كربلاء فوق الشبهات

كربلاء فوق الشبهات0%

كربلاء فوق الشبهات مؤلف:
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام

كربلاء فوق الشبهات

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
تصنيف: المشاهدات: 11387
تحميل: 4122

توضيحات:

كربلاء فوق الشبهات
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 16 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11387 / تحميل: 4122
الحجم الحجم الحجم
كربلاء فوق الشبهات

كربلاء فوق الشبهات

مؤلف:
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الرابع:

المؤرّخون، وليلى في كربلاء

مع ما يُنسب إلى الشهيد مطهّري:

إنّ الحديث عن حضور ليلى اُمّ علي الأكبر (رضوان الله عليه) قد كثر وفشا بطريقة غير سليمة ولا مألوفة؛ بسبب ما اُثير حول هذه القضية من شبهات أنشأت علاقة ذهنيّة ونفسيّة تكاد تكون راسخة فيما بين هذه القضية وبين الاُسطورة والخيال، والاختلاق والدسّ في سيرة عاشوراء المباركة.

ولعلّنا لا نبعد إذا قلنا: إنّ هذه القضية قد أصبحت عنواناً ومفتاحاً ومدخلاً، ومناسبة للحديث عن الاُسطورة في عاشوراء بكلّ عفوية وراحة بال، وهي المقال المناسب لمثل هذه الحال.

ولا نبعد إذا قلنا أيضاً: إنّه لو صح ما نُسب إلى الشهيد السعيد العلاّمة الشيخ مرتضى المطهّري (رحمه الله، وأعلى مقامه ودرجته في جنات الفردوس) الذي يُعتبر علماً من أعلام الثقافة الإسلاميّة، ورائداً من روّاد المعرفة الحيّة والأصيلة في هذا العصر. نعم، لو صحّت النسبة إليه فإنّ ذلك لا يمنع من أن تجد - وفقاً للقول المعروف - لكلّ جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.

وربما تكون هذه الهفوة قد حصلت قبل أن تتقوّى ملكاته الفكرية، وتنضج آراؤه العلمية، ويتصلّب عوده، ويشتدّ ساعده، ويتألّق في سماء المعارف نجمه.

ولعلّ ما نُسب إليه من رأي حول حضور ليلى في كربلاء هو في هذا الاتجاه بالذّات؛ حيث إنّهرحمه‌الله يكون هو الذي أثار هذا الجو التشكيكي بقوّة وحماس، وتبعه على ذلك كثير من الناس الذين لم يرجعوا إلى المصادر، ولم يراجعوا النصوص؛ ليتدبّروا أقواله وحججه، ليقفوا على مدى صحتها وصدقيتها وقوّتها في إثبات ما يرمي إلى إثباته؛ وذلك ثقة منهم بحسن تصرّف هذا الرجل الجليل فيما يتوفّر لديه من معارف، وبقوّة عارضته في الاستدلال، وسلامة وصحة مقدّماته التي تؤدّي به إلى الاستنتاج وفقاً للمعايير المعقولة والمقبولة.

ولم يدر في خلدهم أن العصمة هي لله سبحانه وحده، ولأوليائه الأنبياء والأئمة الطاهرينعليهم‌السلام ، ولعل الشهيد لم يكن حين تصدى لهذا الامر قد استجمع الوسائل، ولا استفاد من التجارب، ولا حصل على المؤهلات التي تكفيه لإصدار أحكام في مثل هذه الاُمور التي ليست من اختصاصه، وبالأخص إذا عالجها في أجواء تهيمن عليها المشاعر المحكومة بمسبقات ذهنية، ترتكز إلى نظرة تشاؤمية ترشح من سوء الظن.

بل يظهر لنا أنهرحمه‌الله حين كتب ما كتب، أو حين قال ما قال عن وقوع التحريف في قضايا كربلاء وعاشوراء لم يكن في أجواء تأمّل وتدقيق علمي هادئ، وإنما كان يطلق ذلك في أجواء جماهيرية استدرجته إلى القسوة في التعبير، وإلى إطلاق الأحكام والدعاوى الكبيرة بطريقة التعميم الذي لا يستند إلى قاعدة مقبولة أو معقولة؛ فانتهى - من ثَمَّ - إلى استنتاجات لا تحتملها ولا تتحملها المقدمات، ولا تقوم بها الركائز التي استندت إليها.

