المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 110771
تحميل: 6812

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110771 / تحميل: 6812
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فكثيراً ما كانت المآتم الحسينية تعقد بصورة سرّية. واستمر ذلك إلى عهد قريب في بعض المناطق، كما كان الحال، في منطقة جبل عامل بجنوب لبنان أيام العثمانيّين. بل ولا تزال بعض المناطق تعيش حالات المدّ والجزر مع المأتم الحسيني حسب الوضع السياسي إلى الآن.

وعلى هذا، فمع مجيء دول شيعية. فإنّ من الطبيعي جداً، أنْ تنتعش مؤسّسة المنبر الحسيني ويتّسع نطاقها وتمتد آفاقها، وهذا ما نجده في ما صنعه البويهيون في بغداد، والفاطميون في القاهرة، والحمدانيون في حلَب، والصفويّون في إيران بعد ذلك. وسنأخذ البويهيين والفاطميين كنموذجين لمدى علاقة السلطة الشيعية بظاهرة المأتم والمنبر الحسيني واتساع دائرته.

البويهيّون في بغداد

بدايةً لابدّ أنْ نمرّ مروراً سريعاً بما ذكرها المؤرّخون عن البويهيّين وأصولهم. وقد جاءت عدة أقوال في ذلك؛ فالبعض نسبهم إلى الديالمة، والبعض الآخر: يرجع نسبهم إلى بعض ملوك ساسان، بل وادعى قومٌ بأنّهم ينتسبون إلى يعقوب بن إبراهيمعليه‌السلام . فيما ذكر آخرون: إنّهم يرجعون إلى بني ضُبّة، القبيلة العربية المعروفة(1) .

وهذا الاختلاف، يكاد يكون أمراً يلازم الذين يبرزون فجأة، في ساحة الملك والحكم. أمّا بُويهْ، فقد كان رجلاً معدماً، يعمل صيّاداً في بحر الخزر. وله أبناء ثلاثة، هم علي وحسن وأحمد. ويقال أنّه ترك العمل مع السامانيّين عام 318 هجرية وتقرّب إلى أحد ملوك الأقاليم يُدعى مرداويج، حتى صار من أعوانه المقرّبين.

____________________

(1) حسن، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام - 3 / 42.

١٠١

فقام هذا الملك، بتعيين ابنه علي (الذي لُقّب بعماد الدولة بعد ذلك) حاكماً على كَرَج(1) وبرز عماد الدولة قائداً لمولك ورؤساء كيلانن والديلم، حتى فتح أصفهان، واستولى على مدينة أرجان عام 320 هجرية.

وأمّا الابن الثاني؛ وهو حسن، والذي عُرَف بعد ذلك بـ (ركن الدولة) فقد توجّه إلى فتح شيراز، حتى تمّ له ذلك سنة 322 هجرية، بعدما التحق به أخواه الآخران. واستمر حسن ركن الدولة بحروبه حتى فتح كرمان والأهواز واستولى عليهما.

أمّا الابن الثالث، وهو أحمد الذي عُرفَ بعد ذلك بـ (معزّ الدولة) والذي كان مع أخويه في فتوحات شيراز، وما تبعها، فقد دخل إلى بغداد سنة 334 هجرية أيام الخليفة العباسي المستكفي بالله(2) .

هذه جولة سريعة، في آل بويه وتحرّكاتهم، أمّا اتجاهُهم المذهبي فقد صرحت مصادر عدّة أنّهم كانوا من الشيعة(3) ، حتى قالت بعض المصادر: (إنّ الديلم كانوا يتشيّعون، ويغالون في التشيّع)(4) وكانت (بلاد الديلم، تدين بديانات مجسوسية ووثنيّة، حتى أوائل عهد العباسيّين. ثمّ بدأ الإسلام بالانتشار فيها، حين فرّ إليها يحيى بن عبد الله الحسني، وجمع حوله أتباع يبشّرون بالإسلام على المذهب الشيعي. وقد قاوم الديلمُ العباسيين، حين انضمّوا إلى حركة الحسين

____________________

(1) ضاحية كبيرة في شمال غرب مدينة طهران الحالية.

(2) بول، استانلي: طبقات سلاطين الإسلام - 134.

المستكفي بالله: هو عبد الله بن علي العباسي الهاشمي، بن الخليفة العباسي المكفي (عليه بن أحمد المعتضد). هو الخليفة العباسي الثاني والشعرون، كان ضعيفاً والعوبة بين الأتراك، حكم سنة واحدة من 333 - 334 هـ. عزله معزّ الدولة البويهي، ومات في السجن (معلوف، لويس: المنجد / الأعلام ص660).

(3) المصدر نفسه صفحة 135 وراجع كذلك: الأمين، محسن: أعيان الشيعة 2 / 485.

(4) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 7 / 149.

١٠٢

بن زيد العلوي الذي ثار في الريّ. ثم ظهر في بلاد الديلم داعية شيعي آخر هو الحسين بن علي الملقّب بالأطروش...)(1) ، ومع ذلك، فإنّه لم يصل إلينا أنّ البويهيين، قد دعوا إلى إقامة المناحات، والمآتم العامة، في البلدان، التي وقعت تحت سيطرتهم، قبل بغداد. مثل مدن شيراز وكرمان والأهواز وغيرها من البلاد الإيرانية. فضلاً عن إقامتهم للمآتم في بلادهم الأصليّة.

وأغلب الظن، إنّ السبب في ذلك؛ يعود إلى وجود الأرضية المساعدة والمشجّعة على إقامة المآتم في بغداد، التي كان فيها الشيعة بكثرة، انعكست على أحداث عاشوراء سنة 352 هجرية ببغداد، على حدّ قول بعض المصادر التاريخية (لكثرة الشيعة ولأنّ السلطان منهم)(2) ويؤكّد ذلك الحافظ ابن كثير، فيقول: (لكثرتهم وظهورهم)(3) .

وقد يؤيّد هذا القول، ما ذكرناه سابقاً في حادثة هدم المتوكل لقبر الحسينعليه‌السلام ، عام 236 هجرية، وكيف إن أهل بغداد كتبوا شتم المتوكّل على الجدران.

