من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية0%

من وحي الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 199

من وحي الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 199
المشاهدات: 28788
تحميل: 4163

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28788 / تحميل: 4163
الحجم الحجم الحجم
من وحي الثورة الحسينية

من وحي الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أهل الكوفة لخذلانهم أباه ويزيد بن معاوية وجميع مَن اشترك في قتاله، ويقول: أبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدِّق لهم قولاً، أمَا والله لقد قتلوه، طويلاً بالليل قيامه، كثيراً بالنهار صيامه، أحقَّ بما هم فيه منهم، وأولى في الدين والفضل.

لقد استغل ابن الزبير مصرع الحسين وراح يندبه ويتباكى عليه في حين لم يكن في العالم الإسلامي أحد أثقل عليه من الحسينعليه‌السلام ، ولم يكن معاوية ويزيد ابنه أشدَّ عداء للبيت العلوي من ابن الزبير، وكان ذلك معروفاً لدى عامة المسلمين؛ لأنَّ مواقفه من أمير المؤمنين وتحريضه عليه في البصرة وسواها لا تزال ماثلة لهم، وبالإضافة إلى ذلك، فلقد اشترك هو وطلحة في التغرير بعائشة وأخرجاها من البيت الذي أمرها الله أن تقرَّ فيه إلى البصرة لتقود المعركة، وقد قال فيه وفي أبيه أمير المؤمنين: (ما زال الزبير منَّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه عبد الله)، وكان وجود الحسين في مكَّة حائلاً بينه وبين الاتصال بالناس، وقال له ابن عبَّاس بعد أن يئس من إقناع الحسين بعدم التوجُّه إلى العراق: قرَّت عينك يا ابن الزبير بخروج الحسين إلى العراق.

لقد أقرَّ الحسين عين الزبير وهيَّأ له بخروجه من مكَّة المناخ المناسب لغرس أطماعه، ولم يبق على الساحة غيره، فالتفَّ حوله المكِّيُّون

وغيرهم، وبخاصة بعد تلك المجزرة التي أدمت قلوبهم وألهبت مشاعرهم وأصبحوا يدركون أنَّ الأخطار باتت تهدِّدهم وتطاردهم من كل جانب ومكان.

لقد كان موقف ابن الزبير من مصرع الحسينعليه‌السلام أشبه ما يكون بموقف معاوية من مصرع عثمان بن عفَّان، وهما كما يبدو من تاريخهما من معدن واحد في الدجل والنفاق والإجرام واستعمال الدين غشاء للتضليل والتمويه عندما تدعو الحاجة، لقد كان بن هند يتمنَّى أن يُقتل عثمان خلال ثورة المهاجرين والأنصار عليه، ويَعمل بكل ما لديه من وسائل الإجرام من أجل ذلك؛ ليتَّخذ من قتله أداة للتشنيع على عليعليه‌السلام

٨١

والمطالبة بالخلافة، وكان يتمنَّى لعائشة أن تُقتل في البصرة ليشنِّع بقتلها على أمير المؤمنين كما صارحها بذلك خلال زيارته للمدينة بعد أن تمَّ له الاستيلاء على السلطة.

أمَّا ابن الزبير، فلم يكن شيء من الدنيا أحبُّ إليه من خروج الحسين من مكَّة إلى العراق، ومن المصير الذي انتهى إليه. وكان يرغِّبه في الخروج إلى العراق والاستجابة لطلب أهل الكوفة بأسلوب مليء بالمكر والدهاء، وحينما بلغه نبأ مقتله ووجَدَ المسلمين - على ما بينهم من خلاف في

الاتجاهات - يتململون لِمَا جرى عليه، ويندبونه ويلعنون أميَّة وأشياعها، طابت نفسه واطمأنَّ لمصيره، وراح يتباكى على الحسين ويردِّد فضله وما جرى عليه في مجالسه واجتماعاته ويندِّد بالأمويِّين وجرائمهم، تجاوباً مع شعور الجماهير ورغباتهم دجلاً ونفاقاً؛ ليعْبُر من وراء ذلك إلى السلطة التي كان يتمنَّاها، واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يستحوذ على العدد الأكبر من مسلمي الحجاز الذين كانوا يبحثون عن بديل للأمويِّين، وأصبح الناس يقولون - كما جاء في رواية الطبري -: ليس لها بعد الحسين غير ابن الزبير. وتمَّت له البيعة في الحجاز بسبب ما جرى للحسين وبنيه وإخوته وأسرته من قتل وتمثيل وسبي وامتهان لعترة الرسول وكرامته، وتوالت الانتفاضات في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ضدَّ الأمويِّين وأنصارهم، وشعار الثائرين - مع ما بينهم من خلاف في الاتجاهات -: يا لثارات الحسين.

ولم تخمد ثورة في مكان إلاّ لتقوم ثورة أخرى في مكان آخر بسواعد الشيعة وشعارهم الوحيد: يا لثارات الحسين.