وإنّ مراجعة دقيقة للمحاضرات المنسوبة إليهرحمه‌الله في كتاب الملحمة الحسينيّة لكفيلة بأن توضّح إلى أي مدى ذهب به الاسترسال أحياناً حتّى كأنك لا تقرأ الشهيد المطهري، بل تقرأ رجلاً آخر لم يمارس البرهنة العلمية الدقيقة، ولا اطّلع على فنون الاستدلال وعناصره، وأركانه وشرائطه.

وقد تقدم أنهرحمه‌الله قد أخفق في كثير من الموارد التي سجّل فيها تحفظاته من حيث الوثوق بثبوتها التاريخي؛ فإنّ الحق في كثير منها كان في خلاف الاتجاه الذي نحا إليه واختاره، أو على الأقل لم يستطع أن يثبت ما يرمي إلى إثباته، بل كان دليله هو مجرد الدعوى، والدعوى هي نفس الدليل، مع الكثير من التهويلات والتعميمات الجريئة التي لا تقبل إلاّ بدليل حاسم وقوي، وبالبرهان العلمي.

الشاهد الأبعد صيتاً:

ومهما يكن من أمر فإننا هنا لسنا في صدد محاكمة جميع ما جاء به، وما رسمه في هذا الكتاب الآنف الذكر، وإنما أردنا مجرد الإشارة والإلماح إلى هذا الأمر، على أن نكتفي في هذه العجالة بالحديث عن هذا الشاهد الأبعد صيتاً، والأكثر تداولاً، والأشد استفزازاً، وهو قصة حضور ليلى اُمّ علي الأكبر في كربلاء، خصوصاً حينما يرغب أيّ من قرّاء العزاء بالإشارة إلى هذه القصة؛ حيث يتكهرب الجو وتبدأ الهمسات تعلو وتعلو، وتنطلق الحناجر لتسجّل تهمة الاُسطورة والخيال، ثم الكذب والاختلاق والدجل، وينتهي الأمر بإطلاق هجومات تستوعب سائر ما يقرؤه خطيب المنبر الحسيني بمختلف مفردات السيرة الحسينيّة، ولينتهي الأمر بحرمان المستمع الطيّب القلب من استفادة العبرة والاُمثولة، ومن التفاعل مع أحداث كربلاء بصورة أو باُخرى.

وهكذا تكون النتيجة هي أن لا يبقى ثمة من ثقة في أي شيء يقوله قرّاء العزاء، حتّى ذلك الذي ينقلونه من الكتب التي هي في أعلى درجات الاعتبار والصحة حتّى عند هؤلاء أنفسهم.

ومن يدري، فلربما يأتي يوم يشكك فيه هواة التشكيك حتّى في أصل استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام أو في أصل وجوده! أعاذنا الله من الزلل في الفكر والقول وفي العمل، إنه ولي قدير، وبالإجابة حري وجدير.

لا يذكر المؤرّخون ليلى في كربلاء:

ويقول الشهيد السعيد العلامة الشيخ مرتضى المطهري فيما ينسب إليه: هناك نموذج آخر للتحريف في وقائع عاشوراء، وهو القصة التي أصبحت معروفة جدّاً في القراءات الحسينيّة والمآتم، وهي قصة ليلى اُمّ علي الأكبر. هذه القصة لا يوجد في الحقيقة دليل تاريخي واحد يؤكد وقوعها. نعم فاُمّ علي الأكبر موجودة في التاريخ، واسمها ليلى بالفعل، ولكن ليس هناك مؤرخ واحد يشير إلى حضورها لمعركة كربلاء، ومع ذلك فما أكثر المآتم التي تقرأ لنا قصة احتضان ليلى لابنها علي الأكبر في ساحة الوغى، والمشهد العاطفي والخيالي المحض.

