاعر

وهذا علي ابنه يدَّعي الشعرا

ولكنْ أبي قد كان جاراً لأمِّه

فلمَّا ادعى الأشعار أوهمني أمرا

يشير بهذين البيتين إلى الحديث الشائع عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه قال لعليعليه‌السلام بحضور جماعة من المهاجرين والأنصار: (ياعلي، لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق).

وكان ابن السكِّيت من كبار العلماء والأدباء في زمانه وقد ألزمه المتوكِّل بتعليم ولديه المعتز والمؤيَّد، فقال له يوماً: أيُّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أو الحسن والحسين؟ فردَّ عليه ابن السكِّيت بقوله: والله، إنَّ قنبراً خادم الحسن والحسين أحبُّ إليَّ منك ومن ولديك، فأوعز المتوكِّل إلى جلاَّديه من الأتراك أن يستخرجوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك ومات من ساعته، وكان يقول:

يصاب الفتى من عثرة بلسانه

وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجْلِ

فعثرته في القول تُذهب رأسه

وعثرته في الرِّجْل تبرأ على مهلِ

لقد نسي (رحمه الله) هذين البيتين اللذين كان يردِّدهما وكأنَّه كان يعني نفسه بهما، لقد سيطر عليه الولاء لأهل البيت واستفزَّه استخفاف المتوكِّل

بهم، فأبت له نفسه الكبيرة أن يتَّقيه ويقول ما لا يؤمن به، فذهب في قافلة الشهداء، ولعلَّه كان من أفاضلهم بمقتضى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطَّلب ورجل تكلَّم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله).

١٦٣

لم يكتف المتوكِّل بالتنكيل بشيعة أهل البيت ومطاردتهم فأراد أن يمنعهم عن زيارة الحسين ففرض عليهم الضرائب وهدَّدهم وتوعَّدهم بالقتل ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، فلم يخضعوا لتهديده ولا لوعيده واستمرت وفود الشيعة على كربلاء في تصاعد مستمر، يكمنون بالنهار ويسيرون ليلاً، ولمَّا لم يجد سبيلاً لاستئصال هذه الظاهرة الشيعية اتخذ قراراً بهدم القبر وإزالة معالمه؛ ليضيع مكانه ولا يهتدون إليه، ويأبى الله إلاّ أن يتمَّ نوره ولو كره

المشركون.

لقد أراد معاوية من قبله أن لا يتحدَّث أحد عن فضل علي وآثاره، فكتب إلى عمَّاله في جميع المقاطعات الإسلامية: برئت الذمة ممَّن يروي حديثاً في فضل عليّ وآل علي وممَّن يذكرهم بخير، وكتب المتوكِّل الهاشمي وابن عمِّ العلويِّين إلى عمَّاله برئت الذمة ممَّن يبرُّ العلويِّين ويحسن إلى أحد منهم، وقتل معاوية الحسن بن علي والمئات من صلحاء المسلمين لأنَّهم لم يعلنوا براءتهم من علي وآل علي، وكذلك فعل المتوكِّل وأسلافه من أحفاد هاشم وعبد المطَّلب، وقتل يزيد بن معاوية الحسن بن علي وعشرين شاباً من أحفاد أبي طالب، وقال المنصور العبَّاسي حفيد عبد المطَّلب: قتلتُ من ولد فاطمة ألفاً أو يزيدون. وترك لولَده المهدي غرفة من غرف قصره مملوءة برؤوسهم ومع كل رأس رقعة باسمه ونسبه ليقتدي به خليفته من بعده(1) وهدم المتوكِّل قبر أمير المؤمنين وقبر الحسين حتّى لا يهتدي إليهما أحد من الشيعة ويذهب لزيارتهما، ولكنَّ طيب تراب القبر دل على القبر.

فكان معاوية بمحاولته الفاشلة إخفاء فضائل أمير المؤمنين كأنَّه يأخذ بضبعه إلى السماء على حد تعبير الشعبي وعبد الله بن عروة بن الزبير

____________

(1) انظر: تاريخ الطبري، والنزاع والتخاصم للمقريزي.

١٦٤

لولديهما، وكان المتوكِّل بمحاولاته لإخفاء قبر الحسينعليه‌السلام أنَّه جعله من الأبراج التي تناطح السحاب وتثير أحقاد الحاكمين من حكام العصور.

