المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 109662
تحميل: 6673

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109662 / تحميل: 6673
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المنبرُ الحُسيني

نشُوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

الفصل الأول:

المنبر لغةً واصطلاحاً

٥

٦

تمهيد

في مقدمة كتابنا حول (المنبر الحسيني)، لابدّ أنْ نتوقّف أوّلاً عند معنى لفظ (المنبر) لغةً واصطلاحاً، ثمّ نبحث هل للمنبر وجود قبل الإسلام؟ وكيف كان الخطباء آنذاك؟

لقد أولى الإسلام، موضوع الخطابة، اهتماماً كبيراً، وربط بها شعيرة من أبرَز شعائره العبادة وهي صلاة الجمعة.

وعلى هذا، فإنّ من المستحسن، أنْ نتوقّف - أيضاً - عند خطبة الجمعة باعتبارها أمراً مألوفاً عند جميع المسلمين، وعلى اختلاف مدارسهم الفقهية، كل ذلك مقدّمة، لمعرفة المنبر الحسيني، موضوع بحثنا.

فمن خلال مراجعة معاجم اللغة ومراجعها، نجد أنّ لفظ (المِنْبَر) يعود إلى الفعل (نَبَرَ) فلنحاول معرفة معنى ذلك.

حينما يُقال نَبَرَ - الشيء - نَبْرَاً، أي رفعه. ويُقال نَبَرَ في قراءته أو غنائه، أي رفعه(1) .

ونَبَرَ الحرف ينبُرُهُ، أي الهمزة(2) .

ولهذا، فالنبرة: هي كل مرتفع من الشيء(3) .

____________________

(1) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، 2 / 933.

(2) الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، 2 / 142.

(3) المصدر نفسه، ص / 142.

٧

وعن الجوهري، نَبَرْتُ الشيء أنبرهُ نبراً، رفعته(1) .

وعلى هذا، فإذا قيل: انتبر الجرح أي تورّم(2) .

وكل شيء رفع شيئاً فقد نبره(3) .

ومن كل ما مرّ بنا، عرفنا أنّ لفظ (نَبَرَ) يعني رفَع. ومن هنا جاء معنى المنبر. ولهذا يقول صاحب الصحاح: نبرتُ الشيء انبرهُ نبراً: رفعته، ومنه سميّ المنبر(4) .

المنبر: مرقاة الخطيب، يسمّى منبراً لارتفاعه وعلوّه. وانتبر الأمير: ارتفع فوق المنبر(5) .

وبهذا عُرّف المنبر في المعجم الوسيط، حيث ذكر:

المنبر: مرقاةٌ يرتقيها الخطيب أو الواعظ في المسجد، والجمع: منابر(6) .

ونلاحظ هنا إضافة المكان إلى لفظ المنبر، وهو المسجد، ولهذا سبب سيتّضح بيانه، حينما نذكر كيف بدأ اتخاذ المنبر للخطابة، وارتباط ذلك بالمسجد، ولأنّ الخطابة خارج المساجد لا تعتمد على المنابر عادةً، وكل ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل.

أمّا صاحب المنجد، فإنّه يُضيف إلى تعريف المنبر أمراً آخر، وهو رفع الصوت، فيقول:

____________________

(1) الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين 4 / 263.

(2) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، 2 / 933.

(3) ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، 5 / 189.

(4) الجوهري، إسماعيل بن حمّاد: الصحاح، 2 / 821.

(5) المصدر نفسه، 5 / 189.

(6) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، 2 / 933.

٨

المِنبَرُ، (جمعهُ منابر): محلّ مرتفع يرتقيه الخطيب أو الواعظ، يكلّم منه الجمع، سُمّي به لارتفاعه، ولرفع الصوت عليه، وكُسرت الميم على التشبيه بالآلة(1) .

المبحث الأوّل: قبل الإسلام

إنّ الخطابة قديمة، قِدم تكوُّن المجتمعات البشريّة، وتعرّف الخطابة بأنّها: (صناعة علمية، بسببها يمكن إقناع الجمهور، في الأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الإمكان)(2) . ولا نريد هنا الولوج إلى أعماق التاريخ، ومتابعة مسألة الخطابة، وكيف اهتمّت بها الشعوب المختلفة والأمم المتباينة، ولأنّ ذلك بحاجة إلى إشباع ومتابعةٍ، وقد نخرج بهما عن موضوع البحث حول المنبر الحسيني.