لقد كانت تلك المجزرة ذا حدَّين استفاد منها أعداء الحسين كابن الزبير الذي استغلها في الحجاز للتشهير بيزيد والأمويِّين وجعل يتباكى ويتظاهر بالحزن على الحسين وأصحابه حتّى اجتمع الناس عليه والتفَّوا من حوله، كما أيقظت شيعةَ الحسين وجعلتهم يشعرون بأخطائهم وتقصيرهم وتخاذلهم عنه وعن أبيه وأخيه، وانضمَّ إليهم جميع العناصر

٨٢

المناوئة للأمويِّين من الموالي وغيرهم واتفقوا جميعاً على صيحة واحدة تستر وراءها أغراضهم المختلفة: يا لثارات الحسين، فكان لهذه الصيحة الصدى الواسع في جميع الأوساط الإسلامية الذي أقلق الظالمين وزعزع عروشهم وقوَّض دعائهم دولتهم في المشرق العربي وأصبحوا لعنة على لسان الأجيال إلى قيام يوم الدين، وباء الحسين وحده بالفخر الذي لا فخر مثله في تاريخ بني الإنسان؛ وحسبه أنَّه وحده في هذه الدنيا الشهيد بن الشهيد وأب للمئات من الشهداء والقدوة لكل ثائر على الظلم والظالمين وفراعنة العصور في كل مكان وزمان.

٨٣

لمحات عن حياة العقيلة قبل معركة كربلاء

بعد هذه اللمحات عن مواقفها من معركة كربلاء وما تلاها من الأحداث الجسام التي صمدت فيها العقيلة كالطود الشامخ وضعضعت كبرياء أولئك الجلاَّدين وقلبت الدنيا على رؤوسهم، وقبل الحديث عن مرقدها أرى من الوفاء لحقِّها العظيم عليَّ وعلى كلِّ مَن آمن برسالة جدِّها وأبيها وأخويها التي كانت تجسذِدها في جميع مواقفها من الطغاة والحاكمين، أن نشير ولو بصورة موجزة عن المراحل التي مرَّت بها في صباها وشبابها وأمومتها تلك المراحل التي أهَّلتها وأعدَّتها لأن تكون في عداد العظماء من أبطال التاريخ ومن طلائعهم بعد أبيها وإخوتها.

لقد كانت ولادتها في مطلع جمادي الأولى من السنة الخامسة لهجرة جدِّها من مكَّة إلى المدينة كما جاء في بعض المرويات، وجاء في بعضها أنَّ ولادتها كانت في مطلع شعبان من السنة السادسة بعد أخويها الحسن والحسينعليه‌السلام ، ولمَّا وُلدت جاءت بها أمها الزهراء إلى أبيها، وقالت له: (سمِّ هذه المولودة) فقال: (ما كنت لأسبق أبيك رسول الله - صلَّى الله عليه وآله)، وكان غائباً عن المدينة يومذاك، ولمَّا رجع من سفره سأله أمير المؤمنين

٨٤

عن اسمها، فقال على حد تعبير الراوي: ما كنتُ لأسبق خالقها في اسمها، فهبط عليه الأمين جبرائيل وقال له: إنَّ الله قد اختار لها اسم زينب، وأخبره - كما يدَّعي الراوي - بما يجري عليها من المصائب، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: (مَن بكى لمصاب هذه البنت كان كمَن بكى لمصاب أخويها الحسن والحسين).

وكانت تكنَّى كما يدَّعي الشيخ فرج القطيفي في كتابه المرقد الزينبي بـ: أم كلثوم وأم الحسن. وتلقَّب بالصديقة الصغرى وعقيلة بني هاشم على لسان جماعة، وعلى لسان آخرين عقيلة الطالبيِّين، إلى غير ذلك من الصفات الفاضلة التي تغلب على الاسم أحياناً.

لقد ولدت الحوراء زينب في بيت لا شيء فيه من متع الدنيا ولهوها وزخرفها، ورأت النور في ذلك البيت الطاهر الذي ضمَّ أباها سيِّد الوصيِّين وأمَّها سيدة نساء العالمين وأخويها ريحاتني رسول ربِّ العالمين.

ولدت في بيت كان النبي لا يشغله عنه شاغل ولا ينساه في ليله ونهاره، وكلَّما دخله يقبّل مَن فيه من أحفاده ويشمَّهما ويبتسم لهما وينعم فيه بالسكينة والاطمئنان، في ذلك البيت ولدت الحوراء ورضعت من ثدي الطهر والفضيلة بضعة الرسول الأعظم، ودرجت مع أخويها سيِّدي شباب

أهل الجنَّة، وأخذت العلم عن أبيها باب مدينة العلم، ورأت جدَّها الرسول مُمَثَّلاً في أمِّها فاطمة بجميع صفاته ومزاياه، وحينما فقدت أمَّها في السنة السادسة من عمرها قالت: يا أبتاه يا رسول الله، الآن فقدناك فقداً لا لقاء بعده. وهي تعني بذلك أنَّها بفقد أمِّها التي كانت تجسِّد أباها قد فقدت جدَّها أيضاً.

لقد انعكست صفات الزهراء سيدة نساء العالمين ومزاياها في نفس ابنتها عقيلة بني هاشم، وظهرت واضحة جليَّة في زهدها وعبادتها وصبرها في الشدائد، وقال مَن تحدَّث عنها من الرواة: إنَّها لم تدَّخر شيئاً من

٨٥

يومها لغدها، وتمضي عامرة لياليها بالتهجُّد وتلاوة القرآن، وحتّى في ليلة الحادي عشر من المحرم، وهي تتلوَّى من آلام تلك المجزرة الرهيبة وإخوتها صرعى مجزَّرين كالأضاحي، لم تدعْ صلاة الليل وتلاوة القرآن، وقد تحدَّثنا عن صبرها وشجاعتها وبعض مواقفها الخالدة التي كانت ولا تزال من أغنى المواقف البطولية بالقيم والمُثُل العليا في تاريخ الأبطال.