ونعود بعد هذه اللمحات القصار عن مواقف العبَّاسيِّين من العلويِّين إلى الحديث عن مرقد الحسين لنعود إلى إعطاء صورة أوسع عن جور العبَّاسيِّين بعد الفراغ من هذا الفصل الذي خصَّصناه للمآتم الحسينية وزيارة مرقده، وما دمنا بصدد الحديث من المآتم الحسينية وزيارة مرقد الحسين نعود لأبي الفرج الأصفهاني لنرى ما فعله المتوكِّل بقبر الحسين ومع زائريه، فقد جاء في مقاتل الطالبيين أنَّ المتوكِّل الهاشمي كان شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً على جماعتهم وشديد الحقد والغيظ عليهم، وكان وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان يشاركه في سوء الرأي بهم فحسَّن له القبيح في معاملتهم وبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من بني العبَّاس قبله، وكان من سوء فعله أن كرب قبر الحسين وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق المؤدِّية إليه مسالح من جنده لا يجدون أحداً في طريقه لزيارته إلاّ قتلوه أو أنهكوه تعذيباً، ومضى يقول: لقد حدَّثني أحمد بن الجعد الوشا وقد شاهد بنفسه ذلك فقال: كان السبب في حراثة قبر الحسين أنَّ بعض المغنِّيات كانت تبعث بجواريها إلى المتوكِّل قبل خلافته يغنِّين له إذا شرب، فلمَّا تولَّى الخلافة بعث إلى تلك المغنِّية فعرف أنَّها كانت غائبة في زيارة الحسينعليه‌السلام ، ولمَّا بلغها خبره أسرعت في الرجوع وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟ فقالت: لقد خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان، فقال: وإلى أين حججتم ونحن في شعبان؟ فقالت: قصدنا قبر ابن عمِّك الحسين بن عليعليه‌السلام ، فاستشاط غضباً وأمر بمولاتها فوضعها في سجنه وصادر أملاكها، وبعث برجل من أصحابه يقال له: (الديزج) - وكان يهودياً - إلى مرقد الحسين وأمره بهدمه وأن يكرب محلَّه ولا يترك له أثراً،

١٦٥

كما أمره بهدم كل ما حوله من الأبنية، فمضى لذلك ونفَّذ جميع ما أمره به المتوكِّل؛ فهدم ما حوله من البناء والبيوت التي كان أصحابها يستقبلون الزوَّار فيها وكرب نحواً من مائتين جريب حوله، فلمَّا بلغ إلى القبر لم يتقدَّم لهدمه أحد ممَّن كانوا معه من جنود المتوكِّل وأنصاره، فأحضر قوماً من اليهود فهدموه ثم كربوه وأجروا الماء عليه وعلى ما حوله من الأراضي، وأوكل أمر ملاحقة الزوَّار إلى جنوده وجلاوزته، فكل مَن وجدوه متوجِّها لزيارته اعتقلوه وأرسلوه إليه، وأضاف إلى ذلك الأصفهاني في مقتله أنَّ محمد بن الحسين الأشتاني قال:

لقد بَعُد عهدي بالزيارة في تلك الأيَّام خوفاً من السلطة الحاكمة، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها - وساعدني رجل من العطَّارين

على ذلك - فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتّى أتينا نواحي الغاضرية وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلَّحتين حتّى أتينا محلَّ

القبر - وقد خفي علينا - فجعلنا نشمَّه ونتحرَّى جهته حتّى أتيناه وقد قُلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه ثم انكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها في جميع أنواع الطيب، فقلت للعطَّار الذي كان معي: أيُّ رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها شيئاً من العطر، فودَّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلمَّا قتل المتوكِّل، اجتمعنا مع جماعة من الطالبيِّين والشيعة حتّى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه(1) .

وجاء في الأمالي للشيخ الطوسي عن عبد الله بن دانية الطوري أنَّه قال: حججت سنة 247 فلمَّا انتهيت من أعمال الحج ورجعت إلى العراق

____________

(1) انظر: أبو الفرج، مقاتل الطالبيِّين، ص 395 و396.

١٦٦

زرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على حال خيفة من السلطان، ثم توجهت إلى زيارة الحسينعليه‌السلام في كربلاء فإذا مرقده قد حرث وفجِّر فيه الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض، فبعيني وبصري رأيت الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتّى إذا وصلت القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ولا تطأ القبر بحال أبداً، فلم أتمكن من الزيارة، فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول:

تالله إنْ كانت أميَّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبَّعوه رميما

وقيل - كما هو الشائع - أنَّ الأبيات للشاعر البسامي ويجوز أن يكون عبد الله بن دانية قد استشهد بها بعد شيوعها.

وقال الطبري في المجلَّد التاسع وفي أحداث 236 أنَّ عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية التي فيها القبر: مَن وجدناه عند قبر الحسين بعد ثلاثة أيَّام بعثنا به إلى المطبِق، فهرب الناس من حواليه(1) .

وقد أثَّر هذا الإرهاب إلى حدٍّ ما على نشاط تحرُّكات الشيعة نحو زيارة مراقد الأئمةعليه‌السلام وبخاصة زيارة الحسين، بعد أن تعاظم أسلوب القمع والإرهاب لبعض الوقت إلى حدٍّ حمل الإمام الثاني عشر محمد بن الحسنعليه‌السلام إلى إصدار توجيه عام إلى الشيعة ينهاهم فيه عن زيارة مرقد الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد في مقابر قريش وحرم الحسين في كربلاء كما جاء في أعلام الورى وغيبة الطوسي، ولكن أساليب

____________

(1) المطبق: سجن تحت الأرض لا يرى الشمس ولا الهواء غالباً، وقلَّمَا ينجو أحد ممَّن يدخلون إليه، وهو سجن المحكومين بالإعدام.

