من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 28790
تحميل: 4163

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28790 / تحميل: 4163
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كالأسود الضواري وأثبت من الجبال الرواسي:

كرام بأرض الغاضرية عرَّسوا

فطابت بهم أرجاء تلك المنازل

أقاموا بها كالمـُزن فاخضرَّ عُودُها

وأعشب مِن أكنافها كلُ ماحل

زهت أرضها من شرِّ كلِّ شمردل

طويلُ نجادِ السيفِ حلوُ الشمائل

كأن َّلعزرائيل قد قال سيفُه

لك السلم موفوراً ويوم الكفاح لي

حموا بالظبي دين النبي وطاعنوا

ثباتاً وخاضت جردهم بالجحافل

ولما دنت آجالهم رحَّبوا بها

كأنَّ لهم بالموت بلغة آمل

عطاشى بجنب النهر والماء حولُهم

يباح إلى الوراد عذب المناهل

فلم تُفجع الأيَّامُ من قبل يومهم

بأكرم مقتولٍ لألأم قاتل

ورحم الله مَن قال في وصفهم:

هم القوم من عَليَا لؤيِّ بن غالب

بهم تكشف الدجى ويستدفع الضرُّ

يحيون هنديَّ السيوف بأوجه

تهلِّل من لئلاء طلقها البشير

يلفُّون آحاد الألوف بمثلها

إذا حلَّ من معقود راياتها نشر

بيوم به وجه المنون مقطَّب

وحدُّ المـَواضي باسم الثغر يفتر

إذا اسودَّ يوم النقع أشرقنَ بالبها

لهم أوجه والشوس ألوانها صفر

وما وقفوا في الحرب إلاّ ليعبروا

إلى الموت والخطيِّ من دونه جسر

يكرُّون والأبطال نكساً تقاعست

من الخوف والآساد شيمتها الكرُّ

إلى أن ثوَوْا تحت العجاج بمعرك

هو الحشر لا بل دون موقفه الحشر

وماتوا كراماً تشهد الحرب أنَّهم

أباة إذا ألوى بهم حادث نكر

أبا حسن شكوى إليك وإنَّها

لواعج أشجان يجيش بها الصدر

أتدري بما لاقتْ من الكرب والبلا

وما واجهت بالطَّف أبناؤك الغر

٦١

أعزِّيك فيهم إنَّهم وردوا الردى

بأفئدة ما بلَّ غلَّتها قطر

فكم نكأت منكم أميَّة قرحة

إلى الحشر لا يأتي على جرحها السِّبر

فمِن صبية قد أرضعتها أميَّة

ضروع المنايا والدماء لها دُرُّ

فها هي صرعى والسهام عواطف

حنواً عليها والرمال لها حجر

وزاكية لم تلق في النوح مُسْعِداً

سوى أنَّها بالسوط يزجرها زجر

ومذهولة من دهشة الخيل أبرزت

عشية لا كهف لديها ولا خِدر

تُجاذبها أدي العدو خمارها

فتستر بالأيدي إذا أعوز الستر

سرت تتراماها العداة سوافراً

يروح بها مصر ويغدوا بها مصر

تطوف بها الأعداء في كلِّ مَهْمَهٍ

فيجذبها قفر ويقذفها قفر

٦٢

بطلة كربلاء زينب بنت علي عليه‌السلام

لقد تحدَّث الناس عن البطولات والأبطال من النساء والرجال المعروفين بالجرأة والشجاعة ومقارعة الفرسان في المعارك التي كانت المرأة تقف فيها إلى جانب الرجل وتؤدِّي دورها الكامل بنفس الروح والعزيمة التي كان الأبطال يخوضون المعارك فيها، وبلا شك فإنَّ أهل البيتعليه‌السلام يأتون في الطليعة بين أبطال التاريخ، وإنَّ زينب بنت علي وفاطمة تأتي في الطليعة بعد أبيها وإخوتها كما يشهد لها تاريخها الحافل بكل أنواع الطُّهر والفضيلة والجرأة والصبر في الشدائد.

وليس بغريب على تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة: نور محمد وعلي وفاطمة، ومن تلك الأنوار تكوَّنت شخصيَّتها أن تجسِّد بمواقفها خصائص النبوة والإمامة وأمَّها الزهراء التي امتازت بفضلها على نساء العالمين.