ويقول المحقق التستري: ولم يذكر أحد في السير المعتبرة حياة اُمّها (الصحيح: اُمّه) يوم الطفِّ، فضلاً عن شهودها، وإنما ذكروا شهود الرباب اُم الرضيع وسكينة.

ويقول الشيخ عباس القمي: لم أظفر بشيء يدل على مجيء ليلى إلى كربلاء.

ونقول: إننا نسجل ملاحظاتنا على هذه الفقرات ضمن الاُمور التالية:

أوّلاً: ليلى حضرت في كربلاء

سيأتي في الفصل الأخير من هذا الكتاب أنّ حضور اُمّ علي الأكبر في كربلاء مذكور في الكتب المعتبرة، وأنّ هناك من أشار بل صرّح بهذا الحضور.

ثانياً: لا بدّ من شمولية الاطّلاع

إنّ من الواضح أنّ من يريد نفي وجود شيء ما لا بدّ له أن يقرأ جميع كتب التاريخ، بل كل كتاب يمكن أن يشير إلى الأمر الذي هو محط النظر.

ولا نظن أنّ العلاّمة المطهري المنسوب إليه هذا الكلام - ولا غير المطهري أيضاً - قد قرأ جميع كتب التاريخ؛ فإنّ ذلك متعسراً، بل هو متعذر بلا شك على كل أحد.

ثالثاً: الأمر لا يختص بكتب التاريخ

كما أنّ ذكر حضور ليلى في كربلاء لا يختص بكتب التاريخ؛ فقد تشير إلى ذلك أيضاً كتب الأنساب، والجغرافيا، والحديث، والتراجم، وكتب الأدب، وما إلى ذلك. والكثير من كتب التراث لا يزال يرزح تحت وطأة الغبار، ويئن في زنزانات الإهمال، ويعاني حتّى من الجهل بأماكن وجوده.

بل إننا لا نزال نجهل حتّى ما في طيّات فهارس خزانات الكتب الخاصة والعامة، فضلاً عن أن نكون قد اطّلعنا على محتويات تلك المكتبات من مؤلّفات في مختلف العلوم والمعارف، فهل يمكن والحالة هذه أن يدعي أحد منا أنه قد رصد حركة ليلى في حياتها وتنقّلاتها؟ وهل يصحّ أيضاً من هذا الشهيد السعيد - إن كان قد قال ذلك حقاً - أن يحصر هذا الأمر بالمؤرّخين دون سواهم؟

وهل قرأرحمه‌الله كل هذا الكم الهائل من هذه الأنواع المختلفة من كتب التراث، المخطوط منها والمطبوع، حتّى جاز له أن يصدر هذا الحكم القاطع بنفي حصول هذا الأمر من الأساس؟

رابعاً: التالف من كتب التراث

ولا يجهل أحد أنّ هناك كمّاً هائلاً لا مجال لتصوره قد تلف وضاع عبر الأحقاب التاريخيّة المتعاقبة. وقد تجد ذكراً للكثير من المصادر التي كانت متداولة في أيدي المؤلّفين والمصنّفين الذين سبقونا، وقد نقلوا لنا عنها أشياء لم تذكر فيما وصل إلينا ونتداوله نحن الآن من مؤلّفات القدماء، وقد أشار بعضهم - كصاحب البحار وسواه - إلى العديد منها، ونقلوا عنها الكثير، لكنها قد تلفت قبل أن تصل إلينا.

فهل نستطيع أن نتّهم هؤلاء العلماء الأعلام، الأطياب الأخيار، بممارسة الكذب والاختلاق فيما ينقلونه عن تلك المصادر والمؤلّفات المفقودة؟! وهل يصح للشهيد مطهري وسواه أن ينفي أمراً يحتمل أن يكون ناقله قد أخذه من مصادر لم تصل إلينا.. وما أكثرها؟

ومن الواضح أن المعصوم قد عاش بين الناس حوالي مئتين وثلاث وسبعين سنة، ثم بقي بالقرب منهم - بالإضافة إلى ذلك - تسعاً وستّين سنة - يدبر اُمورهم، ويعطيهم توجيهاته من خلال السفراء، ثم كانت الغيبة الكبرى.