١٦٧

القمع والإرهاب لم تدم طويلاً وكان لها ردَّة فعل واسعة في الأوساط الشيعية؛ فما أن أحسَّ الشيعة بالانفراج حتّى اخذوا يتوافدون على زيارة مرقد الحسين بكثافة وبصورة أشد تنوُّعاً ممَّا كانت عليه قبل أن يصدر الحاكمون أوامرهم بالمنع والتنكيل بالزائرين.

واعتقد الشيعة أنَّ المرقد الشريف لم يتأثَّر أبداً بالماء وظلَّ على حاله والشيعة يتوافدون عليه في مواسم معدودة من كل عام، وبعد قرن من الزمن كتب ابن حوقل عن المشهد الذي بني فوق ضريح الحسينعليه‌السلام ووصفه بأنَّه غرفة واسعة تعلوها قبة لها باب من كل جهاتها الأربع، وفي عهد البويهيين هاجم البلدة المحيطة بضريح الحسينعليه‌السلام فريق من الأعراب جاءوا من عين التمر وضربوا المشهد وغيره من الأماكن المجاورة له، فصب عليهم بنو بويه جام غضبهم وعاقبوهم بأقسى ما يكون من العقوبات، وأعاد عضد الدولة بناء المرقد وما تهدم حوله إلى ما كان عليه وبسط عليها الحماية فجعل الناس يتهافتون إلى زيارته من كل مكان.

وفي ربيع الأول من سنة 407 هجرية، 1016 ميلادية، شبَّ حريق في البناء فتهدَّمت القبة التي على المرقد والأروقة واحترقت، وأعاد بنائها الحسين بن الفضل وبنى سوراً حول كربلاء، ومن ذلك الوقت تشابه تاريخ النجف وكربلاء: فاحترمهما الأتراك الذين احتلوا العراق، وزار ملك شاه سنة 479 المشهدين ووزع الصدقات والأموال على أهالي البلدتين، ونجتا من غزو المغول، وتوالت زيارة أمراء الشيعة وحكَّامهم إلى البلدتين ورعايتهما. وخلال القرن السابع زار كربلاء الخان غازي - أحد حكَّام إيران - وحمل معه إلى المرقد الشريف بعض الهدايا الثمينة وشق أرغون من نهر الفرات إلى البلدة قناة أصبحت تعرف فيما بعد بنهر الحسينية، كما حافظ العثمانيون على المشهدين في كربلاء والنجف، وكانت الأوامر تصدر إلى

١٦٨

الولاة في بغداد بالمحافظة عليهما والعناية بهما(1) . وبقي مرقد الحسين ومراقد الأئمةعليه‌السلام كعبة تتوافد إليهما الملايين في كل عام من مختلف أنحاء العالم للتبرُّك بهما والعبادة والتوسُّل إلى الله سبحانه بقضاء حوائجهم بالرغم من جميع وسائل الإرهاب والقمع التي استعملها الحاكمون للتنكيل بالوافدين على مراقدهم، وبقي أعداؤهم لعنة على لسان الأجيال ومراقدهم محلَّاً لتجمُّع النفايات في البلاد التي دفنوا فيها.

ومهما كان الحال، فلقد انفرجت الأزمة التي اجتاحت الشيعة بموت المتوكِّل العبَّاسي إلى حدٍّ ما واستيلاء ولده المنتصر على السلطة من بعده، كما نصَّ على ذلك ابن الأثير وغيره من المؤرِّخين؛ فلقد قال في معرض حديثه عن حوادث سنة 248 أنَّ المنتصر أمر بزيارة قبر الحسين وعليعليه‌السلام وآمن العلويِّين وأطلق سراحهم وردَّ عليهم فدكاً، وكان أول ما أحدثه أن عزل عن المدينة صالح بن علي الذي كان يتتبعهم بكل أنواع الأذى والظلم والجور وعيَّن مكانه علي بن الحسن بن إسماعيل بن العبَّاس بن محمد، ولمَّا دخل عليه ليودِّعه وهو في طريقه إلى المدينة، قال له: يا علي، إنِّي موجِّهك إلى لحمي ودمي وساعدي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملني فيهم.

واستمر الشيعة - أينما حلُّوا - يحتفلون بذكرى الحسين الأليمة ويردِّدون ما جرى عليه وعلى أسرته وعائلته من القتل والسبي والتمثيل وبكل مظاهر التشيُّع في العشرة الأولى من المحرَّم وغيرها من المناسبات؛ سواء في ذلك البلاد التي غلب عليها التشيُّع كالعراق أم غيرها من المقاطعات التي كان

____________

(1) انظر: مُغْنِيَة، الشيخ محمد جواد، الحسين وبطلة كربلاء، ص 135.

١٦٩

الشيعة فيها يشكِّلون الأقلِّيَّة بالنسبة إلى غيرهم كما هو الحال في مصر يوم كانت في سلطة كافور الإخشيدي الذي كان كما يصفه بعض المؤرِّخين شديد التعصُّب على أهل البيت وشيعتهم، ومع ذلك فقد اظهروا فيها من الصلابة والتماسك مع قلَّتهم بالنسبة لغيرهم ما فرض على كافور أن يصانعهم ويتغاضى عمَّا يقومون به في كل عام من مظاهر الحزن والجزع لِمَا أصاب أهل البيتعليه‌السلام .