ولكن نريد هنا التوقّف، قليلاً، عند الخطابة عند العرب قبل الإسلام. وهل أنّ العرب عَرفوا المنبر؟ وكيف كانت خطابتهم؟ والهيئة التي يخطبون عليها؟ لأنّ ذلك يعتبر أمراً مرتبطاً بموضوعنا.

ومن خلال مراجعة، بعض كتب الأدب، نجد أنّ الخطابة، قبل الإسلام، كان لها الموقع المهم، في حياتهم الاجتماعية، والأدبيّة.

فقد كانت الظروف، جدُّ مهيأة للعرب قبل الإسلام في تطوّر الخطابة، من حيث اهتمامهم بقوّة البيان والفصاحة، وأجواء الحرّية وظروف المنازعات القبلية، أو مجالس الصلح بين القبائل، والمناسبات والأسواق التي تؤهلهم للرقي في مضمار الخطابة.

وكما تتفاخر إحياء العرب وقبائلهم بالشعراء، فكذلك نجدهم

____________________

(1) معلوف، لويس: المنجد، صفحة 785.

(2) المظفر، محمد رضا: المنطق، 2/269.

٩

يتفاخرون بخطبائهم في المحافل...

يقول أحد الشعراء في مديح قومه:

وهـم يدعمون القولَ في كلِ موطنٍ

بـكلِّ خـطيبٍ يـترك القوم كظّماً

يـقومُ فـلا يـعيا الـكلامَ خـطيبنا

إذا الكربُ أنسى الجبسَ أنْ يتكلّما(1)

وتذكر بعض كتب الأدب، أنّ الخطيب صار يفضّل على الشاعر. فالجاحظ(2) يقول: (كان الشاعر في الجاهليّة يُقدّم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيّد عليهم مآثرهم، ويفخّم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم، ويخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم.

فلمّا كثر الشعر والشعراءُ، اتخذوا الشعر مكسبةً، ورحلوا إلى السَوَقَةِ، وتسارعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ولذلك قال الأوّل: (الشعر أدنى مروءة السريّ، وأسرى مروءة الدني)(3) .

____________________

(1) د. ضيف، شروقي: تاريخ الأدب العربي، 1 / 414 ومعنى البيتين: أنّ الشاعر حين يمتدح قومه يذكر أنّ من خصالهم؛ إنّهم يؤكّدون أقوالهم، عبر خطباء في غاية الفصاحة، والوصول إلى المرام بحيث يتركون الآخرين يمتلأون غيظاً وحنقاً بقوّة فصاحتهم وبيان حجّتهم. فالخطيب منهم؛ منطيقٌ لا يعجز عن الكلام، إذا اشتدّ الأمر وصعب الموقف، وليس هو بالجبان الذي يذهله الخوف عن الكلام. فالكرب يعني الشدّة والجبس هو الجبان.

(2) هو أبو عثمان عَمْر بن بحر بن محبوب الليثي البصري ولد بالبصرة (163 هـ) وتوفّي فيها. درّس في البصرة وبغداد، تُنسب إليه فرقة الجاحظية من فرق المعتزلة. متنوع المعرفة، راجح العقل كثير العلم. سجّل أحوال عصره وحياة رجال زمانه، له كتب مشهورة منها الحيوان في سبعة مجلدات، البيان والتبيين، البخلاء، توفّي في البصرة عام 255 هـ. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 5 / 74).

(3) الجاحظ، عَمْر بن بحر: البيان والتبيين، 1 / 136. ومعنى ذلك أنّ الشعر لمّا صار وسيلة للارتزاق والتكسّب وفقد أغراضه النبيلة، عاد الشعر ليحطّ من قدر الشريف الكريم، وليرفع من مستوى الهابط اللئيم.