في حين لم يكن التشيّع معروفاً آنذاك في إيران، إلاّ بشكل محدود في مدينة قم وأطراف خراسان. والذي نشر التشيّع بعد ذلك الصفويّون كما هو معروف.

ونقطة أخرى، جديرة بالتوقّف هنا، وهي أنّ البويهيين، وبالأخص أحمد (معزّ الدول)، كان قد دخل بغداد عام 334 هجرية، في حين أنّ أمره بإقامة النياحات، والمآتم العامة في بغداد، كان عام 352 هجرية. أي بعد ثمانية عشر عاماً من وجوده في بغداد، فلماذا لم يعلن عن ذلك،

____________________

(1) فاروق، عمر: الخلافة العباسية في عصر الفوضى السياسية، ص87.

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل - 7 / 7.

(3) ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية 11 / 243.

١٠٣

ويأمر به في سنيّه الأولى؟ ولماذا تأخّر إلى هذه المدّة؟. إنّا لا نجد في المصادر أي تفسير لذلك، ولعلّ الأجواء والظروف، لم تكن مهيّأةً لمثل هذه المسألة، أو لعلّ حادثاً ما، أو تطوّراً معيناً، شجّعه على قراره. نقول ذلك؛ لأنّه قد مرّ بنا: إنّ المآتم كانت معروفة في أسواق بغداد ودور رؤسائها قبل مجيء البويهيين إليها وبعد دخولها. أمّا الحِداد العام فلم يعلن إلاّ عام 352 هجرية كما سبق ذكره.

نعم قام معزّ الدولة البويهي، بعد سنتين من وصوله بغداد، أي عام 336 هجرية، بتشييد بناء ضخم، وتوسيع المقام القديم للإمامين السابع والتاسع، من أئمّة أهل البيت - وهما الإمام موسى بن جعفر الكاظم وحفيده الإمام محمد بن علي الجوادعليه‌السلام (1) - وبناء قبّة على قبريهما في مقابر قريش، بضاحية بغداد الشمالية(2) والتي تسمّى اليوم بمدينة الكاظميّة، وهي قضاء تابع لمحافظة بغداد حالياً، ولكن دون أيّ إشارة إلى مسألة النوح والبكاء، على الإمام الحسينعليه‌السلام أو أيّ إمام آخر.

وعلى كل حال، فإنّ سلطان بني بويه على بغداد بدأ سنة 334 هجرية، واستمرّ إلى حين دخول السلاجقة(3) إليها

____________________

(1) الإمام موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام الهاشمي القريشي، ولد في المدينة المنورة سنة 128 هجرية، عاصر من الخلفاء العباسيّين المنصور، المهدي والهادي، توفّي في السجن ببغداد أيّام الرشيد العباسي سنة 183 هجرية. يعرف بالكاظم إليه ينسب الأشراف الموسويون. دفن بمقابر قريش شمال بغداد هجرية. يعرف بالكاظم إليه ينسب الأشراف الموسويون.

دفن بمقابر قريش شمال بغداد وخلف قبره حفيده الإمام محمد بن علي الرضا بن موسى، ويعرف بالجواد ولد في المدينة المنوّرة سنة 195 وعاصر الخلفاء: الرشيد، الأمين، المأمومون والمعتصم، استُدعى من المدينة إلى بغداد أيام المعتصم ومات فيها سنة 220 هجرية. (الأربيلي، علي بن عيسى: كشف الغمّة في معرفة الأئمة، 3 / 2، 134).

(2) الأمين، حسن: دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 9 / 327.

(3) السلاجقة: أمراء تركمانيون ينسبون إلى جدّهم سلجوق كان منهم عدّة فروع أشهرها: السلاجقة الكبار 1037 - 1175م. أنشأهم غرل بك وجغري بك حفيدا سلجوق، اشتهر منهم ألب أرسلان وملكشاه. (معلوف، لويس: المنجد، الأعلام ص360).

١٠٤

سنة 447 هجرية، وسيطرة طغرل بك(1) على مقاليد الأمور، وقراءة الخطبة باسمه(2) .

ولهذا سنتابع انعكاس وجود البويهيين في السلطة ببغداد على موضوع بحثنا، وهو المنبر الحسيني، طوال وجودهم في بغداد، وبالتحديد من سنة إعلان المأتم والحداد العام سنة 352 هجرية إلى حين زوال دولتهم عن بغداد سنة 477 هجرية.

وقد تابعت هذا الموضوع عبر ثلاثة مصادر، هي: الكامل لابن الأثير، والبداية والنهاية لأبي الفداء ابن كثير، والمنتظم لابن الجوزي.

ووجدت أنّ المصدر الثاني أي تاريخ ابن كثير، هو أكثر المصادر إحاطة بموضوع بحثنا، واهتماماً به.

إذاً نبدأ من سنة 352 هجرية، وهي أوّل سنة برزت فيها مظاهر الحزن والحداد العام. والواقع، أنّ المصادر هنا، لم تذكر لنا بشكلٍ دقيق أو مفصّل، كيفية النوح، ودور النائحين، أو التقاليد التي تستخدم في ذلك. (كما سنجدهُ واضحاً عند الحديث عن الفاطميّين بعد ذلك).

نعم، إنّ مظاهر الحزن العام، تكون مترافقة عادةً مع إنشاد المنشدين، ونوح النائحين، والذي يهمّنا من كل ذلك أنّ هذا الإنشاد والنوح - والذي يمثّل جذور المنبر الحسيني بعد ذلك - قد وجد أجواءً

____________________

(1) طغرل بك بن مكائيل بن سلجوق ركن الدولة، قائد سلجوقي ومؤسّس السلالة السلجوقية، قضى على البويهيين ودخل بغداد 1055م 477 هجرية، فخلَع عليه الخليفة القائم العبّاسي لقب السلطان، ملك الشرق والغرب، توفّي سنة 1063م. (معلوف، لويس: المنجد / الأعلام ص436).

(2) بول، استانلي: طبقات سلاطين الإسلام، ص142.