ولم تنفرج الأزمة في مصر انفراجاً كاملاً إلاّ بعد أن تغلَّب عليها الفاطميُّون وحكمها المعز لدين الله الفاطمي، فارتفعت معنويات الشيعة بوجودهم وهيَّأوا لهم جميع الأجواء المناسبة واشتركوا معهم في إحياء تلك الذكرى وبذلوا في سبيلها الأموال بسخاء لا مثيل له، وكان ذلك منهم - كما لا يبعد - ردَّاً على حملات التشكيك في نسبهم التي شنَّها عليهم العبَّاسيُّون وساهم فها كبار علماء السُّنَّة يومذاك.

وقال المقريزي في خططه: كان الفاطميون في يوم عاشوراء ينحرون الإبل والبقر لإطعام الناس ويكثرون النوح والبكاء، ويتظاهرون بكل مظاهر الحزن والأسف، واستمروا على ذلك حتّى انقرضت دولتهم وجاء عهد الأيوبيِّين الذين مثَّلوا أدوار الأمويين والعبَّاسيين مع الشيعة، وأضاف المقريزي إلى ذلك بروايته عن ابن ذولاق في سيرة المعز لدين الله أنَّه في يوم عاشوراء من سنة 363 انصرف خلق من الشيعة إلى قبرَيْ أم كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالهم بالنياحة والبكاء على الحسين ومَن قُتل معه من أسرته وبنيه وكسروا أواني السقَّائين.

وفي سنة 396 جرى الأمر على ما كان يجري في كل عام من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والبكاء والنشيد، واستطرد المقريزي في وصف ما كان عليه حال

١٧٠

الفاطميين من قيامهم بمناسبة ذكرى مصرع الحسين بمظاهر الحزن والأسف حكومةً وشعباً، ومضى يقول: إذا كان يوم العاشر، احتجب الخليفة عن الناس لمدة من الوقت، فإذا ارتفع النهار، ركب قاضي القضاة والشهود وغيَّروا زيَّهم ومضوا إلى مشهد الحسين، فإذا دخلوا اخذوا ينشدون الشعر في رثاء أهل البيتعليه‌السلام إلى أن تمضي عليهم ثلاث ساعات والنشيد متواصل، وبعدها يستدعيهم الخليفة إلى قصره، فيدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت بالحصر، فيجلس القاضي والداعي إلى جانب الخليفة ويجلس الباقون من سائر الطبقات في الأماكن التي أعدَّت لهم، فيقرأ القرَّاء شيئاً من القرآن، ثم ينشدون المراثي ويتقدَّمون بعد ذلك إلى المائدة لتناول الطعام المؤلَّف من الأجبان والألبان و

العسل وغير ذلك، وبعد الفراغ يتوجَّه فريق من الناس والمنشدين ينوحون ويبكون في شوارع القاهرة وقد أغلقت المحلاَّت والحوانيت وتعطَّلت جميع الأعمال في ذلك النهار حتّى المساء، إلى غير ذلك من المظاهر التي كانت تعمُّ المدن والقرى في جميع أنحاء مصر طيلة العهد الفاطمي، وظلَّت هذه المظاهر تتصاعد وتشتد في مصر وغيرها من الأقطار إلى أن جاء دور الأيوبيين فحاربوا هذه المظاهر وتوعَّدوا الناس والشيعة بأقصى العقوبات إذا استمروا عليها، واستبدلوا مظاهر الحزن والأسى بمظاهر الفرح والسرور عند دخول شهر المحرَّم، وأصبح اليوم العاشر منه من أعظم أعيادهم يتباهون فيه بالملابس الفاخرة وأنواع الطعام والحلوى والأواني الجديدة وما إلى ذلك ممَّا يعبِّر عن ارتياحهم واغتباطهم في ذلك اليوم؛ ليرغموا بذلك أنوف الشيعة على حدِّ تعبير المقريزي في خططه.

وفي عهد البويهيين كان الشيعة والحكَّام يمثِّلون دور الفاطميين، وجاء في تاريخ أبي الفداء خلال حديثه عن أحداث 352 أنَّ معزَّ الدولة كان في