لقد بقيت زينب ابنة علي مع أمِّها ست سنوات، وفي هذه المرحلة من طفولتها كانت ترى أمَّها الزهراء تقوم للصلاة والعبادة حتّى ينقضي الشطر الأكبر من الليل، وتبيت طاوية وتطعم ما عندها الأيتام والمساكين، وتلبس الثياب الخلقة البالية وتكسو الفقراء جديد الملابس، ورآها سلمان الفارسي مرَّة فبكى وقال: إنَّ قيصر وكسرى بناتهما في السندس والحرير وابنة محمد رسول الله في تلك الثياب البالية.

ولا شك في أنَّ تلك الصور التي كانت تشاهدها العقيلة وهي في هذا السن من طفولتها قد انعكست في نفسها ورافقتها حتّى النفس الأخير من

حياتها، لأنَّ مشاهدات الأطفال وما يحيط بها في المراحل الأولى من حياتهم وما يمرُّ عليهم في سنِّ الطفولة تترك آثاراً في نفوسهم ترافقهم في الغالب ما داموا بين الأحياء.

ويؤكِّد علماء النفس أنَّ الطفل في السنة الثالثة من عمره تبدأ مرحلة التوافق بينه وبين بيئته ومرحلة التمييز بين الألفاظ والمعاني، وأنَّ نموه العقلي في هذه المرحلة يتَّجه به إلى كشف ما يحيط به ممَّا يرى ويسمع، وهذا الكشف يترك آثاراً تعمل عملها في نفس الطفل ترافقه إلى أخر يوم من حياته.

هذا بالإضافة إلى أنَّ السيدة زينب (سلام الله عليها) بعد وفاة أمِّها الزهراء عاشت برعاية أبيها أمير المؤمنين الذي كان يجسِّد جدَّها الرسول من جميع نواحيه بين أخويها الحسن والحسينعليه‌السلام ، وتولَّت حضانتهم

٨٦

امرأة من كرام النساء وأفاضلهنَّ؛ وهي أمامة بنت زينب بنت رسول الله، وكان قد تزوَّجها أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد وفاة الصديقة الزهراءعليه‌السلام بوصية منها، وجاء في وصيَّتها له كما ترويها جميع الآثار: (يا بن عم، ما أراني إلاّ لما بي، وأنا أوصيك أن تتزوَّج بنت أختي زينب تكون لولدي مثلي)، وبالفعل فلقد كانت أمامة كما كانت ترجوه منها خالتها من ناحية عطفها ورعايتها لأولادها بالإضافة إلى ما كانوا ينعمون به من رعاية أبيهم الذي كان يلقِّنهم من أسرار الكون وغوامضه، وظلَّت العقيلة في رعاية ذلك البيت الكريم، بيت النبوَّة والإمامة، إلى أن تجاوزت سن الطفولة إلى مطلع الصبا والشباب. وقد كان من عادة نساء المسلمين يومذاك أن يخرجن ليلاً لزيارة قبر النبي وأداء فريضة العشاء إلى جواره كما كان يفعل الرجال، ثم يرجعن إلى بيوتهنَّ وملامح السرور والبهجة بادية على وجوههنَّ، وأرادت العقيلة أن تخرج لزيارة قبر جدِّها والصلاة إلى جواره كما يفعل النساء، ولكنَّ والدها لم يشأ لها أن تخرج كما يخرج غيرها من النساء والمسجد مملوء بالزائرين والمصلِّين من الرجال، فكان يخرج معها بعد أن يعود الزائرون إلى بيوتهم ويخرج الحسن والحسين عن يمينها وشمالها ويتقدَّمهم هو ليخمد ضوء القناديل إذا وجد في مرقد جدِّها أحد من الرجال، وذات ليلة أرادت أن تخرج في أوَّل الليل مع الزائرات اللواتي كنَّ يخرجن لأداء الصلاة، فخرج يتقدَّمها ليخفت ضوء المصابيح، وفجأة أحسَّ المصلُّون من الرجال والنساء أنَّ ضوء المصابيح أخذ يخفت واحداً بعد واحد خفوتاً ظاهراً وعلى عجل، وظلَّ يضيق ويضعف حتّى شمل المسجد كله ضوء مختنق ولم تبق من الضوء إلاّ ومضات ضئيلة توشك أن تنطفىء فيعمُّ الظلام المسجد والحرم من كل جوانبهما، فتطلَّعت العيون الأشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات، لتتعرَّف مَن هو الذي أضعف تلك المصابيح واحداً بعد واحد ولم يترك منها سوى ومضات ضئيلة لا تجديهم شيئاً، ولمَّا عرفوه، تركوه يفعل

٨٧

ما يشاء؛ لأنَّه لا يفعل غير الصواب، وراحت العيون تتطلَّع لتعرف الأسباب التي حملته على ذلك، فرأت أشباحاً ثلاثة قد تقدَّمت نحو قبر