إنَّ اللسان ليعجز وإنَّ اللغة - على سعة مفرداتها - لتضيق عن وصفها، وعن التعبير عمَّا ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة

٦٣

العظيمة ابنة علي والزهراء، التي عزَّ نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة نساء التي ابتسمت للموت حين بشَّرها به الرسول الأمين في الساعات الأخيرة من حياته وقال لها: (أنتِ أوَّل أهل بيتي لحوقاً بي).

إنَّ الإلمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والأمومة، وكيف نشأت طفلة وشابَّة برعاية أمِّها الزهراء وأبيها الوصي، وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد أبي طالب، وبعد أن أصبحت أمَّاً لأسرة غذَّتها بتعاليم الإسلام وأخلاق أمِّها وأبيها، يضطرنا إلى التطويل الذي يعرِّض القارىء للملل في الغالب، وفي الوقت ذاته، فإنَّ الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الأجيال، والتي تجلَّت في رحلتها مع أخيها تاركة بيتها تحثُّ الخطى خلفه في رحلته إلى الشهادة لتعلِّم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلاَّدين، يضع بين يدي القرَّاء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتّى بلغ إلى هذا المستوى من النضوج والقدرة على الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوى على تحملها أحد من الناس.

ومهما كان الحال فلعلَّنا بعد هذا الفصل نتوقَّف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموُّه حتّى بلغ أشدَّه ونهض بأعباء المسؤولية العظمى وأدَّى دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبرى التي حلَّت بالعلويِّين والطالبيِّين، رجالاً ونساء، على تراب كربلاء، وكيف استطاعت أن تتحمَّل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل، ذلك الدور الذي يمثِّل أسمى درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا، لعلَّنا بعد هذه اللمحات عن مواقفها في كربلاء نتحدَّث في فصل مستقل عن مراحل حياتها التي أهَّلتها لتلك المواقف التي لا تزال حديث الأجيال.

٦٤

لقد ثبتتَ في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الأجيال ومثلاً كريماً لكلِّ ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة.

لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلَّها بالبكاء والنياحة، كفيلاً بأن يهدَّ أقوى الأعصاب، ويخرس أفصح الألسنة والخطباء، ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتَّصل بأولئك الضحايا بنسب أو سبب، فكيف بمَن رأى ما حلَّ بأهله وبنيه وإخوته وأبناء إخوته وعمومته وأحسَّ بثقل المسؤولية وجسامتها؟! ولكنَّ ابنة علي، ذلك الطود الأشمِّ الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد، كانت تجسِّد مواقف أبيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الأبطال، وبقيت ليلة العاشر من المحرَّم ساهرة العين تجول بين خيام إخوتها وأصحابهم، تنتقل من خيمة إلى خيمة، وهم يستعُّدون لمقابلة ثلاثين ألف مقاتل قد اجتمعوا لقتال أخيها وبنيه وأنصاره، ورأت أخاها العبَّاس جالساً بين إخوته وأحفاد أبي طالب وهو يقول لهم: إذا كان الصباح علينا أن نتقدَّم للمعركة قبل أن يتقدَّم إليها الأنصار؛ لأنَّ الحمل الثقيل لا ينهض به إلاّ أهله.

وفي طريقها إلى خيام الأنصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدَّموا إلى المعركة حتّى لا يرون هاشمياً مضرَّجاً بدمه، وسمعت الأنصار يقولون: ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر، فانطلقت نحو خيمة أخيها الحسينعليه‌السلام وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه على وجهها أثر ردَّ عليه لمحة من بهائه وصفائه، ومضت تريد أخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من إخوتها والأنصار، وما هي إلاّ خطوات حتّى رأته

مقبلاً، فابتسمت له، وتلقَّاها مرحِّباً وقال لها: (يا أختاه، منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة، أخبريني ما سبب تبسُّمك؟) فقصَّت عليه ما سمعته من

٦٥

الهاشميِّين وأنصارهم وظلَّت العقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء بين النساء والأطفال وأخواتها، حتّى إذا أقبلت ضحوة النهار وسقط أكثر أنصار أخيها ومَن معه من بنيه وإخوته وأبناء عمِّه على ثرى الطَّف، ورجع الحسين للوداع الأخير وزينب على جانبه كالمذهولة قال لها: (يا أخية، إنِّي أقسمت فأبري قسمي، لا تشقِّي عليَّ جيبا، ولا تخمشي عليَّ وجها، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور

إذا أنا هلكت) وأوصاها بالنساء والأطفال، فقالت له: طبْ نفساً وقرْ عيناً،فإنَّك ستجدني كما تحبُّ إن شاء الله.