وقد كان المعصومعليه‌السلام يقوم بواجبه على أكمل وجه، ولا يدع فرصة - مهما كانت ضئيلة - إلاّ وينشر فيها علمه ومعارفه بالقول والفعل، وبكل وسيلة ممكنة، بل إنّ كل حالة من حالاته وكل لفتة من لفتاته تشير إلى حكم إلهي، وإلى تشريع رباني، وهو حجة وبلاغ.

فلو أنّ أحداً حاول أن يرصد ويسجّل ذلك كله، ألا ترى معي أنه سيسجّل مئات الصفحات في كلِّ يوم، وألاّ يوضح ذلك لنا حقيقة أنّ كل ما عندنا من أحاديث لا يعدل ما يصدر عنهعليه‌السلام في مدة شهر واحد أو شهرين، وحتّى لو كانوا ثلاثة أشهر أو أزيد؟ فإن ذلك يؤكد لنا حجم الكارثة التي لا نزال نعاني من أثارها، وهي أن ما ضاع عنا - لأسباب مختلفة - لا يمكن أن يقدّر بقدر، ولا يقاس بما نعرف من أحجام.

وأين يقع ما أورده صاحب كتاب البحار، وهو أضخم موسوعة حديثية، مما فقدناه وأضعناه؟!

وها نحن لا نزال نجد الكثير الكثير من أحوال وأقوال أئمتنا متناثراً في ثنايا الكتب، في كل ما يُطبع وينشر من كتب التراث، فهل يصح لأحد بعد هذا أن يبادر إلى نفي قضية ما لمجرد أنه لم يجد في عدد يسير من كتب التاريخ التي راجعها ذكراً لما يبحث له عن ذكر أو سند؟!

خامساً: الوثاقة لا تعني الصحة

وإذا رجعنا إلى اُمّهات الكتب واُصولها، وهي كتب موثوقة ومعتمدة بلا ريب، فسوف نجد فيها الأحاديث المتعارضة التي لا شك في صحة أحد أطرافها وكذب الطرف الآخر، وكذلك سنجد الأحاديث التي ثبت وقوع الاشتباه والغلط فيها من قبل الرواة، أو ثبت وقوع التصحيف والإسقاط والغلط فيها من قبل نساخها الذين تعاقبوا على نقلها عبر العصور والدهور. فهل ذلك يعني سقوط الكتاب ومؤلّفه عن الاعتبار، بحيث يسوّغ لنا اتهام المؤلّف بالوضع والاختلاق وارتجال الأحداث؟

وهل يصح هجر ذلك الكتاب وتجاهله، وعدم الاكتراث به؛ بحجة أنه كتاب محرّف مشتمل على الدجل والتزوير؟

إنّ ذلك سينتهي بنا - ولا شك - إلى التخلّي عن كل ما سوى القرآن من كتب وتآليف، والتخلّي بالتالي عن كل السّنّة النبوية والإماميّة التي سجلتها تلك المؤلّفات بأمانة وإخلاص وبحرص بالغ. وذلك يلغي دور العلماء العاملين الذين لا بدّ أن يضطلعوا بدور الحامي والحافظ لهذا الدين، وأن يعملوا على تنقية كلّ هذا الإرث الجليل من الشوائب، وإبعاد كل ما هو مدسوس، ومعالجة ما هو مريض، وتصحيح ما هو محرّف.

سادساً: الصحة لا تعني الوثاقة

وقد تجد في كتاب من عُرف بانحرافه وكذبه الكثير مما هو صحيح بلا ريب، مما نقله لنا الأثبات، واستفاض نقله في كتب الثقات. بل قد تجده فيه تصريحات واعترافات لم يستطع غيره الاعتراف بها، بل هو عن ذلك أحجم، وفي كلامه غمغم وجمجم، لكن قد ضاق صدر هذا المعروف بالكذب وبالانحراف فباح واعترف بها، كما يعترف المجرم بجرمه، ويقرّ المذنب ببوائقه، ويعلن بما أسر من إثمه.