١٠٥

واسعة للامتداد والانتشار.

سنة 352: أوّل سنة يأمر فيها معزّ الدولة بن بويه، بالنياحة ومظاهر الحزن في بغداد.

سنة 353: تجدّد ما حدث في عاشورا سنة 352 إلاّ أنّ أحداثاً طائفية وصلت إلى حدّ الاقتتال قد رافقت الحداد العام(1) . إنّ توتّر الأجواء الطائفية، بدا أمراً كثير المصاحبة لمظاهر الحداد ليوم عاشوراء، في بغداد أيام البويهيين، ولهذا سنعرض عن ذكره، حتى لا نخرج عن موضوع دراستنا، وهو المنبر الحسيني.

سنة 354 تجددت مراسم يوم عاشوراء(2) .

ويستمر ابن كثير في متابعته ما يجري كل سنة في يوم عاشوراء، منذ سنة 355 إلى سنة 362، بدون أي حوادث طائفية. ثمّ عادت الفتنة الطائفية مرّة أخرى، في يوم عاشوراء عام 363 هجرية(3) . أمّا ابن الأثير فيذكر عاشوراء سنة 354 بقوله: (وفيها عمل أهل بغداد يوم عاشوراء وغدير خم(4) كما جرت عادتهم؛ من إظهار الحزن يوم

____________________

(1) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 7 / 12، وانظر ذلك ابن كثير، إسماعيل الدمشقي، البداية والنهاية 6 / 214، وان الجوزي، عبد الرحمان بن علي: المنتظم 7 / 23.

(2) ابن كثير، أبو الفداء الدمشقي: البداية والنهاية 6/ 215.

(3) المصدر نفسه 6 / 233.

(4) غدير خمّ: نبع في واد قريب من الجحفة على الطريق بين مكّة والمدينة. توقّف فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حجة الوداع، وقال فيها:(من كنت مولاه فهذا علي مولاه) في الثامن عشر من ذي الحجّة 10 للهجرة. أقول: ولا يزال الشيعة - إلى الآن - يولون هذا اليوم اهتماماً واضحاً.

وينقل المقريزي في خططه (وأصلهم - أي الشيعة - فيه، ما خرّجه الإمام أحمد في مسنده الكبير في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال (كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر فنزلنا في غدير خم ونودي الصلاة جامعة، وكسح رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) في سفر فنزلنا في غدير خم ونودي الصلاة جامعة، وكسح رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) تحت شجرتين فصلّى الظهر، وأخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: =

١٠٦

عاشوراء والسرور يوم الغدير)(1) .

ومنه يُعرف، أنّ المظاهر كانت مستمرة. وعدم ذكرها لا يعني عدم وجودها.

أمّا ابن الجوزي في المنتظَم، فقد أخذ يردّد ما يعملهُ أهل بغداد، في عاشوراء، من سنة 353 حتى عام 361.

والظاهر أنّ ما يحدث في يوم عاشوراء صار عادة لأهل بغداد، ولهذا لم يعد التوقّف عندها وإعادة ذكرها، شيئاً مهمّاً لدى المؤرّخين، ولكن تطوّراً حدَث سنة 382، إذ (في عاشر محرمها أمر الوزير أبو الحسن علي بن محمد الكوكبي، وكان قد استحوذ على السطان - أهل الكرخ وباب الطاق(2) من الرافضة(3) ، بأنْ لا يفعلوا شيئاً من تلك

____________________

=(ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟) . قالوا: بلى.. قال:(ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟) قالوا: بلى. قال:(مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه) (المقريزي، أحمد بن علي: الخطط 2 / 116). للمزيد يمكن مراجعة كتاب الغدير للعلاّمة الأميني رحمه الله حيث أثبت ذلك من أُمّهات المصادر.

(1) ابن الأثير، علي بن الواحد: الكامل في التاريخ - 7 / 29.

(2) الكرخ وباب الطاق، محلّتان من أحياء بغداد من جانبها الغربين كان التشيّع فيهما شائعاً.

(3) الرافض، من الفعل (رَفَض) بمعنى الترك (الزبيدي، محمد مرتضى: تاج العروس 18 / 348) والروافض: جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة. (ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب 7 / 156) وورد اسم (الرافضة) في كتاب بعثهُ معاوية إلى محمد بن مكرم، لسان العرب 7 / 156) وورد اسم (الرافضة) في كتاب بعثهُ معاوية إلى عمرو بن العاص: (... فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة) (اليعقوبي، أحمد بن يعقوب: تاريخ اليعقوبي، 2 / 83).

وأمّا في المصطلح فإنّ (الرافضة) قد يقصد بهم قوم من الشيعة (الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، 1 /138(وقد يقصد بها كل الشيعة (ابن رستة، أحمد بن عمر: الأعلام النفيسة، ص195 / 197) وقال آخرون: إنّهم ليسوا من الشيعة (الأندلسي، ابن عبد ربّه: العقد الفريد، 2 / 230). ويبدو أنّه قد اجتهد في دلالة هذا المصطلح (الرافضة) على مصاديقه. أمّا أوّل من استخدمه بهذا المعنى، فالمشهور أنّه زيد بن علي بن الحسين (الطبري محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، 7 / 181) وقيل رجل آخر اسمُه المغيرة بن سعيد (الأشعري، سعد بن عبد الله: المقالات والفرق، ص77) (النوبختي، الحسن بن موسى: فرق الشيعة، ص62).

١٠٧

البدع، التي كان يتعاطونها في يوم عاشوراء؛ من تعليق المسوح وتغليق الأسواق، والنياحة على الحسين، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك، ولله الحمد)(1) ومن هذا النصّ يمكن ملاحظة ما يلي:

1 - إنّ إغفال المصادر التاريخية، ما يجري يوم عاشوراء في بغداد، من سنة 364 هجرية إلى سنة 381، لا يعني زوال تلك الظاهرة العزائيّة. بدليل قوله أعلاه: (بأنْ لا يفعلوا شيئاً من تلك البِدَع التي كانوا يتعاطونها في عاشوراء). ثمّ إنّ المنبع يعني الأمر بالكفّ عن شيء موجود فعلاً، فلا معنى لمنع أمر غير موجود.