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أن وصلوا إليه حتّى وقفوا إلى جانبه لفترة طويلة في خشوع وتضرع، ثم رجع الثلاثة عن القبر الشريف يمسحون دموعهم وانصرفوا باتجاه باب الحرم راجعين إلى بيت أبيهم الكريم، وتقدَّم أمير المؤمنينعليه‌السلام نحو المصابيح يفك خناقها ويعلي أضوائها، وكان الثلاثة الذين تقدَّموا نحو الحرم في ستر ذلك الضوء الخامد أولاده الحسن والحسين وبينهما ابنته زينب أرادت أن تزور قبر جدِّها في الوقت الذي يجتمع فيه الزائرون، فتقدَّمها ليخمد الضياء ومضت إليه بين أخويها حتّى لا يرى شخصها أحد من الناس.

وبقيت العقيلة في ذلك البيت الكريم في رعاية أبيها وأخويها وخالتها أمامة وزوجة أبيها أسماء بنت عميس التي لم تكن بأقلَّ عطفاً وحنواً على أولاد فاطمة من أمِّهما والتي احتضنتها لتكون زوجة لولدها عبدالله بن جعفر بعد سنوات قليلات.

٨٨

زواجها من عبدالله بن جعفر

لمَّا بلغت الحوراء مبلغ الزواج وتخطَّت عهد الطفولة، طلبها الكثيرون من الأشراف، وكان الأمام يردُّهم برفق ولين لأنَّه كان - كما يبدو - قد صمَّم على زواجها من ابن أخيه عبدالله بن جعفر الطيار كما كان النبي يردُّ خاطبي أمِّها الزهراء ليزوِّجها من ابن عمِّه أوُّل القوم إسلاماً وأكثرهم جهاداً وتضحية في سبيله بأمر من الله سبحانه. وكان ممَّن خطب الحوراء الأشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات، ففي بعض الأيَّام والإمامعليه‌السلام جالس في داره دخل عليه رجل بَيِّن الطول عليه مسحة من الجمال ومظهر من مظاهر العنف والبطش، وكان قد صار على أبواب الكهولة وبدأ يخطو نحو الكبر، فوقع نظره على فتاة قد أضاء صباها ولمعت محاسنها، وهي تدرج بين يدي أبيها، وحينما رأته الفتاة قد دخل على حين غفلة أسرعت إلى غرفة في الدار عجلى تتعثر في أذيالها، لاسيما وقد رأته ينظر إليها وتكاد نظراته تستبق خطواتها المسرِعة، وكان قد ملأ عينيه منها قبل أن تغيب عنه وأعجب بحسنها وشمائلها، وأحسن ما رأت عيناه من الخفرات الحِسان.

٨٩

وكان الرجل في خمول وضعة في أوساط المسلمين، وإلى جانب ذلك فاتكاً شجاعاً جميلاً، وهو أخمل حسباً وأوضع نسباً إذا قيس حسبه ونسبه بالقرشيِّين فضلاً عن أهل هذا البيت الذين بلغوا القمَّة في كل ما يتفاضل فيه الناس من كل نواحيهم، ولكن الذي جرَّأه على الحديث مع أمير المؤمنين بأمر من هذا النوع أن الخليفة الأول ابن أبي قحافة كان قد تلطَّف به وزوَّجه من أخته أم فروة، فجرَّأته هذه المصاهرة على التطلُّع إلى بنات الأنبياء

والأوصياء. وما كادت الحوراء زينب تصل إلى داخل البيت بتلك السرعة الخاطفة حتّى قال الأشعث لعليعليه‌السلام : مَن هذه الفتاة يا أبا الحسن؟ فردَّ عليه قائلاً: (هذه زينب...) فقال له: زوجنيها يا أبا الحسن، فاستخف به أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال له: (أغرب بفيك الكثكث ولك الأثلب، أغرَّك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة؟ وأنَّها لم تكن من الفواطم ولا العواتك من سليم...)(1) .

وقد حمله الصلف والغرور على أن يردَّ على أمير المؤمنين بقوله: لقد زوَّجتم مَن هو أخمل منِّي حسباً وأوضع منِّي نسباً وهو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد الأسود، فردَّ عليه أمير المؤمنين قائلاً: (ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فعله، وهو أعلم بما فعل، ولئن عدتَ إلى مثلها لأسوأنَّك).

لقد كان الأشعث فظَّاً غليظاً ثقيلاً على أكثر المسلمين لغلظته وجفوته

____________

(1) الفواطم جمع فاطمة، وقد أصبح كالعلم على مجموعة من الهاشميَّات؛ فهنَّ: فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الحمزة، و

غيرهنَّ، كما وأنَّ العواتك جمع عاتكة؛ وهو اسم لمجموعة من نساء الهاشميِّين البارزات، منهن: عاتكة بنت عبد المطَّلب عمَّة النبي، وأم زينب بنت جحش التي تزوَّجها النبي بعد أن طلَّقها زيد بن حارثة.