١٧١

اليوم العاشر من المحرَّم يأمر بتعطيل الأسواق، كما يأمر الناس أن يخرجوا بالنياحة والنساء ناشرات الشعور قد شققن ثيابهنَّ ولطمن وجوههنَّ، وأيَّد ذلك ابن كثير في بدايته وهو يتحدَّث عن البويهيين وما كانوا يصنعونه في بغداد في الأيَّام الأولى من شهر المحرَّم والعاشر منه في كل عام، إلى غير ذلك ممَّا رواه الرواة والمؤرِّخون عن مواقف الشيعة وحكَّامهم من ذكرى مجزرة الطفِّ منذ حدوثها خلال القرون التي حكم الشيعة فيها بعض المناطق الإسلامية وغيرها من القرون التي كان الحكم فيها لأعداء الشيعة كالأمويين والعبَّاسيين والأيوبيين والأتراك، وبالرغم من كل وسائل العنف التي مارسها الحاكمون ضد التشيُّع ومظاهره فقد بقيت المآتم الحسينية تقام ولم تتأثَّر بالأخطار ووسائل العنف من الحاكمين وأعداء أهل البيت، الذين أدركوا أنَّ المآتم الحسينية في واقعها ليست إلاّ تعبيراً عن المعارضة لحكمهم الجائر وإدانة صريحة لتجاوزاتهم واستغلالهم لخيرات الشعوب والمستضعفين في الأرض، ولعل هذا المحتوى للمأتم الحسيني كان من أولى الدوافع لدعوة الأئمةعليه‌السلام على إحياء هذه الذكرى والالتزام بها مهما كانت النتائج والمضاعفات، كما كان لتلك المآتم التي كانت تعقد هنا وهناك حتّى في أشدِّ الأدوار تعقيداً وقسوة آثاراً واضحة في حدوث تلك الانتفاضات الشيعية التي كانت ترفع شعارات الثورة الحسينية وتجعل منها مناراً وشعاراً لبعث الروح النضالية والتضحية في سبيل الحق والعقيدة إلى أبعد الحدود، وفي الوقت ذاته فلقد كانت تلك الشعارات التي ترفع هنا وهناك - كما يبدو - من أقوى الدوافع على تمكين الثورة الحسينية في عقول الناس وقلوبهم، سواء في ذلك ما كان منها في العصر الأموي أم العبَّاسي، فانتفاضات الحسينيين في العصر العبَّاسي ردَّاً على ما ارتكبه أولئك الطغاة من قتل وتشريد وأسر وتفنن في أساليب التعذيب، هذه الانتفاضات كانت روح كربلاء تحرِّكها وتدفعها إلى المضي

١٧٢

في المقاومة مهما كلَّفها ذلك من التضحيات. وما زالت الانتفاضات التي تحدث على مرور الزمن هنا وهناك تستلهم من ثورة الحسينعليه‌السلام التي لم يحدِّث التاريخ عن ثورة أكثر منها عطاءً وتصميماً.

لقد واجهت هذه الذكرى في تاريخها الطويل قمعاً واضطهاداً كانا يضطرانها إلى الخمود والتستُّر، كما شهدت انفراجات محدودة حيناً، وأحياناً انفراجات واسعة، ولكن أعمال القمع والاضطهاد لم تفلح في القضاء التام عليها، بل بقيت تقام في مواعيدها وفي دور من التستُّر حتّى في العصر الأموي، وفي عصري المنصور والمتوكِّل اللذين يعتبران من أشدِّ العهود قسوة وظلماً، وكانت عندما تتوفَّر لها الانفراجات الواسعة تنفجر كالبركان كما حدث لها في عهود الفاطميين والبويهيين في بغداد وجهاتها، والحمدانيين في سوريا والموصل، وعندما أصبح الحكم في بلاد الفرس وغيرها بيد الشيعة؛ لأنَّ أساليب العنف والاضطهاد من الصعب أن تستأصل المبادئ والمعتقدات وحتّى العادات، بل تزيدها ترسيخاً وصلابة، وعندما تتوفَّر لها الظروف والمناسبات تبرز بشكل أقوى وأشدَّ ممَّا كانت عليه وقديماً قيل: لا شيء أجدى وأنفع للأفكار والمعتقدات من محاربتها.

إنَّ الذين يحاربون الأفكار والمعتقدات يساهمون في ترسيخها وإحيائها من حيث لا يريدون، ولا شيء أدلُّ على ذلك من مواقف الأمويين والعبَّاسيين المسعورة، بل وجميع الحاكمين، من أهل البيت وفضائلهم وآثارهم، ومع كل ما بذلوه من جهود للقضاء عليها فقد بقيت من أفضل الرموز الشامخة وأقدسها، وظلُّوا في القمة بين عظماء التاريخ، وظهر من صحيح فضائلهم وآثارهم ما ملأ الخافقين، وما زالت محاسنهم تُحكى وآياتهم تُروى، هذا بالإضافة إلى ما أضافه عليها المحبُّون ممَّا كان أهل البيت أنفسهم يحاربونه ويرونه إساءة لهم ويقولون: (الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وأفشى سرَّنا ونسبنا إلى غير جدِّنا وقال فينا ما لم نقله في أنفسنا) وكانوا في مجالسهم ومجتمعاتهم يلعنون أصحاب

١٧٣

تلك المقالات ويتبرَّأون منهم ومن مقالاتهم.

لقد كان لتلك المواقف الجائرة التي وقفها الحاكمون من المآتم الحسينية ومن زيارة الحسين وأبيه التي تعني فيما تعنيه الإجانة لأولئك الطواغيت والمعارضة المستترة لسياستهم الجائرة، كان لها ردود فعل في الأوساط الشيعية جعلتهم يتصلَّبون في تمسُّكهم بتلك المآتم ويعتبرونها وسيلة للتنفيس عن عواطفهم الحزينة الغاضبة والكبت النفسي الذي كان الشيعي يعانيه من ضغط الحاكمين وقسوتهم.