ولمَّا سقط عن جواده صريعاً، أسرعت على مصرعه وصاحت تستغيث بجدِّها وأبيها، وأوشكت الصرخة أن تنطلق من حشاها الَّلاهب عندما رأت رأسه مفصولاً عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه، ورأت إخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالأضاحي ومعها قافلة من النساء والأطفال وأمامها صفوف الأعداء تملأ صحراء كربلاء، فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتندَّ عن فمها عبقة من فيض النبوَّة والخلود تناجي ربها وتتضرع إليه قائلة: اللَّهم تقبَّل منَّا هذا القربان.

وهكذا كان على العقيلة أن تنفِّذ وصية أخيها وتثبت في وجه تلك الأهوال، وأن تحمل قلباً كقلب أبيها في غمار جولاته، وتقف كالطود الشامخ في وجه أولئك الذين وقفوا إلى جانب يزيد بن ميسون وجلاّديه؛ المُمعنين في انتهاك الحرمات والمقدَّسات والذين باعوا ضمائرهم لأولئك الطغاة الجناة بأبخس

الأثمان.

ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلى الكوفة والسبايا على أقتاب الجمال تتقدَّمهم رؤوس سبعين من الأنصار وعشرين من أحفاد أبي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب أهل الجنَّة، وما أن أطلَّ موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتّى ازدحم الناس في الطرقات ومن على المشارف والنساء على سطوح المنازل، ولم يكن نبأ

٦٦

مصرع الحسين قد انتشر في جميع أوساط الكوفيين، وأشرفت امرأة من على سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب

تقنَّعن بها، فظنَّت المرأة أنَّهن من سبايا الروم أو الديلم، وأرادت أن تستوثق لنفسها من الظن، فطالما كانت ترى مواكب من سبايا الروم والترك تمرُّ بالكوفة إلاّ أنَّها لم تر مثل ما رأت على هذا الموكب من الحزن واللَّوعة، ولم تر قبل اليوم أسرى مع تلك المواكب من الصبيان يُشَدون بالحبال على أقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب، فأدنت المرأة رأسها من إحدى السبايا وقالت لها: من أيِّ الأسارى أنتنَّ؟ فردَّت عليها والألم يقطِّع أحشاءها: (نحن أسارى آل بيت محمد رسول الله).

وما كادت المرأة تسمع قولها حتّى خرجت مولولة معولة وكادت أن تسقط من على سطحها من هول الصدمة، والتفتت إلى النساء اللواتي على سطوحهنَّ وقالت: إنهنَّ نساء أهل البيت، فتعالى الصياح عند ذلك من كلِّ جانب حتّى ارتجَّت الكوفة بأهلها ولفَّت نواحيها صرخات متتالية كأنَّها العواصف في أرجائها، والتفَّ النسوة بالموكب يقذفن عليه الأرز والمقانع ليتستَّرن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس، وغصَّت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون، فالتفتت ابنة علي وفاطمة إليهم ببصرها النافذ وقالت:

(يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والختل والمكر، أتبكون؟! فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة، إنَّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة

أنكاثاً، وهل فيكم إلاّ الصَّلَف وملق الإماء وغمز الأعداء، ألا ساء ما قدَّمت لكم أنفسكم: أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد أن قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنَّة).

ويسير الموكب متخطِّياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلى قصر

٦٧

الإمارة ليضمَّها مجلس ابن مرجانة، فتجلس متنكِّرة مطرِقة يحفُّ بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم، وهو ينظر إليها ببسمة الشامت

المنتصر، ويسأل من هذه المتنكرة، فلا تردُّ عليه احتقاراً وازدراء لشأنه، وأعاد السؤال ثانياً وثالثاً، فأجابته بعض إمائها: هذه زينب ابنة علي. فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمه وحقده وخسته قائلاً: (الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم) فردَّت عليه غير هيَّابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة:

(الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلَّى الله عليه وآله وطهَّرنا) من الرجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله).

فقال لها وقد استبدَّ به الحقد والغضب: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ قالت: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هولاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده، وستعلم لمَن الفلج ثكلتك أمك يا بن مرجانة).