٩٠

وجرأته على الحق، وكان من المتآمرين على أمير المؤمنين بعد أن تولَّى الخلافة، ويعمل لمصلحة معاوية، وقد لعنه عليعليه‌السلام أكثر من مرَّة وزجره وحاول أن يضع حدَّاً لتجاوزاته ومؤامراته، وأخيراً اشترك في قتله مع عبد الرحمن بن ملجم وجماعة ممَّن سخَّرهم معاوية لذلك، كما وأنَّ ابنته جعدة قد حقَّقت لمعاوية ما كان يتمنَّاه ويعمل من أجله؛ فدسَّت السمَّ إلى الحسن بن عليعليه‌السلام بعد أن أغراها معاوية بالمال ووعدها بأن يزوِّجها ولده الخليع يزيد بن ميسون، واشترك ولده قيس بن الأشعث في جميع الجرائم التي ارتكبها معاوية وولده يزيد مع العلويِّين وشيعتهم.

لقد بقيت العقيلة في بيت أبيها والخطَّاب يتوافدون عليه من هنا وهناك، وكان يردًّهم وكأنَّه كان قد صمَّم على أمر ينتظر الوقت المناسب لتنفيذه، لا سيما وقد سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول وهو ينظر إلى أولاد علي وجعفر قبل أن يتجاوزوا سنَّ الطفولة: (بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا) كما جاء في بعض المرويَّات عنه.

وإذا لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جدَّاً لأولاد جعفر فإنَّه لهم بمنزلة الأب والجد وهو وليُّهم، ولا شيء أحبُّ إلى الجدِّ من اقتران أحفاده بعضهم ببعض؛ لأنَّه يعتبر ذلك تأكيداً لنسله وامتداداً لنوع من أنواع وجوده، ولا بدَّ وأن يكون علياًعليه‌السلام الذي كان في كل مراحل حياته يقتدي بأقوال الرسول وأفعاله قد سمع من الرسول هذه المقالة واعتبرها تأكيداً لِمَا كان يضمره نحو أطفال أخيه جعفر شهيد مؤتة وبطل الإسلام الخالد، وكان كفيلهم ووليُّ أمرهم بعد استشهاد أخيه، فنفَّذها كما أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وردَّ جميع الخطَّاب الذين كانوا يتوافدون عليه من هنا وهناك للحصول على شرف المصاهرة الذين يحصلون عليه بزواجهم من ابنة علي والزهراء، ولا أحسب أنَّ أحداً كان أقرب إلى قلب عليعليه‌السلام بعد أولاده من أولاد أخيه جعفر بن أبي طالب وعلى رأسهم عبدالله بن جعفر، وكانوا في عداد

٩١

أولاده ونشأوا في بيته، وبخاصة بعد أن تزوَّج من أمِّهم أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها جعفر الطيار ووفاة أبي بكر عنها.

وقبل أن نتابع الحديث عن زينب وزوجها عبدالله في بيتهما الجديد كزوجين كريمين من أكرم ما عرفه بيت أبي طالب بعد بيت أبيها وإخوتها، أرى من الوفاء لبيت أبي طالب الذي كان له الفضل الأكبر على الإسلام والمسلمين كما تؤكِّد جميع الشواهد التي مرَّ بها الإسلام ورسول الإسلام في مراحله الأولى، أنَّه لولا بيت أبي طالب لكان مصير محمد ورسالته كمصير زكريا ويحيى وغيرها من الأنبياء الذين كانوا يتعرَّضون للقتل والمصاردة من بني إسرائيل قبل أن تنتشر رسالاتهم، وقديماً قال الجاحدون لنبوَّة شعيب كما حكى الله عنهم في كتابه:( وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) .

لقد وقف أبو طالب وزوجته فاطمة بنت أسد وأولادهم إلى جانبه منذ إعلان الدعوة، وأعلن أبو طالب بأنَّه سيمنع عنه كل مَن تحدِّثه نفسه بالإساءة إليه والنيل منه، كما أوقفت زوجته فاطمة بنت أسد نفسها لخدمته في اليوم الذي مات فيه جدُّه عبد المطَّلب، وكانت كما وصفها هو (صلَّى الله عليه وآله) تفضِّله على أولادها في المأكل والملبس وفي كل شيء، وظلَّ يذكرها ويترحَّم عليها حتّى النفس الأخير من حياته، وسبق ولداها علي وجعفر جميع المسلمين إلى الإسلام والإيمان برسالة محمد، فكان أوَّلهم علي بعد خديجة الكبرى، ومرَّ أبو طالب وعليِّ يصلِّي وحده إلى جانب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لولده جعفر: صل جناح ابن عمِّك، فأسلم بعد أخيه علي بأمر من أبيه، وظلَّ أبو طالب حياته بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدافع ويناضل عن رسالة محمد بكل طاقاته وإمكانيَّاته، ويقول:

ولقد علمتُ بأنَّ دين محمد

من خير أديان البريَّة دينا

ومع ذلك فإنَّ رواة السنة ومحدِّثيهم الذين كانوا ولا يزالون يجترُّون

٩٢

مرويَّات أذناب الأمويِّين وصنائعهم الذين سخَّروهم للكذب والافتراء على الإسلام وحُماة الإسلام ودُعاته المخلصين، هؤلاء يدَّعون بأنَّ أبا طالب مات كافراً برسالة محمد وأبا سفيان بن حرب، العدو اللدود للإسلام ولكل مَن آمن به وجاهد في سبيله، مات مؤمناً، في حين أنَّه كان في أكثر مواقفه لا يتحاشى المجاهرة بشركه ووثنيَّته، وقد ذكرنا سابقاً أنَّ أبا طالب لو لم يكن أبا لعليعليه‌السلام لكان من الصدِّيقين ومن خيار المسلمين.