١٠

والجاحظ لا يكتفي بمجرّد عرض هذا الرأي - في تفضيل العرب أخيراً الخطباء على الشعراء - بل نجده يرسل هذا الرأي إرسال المسلّمات، في موضع آخر من الكتاب نفسه؛ البيان والتبيين. فيقول: (وكان الشاعر أرفع قدراً من الخطيب، وهمّ إليه أحوج. لردّه مآثرهم، وتذكيرهم بأيامهم. فلمّا كثر الشعراء وكثر الشعر، صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر)(1) .

ولعل ذلك يبدو من خلال اهتمام العرب بحفظ أسماء الخطباء، وتسجيل خطبهم وحفظها، والإشارة إلى مواضع البلاغة والإبداع فيها.

ونجد ذلك واضحاً في كتب الأدب التي تناولت موضوع الخطابة عند العرب.

فمن مشاهير الخطباء: (قيس بن ساعدة الأيادي، ولقيط بن معبد، وزيد بن جندب، وصعصعة بن صوحان، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطّان، ومن الخطباء القدماء: كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب كافة، فلمّا مات أكبروا موته، وأرّخوا بموته إلى عام الفيل. ومن خطباء اليمن: حِمْيَر بن الصباح، وكان المفضّل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس، وكان متكلّماً قاصّاً يقعد إليه عمرو بن عبيد...)(2) .

ولا يفوت الجاحظ أن يذكر العديد من مشاهير الخطباء، حسب قبائلهم وأحيائهم. وذلك في أكثر من موضع وموضع من كتابه الشهير: البيان والتبيين(3) .

ويتوقّف الدكتور شوقي ضيف، عند ظاهرة تفضيل العرب

____________________

(1) المصدر نفسه، 1 / 136.

(2) الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد: محاضرات الأدباء، 1 / 138.

(3) الجاحظ، عمرو بن بحر: البيان والتبيين، 1 / 192، 188، 178، 158.

١١

للخطباء على الشعراء أخيراً، ويحاول أن يعطي لذلك تعليلاً نعرضه إتماماً للفائدة، وإحاطة بالموضوع، فيذكر: «وربما كان من أسباب ذلك، ان الشاعر - إذا استثنينا زهيراً(1) - كان هو الذي يهيّج النفوس للحرب، بما يدعو للأخذ بالثأر، أمّا الخطيب؛ فكان غالباً يدعو إلى السلم، وأنْ تضع الحرب أوزارها بين القبائل المتخاصمة، وكثيراً ما يقف من قومه موقف الناصح الأمين، يهديهم ويرشدهم. أمّا الشاعر، فأكثر مواقفه هجاء، وتنابز بالألقاب والأحساب، والمآثر والمعايب»(2) .

إذن فقد برز دور الخطيب عند العرب، بما ناظر به الشاعر، أو ربّما بما زاد عليه.

ولما بزَغَ نور الإسلام، وعمّ ضياؤه أطراف جزيرة العرب، أخذت الوفود تترى على المدينة المنوّرة، تعلن إسلامها على يدي الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعها شعراؤها وخطباؤها وكمثال على ذلك؛ قدوم وفد قبيلة تميم على الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة المنورة، سنة تسع للهجرة المباركة. وهم الذين نادوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وراء الحُجُرات، ونزل فيهم قرآن.

ثمّ إنّهم بعد أنْ آذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصياحهم خرج إليهم، فقالوا: (يا محمّد! جئناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا.

قال: نعم،

____________________

(1) هو زهير بن أبي سُلمى عاش وتوفّى 13 ق. هـ - 627م تقريباً، شاعر جاهلي من أصحاب المعلّقات دقيق الوصف، متين التنسيق، رزين متروّ، ميّال إلى الحكم يحث قومه على الصلح، يعتبر من أشعر شعراء عصره.

كانت قصائده تسمّى الحوليّات، كان ينظم القصيدة في شهر ويهذّبها في سنة. كان أبوه شاعراً وخاله شاعراً وأخته سلمى شاعرة وابناه كعب وبُجير شاعرين وأخته الخنساء شاعرة. توفّي 609م). (الزركلي، خير الدين، الأعلام، 3 / 52).

(2) د. ضيف شوقي: تاريخ الأدب العربي، 1 / 416.

١٢

فأذنتُ لخطيبكم فليقل).