2 - إن وجود وزير، كان كافياً في منع ما يجري يوم عاشوراء. رغم وود بني بويه في السلطة والتأثير في بغداد. فهل يعتبر ذلك مؤشّراً على ضعف البويهيين؟. أو عدم رغبتهم آنذاك، بأنْ يكونوا طرفاً مباشراً في المسألة؟ خاصّة، بعد الفتن الطائفيّة التي رافقت يوم عاشوراء لسنين عدّة، أم إنّ البويهيين أنفسهم لم يكونوا على مستوى واحد من الاهتمام بموضوع بحثنا؟

ونعود إلى متابعة مظاهر الحِداد والعزاء العام، في بغداد في عهد البويهيين. حيث يظهر أنّ الأمور رجعت إلى سابق عهدها بعد سنة 382. ثمّ حدث شيء طريف لا بأس بالتوقّف عنده، وهو ما ذكره ابن كثير في حوادث سنة 389 بقوله: (ولمّا كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يُظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنّة، فادّعوا أنّه في اليوم الثاني عشر من المحرّم، قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتماً كما تفعل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة

____________________

(1) ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية 11 / 265، وانظر كذلك ابن الجوزي، عبد الرحمان بن علي: المنتظم 7 / 167 في حين لم يذكر ذلك ابن الأثير في حوادث هذه السنة.

١٠٨

البدعة ببدعة مثلها، ولا يُرجع البدعة إلاّ السنة الصحيحة)(1) !!

أمّا ابن الأثير، فيذكر في حوادث سنة 389 (وفيها عمل أهل باب البصرة(2) ، يوم السادس والعشرين من ذي الحجّة، زينة عظيمة، وفرحاً كبيراً، وكذلك عملوا ثامن عشر من المحرّم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء، وسبب ذلك أنّ الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب، وتعليق الثياب للزّينة ليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء من المأتم والنوح وإظهار الحزن، ما هو مشهور. فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم، وقالوا: هو يوم دخلَ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر رضي الله عنه الغار)(3) .

يبدو أنّ مظاهر الحزن الجديدة في بغداد، لقتل مصعب بن الزبير، استمرّت عدّة سنين. حيث سنجد في حوادث سنة 393 هجرية أنّ (فيها منَع عميد(4) الجيوش، الشيعة من النوح على الحسين، في يوم عاشوراء، ومنَع جهلة السنّة بباب البصرة، وباب الشعير، من النوح على مصعب بن الزبير بعد ذلك بثمانية أيام، فامتنع الفريقان ولله الحمد والمنّة)(5) .

____________________

(1) ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية 11 / 265.

(2) (محلّة باب البصرة، من محلاّت الجانب الغربي، وهو الذي عمّر أولاً. وكان بها جامع الخليفة أبي جعفر المنصور، وفيها قبر الشيخ معروف الكرخي). اللواتي - رحلة ابن بطوطة 1 / 24.

(3) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 7 / 200.

(4) هو الحسين (أبو علي) بن أبي جعفر، يقال له: ابن أستاذ هرمز. أبوه من حجّاب عضد الدولة، استعان به بهاءُ الدولة على استتباب الأمن فقصد إليها سنة 396 هـ ولد ببغداد ومات بها سنة 401، وجهّزه وصلّى عليه الشريف الرضي، ودفنه في مقابر قريش، ورثاه هو وغيره. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 2 / 234) وغيره.

(5) ابن كثير - البداية والنهاية - 11 / 274 وكذلك ابن الجوزي - المنتظم - 7 / 122. أمّا ابن الأثير فقد ذكر أنّ عميد الجيوش قد أنهى فتنة في بغداد عام 392 دون أي إشارة إلى موضوع بحثنا (الكامل - 7 / 214).

١٠٩

والظاهر أنّ المنع قد استمر بعد ذلك إلى سنة 341 هجرية. (وهي السنة التي توفّي فيها عميد الجيوش، الذي منع ما يجري في عاشوراء، سنة 393 هجرية). وهذا يفهم من حوادث سنة 402 هجرية، إذ يؤكّد ذلك ابن الجوزي بقوله: (أذِنَ فخر الملك(1) ، لأهل الكرخ، وباب الطاق في عمل عاشوراء، فعلّقوا المسوح وأقاموا النياحة في المشاهد)(2) . أمّا ابن كثير، فيعرض الأمر بأسلوبٍ آخر حيث يقول:

(في المحرّم منها، إذن فخر الملك الوزير، للروافض، أنْ يعملوا بِدعَتهم الشنعاء، والفضيحة الصلعاء، من الانتحاب والنوح والبكاء وتعليق المسوح، وأنْ تُغلق الأسواق من الصباح إلى المساء. وأنْ تدور النساء حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن، يلطمن خدودهن كفعل الجاهلية الجهلاء على الحسين بن علي، فلا جزاه الله خيراً وسوّد الله وجهه يوم الجزاء إنّه سميع الدعاء!!)(3) .

ولم يذكر ابن كثير، أي شيء بما يتعلّق بالحزن على مصعب بن الزبير.

أمّا ابن الأثير، فلم يُشِرْ إلى هذا الأذن، حينما تعرّض إلى حوادث تلك السنة.

أقول: والنصّان الأخيران يذكران مسألة النوح والبكاء والانتحاب، بجلاء ممّا يعني؛ أنّها كانت تلازم مظاهر الحزن، في يوم عاشوراء، مع العلم أنّ المؤرّخين أشاروا إلى مظاهر العزاء في الشوارع

____________________

(1) فخر الملك: محمد بن علي خلف، وزير بهاء الدولة البويهي، ويقال له: ابن الصيرفي، ولد بواسط سنة 345 هجرية. من أعم وزراء بني بويه مدحه عدد من الشعراء منهم مهيار الديلمي، ولي العراق بعد عميد الجيوش فعمّرت البلاد وعمل الجسر ببغداد، قُتِل بالأهواز سنة 407 هجرية.

(الزركلين خير الدين: الأعلام، 6 / 274).