٩٣

لمحات عن إسلام جعفر الطيَّار وهجرته ووفاته

وأعود لأكرِّر أنَّه قبل الحديث عن زواجهما أرى من الوفاء لهذا البيت الكريم أن أشير - ولو بإيجاز - لجعفر الطيَّار، ثالث المسلمين ووالد عبدالله بن جعفر الذي أختار له النبي عقيلة بني هاشم لتكون زوجة له كما ذكرنا.

لقد كان جعفر الطيَّار أكبر من عليعليه‌السلام بعشر سنين كما يدَّعي أكثر المؤرِّخين، ولم يسبقه أحد إلى الإسلام سوى خديجة الكبرى وعلي، وكان هو ثالث المسلمين والمصلِّين، وقد ذكرنا أنَّ أباه رأى علياً يصلِّي عن يمين النبي، فقال لولده جعفر: صل جناح ابن عمِّك، ومضى أمد غير قصير وليس في مكَّة مَن يعبد الله سبحانه سوى محمد وعلي وخديجة بنت خويلد وجعفر بن أبي طالب، فكان النبي يتقدَّمهم للصلاة في أوقاتها وعلي عن يمينه وجعفر عن يساره وخديجة من خلفه، وكان جعفر يشبه النبي في خَلْقه وخُلِقه كما وصفه النبي بذلك، كما كان يكنِّيه: أبا المساكين.

وجاء عن أبي هريرة أنّه كان يقول: لقد كنت أسأل الرجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الآية من القرآن وأنا أعلم بها منه، ولكنِّي كنت أسأله

٩٤

ليطعمني شيئاً، وكنت إن سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتّى يذهب بي إلى بيته، فيطعمني ثم يجيبني.

وجاء في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه قال: (إنَّ إلهي عزَّ وجلَّ اختارني في ثلاثة من أهل بيتي على جميع أمتي، أنا سيد الثلاثة، وسيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، اختارني وعلي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطًَّلب، وجعفر بن أبي طالب)، وفي المجلَّد الأوَّل من الاستيعاب، خلال حديثه عن جعفر بن أبي طالب أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (دخلت الجنة البارحة فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة).

لقد كان جعفر بن أبي طالب من المهاجرين الأوَّلين إلى الحبشة حين وسَّعت قريش حلقة الاضطهاد على المسلمين في مكَّة، وكان خروجه بإيعاز من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج هو وزوجته وجماعة من المسلمين المستضعفين من مكَّة فراراً بدينهم، وولدت له فيها عبدالله وعوناً ومحمداً. ولقي المسلمون من النجاشي - ملك الحبشة - من الرعاية وكرم الضيافة والإحسان ما أثار غضب قريش وتخوِّفها من هذه الظاهرة التي ستكون بداية لتحوُّل جديد في تاريخ العلاقات بينهم وبين الأحباش الذين كانوا على ارتباط معهم في مختلف مرافق الحياة، وبقاء المسلمين إلى جوارهم سيضاعف من هذا التحوُّل، وربَّما يؤدِّي إلى توتُّر الأجواء بينهما، وبالتالي إلى القطيعة بين البلدين المتجاورين، وقد تصبح الحبشة مقرَّاً لعدد كبير من المسلمين، ومنطلقاً لدعوتهم التي تساندها دولة لا طاقة لهم على مقابلتها، هذه الاحتمالات كلُّها أصبحت تراود القرشيِّين بعد أن بلغتهم حفاوة الأحباش بالمسلمين، فراحوا يعملون بكل ما لديهم من الوسائل لإيجاد فجوة بين الطرفين وإعادة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها وإخراج المسلمين من بلادهم، فجمعوا مبلغاً من الأموال ليشتروا بها أَنْفَس الهدايا وأثمنها للملك وبطارقته، وبعثوا بالهدايا مع عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد شقيق خالد بن الوليد، وكتبوا إلى النجاشي يحذِّرونه من المسلمين

٩٥

ويطلبون منه أن يردَّهم إلى مكَّة، وكان ابن العاص حديث عهد بالزواج من إحدى المكِّيَّات الفاتنات في جمالهنَّ فلم يستطع فراقها، فمضت معه في تلك الرحلة، وفي الطريق كانت تتحدَّث إلى عمارة ويتغازلان، وكان فتى مديد القامة جميلاً بهي الطلعة، فتعلَّقت به وتعلَّق بها، وأخيراً هجرت فراش زوجها وارتمت في فراشه، وعبثاً حاول ابن العاص أن يضع حدَّاً لشذوذها، وبالتالي بقيت بينهما يشتركان بالاستمتاع بها(1) .