ومهما كان الحال، فلقد مرَّت تلك المآتم والذكريات منذ أن ولدت بعد مصرع الحسينعليه‌السلام وحتّى عصرنا الحالي بأدوار كثيرة ولم تثبت على صيغة واحدة في تلك العصور المتعاقبة، وكان من الطبيعي أن تتطوَّر حسب متطلَّبات العصر وأن تخمد وتنطلق بين الحين والآخر حسب الظروف المحيطة

بها.

لقد انطلقت بشكل لم يكن معروفاً ومألوفاً من قبل خلال الحكم الشيعي في مصر وبغداد وحلب وجهاتها وفي فترات متعاقبة من الزمن، وعادت إلى ما كانت عليه في العصر الذي سبق عصر الفاطميين، بعد أن تقلَّص ظل حكَّام الشيعة في تلك المقاطعات وظلَّت تقام في مواعيدها في أجواء تتَّسم بالسرية والتكتُّم كما كانت عليه في تلك العصور المظلمة. وفي العصور المتأخرة تطوَّرت بشكل أخرجها عمَّا وجدت من أجله، وعمَّا كان الأئمةعليه‌السلام قد رسموه لها لتبقى منطلقاً ورمزاً لمعارضة الحكم المستبد الظالم، وأدخلت عليها بعض الزيادات التي تسيء إليها والى التشيُّع ويستغلُّها أعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية، وهذه الزيادات لقد أدخلت عليها كما هو الراجح عن طريق الأقطار الشيعية بعد أن حكمها الشيعة وغلب على أهلها التشيع كإيران وأفغانستان وغيرهما من الأقطار التي تسرَّبت إليها عادات الهنود القدامى كالضرب بالسلاسل الحديدية

١٧٤

والسيوف وما إلى ذلك من المظاهر التي لا يقرُّها الشرع ولا تحقِّق الأهداف التي كان الأئمة يحرصون عليها من تلك الذكريات.

ولا يزال هذا النوع من المظاهر الدخيلة يمارس خلال الأيَّام الأولى من شهر المحرم في العراق وإيران، في حين أنَّ الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية ورؤوسهم بالسيوف ليصبغوا أبدانهم بالدماء ليسوا من الملتزمين بالدين ويمارسون الكثير من المنكرات، وقد انتقلت هذه الظاهرة الشاذة عن طريق بعض الفئات إلى بعض القرى الشيعية من جنوب لبنان في مطلع النصف الثاني من القرن الهجري المنصرم، ولا تزال حتّى يومنا هذا مصدر لسخرية الأجانب الذين يقصدون تلك البلدة في اليوم العاشر من المحرم ويسمُّونه: يوم جنون الشيعة، وبلا شك أنَّ الأئمةعليه‌السلام لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرَّأون منها.

أمَّا بقية القرى الشيعية من جنوب لبنان، فلا تزال تحتفظ بذكرى مجزرة كربلاء في العشرة الأولى من شهر المحرم وفي بعض المناسبات الطارئة بين الحين والأخرى، ولكن بالشكل المألوف الذي لا يتعدَّى قراءة أبيات في رثاء الحسين ومَن قُتل معه لبعض شعراء الطف بأسلوب يستثير العواطف وبعض الجوانب المثيرة من السيرة الحسينية التي تلهب المشاعر وتحضُّ على الظالمين، وفي اليوم العاشر يتولَّى أحد الحضور قراءة المصرع بكامله مع الاحتفاظ بمظاهر الحزن في الغالب.

وستبقى تلك المآتم مع الزمن تستمدُّ أصالتها واستمرارها من مواقف الحسين وبطولاته الخالدة التي ضرب فيها أروع الأمثلة في البذل والعطاء، وعلَّم أبناء آدم كيف يعيشون أحراراً ويموتون كراماً في مملكة الجبابرة وفراعنة العصور لو أرادوا أن يعيشوا أحراراً ويموتوا كراماً.

١٧٥

صور من جرائم العبَّاسيِّين على العلويِّين

لقد كان بيت أبي طالب الوحيد من بيوت الهاشميين الذي احتضن محمداً ورسالته، ووقف زعيم ذلك البيت - أبو طالب - في أشدِّ الأزمات التي اعترضت مسيرة الدعوة إلى جانب ابن أخيه، هو وأولاده وزوجته يحمونه من عدوان قريش ومخطَّطاتها الهادفة إلى القضاء عليه وعلى رسالته، وأبو طالب يردِّد ويقول لابن أخيه:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسَّد في التراب دفينا

ويلتفت إلى ولده جعفر عندما رأى محمداً يصلِّي وعليٌّ عن يمينه، ويقول له: صل جناح ابن عمك يا بني. وذلك في الأيَّام الأولى لبعثته، ثم يقول:

ولقد علمتُ بأنَّ دين محمد

من خير أديان البريَّة دينا

إلى كثير من مواقفه وتضحياته في سبيله، التي تؤكِّد بأنَّه كان من أصدق المسلمين إسلاماً ووفاء لرسالة الإسلام وعملاً بكل ما جاء به محمد

١٧٦

من عند الله.