(2) ابن الجوزي - المنتظم - 7 / 254.

(3) ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية - 11 / 396.

١١٠

وغيرها، حينما ذكروا أحداث سنة 352 هجرية وما تبعها، ولم يشيروا إلى النوح والبكاء الذي يعني فيما يعنيه وجود المنشدين وقرّاء المراثي الملازم لتلك الحالات. كما ويظهر من نص ابن الجوزي أنّ تلك المناحة امتدّت من بغداد إلى المشاهد، وهي مراقد أئمّة أهل البيت، وأقربها إلى بغداد، قبر الإمامين موسى بن جعفر الكاظم، ومحمد بن علي الجواد في مقابر قريش شمال بغداد.

وفي حوادث سنة 418 هجرية، ذكر أنّ الكرخ، وهي معقل الشيعة في بغداد، قد نهبت يوم عاشوراء(1) . أمّا ابن الأثير فقد ذكر أنّ الجند الأتراك هم الذين نهبوا الكرخ بعدما عاثوا ببغداد فساداً(2) .

أمّا ابن كثير فلم يذكر شيئاً عن أيام عاشوراء. حتى سنة 421 هجرية (وفيها عملت الروافض، بدعتهم الشنعاء، وحادثتهم الصلعاء، في يوم عاشوراء: من تعليق المسوح، وتغليق الأسواق، والنوح والبكاء في الأزقّة)(3) .

وذكر ابن الجوزي: (أنّه قد أغلق أهل الكرخ أسواقهم، وعلّقوا المسوح على دكاكينهم، رجوعاً إلى عادتهم الأولى في ذلك وسكوناً إلى بُعد الأتراك. وكان السلطان قد انحدر عنهم، فحدثت فتنة وقتل ناس من الفريقين)(4) .

وفي حوادث سنة 423 هـ، ذكر ابن كثير، ما جرى يوم عاشوراء

____________________

(1) ابن الجوزي، عبد الرحمان: المنتظم - 8 / 24.

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ - 7 / 325.

(3) ابن كثير - البداية والنهاية - 12 / 25.

(4) ابن الجوزي - المنتظم - 8 / 46. أقول وقول ابن الجوزي (وكان السلطان قد انحدر عنهم) يعني به أنّ جلال الدولة كان خارج بغداد. يذكر ابن الأثير: أنّ عقلاء بغداد لمّا رأوا أنّ البلاد قد خربت أرسلوا إليه حتى عاد إلى بغداد سنة 418. راجع الكامل في التاريخ 7 / 329.

١١١

بقوله: (عملت الروافض بدعتهم وكثُر النوح والبكاء، وامتلأت بذلك الطرقات والأسواق)(1) .

ومن هنا نجد، إنّ مسألة، النوح والبكاء المتعلّقة بالمنبر الحسيني، والمنشدين والراثين، لم تتأثّر بتلك الأحداث. بل زادت واتّسعت، في الشوارع العامّة والأسواق. إضافة إلى ما سبق ذكره في المشاهد.

ولم يُعِرْ ابن الجوزي أو ابن الأثير أي اهتمام لهذه السنة وما بعدها فيما يتعلّق بيوم عاشوراء كل سنة.

أمّا ابن كثير، فإنّه ذكر فتنة وقعت سنة 425 وكذلك سنة 432، دون الإشارة إلى ارتباط تلك الحوادث بعاشوراء ومراسمها. ثمّ أغفل ذكر الأحداث من سنة 432 حتى سنة 439، حيث ذكر تجدّد فتن طائفية وكذا الحال سنة 440 هجرية(2) . وهو ما ذكره ابن الجوزي كذلك(3) .

في حين أنّ ابن الأثير قد ذكر، أنّ العيّارين في بغداد، كبسوا دار الشريف المرتضى(4) سنة 425 هجرية(5) ولم يذكر شيئاً عن حوادث

____________________

(1) ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية - 12 / 30.

(2) المصدر نفسه - 12 / 42، 50، 52.

(3) ابن الجوزي - المنتظم - 8 / 132، 136.

(4) الشريف المرتضى: علي بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، علم الهدى، متكلّم فقيه، أصولي، مفسّر، أديب، نحوي، لغوي وشاعر، ولِد في رجب 355 هـ / 966م. وليَ نقابة الطالبيين، توفّي ببغداد 25 ربيع الأوّل 436 هـ (1044م).

من تصانيفه الكثيرة: إيقاظ البشر في القضاء والقدر، غرر الفرائد ودرر القلائد، ديوان شعر، الذخيرة في الأصول والشافي في الإمامة، وقد ذكر له (87) مؤلّفاً. (كحالة، عمر رضا: معجم المؤلّفين: 7 / 81).

(5) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 8 / 7.

١١٢

سنة 432 أو حوادث سنة 439 هجرية. (والعيّارون: مجاميع من الرعاع، كانت لهم سطوة وقوّة في بغداد، ولهم أخبار كثيرة).

ثمّ ذكر، في أحداث هذه سنة 441 هـ، (أنّ فيها مُنعَ أهل الكرخ من النوح، وفعل ما جرت به عادتهم بفعله يوم عاشوراء. فلم يقبلوا وفعلوا ذلك)(1) .

في حين أنّ ابن الجوزي، يعطي وصفاً آخر، فيقول: أنّه قد (طلب ليلة عاشوراء إلى الكرخ، في أنْ لا ينوحوا ولا يعلّقوا المسوح، على ما جرت به عادتهم خوفاً من الفتنة فوعدوا وأخلفوا...)(2) . أي قاموا بما اعتادوا عليه.

والشيء، الذي ذكره ابن الأثير في حوادث هذه السنة، هو اجتماع الشيعة والسنّة، حتى (أذّنوا في القلاّئين، وغيرها، حيّ على خير العمل، وأذّنوا في الكرخ: الصلاة خيرٌ من النوم!)(3) .