وسبقت أنباء هذه الفضيحة إلى المهاجرين والنجاشي، وحاول عمارة وابن العاص أن يشحنا النجاشي وبطارقته على الإسلام والمسلمين، وباءت جهودهما بالفشل الذريع بعد أن تولَّى جعفر بن أبي طالب الحديث مع النجاشي وبطارقته، وحدَّثهم عن ابن عمِّه محمد ورسالته وقرأ عليهم بعض الآيات من القرآن ومن سورة مريم كما ذكر المؤلفون في سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورجع الوفد فاشلاً إلى قريش يتعثَّر بأذيال الخيبة، وبقي النجاشي على كرمه وإحسانه إلى المهاجرين، كما بقي جعفر بن أبي طالب ومَن معه في الحبشة إلى السنة السابعة من هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيها رجع إلى المدينة، و

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد اتجه لحرب اليهود في خيبر واستولى عليها بعد أن اقتحم أمير المؤمنين حصونهم وجندل أبطالهم وفرسانهم، وفي اليوم الذي رجع فيه النبي إلى المدينة دخلها جعفر بمَن معه من المسلمين، فقام إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبله ما بين عينيه، وقال: (ما أدري بأيِّهما أشدُّ فرحاً بقدوم جعفر أو بفتح خيبر) وقال له: (أنت أشبه الناس بخَلقي وخُلقي، و خُلقتَ من الطينة التي خلقتُ منها) كما جاء في ذخائر العقبى للمحبِّ الطبري وغيره من مجاميع الحديث.

وأعطاه وزوجته أسماء من غنائم خيبر مثل ما أعطى غيره مِن

____________

(1) الشرقاوي، محمد رسول الحرية.

٩٦

المسلمين الذين اشتركوا في فتحها، وبقي مع النبي بعد رجوعه إلى المدينة أشهراً معدودات، وبدخول السنة الثامنة للهجرة بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحد أصحابه، وهو الحارث بن عمير، بكتاب إلى ملك بصري من أرض الشام، فلمَّا بلغ الرسول مؤتة، تعرَّض له شرحبيل الغسَّاني أحد ولاة الروم وقتله ولم يقتل غيره ممَّن كان يبعثهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الملوك والأمراء، فاشتد ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجهز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب وعيَّن اثنين غيره للقيادة على التوالي فيما لو قتل جعفر، وهما: زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحه، وانطلق الجيش إلى مشارف الشام يجدُّ في

سيره، وحينما بلغت أخباره ملك الروم أوعز إلى جيوشه بأن ترابط على الحدود بين بلاد الشام والحجاز وحشد عليها أكثر من مائة إلف مقاتل، وكانت المعركة الحاسمة على الحدود في مؤتة، فأخذ الراية جعفر وتقدَّم بمَن معه من المسلمين وحمل على تلك الحشود التي ملأت الصحراء بعددها و

عتادها، فانهزموا بين يديه وظلَّ يطاردهم حتّى قطعت يمينه وشماله وخرَّ صريعاً.

وجاء في بعض المرويات أنَّه لمَّا اشتدَّ القتال، نزل عن فرسه وعقرها، فكان كما قيل: أوَّل مَن عقر فرسه في الإسلام. ومضى يقاتل راجلاً ويقول:

يا حبَّذا الجنَّة واقترابها

طيِّبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إذ لاقيتها خرابها

وبعد أن استشهد وجدوا في مقدَّم جسده أكثر من تسعين ضربة وطعنة، وجزع مَن في المدينة لقتله، وبكاه المسلمون وبخاصة أهله وذووه، فلمَّا رأى ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) (وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنَّة) فسمِّي ذا الجناحين والطيَّار.

٩٧

وجاء عن عبدالله بن جعفر أنَّه قال: لقد دخل علينا رسول الله بعد موت أبي وقال: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) ودعا بالحلاَّق فحلق رؤوسنا، وقال: (أمَّا محمد فشبيه عمِّنا أبي طالب، وأمَّا عبدالله فشبيه خَلقي وخُلقي) ثم اخذ بيدي وقال: (اللَّهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه) ولمَّا ذكرت أمي يتمناً قال لها: (العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟)(1) .

وظلَّ أيتام جعفر في رعاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعمِّهما علي بن أبي طالب وحضانة أمِّهم أسماء بنت عميس، وكانت امرأة كريمة شريفة ذات رأي حازم ومعرفة وتجربة وحجة بيان على حد تعبير عبد العزيز سيد الأهل في كتابه (زينب بنت علي)، لا تصبر على مذلَّة ولا تبيت على ضيم، هاجرت في سبيل الله هجرتين: أوَّلاهما مع المسلمين الأوَّلين وزوجها إلى الحبشة، وثانيتهما إلى المدينة مع زوجها جعفر الطيَّار، فأكرمها رسول الله وعلَّمها دعاء تدعو به في الشدائد، وقال لها: (ألا أعلِّمكِ كلمات تقوليهنَّ عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً) فلم يصبها كرب بعد ذلك إلاّ أزاحته عنها بدعاء رسول الله كما جاء عنها.

وحدث بعد أن رجعت مع زوجها إلى المدينة أن رآها عمر بن الخطاب فقال لها: يا حبشية سبقناكم بالهجرة. ولعله كان يريد أن يتباهى عليها في هجرته مع الرسول وصحبته له أو ممازحاً لها كما يدَّعي بعض الرواة، وما كاد عمر ينتهي من حديثه حتّى انبرت له قائلة: لعمري لقد كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعلِّم جاهلكم، وكنَّا البُعَدَاء عنه نتحمَّل الأهوال والشدائد حرصاً على ديننا، وأضافت إلى ذلك: والله لأتين رسول الله وأذكرنَّ له مقالتك يا ابن الخطَّاب.