ويأبى له حقده وصلفه إلاّ أن يتناول قضيباً كان إلى جانبه ليضربها به، ولكن عمرو بن حريث - أحد جلاوزته - نظر إلى الوجوه قد تغيَّرت على ابن مرجانة وأيقن أنَّ عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر، لاسيما وأنَّ النفوس قد أصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيَّأة للانفجار بين الحين والآخر لِمَا حلَّ بالحسين وبنيه وأصحابه، فحال بين ابن مرجانة وما أراد، فرمى القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد، ويقول لها: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من أهل بيتك. فبكت عند ذلك وقالت: (لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاك فقد اشتفيت).

ثم يأتيه البريد بكتاب يزيد يأمره أن يحمل السبايا والرؤوس والأطفال إلى قصر الخضراء في دمشق، عاصمة الجلاَّدين، ويسير الحداة بموكب السبايا إلى حيث ابن ميسون في اعتساف وإرهاق في الليل

٦٨

والنهار، ليقطع موكب الرؤوس والسبايا مسافة ثلاثين يوماً في عشرة أيَّام، ويضمُّ العقيلة مجلس يزيد ورأس الحسين بن علي والزهراء بين يديه ينكث ثناياه بمخصرته ويتمثَّل بقول القائل:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلُّوا واستهلًّوا فرحاً

ثمَّ قالوا: يا يزيد لا تُشل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لستُ من خندق إنْ لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

وكان على زينب، وقد رأته بتلك الحالة فرحاً مسروراً يتمثَّل بهذه الأبيات التي تعبِّر عن حقده وتعصُّبه لجاهلية جدِّه وأبيه ووثنيتهما ويعبث بثنايا أبي عبدالله الحسين بمخصرته، أن تتكلَّم بين تلك الحشود المجتمعة في مجلسه؛ لتحرق دنيا سروره وفرحه بكلماتها التي كانت أشدّ وقعاً عليه من

الصواعق، ولتضع الكثيرين ممَّن كانوا يجهلون مكانة الأسرى ولا يعرفون عنهم شيئاُ في جوِّ تلك الأحداث، وافتتحت كلامها بعد حمد الله بقولها:

(أظننت - يا يزيد - حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، وأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أنَّ بنا على الله هواناً وبك عليه

كرامة).

ومضت في حديثها وأبصار تلك الحشود المحيطة بيزيد شاخصة إليها، تذكِّرهم بمنطق أبيها ومواقفه بين المعسكرين في صِفِّين، حينما كان يخاطب معاوية وحزبه ويناشدهم الرجوع عن غيِّهم وضلالهم إلى حظيرة الإسلام وعدالته السمحاء، مضت تقول:

(أمن العدل - يا ابن الطلقاء - تخديرك إماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوههنَّ، تحدو إليهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمعاقل،

٦٩

يتصفَّح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، وتتمنَّى حضور آباءك قائلاً:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلُّوا واستهلُّوا فرحاً

ثم قالوا: يا يزيد لا تُشل

منحنياً على ثنايا أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنَّة تنكثها بمخصرتك. وستردنَّ وشيكاً موردهم وتَودنَّ أنَّك شُللت وبُكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت).

ومضت في خطابها توجِّه إليه أسوأ أنواع التحقير والتقريع حتّى سيطرت على المجلس بمنطقها وأسلوبها الرائع، وراح الناس يتهامسون ويتلاومون وبكى بعضهم لهول المصاب وجسامته.

واستطردت العقيلة تقول:

(ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك، إنِّي لأستصغر قدرك، وأستعظم توبيخك، ألا فالعجب العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء).

لقد دخلت زينب ابنة علي وفاطمة إلى عاصمة الجلاَّدين برسالتها، رافعة صوتها إلى كل مَن لهم عهد مع أهل هذا البيت، وكل مَن آمنوا برسالة محمد في عصر وجيل وأرض، ووراءها قافلة من الأسرى وصفوف العداء من أمامها تملأ الأفق وتسدُّ طريقها؛ وكانت مسؤوليَّتها التاريخية الكبرى هي إكمال الرسالة وإتمام المسيرة ولساناً لمَن قطعت ألسنتهم سيوف الجلاَّدين، ودخلت مدينة الجريمة، عاصمة القهر والبطش والتنكيل بالأبرياء، وهناك رفعت صوتها المدوِّي في أعماق التاريخ لتقول لابن ميسون مستخفَّة به بكل ما في الاستخفاف والاحتقار من معنى:

٧٠

(ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إنِّي لاستصغر قدرك)

إنَّها الدواهي التي لا تترك للإنسان رأياً ولا اختياراً وتسيطر على كل مشاعره وأحاسيسه هي التي فرضت عليَّ أن أخاطبك يا بن ميسون ويا ربيب الشرك والوثنية، ولولا تلك الدواهي الجسام لَمَا خاطبتك ولا يمكن لذكرك أن يمرَّ في خاطري، ولو بما هو فيك من صلف وخسَّة ونزق ووحشية. هذا الذي تعنيه بطلة كربلاء بقولها لذلك الجبار الأحمق الذي تمنَّى حضور أشياخه من أميَّة ومشركي مكَّة ليشاهدوا رأس الحسين بين يديه وليشاطروه الفرح والسرور وهو ينكث ثناياه بمخصرته، هذا الذي كانت تعنيه من قولها: ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك وحضور مجلسك.

إنَّ مأساة العقيلة ابنة علي والزهراء تشكِّل الشطر الثاني من مأساة أخيها الحسين؛ فمِن صبرٍ لا يطيقه أحد من الناس إلى رعاية تلك القافلة من السبايا والأيتام ونضال دون البقية الباقية من آل الرسول، واحتجاج

٧١

وخطب واستنكار لسحق القيم وكرامة الإنسان ومحو الرسالة من الأذهان، ومتابعة المسيرة التي قام بها أخوها الحسين، وبهذا وذاك لقد ألَّبت المسلمين على الطغاة والظالمين، وضعضعت كبرياء الحاكمين المستبدين، وخلَّدت ذكرى تلك المعركة التي أقلقت آل أميَّة وغيرهم من الظلمة وفراعنة العصور، وخطَّت هي وإخوتها بأحرف من النور الوهَّاج الذي يبدد ظلمات الليل البهيم على تراب كربلاء، وفي كل موقف وقفوه مع أولئك الجبابرة والجلادين.

(إنَّ دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة)

لقد شاركت أخاها الحسين في جميع مواقفه من الظالمين، ورجعت من كربلاء حاملة لرسالة أبيها وأخيها لتبلِّغها للأجيال من الرجال والنساء من الأجيال في كل أرض وزمان بالرغم من ضجيج الجلاَّدين ووعيدهم، وكانت القدوة التي تعلِّم الأجيال من سيرتها وبطولاتها معاني الرجولة. وتعلِّم النساء كيف يتخلَّصن من فتن الإغراءات الخبيثة التي تَدْلَهم من حولهنَّ ومن دهاليز الحضارة الجديدة التي تقتحم العصور بمفاتنها ومغرياتها لتستلَّ منها أخلاقها ومعتقداتها وأعرافها.

فأين من زينب وأخوات زينب نساءنا وبناتنا الضائعات في تلك المتاهات، إيماناً وعزيمة وصبراً في الشدائد والأهوال، وتمسُّكاً بالقيم وتعاليم الإسلام والأخلاق الكريمة الفاضلة؟

٧٢

وأين من الحسين وأنصاره مَن يدَّعون التشيُّع للحسين وأبيه وأبنائه، وقد باعوا أنفسهم لمَن يحملون روح يزيد ومعاوية بأبخس الأثمان، كما باعها أسلافهم لمعاوية وأمثال معاوية من الحاكمين والجلادين من قبل؟

إنَّ الأحداث الجِسام التي اعترضت حياة العقيلة ابنة علي والزهراء في معركة كربلاء وما تلاها من المواقف، ألْفَتَتْ إليها الأنظار وجعلتها في طليعة الأبطال ومن شركاء الحسينعليه‌السلام في جميع مواقفه من أولئك الطغاة، فتحدَّث عنها المؤرِّخون وأصحاب السير في مجاميعهم، والكتَّاب المحدِّثون في مؤلَّفاتهم، وأشاد الخطباء بفضلها ومواقفها من على المنابر، ونظم الكثير من الشعراء القصائد الرنَّانة في وصف أحزانها وأشجانها وصبرها

وثباتها، ونذكر على سبيل المثال ما جاء في وصف حالتها من قصيدة لأحد شعراء الطفِّ السيد محمد حسين الكشوان (رحمه الله) يقول فيها:

أهوت على جسم الحسين وقلبُها

المصدوع كاد يذوب من حسراتها

وقعت عليه تشمُّ موضع نحره

وعيونها تنهلُّ في عبراتها

ترتاع من ضرب السياط فتنثني

تدعو سرايا قومها وحِماتها

أين الحِفاظ وهذه أشلاؤكم

بقيت ثلاثاً في هجيرِ فَلاتها

أين الحفاظ وهذه فتياتكم

حُملت على الأقتاب بين عداتها

ومخدَّراتٍ من عقائل أحمد

هجمت عليها الخيل في أبياتها

حملت برغم الدين وهي ثواكل

عبرى تُرَدَدُ بالشجى زفراتها

وله من قصيدة أخرى في وصفها عندما شاهدت أخاها صريعاً على

٧٣

ثرى الطفِّ وقد عبثت سيوف الأعداء ورماحهم بجسمه وأعضائه:

وهاتفة من جانب الخدر ثاكل

بدت وهي حسرى تلطم الخد باليد

يؤلمها قرع السياط فتنثني

تحنُّ فيشجي صوتها كلَ جلمد

وسيقت على عجف المطايا أسيرة

يطاف بها في مشهدٍ بعد مشهد

سرت تهاداها علوج أميَّة

فمِن ملحد تُهدى إلى شرِّ ملحد

ورحم الله هاشم الكعبي الذي هيمن عليه الولاء لأهل البيت وانتقل به من عالمه ودنياه إلى عالم الثواكل في كربلاء، فشعر بشعورهنَّ وأحسَّ بأحاسيسهنَّ حتّى أصبح مثلهنَّ ثاكلاً يندب وينوح بعبرات تُحيي الثرى وزفرات تدع الرياض همودا؛ فقال في وصف زينب وأخواتها بعد أن انجلت المعركة عن تلك المجزرة الرهيبة:

وثواكل في النوح تُسعد مثلها

أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا

ناحت فلم تُر مثلهنَّ نوائحاً

إذ ليس مثل فقيدهنَّ فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنَّت ولا

الورقاء تحسن عندها الترديدا

إن تنعِ أعطت كلَّ قلبٍ حسرة

أو تدع صدَّعت الجبال الميدا

عبراتها تُحي الثرى لو لم تكن

زفراتُها تَدع الرياض همودا

وغذت أسيرة خدرها ابنة فاطمٍ

لم تلقَ غير أسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لعبَ الأسى

بفؤاده حتّى انطوى مفؤدا

٧٤

تخفي الشجا جَلَداً فإنْ غلب الأسى

ضعفت فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطَّعت القلوبَ بشجوها

لكنَّما انتظم البنيان فريدا

إنسان عيني يا حسين أخي

يا أملي وعقد جُماني المنضودا

٧٥

ما بعد مجزرة كربلاء

لقد أحدثت تلك المجزرة هزَّة عنيفة في العالم الإسلامي لم يعرف المسلمون في تاريخهم الحافل بالأحداث أعنف منها أو مثلها، ولا حادثاً من الأحداث كان له من الآثار العميقة في النفوس والعقائد والحياة السياسية والاجتماعية والأدبية ما كان لمجزرة كربلاء.

لقد تركت تلك المجزرة صدمة في نفوس المسلمين لم يُحدِّث التاريخ بمثلها، ألهبت مشاعر المسلمين ولا تزال ذكراها تُلهب المشاعر وتثير الأحاسيس حتّى يومنا الحالي، وستبقى لها تلك الآثار ما دام التاريخ، وأصبح التشيُّع بعدها عقيدة ممزوجة بالدماء متغلغلة في النفوس بعد أن كان عقيدة هامدة تنقصها الحماسة، وشتَّان بين العقيدة الهامدة والعقيدة الممزوجة بالحماس والدماء، وغدت ذكرى تلك المجزرة الرهيبة الملطَّخة بدماء آل بيت الرسول كافية لأن تثير عاطفة الحماس والحزن في قلوب الناس في مختلف العصور ومنبعاً لكل ما يلهب النفوس وحتّى للأخيلة والأقاصيص.