فهل يصح لنا أن نقول له: لا قيمة لاعترافك، بل أنت بريء من جرمك، منزّه عمّا اعترفت به من إثمك، ولا يجوز مؤاخذتك بما اقترفت، ولا أخذك بما به أقررت؟

خلطُ الحقِّ بالباطل هدف المبطلين:

وعدا ذلك كله فإنّ خلط الحق بالباطل قد يكون هدفاً لدعاة الباطل؛ فقد روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال في خطبة له: «فلو أنّ الباطل خلص، لم يخف على ذي حجى، ولو أنّ الحق خلص لم يكن اختلاف، ولكن يُؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيخرجان فيجيئان معاً؛ فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

إنّ الإنصاف يفرض علينا القول: بأنّ فلاناً من الناس إذا كذب في قضية هنا، أو في قول هناك، فإنّ ذلك لا يسوّغ لنا إطلاق الحكم بالكذب والاختلاق على كل أقواله، وإن كان يفرض علينا درجة عالية من الحيطة والحذر في التعامل مع كلِّ ما يصدر عنه.

وإنّ عدم وجدان مضمون بعض الروايات فيما توفّر لدينا من مصادر لا يبرّر لنا الحكم القاطع بنفي وجودها من الأساس، مع إمكانية أن يكون ذلك النص مأخوذاً من تأليفات لم تصل إلينا، فكيف ومن أين ثبت للشهيد مطهريرحمه‌الله - لو صح ما نسب إليه -: (أنّ ما يذكره البعض عن ليلى في كربلاء مجرد مشهد عاطفي خيالي محض)؟!

سابعاً: ما ينكرونه كاف في الاحتمال

وهكذا يتضح أن نفس هذه المنقولات التي يريد الشهيد العلامة المطهري - على ما حكوه عنه - تكذيبها صالحة لادّعاء وجود ليلى في كربلاء، ما دام الحكم عليها بالكذب والاختلاق غير متيسّر لأحد، مع عدم وجود آية قرآنية تشير إلى ضد ذلك، ولغير ذلك من أسباب ذكرنا قسماً منها، وسنذكر الباقي فيما سيأتي من صفحات، مع ملاحظة عدم وجود أيِّ مبرر لاتّهام مؤلّفي الكتب التي أوردت ذلك بأنهم كذابون ووضاعون، فضلاً عن اتّهامهم بالتصدي لاختلاق ووضع خصوص هذه القضية.

ثامناً: المهتمّون ينكرون

وقد رأينا الشهيد العلامة المطهري - حسب ما نُسب إليه - يهاجم من يتهمهم برواية ما اعتقد أنه مكذوب؛ مثل الكاشفي، والدربندي، والطريحي، وصاحب الخزائن (رحمهم الله تعالى) بصورة قاسية وحادة؛ حيث يتّهمهم بالتزوير، والكذب، والخرافة، وغير ذلك.

ولكنه يمتدح ويطري من شاركوه في آرائه هذه، وهاجموا اُولئك كما هاجمهم، واتّهموهم كما اتّهمهم، ويعتمد على أقوالهم. فراجع ما وصف به الشيخ النوري الذي يوافقه في الرأي هنا؛ فإنه اعتبره رجلاً عظيماً، متبحراً في العلوم بشكل فريد، إلى غير ذلك من أوصاف فضفاضة أفرغها عليه.

رغم أنّ الشيخ النوريرحمه‌الله هو الذي ألّف كتاب (فصل الخطاب) الذي يتحدّث فيه عن تحريف كتاب الله؛ حيث خدعته أحاديث أهل السنة الواردة في هذا الخصوص. فراجع ما ذكرناه في أواخر كتابنا: حقائق هامة حول القرآن الكريم.

ورغم أنّ العلماء قد أثنوا ثناء عاطراً على هؤلاء الذين ذمهم المطهري - كما قيل - فقد أثنوا على الدربندي والطريحي وغيرهما، ووصفوهم بالدين والورع، والتقوى والاستقامة، وهم قد عاشوا معهم وعاشروهم. ولكنه هو يتهمهم بالكذب والاختلاق، والتزوير والجهل، وكأن القرآن هو الذي صرّح له بأنهم قد قاموا هم بأعيانهم بممارسة هذا الاختلاق والجعل الذي يدّعيه عليهم، وباختراع ما رأى أنه هو من الأساطير!