فقام خطيبهم، عطارد بن حاجب، وخطب. ثمّ التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخِ الحارث بن الخزرج وقال له: (قم فأجب الرجل في خطبته)، ثمّ جاء دور الشعراء فأبرزوا شاعرهم الزبرقان بن بدر، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حسّان بن ثابت(1) ، ليجيب شاعرهم، حتى انتهى الأمر بإعلان إسلامهم ودخولهم في دين الله عزّ وجل(2) .

والملاحظ أيضا ً، أنّ كتب الأدب لم تكتفِ بمجرّد ذكر أسماء الخطباء أو بعض نماذج من خطاباتهم، بل إنّ هذه الكتب، قد أشارت، إلى أوصاف كل خطبة ومناسباتها(3) .

ومن تلك الخطب، كانت خطبة النكاح، حيث أكّد العرب؛ أنّه ينبغي على الخاطب أنْ يطيل، فيما ينبغي على المجيب أن يقصّر(4) .

وكنموذجٍ لذلك نذكر خطبة نكاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خديجة (رض)(5) .

____________________

(1) حسّان بن ثابت الأنصاري ولد في يثرب، وهو من الشعراء المخضرمين، اتصل بالغساسنة وملوك الحيرة ومدحهم ثمّ أسلم وحسن إسلامه وصار من الأنصار. لقّب بـ (شاعر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ديوان شعر). مات في المدينة عام (673 م - 54 هـ) (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 2 / 174).

(2) الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، 2 / 377 - 380.

(3) الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد: محاضرات الأدباء 1 / 137.

(4) الجاحظ، عمرو بن بحر: البيان والتبيين، 1 / 64.

(5) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشية، زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأولى أمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصم القرشية، ولدت سنة 68 ق. هـ بمكّة، من سيدات قريش قبل الإسلام وكانت تلقّب بالطاهرة. أوّل أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وأوّل امرأة آمنت به. بذلت أموالها في سبيل الله تعالى. توفيت في السنة العاشرة بعد البعثة النبوّة الشريفة ودفنت بمكّة المكرذمة.

(الزركلي، خير الدين: الأعلام 2 / 302).

١٣

حيث تولّى أبو طالب(1) عمُّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ذلك قائلاً:

(الحمد لله، الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل ضئضئي معدٍ، وعنصر مضر، وجعلنا حَضَنة بيتهِ، وسُوّاس حرمهِ، وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس. ثمّ إنّ ابن أخي هذا، محمّد بن عبد الله، لا يُوزن به رجل، إلاّ رجَح به شرفاً ونُبلاً وفضلاً وعقلاً، وإنْ كان في المال قلّ، فإنّ المال ظلٌ زائل، وأمرٌ حائل، وعاريةٌ مُسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأٌ عظيم، وخطرٌ جليل. وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذلك لها من الصداق: ما عاجله وآجله اثنتي عشرة أوقيةٍ ونشاً...)(2) .

عند ذلك قال عمّها، عمرو بن أسد(3) : (هو الفحل لا يقذع أنفسه، وأنكحها منه)(4) .

ثمّ لابدّ أنّ نتوقّف عند بيان الكيفية التي كان يتّبعها الخطيب أثناء خطبته حيث يمكن ملاحظة، ما يلي:

(1) إنّ العرب، كانت تستخدم العصا، أثناء خطبتها، إذ (كانت

____________________

(1) وهو عبد مناف بن عبد المطّلب بن هاشم القرشي. ولد في مكّة قبل ثلاثين عاماً من عام الفيل. تولّى رعاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاة جدّه عبد المطّلب. عرف بالمحامي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . توفّي في مكّة المكرّمة سنة 10 بعد البعثة، وهي عام وفاة خديجة الذي سميّ بعام الحزن. (القمّي، عبّاس: الكنى والألقاب، 1 / 108).

(2) الذرّية هي: الولد والنسل، الضئضئي: الأصل والمعدن، العنصر: الأصل، حضَنَة: جمع حاضن من الفعل حضَنَ: أي ضمّ الشيء إلى صدره وجعله في حضنِه، سوّاس: جمع سائس: من يرعى الشيء ويقوم بأمره. العارية: الشيء الذي تملك منفعتهُ بدون عوض. الأوقيّة: مقدار نصف رطل. النّش هو: النصف مِن كل شيء.