ولا احسب أنَّ في كل ذلك شيئاً من الغلو والغرابة؛ لأنَّ المسلمين - على

٧٦

ما بينهم من خلافات في النزعات والاتجاهات - يقدِّرون للحسينعليه‌السلام مكانته من الإسلام وصلاته بجده صاحب الرسالة، وقد سمعوا منه الكثير الكثير ممَّا كان يقوله فيه وفي أخيه الحسين وكيف كان يعامله في مجالسه العامَّة والخاصَّة، ورأوه أحياناً وكأنَّ الغيب قد تكشَّف له عن مصيره يبكي لحاله ولِمَا يجري عليه، وكانوا يبكون لبكائه، فليس بغريب إذا ألهب مصرعه على النحو الذي وقع عليه المشاعر وأرهف الأحاسيس وأطلق الألسن وترك في نفوس المسلمين أثراً حزيناً دامياً يجمع القلوب حول هذا البيت المنكوب:

وأيُّ رزيَّة عدلت حسيناً

غداة تبيُّره كفَّاً سنان

نعم، ليس بغريب إذا استعظم الناس على اختلاف ميولهم ونزعاتهم هذا التنكيل الشائن بعترة الرسول الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلالته وفلذَّات كبده و

قرَّة عينه، ورأوا فيه كفراناً لحقِّه وتعريضاً لغضبه وامتهاناً لكرامته، وقال قائلهم:

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم أخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مُفتقدي

نصفٌ أُسارى ونصفٌ ضُرِّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بشرٍّ في ذوي رحمِ

فبهذا وأمثاله قالت النائحات في جميع العواصم والبلاد الإسلامية، يندبن الحسين ومَن قُتل معه من بنيه وإخوته وأنصاره، ويبكن لمصارعهم وما جرى لهم من حفيد هند وأبي سفيان وجلاَّديه، وانطلقت الألسن الشاعرة ترثيه وتُصور أسف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في قبره، وحزنه العميق على

سبطه، واحتجاجه على أمته التي لم تحفظ له حقَّاً وترعَ له حرمة، وتُلقي على الأمويِّين مسؤولية جريمتهم ومروقهم من الدين وانتهاكهم لجميع الحرمات والمقدَّسات.

٧٧

لقد هال الناس هذا الحادث الجلل حتّى الأمويِّين أنفسهم، فأقضَّ المضاجع وأذهل العقول، وارتسم في الأذهان حتّى أصبح الشغل الشاغل

للجماهير، وحديث النوادي ومسرحاً خصباً للتخيُّلات، وادعى الناس في المدينة غيرها: إنَّ الجنَّ كانت تنوح على الحسين وإنَّهم سمعوا هاتفاً يقول كما جاء في الطبري وابن الأثير:

أيُّها القاتلون جهلاً حسينا

ابشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم

من نبيٍّ ومَلاكٍ وقبيل

قد لُعنتم على لسان بن داود

وموسى وصاحب الإنجيل

وراحوا يتصوَّرون لمدة شهرين أو أكثر كأنَّ الحيطان ملطَّخة بالدماء ساعة تطلع الشمس حتّى ترتفع كما نص على ذلك الطبري في تاريخه.

ورووا عن النوار - زوجة خولي بن يزيد الأصبحي - أنَّها قالت لزوجها ليلة دخل الكوفة برأس الحسين وأدخله عليها: لقد جاء الناس بالذهب والفضة وجئتني برأس الحسين، وكان قد وضعه تحت الإجانة في صحن الدار، فقامت من فراشها غضبى وخرجت إلى الدار، فرأتْ نوراً يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة وطيوراً بيضاء تتهاوى من السماء وترفرف حولها.

كما استغلَّ الشعراء هذا الحادث المفجع فرووا حوله شتى الأحاديث وصاغوها بألوان شعرية دامية يصدرها قلب مكلوم ثائر حزين يدعو إلى الثورة العارمة بعنف وصرامة، ويسجِّل تلك الأحزان العلَوَيَّة بأسف ولوعة، منادياً: يالثارات الحسين، وغلبت على الأدب الشيعي والشعر الشيعي وبخاصة العراقي منه هذه النزعة الحزينة الباكية، وغدوا أمام أدب تبعثه عاطفتان بارزتان: عاطفة الحزن، وعاطفة الغضب، تُصدره الأولى حزيناً باكياًَ، وتبعثه الثانية قويَّاً ثائراً، ومن هذه النماذج التي حفظها لنا تاريخ تلك

٧٨

الفترة ما رواء الرواة عن عبدالله بن الحُرِّ الجعفي، الذي زار المعركة بعد أيَّام من حدوثها وهو يتلوَّى أسفاً ولوعة ويتمنَّى لو أنَّه وفِّق لنصرته والاستشهاد بين يديه، وأنشد على قبر الحسينعليه‌السلام :