والملفت هنا: أننا نجد أن نفس الدربندي الذي يتعرّض للاتهام والتجريح ينكر على بعض القرّاء ذكرهم لبعض الغرائب دون أن يسندوها إلى كتاب، ولا إلى ثقة من الرواة!

والملفت أيضاً: أنهرحمه‌الله قد ذكر ذلك وهو يتحدّث عن اُمور ترتبط بعلي الأكبرعليه‌السلام بالذات، ثم هو يفندها، أو يذكر ما يحل الإشكال فيها، فراجع.

تاسعاً: احتضان ليلى ابنها في ساحة الوغى

والغريب في الأمر هنا أن الشهيد العلاّمة المطهري - فيما ينسبه إليه مؤلّف الملحمة الحسينيّة - يذكر: أنّ ثمة قصة تتحدث عن احتضان ليلى لابنها علي الأكبر في ساحة الوغى، والمشهد الخيالي المحض. وقد تحدث عن كثرة المآتم التي حضرها وقرأ فيها قراء العزاء هذه القصة بالذات.

ونقول:

1 - إننا على كثرة مجالس العزاء التي حضرناها وسمعناها لم نسمع ولا مرة واحدة أنّ ليلى قد احتضنت ابنها في ساحة الوغى، ولا نقله لنا أحد، ولا قرأناه في كتاب، وذلك يفيد أنّ ما سمعهرحمه‌الله إنما كان حالة خاصة محصورة بأشخاص بأعيانهم، ولم يصبح جزءاً من تاريخ كربلاء يتداوله الناس أينما كانوا، وحيثما وجدوا.

2 - كما أننا لم نسمع أي شيء عن ليلى مما يدخل في دائرة الخيال المحض، لا بالنسبة لليلى وهي في فسطاطها، ولا بالنسبة لها حين كانت تلاحظ ولدها من بعيد وهو في ساحة الوغى، فنحن نستغرب هذه الأقوال كما يستغربها، ونرفضها كما يرفضها.

3 - البحث العلمي، والدراسة والاستدلال، والحديث ينبغي أن يتجه لمعالجة ما أصبح تاريخاً متداولاً يتلقّاه الناس بالقبول والرضا، لا أن يكون عن نزوات أشخاص منحرفين أو يعانون من عقدة؛ فإنّ معالجة هذا النوع من الأمراض له مجالات وسبل اُخرى تربويّة وغيرها.

عاشراً: حتّى لو كتم التاريخ

ولنفترض جدلاً أنّ ما قدّمناه، وكذلك ما سيأتي من دلائل وشواهد، لا يكفي للقول بأن التاريخ قد صرّح بحضور ليلى في كربلاء يوم العاشر من المحرم، رغم أنّ أقل القليل منه يكفي للإشارة إلى وجود هذا القول.

غير أننا نقول: إنّ عدم ذكر التاريخ لذلك - لو صح - فإنه لا يكون سنداً للنفي من الأساس؛ إذ إنّ التاريخ قد سجّل لنا أسماء عدد من الذين حضروا تلك الواقعة نساء ورجالاً وأطفالاً، ولكنه عجز عن ذكر أسماء الكثيرين الآخرين منهم، بل أهمل ذكر أسماء الأكثرية الساحقة في وقائع مختلفة؛ كحنين، وخيبر، وصفّين، والجمل، والنهروان...

فهل ذلك يعني أنّ من لم يصرّح التاريخ باسمه لم يكن حاضراً في تلك الوقائع، بحيث يجوز لنا نفي حضوره بشكل بات، وقاطع، ونهائي؟

إننا لا نظن أنّ أحداً يستطيع أن يلتزم بهذا الأمر، وهو يعلم أنّ ذلك يستبطن فتح المجال لإنكار مختلف حقائق التاريخ، وارتكاب جريمة تزوير كبرى لا يجازف عاقل بالإقدام عليها في أي من الظروف والأحوال.