وكانت مصلحة الإسلام تفرض عليه أن لا يتجاهر في بعض الأعمال والواجبات، وما ورد حول إسلامه في مجاميع الحديث السُّنِّيَّة كله من صنع الأمويين كما تؤكِّد ذلك عشرات الشواهد؛ ولا ذنب له إلاّ أنَّه وَلَدَ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كما ذكرنا ذلك أكثر من مرَّة.

ولم يحدِّث التاريخ عن موقف للعبَّاس ولا لغيره من الهاشميين، باستثناء الحمزة بن عبد المطَّلب في مطلع الدعوة، يتَّسم بالحزم والصلابة في مقابل قريش وتحدِّياتها لمحمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما أنزلته به من الأذى والمطاردة والإساءة، وبعد أن استقامت الأمور للرسول الأعظم وانتشرت رسالته وخضعت لها الجزيرة العربية وانطلقت إلى ما ورائها، لم يرد لغير عبد الله من العبّاس الذي لازم أمير المؤمنين واستفاد من علمه وأصبح بما أخذه عنه من أعلام المسلمين الأوائل وأحد المراجع الكبار فيما أشكل عليهم من المسائل، لم يرد لغيره ذكر من تلك الأسرة يلفت الأنظار إليهم، وكانوا يعتزون بقرابتهم لأمير المؤمنين وأبنائه كاعتزازهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنَّهم لم يكونوا بنظر الناس شيئاً بالقيام إلى العلويين. وجاء عن المنصور أنَّه كان إذا ركب محمد بن عبد الله بن الحسن يأخذ بركابه ويسوِّي له ثيابه على سرج فرسه ويمشي إلى جانبه إجلالاً وإكباراً له. وحينما توالت الانتفاضات على الأمويين بعد النقمة العارمة عليهم التي خلَّفتها مجزرة كربلاء، وبعد الظلم الفادح الذي لحق بالمسلمين منهم ومن ولاتهم في العراق وغيره من المقاطعات، انضم العبَّاسيون إلى العلويين بعد أن وجدا أن وقوفهم إلى جانب بني عمومتهم ربما يهيِّئ لهم الأجواء التي تفيدهم ولو بعد حين، واتفقوا على محمد بن عبد الله ابن الحسن المثنى؛ وكان ممَّن بايعه إبراهيم والسفَّاح والمنصور الدوانيقي، وكان المنصور أشدَّهم حماساً لبيعته، وعقدوا اجتماعاً دعوا إليه الإمام الصادقعليه‌السلام لأخذ رأيه في هذه البيعة، ولمَّا حضر معهم طلبوا منه

١٧٧

أن يبايع لمحمد الذي كان يعرف يومذاك بذي النفس الزكية، فقال لهم الإمامعليه‌السلام : (إنَّ هذا الأمر لا يتم إلاّ لهذا) وضرب بيده على كتف السفَّاح، (ثم لهذا) وأشار إلى المنصور والتفت إلى عبد الله بن الحسن وقال له: إنَّ ولَديك إبراهيم ومحمد سيقتلهما المنصور.

وجاء في رواية أبي الفرج الأصفهاني أنَّه قال له: (والله، إنَّ الأمر ليس إليك ولا ابنيك؛ وإنما هو لهذا) وأشار إلى السفَّاح (ثم لهذا) وأشار إلى المنصور (ثم لولده من بعده، ولا يزال فيهم حتّى يؤمِّروا الصبيان ويشاورا النساء).

ومضى الأصفهاني يقول: إن عبد الله بن الحسن المثنى قال للإمام: (والله يا جعفر، ما أطلعك الله على غيبه، وما قلت هذا إلاّ حسداً لابنيَّ!)، فردَّ عليه الإمام بقوله:

(لا والله، ما حسدت ابنك، وإنَّ هذا) وأشار بيده إلى أبي جعفر المنصور (يقتل ابنك على أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه إبراهيم بعده بالطفوف، وقوائم فرسه في الماء) وقام مغضباً، فتبعه المنصور وقال له: أتدري ما قلت يا أبا عبد الله؟ قال: (إي والله وإنَّه لكائن).

وكان المنصور يحثُّ الطالبيين على النهوض بالأمر ويحرضِّ العبَّاسيين والعلويين على التماسك في بيعتهم، وهو بذلك يحاول أن يجرهم إلى المعركة ضد الأمويين في الشطر الأخير من خلافتهم التي أوشكت على الانهيار، وكان هو وأسرته وعلى رأسهم السفَّاح وداود بن علي بن عبد الله وصالح بن علي وغيرهم من العبَّاسيين يعملون في الخفاء لصالح العبَّاسيين، ويتظاهرون بالعمل لصالح العلويين؛ لعلمهم بأنَّ الناس لا ينقادون إلاّ للعلويين ولا يعملون الا لحسابهم.