يقول أمير غادر حق غادر

ألا كنتَ قاتلتَ الحسين بن فاطمه

فيا ندمي ألاَّ أكون نصرتُه

ألا كلُّ نفسٍ لا تُسدِّد نادمه

وأنِّي لأنِّي لم أكنُ من حُماته

لذو حسرة ما أن تفارق لازمه

سقى الله أرواح الَّذين تآزروا

على نصره سقياً من الغيث دائمه

وقفتُ على أجداثهم ومجالهم

فكاد الحشى ينقضُّ والعين ساجمه

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى

سِراعاً إلى الهيجا حماة خضارمه

تأسُّوا على نصر ابن بنت نبيِّهم

بأسيافهم آساد غيل ضراغمه

وما أن رأى الراؤن أفضل منهم

لدى الموت سادات وزُهرٌ قماقمه

أتقتلهم ظلماً وترجو ودادنا

فدعْ خطة ليست لنا بملائمه

لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم

فكم ناقمٍ منَّا عليكم وناقمه

أهمُّ مراراً أن أسير بجحفل

إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه

فكفُّوا وإلاّ زرتكم بكتائب

أشدَّ عليكم من زحوف الديالمه

ومن هؤلاء الذين أحسُّوا بأخطار تلك الجريمة النكراء رضي بن منقذ العبدي، فقال:

ولو شاء ربي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النعماء عندي ابن جابر(1)

___________

(1) لقد كان كعب بن جابر أحد جنود الجيش الذي شارك في حرب الحسينعليه‌السلام ، فقالت له زوجته بعد أن رجع من المعركة: أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيِّد القراء - وكان قد قتل برير سيِّد القراء في الكوفة - لقد أتيت عظيماً من الأمر، والله لا أكلِّمك من رأسي كلمة أبداً، فأجابها بأبيات يفتخر فيها بفعله وضمنها بيتاً يذكر فيه أنَّه أنقذ رضيَّ بن منقذ من القتل حيث أعانه على قتل خصمه.

٧٩

لقد كان ذاك اليوم عاراً وسبة

تعيُّره الأبناء بعد المعاشر

فيا ليت أنِّي كنتُ من قبل قتلة

ويوم حسين كنت في رمس قابر

لقد أحسَّ المسلمون على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم بالندم والخيبة لخذلانه وعدم مناصرته، وحتّى الذين قاتلوه وقادوا المعركة ضدَّه كانوا يبكون ويندبون مصيرهم السيِّء، فقد جاء عن عمر بن سعد الذي قاد تلك المعركة أنَّه كان يقول: لا تسل عن حالي؛ فإنَّه لم يرجع غائب عن منزله بأشرَّ ممَّا رجعت به، فلقد قطعت القرابة القريبة وارتكبت الأمر العظيم. وحتّى أنَّ يزيداً بكى وندم على قتله، وكلَّما ذكر الحسين، كان يقول: وما عليَّ لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري، وحكَّمته فيما يريد وإن كان عليَّ وهن في سلطاني؛ حفظاً لرسول الله ورعاية لحقِّه وقرابته من رسول الله، لعن الله ابن مرجانة فإنَّه اضطره، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر من الثغور حتّى يتوفَّاه الله، فلم يجبه إلى ذلك، فبغضني إلى قلوب المسلمين

بقتله وزرع لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البرُّ والفاجر، مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه).

وحينما علم ملك الروم بتلك المجزرة غضب لذلك وكتب إلى يزيد كتاباً جاء فيه: لقد قتلتم نبيَّاً أو ابن نبيٍّ ظلماً وعدواناً على حد تعبير البيهقي في كتابه المجالس والجسادي. وقال عثمان بن زياد شقيق عبيد الله: والله، لوددت أنَّه ليس من بني زياد رجل إلاّ وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنَّ حسيناً لم يُقتل.

والى جانب تلك الآثار النفسية السيئة التي خلَّفتها تلك المجزرة الرهيبة في نفوس الجماهير المسلمة، فلقد كان لها أعظم الأثر في تقويض الدولة الأمويَّة وعدم الاطمئنان إليها واستغلالها من قبل أعداء أهل البيت كابن الزبير وأمثاله، وجعل يندِّد على يزيد والأمويِّين ويرثي الحسين وأصحابه ويلعن

٨٠