هذا ما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة 441 هجرية. أمّا ابن كثير الدمشقي، فقد ذكر بعض مظاهر الصلح في حوادث سنة 442 إذ (فيها اصطلح الروافض، وأهل السنّة ببغداد، وذهبوا كلّهم لزيارة مشهد عليّ ومشهد الحسين، وترضّوا في الكرخ على الصحابة كلّهم وترحّموا عليهم)(4) .

وبقيت مظاهر العزاء مستمرّة في بغداد، بين شدٍّ وجذب حتى نهاية فترة البويهيّين، سنة 447 هـ.

وهكذا وصلنا في متابعتنا، لما يجري في بغداد، أيّام عاشوراء،

____________________

(1) المصدر نفسه: 8 / 53.

(2) ابن الجوزي، عبد الرحمان بن علي: المنتظم 8 / 140.

(3) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 8 / 53.

(4) ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية - 12 / 56.

١١٣

في ظل حكم البويهيين لها إلى نهاية المطاف.

وقد استمرّت مظاهر العزاء تلك في بغداد، بعد البويهيّين. وكأمثلة، نذكر أنّه( في حوادث سنة 598 هجرية، قد توفّي أبو المنصور محمد بن محمد المبارك الكرخي المنشد، شيخ حافظ للقرآن المجيد، قرأه بالقراءات. وكان حسن القراءة جيّد الأداء، طيّب الصوت، شجيّه وكان يتشيّع، وينشد في المواسم بالمشاهد المقدّسة، ويعظ في (الأعزية). توفّي سنة في الحادي عشر من محرّم ودفن بمشهد موسى بن جعفرعليه‌السلام )(1) .

فوجود منشد، وهو يقوم بالوعظ في (الأعزية)، ويُقصد بها المآتم، إضافة إلى إنشاده في مراقد أهل البيت في مواسم الزيارة، يعني استمرار تلك المظاهر.

وكذلك، ورد في حوادث سنة 641 هجرية أنّه قد( تقدّم الخليفة المستعصم بالله(2) ، إلى جمال الدين عبد الرحمان بن الجوزي المحتسب، بمنع الناس من قراءة المقتل في يوم عاشوراء، والإنشاد في سائر المحال بجانبي بغداد، سوى مشهد موسى بن جعفرعليه‌السلام )(3) .

فمنعُ قراءة المقتل من كل أحياء بغداد، بجانبيها الكرخ والرصافة (الغربي والشرقي) يعني استمرار تلك المآتم. ولم يسمح لهم تلك السنة بقراءة مقتل الحسينعليه‌السلام إلاّ عند مرقد الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام ، الذي يقع في مقابر قريش، وهي الضاحية الشمالية لمدينة بغداد.

____________________

(1) جواد، مصطفى: موسوعة العتبات المقدّسة - 9 / 100 نقلاً عن الجامع المختصر 9 / 85.

(2) عبد الله بن منصور، بن محمد: المستعصم بالله العباسي، آخر الخلفاء العباسيين في بغداد، ولد عام 609 هـ ولي الخلافة بعد أبيه المستنصر بالله عام 640 هـ. وقتل بأيدي المغول حينما دخلوا بغداد وأسقطوا الحكم العباسي عام 656 هـ. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 4 / 140).

(3) ابن الفوطي، عبد الرزّاق، البغدادي: الحوادث الجامعة ص93.

١١٤

أقول: ولا تزال المآتم الحسينية مستمرّة إلى العصر الحاضر في بغداد، وبقيّة المدن العراقية الأخرى.

الفاطميّون في القاهرة

مرّ بنا آنفاً كيف عمل بنو بويه في بغداد، على أنْ يجعلوا من يوم عاشوراء، يوم حداد عام رسميّ في البلاد. وبقي الأمر مستمّراً فترة حكمهم لبغداد حتى سنة 447. وكانت الأوامر، تصدر في بعض السنين، بمنع مظاهر العزاء والحداد، ثمّ استمر بعد ذلك حتى مع زوال بني بويه وحتى وقتنا الحاضر.

أمّا في مصر، والتي لم تكن تخلو من المتشيّعين لأهل البيت(1) . فقد حدث فيها تطوّر مهم، في مراسم العزاء الحسيني، مع وصول الفاطميين إلى القاهرة واتخاذها عاصمة لحكمهم، إنّ تأثّر المصريين، بما جرى على أهل البيت في كربلاء، كان مبكّراً، ويمكن تحديد ذلك بدقّة في شعبان من سنة 61 هجرية. حين وصلت السيدة زينب بنت عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، بعد أنْ أخرجها والي يزيد من المدينة إلى مصر. واستُقبلت من قبل والي مصر مسلمة بن مخلّد الأنصاري، وأعيان مصر وعلمائها بالبكاء والنحيب، راجع ص47 من هذا البحث.

وقبل الدخول إلى موضوع الفاطميين، وتطويرهم للعزاء الحسيني، ودعمهم لمظاهره، لابدّ أنْ نتوقّف قليلاً - استكمالاً للبحث - عند الفاطميّين ونسبهم، وما قيل فيهم بشكل سريع؛ لأنّه لا يهمّنا كثيراً - في هذا البحث - التوقّف عند نقطة النسب، بقدر ما يهمّنا كل ما يتعلّق بموضوع بحثنا. وعلى أيّة حال لا بدّ من إضاءة في هذا الجانب.

____________________

(1) كما سيمرّ معنا أثناء هذا البحث. ويمكن أنْ تراجع أيام ولاية محمد بن أبي بكر في عهد أيام خلافة الإمام علي بن أبي طالب، ووقائع تاريخيّة أخرى.

١١٥

فقد ذكرت بعض المصادر التاريخية، واليتي تؤرّخ لبداية ظهور الدعوة إلى إقامة الدولة الفاطمية، أنّ بداية الحركة كانت عند مشهد الإمام الحسين في كربلاء، ثمّ إلى بلاد اليمن وبعدها مكّة مروراً بمصر حتى بلاد المغرب.