(3) وهو عم أمّ المؤمنين خديجة (رض).

(4) الحلبي، علي بن برهان الدين: السيرة الحلبية، 1 / 138 - 139. هو الفحل لا يقذع أنفسه: الفحل هو الذكر من كل حيوان، وهو الكريم النجيب أيضاً، وقذع الرجل أي شتمه ورماه بالفُحش ومعنى هذا القول هو الثناء والمدح وأنّه كريم لا تجد الشتيمة إليه سبيلاً لكرمه واصله وخلقه.

١٤

العرب تخطب بالمخاصر(1) ، وتعتمد على الأرض بالقسيّ، وتشير بالعصيّ والقنا)(2) ويقول شاعرهم مادحاً قومه:

يصيبون فصل القول في كل خطبةٍ

إذا وصلوا أيمانهم بالمخاصر(3)

قال شاعر آخر يخاطب رجلاً:

إذا اجـتمع القبائل جئت ردفاً

أمـام الـماسحين لك السبالا

فلا تعطى العصا الخطباء يوماً

وقد تكفى المقادة والمقالا(4)

بل يصل الأمر بهم، إلى القول: (إنّ حمل العصا والمخصرة، دليل على التأهّب للخطبة، والتهيّؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصورٌ عليهم ومنسوب إليهم)(5) .

ويظهر من عدّة نصوص، إنّ الخطيب لا بدّ أنْ يحمل بيده، شيئاً يشير به في خطبته، فبالإضافة إلى المخصرة (ربّما كان - المحمول باليد - قضيباً وربّما كانت العصا وربّما كانت قناة)(6) .

(2) يظهر كذلك أنّ المهم مع حمل العصا في الخطبة، كون الخطيب معتّماً بعمامة، أمّا الأمور الأخرى، فليست ذات أهميّة؛ يقول الجاحظ:

(فعند العرب: العمّة وأخذ المخصرة من السيما، وقد لا يلبس الخطيب الملحفة ولا الجبّة ولا القميص ولا الرداء، والذي لا بدّ منه

____________________

(1) المَخاصِر: جمع مِخْصَرة، وهي كالسوط، وقيل هي شيء يأخذهُ الرجل بيده ليتوكأ عليه، مثل العصا ونحوه. والقسيّ جمع القوس، والقنا، هي: الرماح.

(2) الجاحظ، عمرو بن بحر: البيان والتبيين، 1 / 197.

(3) المصدر نفسه: 1 / 198.

(4) المصدر نفسه: 1 / 199. ومعنى الردف هو التابع، والسبالا: جمع السبلة وهي اللحية المسبلة على الصدر، والقادة: هي القيادة.

(5) المصدر نفسه 3 / 61.

(6) المصدر نفسه 3 / 48.

١٥

العمّة والمخصرة. وربما قام فيهم، وعليه إزاره قد خالف بين طرفيه، وربما قام فيهم وعليه عمامته، وفي يديه مخصرته)(1) .

(3) كان الخطيب، إضافة إلى اعتماده على العصا أثناء خطبته، يرتقي على ظهور الرواحل(2) أحياناً لإلقاء خطبته، فيظهر من ذلك؛ إنّ العرب لم تكن تعرف المنابر قبل الإسلام، وإنّما كان ذلك بعد هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة المنورة، كما سيتضح ذلك في هذا الفصل.

ويلجأ الخطيب إلى اتخاذ ظهور الرواحل كمنصّات للخطابة، في حال خطابتهم في الأسواق والمنتديات العامّة.

وقد سجّل أكثر من مصدر، سواء مصادر كتب الأدب أم السيرة، الرواية التي رواها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما حَضَرَ عكاظ(3) وشاهد قس بن ساعدة(4) يخطب على راحلته. تلك الخطبة التي اشتهرت عنه، والتي منها... (أيّها الناس اجتمعوا فاسمعوا وعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، آيات مُحكماتٌ، مطرٌ ونباتٌ، آباء وأمهات، وذاهبٌ وآت..)(5) .