الفصل الخامس:

التضحية والجهاد، ودعاء ليلى لولدها

ليلى تنشر شعرها للدعاء:

ويُنسب إلى الشهيد السعيد العلاّمة الشيخ مرتضى مطهريرحمه‌الله ، وهو يعدد التحريفات التي لحقت بواقعة كربلاء، قوله: (... قضية حضور ليلى في كربلاء، والادّعاء بأن الحسينعليه‌السلام قد أمرها أن ترجع إلى إحدى الخيم، وتنشر شعرها بعد أن خرجت من المخيم...).

ويقولرحمه‌الله : إنه حضر مجلساً حسينياً سمع فيه أنّ علياً الأكبر نزل إلى ساحة الوغى، وإذا بالحسينعليه‌السلام يتوجّه إلى اُمّه ليلى، ويطلب منها الدخول إلى إحدى الخيم، ونثر شعرها، والتوجّه إلى ربها بالدعاء ليرجع ابنها سالماً إليها؛ فإني سمعت جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: بأن دعاء الاُم بحق ابنها مستجاب. فهل هناك تحريف أكثر من هذا؟!

أولاً: ليس هناك ليلى في كربلاء حتّى يحدثها الإمامعليه‌السلام .

ومن ثمّ ثانياً: هل هذا هو منطق الحسينعليه‌السلام في المعركة؟ أبداً؛ فمنطق الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء كان منطق التضحية والجهاد.

ثمّ إنّ كلّ المؤرّخين متّفقون على أن الحسينعليه‌السلام كان يجد الأعذار لكلِّ من يطلب التوجّه إلى المبارزة، ما عدا ابنه علي الأكبر؛ فإنه لما استأذنه بالقتال أذن له كما تذكر كل الروايات، (فاستأذن في القتال أباه فأذن له).

ولكن رغم ذلك: (ما أكثر الأشعار التي نظموها بحق ليلى وابنها في خيم كربلاء!).

ونقول: إنّ لنا على ما يُنسب إلى هذا الشهيد السعيد عدة ملاحظات، نشير إليها فيما يلي:

أولاً: الزهراءعليها‌السلام وكشف الرأس للدعاء

قد ورد أنّ الزهراءعليها‌السلام قد هددت الذين اعتدوا على مقام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وحملوه إليهم رغماً عنه ليبايع، هددت بأن تكشف رأسها وتدعو عليهم. ومن الواضح أنّ كشف رأسها لن يكون أمام الرجال الأجانب، بل في بيتها وفي داخل خدرها.

ثانياً: الحسينعليه‌السلام لم يطلب من ليلى شيئاً

ليس في الرواية أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد طلب من ليلى أن تدخل إلى الفسطاط وتنشر شعرها وتدعو، بل فيها أنهعليه‌السلام قد أمرها بالدعاء، وأخبرها بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حول أن دعاء الاُمّ مستجاب في حق ولدها، فجرّدت رأسها - وهي في الفسطاط - ودعت له.

ويستنكر الشهيد المطهري ذلك حسبما نُسب إليه، فيقول: فهل هناك تحريف أكثر من هذا؟!

ونحن بعد أن ظهر أنه لم يلتفت إلى السياق السليم للرواية، ولم يوردها على سياقها الحقيقي، نقول له نفس هذا القول: فهل هناك تحريف أكثر من هذا؟! اللهمّ إلا أن يبرئ مؤلف هذا الكتاب نفسه من هذه المؤاخذة، على أساس أنه لا يتحدّث عما ورد في الرواية، وإنما هو يتحدث عن تحريف ذلك الخطيب لها.