حيث يُذكر، أنّ رجلاً اسمهأبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي ، وكان من نواحي الكرخ (بغداد)، قد صحب رجلاً يُسمّىرستم بن الحسين بن حوشب بن دادان النجّار من أهل الكوفة، وهما يدعوان إلى التشيّع. وأخذا يقصدان المشاهد فشاهدا عند مشهد الحسين رجلاً يكثر البكاء، من أهل اليمن، واسمه محمد بن الفضل، وكان صاحب عشيرة وكثير المال من أهل الجند. فطمعا فيه وعرضا عليه أمرهما فقبل ذلك(1) . وتصف بعض المصادر التاريخية، رستم النجّار هذا، بأنّه (له علمٌ وفهمٌ ودهاءٌ ومكر)(2) .

أمّا الحسين بن أحمد فقد بقي في الكوفة.

هذا وقد سبق للشيعة أنْ بعثوا من اليمن إلى المرغب، داعيتين لهم أحدهما يعرف بالحلواني والآخر يعرف بأبي سفيان. نزل أحدهما بأرض كتامة من المغرب ومالت إليهما قلوب الناس، وماتا بعد أنْ أقاما هناك سنين كثيرة.

وبعد موت هذين الداعيتين، تحرّك أبو عبد الله الحسين بن أحمد الشيعي، بعد أنْ قيل له: إنّ أرض كتامة من المغرب، قد حرثها الحلواني وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادر فإنّها موطأة ممهدّة لك. فسار أبو عبد الله الشيعي إلى مكّة وسأل عن حجّاج كتامة، ونزل بقربهم وتعرّف عليهم حتى أنس بهم، وأنسوا به دون أنْ

____________________

(1) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل، 6 / 126.

(2) المقريزي، أحمد بن علي: اتعاظ الحنفا ص55.

١١٦

يعرّفهم قصده. ثمّ قال لهم: إنّي ماضٍ إلى مصر ففرحوا بصحبته.

ولمّا وصل معهم إلى مصر، سألوه عن سبب قدومه، فقال لهم: طلباً للعلم، فقالوا: تعال معنا إلى المغرب حيث يتوافر العلماء ومجالس العلم. وهكذا سار معهم إلى المغرب ووصلها سنة 288 هجرية. ولمّا وصل المغرب سألهم عن فجّ الأخيار، وأخبرهم أنّ المهدي يهاجر إليه. فعظم أمره عند البربر، ثمّ تطوّرت الأمور، حتى استولى على المغرب، وكان بِدء تحرّك الفاطميّين، وظهور الإمام المهدي سنة 296 هجرية(1) .

(وكان لوجود الأدارسة(2) قبل ذلك، وانتشار دعاتهم بشكل كبير بين البربر أثرٌ كبير في نجاح دعوة الفاطميّين)(3) .

وأمّا نسب الفاطميّين، فقد برز فيه تضارب كثير للآراء، واختلفت فيه الأقوال.

فالبعض قال: (إنّهم يُنسبون إلى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وآخرون قالوا: إنّهم ينتسبون إلى رجل فارسي هو عبد الله بن ميمون القدّاح الأهوازي الثنوي المذهب، الذي يقول بوجود إلهين اثنين: إله

____________________

(1) نقل ذلك - باختصار وتصرّف عن ابن الأثير -، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ - 6 / 126 - 128، والمقريزي، أحمد بن علي: - الخطط - صفحة 388، والمقريزي - اتعاظ الحنفا بأخبار الفاطميين الخلفا - صفحة 134، ومصادر أخرى.

(2) الأدارسة: (دولة حكمت المغرب من سنة 172 - 375 ينسبون إلى مؤسّس دولتهم: وهو إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي هرب من المدينة، بعد قمع الجيش العبّاسي، أيام الخليفة الهادي العبّاسي - لحركة قام بها العلويّون فيما عرف بواقعة (فخ) سنة 169 هجرية. وصل مصر ثمّ المغرب وأسّس فيها دولة عرفت بعد ذلك بالأدارسة توفّي بالمغرب عام 177 هـ. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 1 / 279)(وتقع فخ حالياً في أوّل مكّة بالنسبة للقادم إليها من المدينة) - المصنّف -.

(3) بول، استانلي: طبقات سلاطين الإسلام - ص68.

١١٧

النور وإله الظلمة)(1) .

وينقل ابن الأثير، أنّه قد (زعم عبد العزيز، صاحب تاريخ أفريقية والمغرب، أنّ نسبه معروف في اليهودية ونقل فيه عن جماعة من العلماء)(2) .

وذكر أيضاً، أنّ الحسين بن محمد بن أحمد الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب، كان قد قدم السَلَميّة(3) من أرض الشام، وتزوّج من أرملة يهودية، لها ولد من زوجها اليهودي السابق، وهذا الولد هو الذي نسب إليه واسمه عبيد الله الذي لقب بالمهدي، وهو أوّل الخلفاء الفاطميّين(4) .

كما وأورد ابن الأثير أسماء جماعة من العلويين وغيرهم، كذّبوا، مَن قال بأنّ نسب الفاطميّين يرجع إلى الإمام علي بن أبي طالب(5) وأورد كذلك أنّ مَن صحّح نسبهم، قالوا عن ذلك: (وإنّما كتبوا خوفاً وتقية، ومَن لا علم عنده بالأنساب، فلا احتجاج بقولهم)(6) .

ولعلّ هذا الاختلاف والتضارب في مسألة نسب الفاطميّين، مؤشرٌ يدل على تدخّل الأهواء السياسية، والميول المذهبيّة وغيرها فيها.

أقول: ولهذا يعلّق ابن الأثير على الأقوال التي تطعن في النسب بقوله: (وأنا أذكر ما قاله - أي الأمير عبد العزيز صاحب تاريخ أفريقية والمغرب - مع البراءة من عهدة طعنة في نسبه)(7) .

____________________

(1) حسن، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام 3 / 151.

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 6 / 125.

(3) السلميّة: بليدة في ناحية البريّة من أعمال حماة بينهما مسيرة يومين، وكانت تعدّ من أعمال حمص. يقال أنّه لمّا نزل بأهل المؤتفكة ما نزل من العذاب، رحم الله منهم مِئة نفس فنجّاهم فانزاحوا إلى سلميّة فعمّروها وسكنوها، فسمّيت، سلم مِئة، ثمّ حرّف الناس اسمها فقالوا: سلميّة. (الحموي، ياقوب بن عبد الله: معجم البلدان، 3 / 240).