وبمناسبة ذكرٍ قس بن ساعدة الأيادي، فإنّ بعض الآراء تذهب إلى أنّ قس بن ساعدة، هو أوّل من اتكأ على العصا في خطابته، وأوّل

____________________

(1) المصدر نفسه 3 / 48.

(2) الرواحل؛ جمع راحلة، وهي التي يُرحل عليها ويُسافر من الإبل.

(3) عكاظ: من أسواق العرب في الجاهلية، تجتمع فيه القبائل عشرين يوماً في شهر ذي القعدة من كل عام، قرب الطائف. وكان الشعراء يحضرونه ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر. (معلوف، لويس: المنجد الإعلام، ص472).

(4) قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي، من بني إياد: أحد حكماء العرب ومن كبار خطبائهم في الجاهلية: يقال إنّه أول عربي خطب متوكّئاً على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه (أمّا بعد). من المعمّرين. أدرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل النبوّة. مات نحو 23 قبل الهجرة - 600م.

(الزركلي، خير الدين: الأعلام 5 / 196).

(5) المصدر نفسه: 2 / 141.

١٦

من قال: (أمّا بعد) فيها، وهو أول من خطب على الراحلة كذلك(1) إذن العرب لم تكن قد عرفت المنبر قبل الإسلام، وكانت تستخدم العصّي، أو القسيّ تعتمد عليها أثناء الخطبة، وربما كانت تستخدم ظهور الجمال كمنابر في وقت الحاجة إلى ذلك.

وسنجد فيما سيأتي(2) ، إنّ حمل العصا صار سنّة. حيث قالت معظم المذاهب الإسلامية باستحباب، أنْ يتخذ خطيب الجمعةٍ العصا، أثناء خطابته، يتّكئ عليها.

المبحث الثاني: المنبر في الإسلام

عريقة هي علاقة الأديان السماويّة بمسألة الخطابة، وذلك واضح من خلال معرفتنا بأنّ الإنسان هو المُخاطَب، وهدايتُه واستقامته، هما هدف إرسال الأنبياءعليهم‌السلام . ولهذا فقد ذكر القرآن الكريم في عدّة مواضعَ، خطابَ الأنبياء مع أقوامهم، بما يعكس لنا، حالة عرض الدين وقِيَمِهِ ومبادئه على الناس، في تجمعاتهم وأسواقهم ومحافلهم... ولهذا كان أسلوب الأنبياءعليهم‌السلام ، في كثير من الأحيان هو أسلوب الخطابة، في شدّ الناس لدين الله وإقامة الحجّة والبرهان على صدق منهجهِم.

وتيمّناً، نذكر بعض مقالات الأنبياء وهم يخاطبون أقوامهم، داعين إلى دين الله:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )( 59 ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون ( 124 ) أَتَدْعُونَ

____________________

(1) العسكري، الحسن بن عبد الله، الأوائل، ص67.

(2) وذلك في مطلب (خطب الجمعة) من هذا الفصل.

(3) سورة الأعراف: 59.

١٧

بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ )( 126 ) (1) .

( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( 141 ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ( 142 ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 143 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 144 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 145 ) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ) (2) .

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )( 85 ) (3) .

وهكذا عشنا، مع أربعة أنبياء، وهم يعظون أقوامهم مخاطبين لهم.

والأنبياء، هم أول خطباء البشريّة. هناك روايات عدّة عن الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقول: (كان شُعيبُ خطيبَ الأنبياء)(4) .

ولمّا بدأ سيدُنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوة الناس إلى دين الله، كان يلتقي الناس على مختلف طبقاتهم، يدعوهم إلى الإسلام، وكان يستثمر موسم الحج لبثّ مبادئ الدين الحنيف بين الناس.

حينما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة المكرمة، لم يكن بحاجة إلى اتخاذ منبر للخطابة، نظراً لطبيعة دعوته فيها، وما يثيره المشركون ضدّه من إثارات، وما يعضونه في طريق الدعوة من عراقيل. وكانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى كلامه ويصدّونهم عن حديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(1) سورة الصافّات: 123، 126.

(2) سورة الشعراء: 141، 146.

(3) سورة الأعراف: 85.

(4) الجاحظ، عَمْر بن بحر: البيان والتبيين، 1 / 113.