ويؤيِّد ذلك ما رواء المؤرِّخين عن المدائني عن سحيم بن حفص أنَّ نفراً من بني هاشم قد اجتمعوا بالأبواء في ضواحي مكَّة فيهم إبراهيم؛

١٧٨

الملقَّب بالإمام؛ بن علي بن عبد الله والسفَّاح والمنصور وصالح بن علي وعبد الله بن الحسن وأبناء إبراهيم ومحمد وأخو عبد الله بن الحسن لأمِّه محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، فقال لهم صالح بن علي: إنَّكم القوم الذين تمتد أعين الناس إليهم وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاجتمعوا على بيعة أحدكم وتفرقوا في الآفاق وادعوا الناس؛ لعلَّ الله أن يفتح عليكم وينصركم. ثم وقف المنصور وقال: لأيِّ شيء تخدعون أنفسكم، والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى، وأشار إلى محمد بن عبد الله بن الحسين، فبايعه الجميع بما في ذلك السفَّاح والمنصور، ثم تفرقوا ولم يجتمعوا إلى أن جاء دور مروان بن محمد أخر حكَّام الأمويين الملقَّب بالحمار(1) وفي عهده اجتمعوا، فبينما هم يتشاورون إذ جاء رجل إلى إبراهيم بن علي بن عبد الله، فشاوره بشيء، ثم قام، وتبعه العبَّاسيون فسألوا عن ذلك، فإذا الرجل قد قال لإبراهيم: قد أخذت لك البيعة بخراسان، فلمَّا علم بذلك عبد الله بن الحسن احتشم إبراهيم وخافه وتوقَّاه، وكان الأمويون يعرفون نوايا العبَّاسيين ويراقبون تصرُّفاتهم أكثر من العلويِّين في تلك الفترة، وعندما قيل لمروان بن محمد: إنَّ عبد الله بن الحسن يدعو لولديه محمد وإبراهيم، قال: لستُ أخاف أهل هذا البيت؛ لأنَّه لا حظَّ لهم في الملك إنَّما الحظُّ لبني عمِّهم العبَّاسيين(2) .

ومهما كان الحال، فلقد استغلَّ بنو العبَّاس النقمة العامة على الأمويين ومعارضة الشيعة لحكمهم، وتعلُّق الناس بالعلويين والعمل لصالحهم، فمضوا مع تلك التيارات المعادية لبني أمية يندِّدون بما ارتكبوه مع

____________

(1) إنَّما لقِّب بذلك لصبره وتحمُّله في تلك الظروف التي كانت من أحرج ما مرَّ على الأمويين وعلى غيرهم من الدول.

(2) انظر: المقاتل ص 176 وما بعدها.

١٧٩

العلويين ويتباكون على الحسين وأسرته ويردِّدون ما جرى عليهم في كربلاء والشام من يزيد وابن زياد، وأظهروا في خراسان وغيرها من المناطق التي دخلها دعاتهم أنَّهم يعملون بدافع الثأر لأبناء فاطمة واختيار الصالح من أبنائها لقيادة الأمة.

بهذه الأقنعة والأساليب كان أحفاد العبَّاس بن عبد المطَّلب يتقنَّعون، ومن خلالها كانوا يعملون ويتحرَّكون بعد أن أدركوا أنْ ليس باستطاعتهم أن يحقِّقوا شيئاً من أمانيهم وأحلامهم إلاّ على حساب العلويين من أبناء فاطمة، وبالفعل فقد استجابت لهم الجماهير الإسلامية وبخاصة الشيعية منها، وقاوموا وانتصروا في معاركهم مع أنصار الأمويين في خراسان التي كانت من أعظم معاقل الأمويين بقيادة نصر بن سيّار.

لقد ارتفع شأن العبَّاسيين على حساب العلويين وعلى أكتاف شيعتهم، ثم تنكَّروا لهم وعاملوهم بكل أنواع العسف والجور والقتل والتشريد حتّى انسوهم جور الأمويين وجرائمهم وأصبحوا يتمنُّون أيَّامهم بكل مرارة وألم أن تعود.

لقد كان أحفاد العبَّاس بن عبد المطَّلب يتباكون على الحسين وأسرته ويردِّدون تلك المأساة في مجالسهم ومجتمعاتهم؛ ليخدعوا بذلك شيعة الحسين وأبيه الذين ذاقوا الأمرَّين من جور الأمويين، كما كان يتباكى عليهم الزبيريون حيث وجدوا يومذاك أنْ لا سبيل إلى استقطاب المسلمين إلاّ بذلك، فلمَّا أتيح لهم أن يحكموا، كانوا أشدَّ على العلويين من يزيد وأبيه.

لقد مرَّت ظروف وأحداث على العلويين بلغت أقصى حدود الشدَّة والقوَّة في عهد معاوية وولده وغيرهما من الأمويين لم يشترك فيها أحد من أبناء العبَّاس وأحفاده إلى جانب أبناء عمومتهم، ففي معركة الإمام الحسن مع معاوية كان عبيد الله بن العبَّاس الذي ولاّه الإمام قيادة

١٨٠