(4) الدميري، زكريّا بن أحمد: حياة الحيوان الكبرى - 1 / 145.

(5) (6) (7) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل، 6 / 125.

١١٨

وأمّا المقريزي فيقول: (وأنت إذا سلمت من العصبية والهوى، وتأمّلت ما قد مرّ ذكره من أقوال الطاعنين في أنساب القوم، علمت ما فيها من التعسّف، والحمل، مع ظهور التلفيق في الأخبار، وتبيّن لك منه ما تأبى الطباع السليمة قبوله، وشهد الحسّ السليم بكذبه)(1) .

وأرى من المناسب هنا أنْ نختم هذا الموضوع، بأبيات الشريف الرضي، التي قالها ببغداد أيّام الخليفة العبّاسي، القادر بالله(2) وتسبّبت في أزمة لأسرته مع الخليفة، حتى أبدى الشريف أبو أحمد الموسوي غضبه على ولده الشريف الرضي، وطالبه بتكذيب ما ورد فيها، فيما يتعلّق بنسبة الفاطميّين إلى العلويّين ولكنّه أبى ذلك.

والأبيات

ما مقامي على الهوان وعندي

مـقْولٌ صـارم وأنفٌ حميّ

وإبـاءٌ محلّق بي عن الضيم

كـما راع طـائرٌ وحـشيّ

أيّ عذرٍ له إلى المجد أنْ ذلّ

غـلامٌ فـي غمدهِ المشرفيّ

أحمل الضيم في بلاد الأعادي

وبـمصر الـخليفة الـعلويّ

مَـن أبـوه أبي ومولاه مولا

ي إذا ضامني البعيد القصيّ

لـفّ عـرقي بعرقه سيّد النا

س جـميعاً مـحمّد وعـليّ

مـثل ما يركب الظلام وقد أ

رى من خلفه هلالَ مضيّ(3)

____________________

(1) المقريزي، أحمد بن علي: اتعاظ الحنفا ص52.

(2) القادر بالله: أحمد بن إسحاق أبو العباس الهاشمي، الخليفة العباسي الخامس والعشرون، حكم سن 381 هـ، وتوفّي سنة 422 هـ. طالت أيامه كان حازماً مطاعاً حليماً كريماً، هابه الآخرون فأطاعوه، أحبّه الناس فصفا له الملك، جدّد ناموس الخلافة، من علماء الخلفاء (الزركلي، خير الدين، الأعلام، 1 / 95).

(3) المقريزي، أحمد بن علي: اتعاظ الحنفا - ص32. انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 6 / 124 حيث قد أورد خمسة أبيات منها على اختلاف يسير في بعضها.

والأبيات صيغت على شكل حوار بين الشاعر ونفسه أو إنسان آخر حيث يقول: لماذا أبقى مقيماً على الذل: والهوان وأنا صاحب اللسان الذي هو كالسيف لحدّته مع الإباء والشمم (المقول: اللسان). (الصارم: من أسماء السيف). هذا الإباء الذي يرتفع عن كل =

١١٩

وأبيات الشريف الرضي هذه، تؤكّد كون الفاطميّين ممّن ينتسبون لأهل البيت.

ومهما يكن من أمر فإنّ رابع الخلفاء الفاطميّين؛ وهو المعزّ الدين الله الفاطمي(1) وصل إلى القاهرة في شهر رمضان لسنة 362 هجرية. بعدما مهّد له قائده جوهر الصقليّ(2) الأمر، حيث انتزع مصر من الاخشيديّين.

إنّ وصول المعزّ إلى القاهرة في شهر رمضان، قد تبعه تطوّر مهم في مسألة بروز واشتداد مظاهر الاحتفال بالمناسبات الشيعيّة، فقد ذكر المؤرّخون أنّه (في الثامن عشر من ذي الحجّة، وهو يوم غدير خم، تجمّع خلق من أهل مصر، والمغاربة للدعاء، فأعجب المعزّ ذلك، وكان هذا أوّل ما عمل عيدُ الغدير بمصر)(3) .

أي، بعد ثلاثة أشهر فقط من دخول المعزّ إلى القاهرة. وأحسب

____________________

= موارد الخنوع، كذلك الطير الوحشي الذي ريع وخوّف فطار عالياً في الفضاء. ثمّ كيف يُعذر الفتى عن الارتقاء لذرى المجد وفي غمده (الغمد هو قراب السيف) سيف ينسب إلى مشرف. (قيل هي أطراف الشام وقيل في اليمن) معروف بالقوة والقطع، ثمّ يأتي إلى أبيات القصيد حيث يقول: لماذا أظلُّ متحمّلاً الأذى في بلاد الأعداء، وفي مصر خليفة علوي أبوه أبي (يرجعان إلى الإمام علي بن أبي طالب) ومولاه مولاي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا آلمني بعيدٌ عنّي (قصيّ: بعيدٌ أيضاً) عن نسبي ويقصد به الخليفة العبّاسي.

(1) هو معد بن إسماعيل بن القائم بن المهدي الفاطمي، صاحب مصر وأفريقيا ولد بالمهدي في المغرب عام 319 هجرية بويع له بالخلافة سنة 341 هجرية، ودخل إلى مصر فاتحاً سنة 358 اختط مدينة القاهرة ثمّ دخل إليها سنة 362 ومات سنة 365. (الزركلي: خير الدين، الأعلام 7 / 265).

(2) جوهر بن عبد الله الرومي الصقليّ قائد الفاطميين، بني القاهرة والجامع الأزهر، كان من موالي المعزّ الفاطمي، سيّره من القيروان إلى مصر بعد موت كافور الأخشيدي، فدخلها سنة 358 هجرية، أرسل الجيوش لفتح الشام. كثير الإحسان، شجاع، لم يبقَ في مصر شاعر إلاّ رثاه توفّي سنة 381 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 2 / 148).

(3) المقريزي، أحمد بن عليّ: اتعاظ الحنفا ص142.

١٢٠