ثالثاً: استجابة دعاء ليلى والتضحية والجهاد

وغني عن القول: إنّ استجابة الله سبحانه دعاء اُمّ علي الأكبر، بعد أن أمرها الإمام الحسينعليه‌السلام بالدعاء لولدها، وإرجاع ولدها إليها لا يتنافى مع التضحية والجهاد كما يريد الشهيد السعيد العلاّمة المطهريرحمه‌الله أن يقوله وفقاً لما نُسب إليه؛ وذلك لأنّ استجابته (سبحانه وتعالى) لها بإرجاع ولدها إليها لفترة وجيزة، ثمّ عودته بعد ذلك لمواصلة كفاحه، ثمّ استشهاده، لا يدل على أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد رغب في بقاء ولده حياً من بعده، وأنه قد ضنّ به على الموت في ساحة الجهاد؛ فإنّ تأخير استشهاده ساعة من نهار إنما هو من أجل أن يثلج بذلك صدر والدته بعودته إليها سالماً من إحدى جولاته ومعاركه، وليكون استشهاده بعد ذلك أهون عليها؛ لما تمثّله استجابة دعائها من دلالة يقينيّة على عناية الله سبحانه بهم، وما يعطيه ذلك لها من ثقة بالله، وطمأنينة ورضا بقضائه، وما يهيِّئه للصبر الجميل على تحمل بلائه (جلّ وعلا).

وليكن توجيهها الحسيني نحو الدعاء لطلب عودة ولدها منسجماً مع مسارعتهعليه‌السلام للإذن لولده باقتحام ساحة الجهاد دون أدنى تعلل أو تردد في ذلك.

رابعاً: الإجماع التاريخي المزعوم

1 - لا ندري كيف استطاع العلاّمة الشهيد أن يتبيّن وجود إجماع واتّفاق من كل المؤرّخين على أنهعليه‌السلام لم يحاول أن يجد أي عذر لولده علي الأكبر حينما استأذنه بالبراز إن صح نسبة ذلك إليه؟ فإنّ مجرد عدم ذكر المؤرّخين لذلك، واكتفاءهم بعبارة: (استأذن فأذن له) ليست صريحة في إجماعهم على أن شيئاً من ذلك لم يحصل؛ فإنّ عدم ذكر الشيء لا يدل على عدم حصوله.

وها نحن نرى كيف أنّ المؤرّخين يختلفون في إيراد الخصوصيات المختلفة للوقائع التي يسجّلونها؛ فيذكر أحدهم خصوصية يهملها الآخر، وبالعكس، وما ذلك إلاّ لأجل ما ذكرناه.

2 - هل استطاع الشهيد مطهري - المنسوب إليه هذا الكلام - أن يسبر كل ما كتبه العلماء والمحدثون والمؤرّخون عن أحداث عاشوراء؟

3 - لربما يكون الناقل لهذه الخصوصية من المشاهدين للأحداث من بعيد، ولم يتسنَ له أن يسمع الكلمات التي دارت بين الوالد وولده بدقة؛ فنقل ذلك على سبيل الإجمال.

خامساً: التفاوت والاختلاف في النقل

ونجد أنّ ما نقلهرحمه‌الله عن قارئ العزاء في ذكره لتفاصيل هذه القضية يختلف عمّا سجّله المؤلّفون في كتبهم. ولعل العلامة الشهيد (رحمه الله تعالى) - لو صحت نسبة هذا الكلام إليه - لم يراجع تلك المؤلّفات؛ ليطّلع على النص الدقيق للقضية، أو لعلّه قد ذهل - وهو ينقل عن حفظه - عن بعض الخصوصيات؛ فقد ذكروا أنّ الحسينعليه‌السلام كان يراقب جهاد ولده، وكانت اُمّه ليلى تنظر في وجه الحسينعليه‌السلام ، فبرز إليه رجل اسمه بكر بن غانم، فتغير وجههعليه‌السلام ، فرأته ليلى، فبادرت إلى سؤاله عن سبب ذلك، وهل أن ولدها أصابه شيء؟

فأجابها: «لا، ولكن قد برز إليه من يُخاف عليه منه، فادعي لولدك علي؛ فإني قد سمعت من جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ دعاء الاُمّ يُستجاب في حق ولدها».

فجرّدت رأسها وهي في الفسطاط، ودعت له إلى الله (عزّ وجلّ) بالنصر عليه.

وقال: وجرى بينهما حرب شديد حتّى انخرق درع بكر بن غانم من تحت إبطه، فعاجله علي بن الحسينعليه‌السلام بضربة قسمه نصفين.