____________

(1) الغزالي، الشيخ محمد، فقه السيرة، ص 281.

٩٨

ومضت مسرعة إلى النبي وقالت: يا رسول الله، إنَّ رجالاً من أصحابك يتفاخرون علينا ويتباهون ويزعمون أنَّنا لم نكن من المهاجرين الأوَّلين، فردَّ عليها الرسول قائلاً: (بل لكم هجرتان؛ هاجرتم إلى أرض الحبشة ونحن مرهنون بمكة، ثم هاجرتم بعد ذلك).

لقد تزوَّجت بعد مصرع زوجها من أبي بكر فأولدها محمد بن أبي بكر، وخلال تلك المدة القصيرة التي قضتها معه لم تكن تفارق أولادها ولا بيت فاطمة الزهراء، وقد روت الحديث عنها، وحينما توفِّيت الزهراءعليه‌السلام تولَّت غسلها وتكفينها، وبعد وفاة زوجها أبي بكر تزوَّج منها وضمَّها أمير المؤمنين إلى عياله مع ولدها محمد بن أبي بكر - وكان طفلاً في الرابعة من عمره - وبقيت في بيته هي وأولادها، وأولدها ولداً اسماه يحيى كما جاء في المجلَّد الأوَّل من حياة الحيوان(1) .

وبقي عبدالله منذ طفولته إلى أن شبَّ وترعرع هو وإخوته إلى جانب عمِّه أمير المؤمنين مع أولاده يتلقَّى منه العلم والمعرفة ويغذِّيه بأخلاق الإسلام وتعاليم الإسلام حتّى أصبح من كرام المسلمين وأعلامهم. وكان كما يصفه المؤرخون أسخى رجل بين المسلمين في عصره. وكان هو وزينب في سن متقاربة، فلمَّا بلغا سنَّ الشباب وراح الطلاَّب يتوافدون على بيت عليعليه‌السلام يطمعون في مصاهرته، لم يجد لابنته كفء غير ابن أخيه عبدالله، فزوَّجه منها، ولكن هذا الزواج لم يفرِّق بين زينب وأبيها وإخوتها، وبلغ من تعلم الإمامعليه‌السلام بابنته وابن أخيه أن بقيا معه يرعاهما ويتفقَّدهما كما كانا قبل

الزواج، وحينما تولَّى أمور المسلمين وانتقل من المدينة إلى الكوفة انتقلا معه. ووقف عبدالله إلى جانب عمِّه في جميع

____________

(1) انظر: عبد العزيز سيد الأهل، زينب بنت علي، عن المجلَّد الأوَّل من حياة الحيوان، ص 228.

٩٩

مواقفه النضالية قبل خلافته وبعدها من الناكثين والقاسطين والمارقين.

وما كادت زينب تنتقل إلى بيتها الجديد المتواضع في أثاثه ومعيشته حتّى أصبح المال يتدفَّق عليه، ولكنَّه كان يهب ويعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر ولا يدَّخر شيئاً من يومه لغده، وأصبح الجود والسخاء من أشهر صفاته وألقابه وسمَّاه الناس بحر الجود. وحدَّث الرواة أنَّ جماعة كانوا يتحدَّثون عن كرام المسلمين وأجوادهم، فادَّعى جماعة أنَّ أجودهم عبدالله بن جعفر، فطلب منهم الباقون دليلاً على ذلك، فجاءه أحدهم وهو على راحلته يريد ضيعة له خارج المدينة، فتعلَّق بركابه وقال له: أنا من أبناء السبيل ولا أملك شيئاً، فأخرج عبدالله رجله من الركاب ونزل عن راحلته وقال له: ضع رجلك في الركاب واستوي على الناقة وخذ ما في الحقيبة، وإيَّاك أن تُخدع عن السيف؛ فإنَّه من سيوف علي بن أبي طالب، ثم ترك الرجل ورجع ماشياً إلى بيته في المدينة، ولمَّا وضع الرجل رجله في الركاب واستوى على الناقة ومد يده إلى الحقيبة، وجدها مملوءة بمطارف الخزِّ وفيها بالإضافة إلى ذلك أربعة آلاف دينار، وكان سيف عليعليه‌السلام أنفس من المطارف وأجلَّ من الدنانير على حد تعبير الراوي، ولمَّا رأى القوم صنيعه قالوا: صدق مَن سمَّاه بحر الجود(1) .

وبلغت شهرته في الأوساط الإسلامية حدَّاً ضاقت بها نفوس أعداء الطالبيِّين وقلوبهم الحاقدة ولم تعد تتسع لمديحه وثناء الجماهير عليه، فراحوا يحاولون تزييف سخائه وتسميته سرفاً لا يقرُُّه الإسلام.

فقد حدث الرواة عن الشعبي أنَّ عبدالله بن جعفر الطيَّار دخل على معاوية وعنده ولده يزيد بن ميسون، فجعل يزيد يعرِّض بعبدالله

____________

(1) عبد العزيز سيد الأهل، زينب بنت علي، ص 60 عن (المستجدات في فعلات الأجواد).

١٠٠