الطباطبائي، محمد حسين: تفسير الميزان، 10 / 361.

١٨

أمّا متى بدأ المنبر بالظهور في المجتمع والبيئة العربية والإسلامية؟ فقد كان ذلك في المدينة المنوّرة، بعد هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين إليها وتشريع صلاة الجمعة، حيث تأخذ خطبتا الجمعة حيّزاً مهمّاً وأساسيّاً في الصلاة.

لمّا هاجر النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باتجاه يثربَ، بقي أيّاماً في قبا(1) ، وبعدها أكمل وجهته إلى المدينة المنوّرة، وفي طريق انصرافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من قبا إلى المدينة، كانت هناك أول جمعة أُقيمت في الإسلام. حيث كان معه المهاجرون ومَن جاء من الأنصار لاستقباله ومَن نزل معه من أهل قبا.

وكان إقامة أول صلاة جمعة من الأحداث الهمّة، التي سجّلها كتّاب التاريخ والسيرة، فنجد في: (ذِكْر ما كان من الأمور أول سنةٍ من الهجرة... فمن ذلك تجميعهُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي نزل فيه من قبا في بني سالم في بطن وادٍ لهم، وهي أول خطبة. وكان رَحَلَ من قباء يريد المدينة...)(2) ونجد كذلك في مصدر آخر: (فمن ذلك تجميعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء. وذلك أنّ ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامداً المدينة. فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم ابن عوف، في بطن وادٍ لهم، وقد اتخذ اليوم ذلك الموضع مسجداً - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة أول جمعة....)(3) .

وهناك تفصيلٌ أكثر، في مصدر ثالث، حينما يذكر لنا اسم ذلك

____________________

(1) قبا وقباء: وأصلها اسم بئر هناك عرفت القرية به، وهي على ميلين من المدينة، على يسار القاصد إلى مكّة فيها مسجد التقوى. (الحموي، ياقوت معجم البلدان، 4 / 342).

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ، 2 / 76.

(3) الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، 2 / 114، أقول: ومسجد الجمعة اليوم من المساجد المعروفة ويقع بين قبا والمدينة.

١٩

الوادي الذي أٌقيمت فيه أول صلاة جمعة: (... وكان بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وسار يوم الجمعة ارتفاع النهار... حتى أدركتهُ الصلاةُ في بني سالم، فصلّى بهم يوم الجمعة، وكانت تلك أول جُمعة صُلّيت في الإسلام،... وكانت صلاته في بطن الوادي المعروف بوادي رَانُونَاء إلى هذه الغاية...)(1) .

وأوردتْ عدةُ مصادر نص خطبتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في أول جمعة في بني سالم، ونذكرها في الملحق، معتمدين على ما ذكره أبو هلال العسكري في كتابه الأوّل.

وإلى هنا، فالمنبر لم يبرز ولم يذكره أحد. حتى دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة، وأوعز ببناء المسجد الشريف، ومن بعد ذلك أُقيمت أول جمعة في المدينة المنورة. وهكذا أخذ المسلمون، ولاسيما المهاجرون منهم، يعيشون أجواء الأمان والاستقرار، يقصدون المسجد، ينهلون من نمير أخلاق الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوجيهاته، ولاسيما في خطب الجُمَع.

أمّا كيف ومتى، أُنشِئ المنبر في المسجد ولم يكن موجوداً في أول الأمر؟ فإن كُتُب السيرة أوردت عدّة روايات في هذا الصدد..

(1) رواية، تعزو اقتراح بناء المنبر إلى تميم الداري(2) ، (كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائماً، فقال: إنّ القيام قد شقّ عليّ، فقال له تميم الداري: ألا أعملُ لك منبراً كما رأيت يُصنع في الشام؟ فشاور الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين، فقال عباس بن

____________________

(1) المسعودي، علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجواهر، 2 / 279.

(2) تميم الداري: هو تميم بن أوس بن حارثة الداري، صحابي، كان نصرانيّاً وقدم المدينة وأسلم سنة تسع للهجرة هو وأخوه نعيم. وكان راهب فلسطين وهو أول من قصّ. انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان. (العسقلاني، أحمد بن حجر: الإصابة 1 / 488).

٢٠