المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 110743
تحميل: 6810

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110743 / تحميل: 6810
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

3 - جاءت دراسة الشيخ شمس الدين متأنّية، فيما جاءت الدراستان الأخريان سريعتان وأكثر استرسالاً.

وقد يكون ذلك عائداً إلى أنّ رأي الشيخ شمس الدين، جاء ضمن بحث يهدف إلى دراسة المأتم الحسيني فيما كان الرأيان الآخران ضمن موضوع عامّ، لم يُقصد فيه التتبع والبحث.

4 - أحسب أنّ الرأي الثالث، كان موفّقاً حينما أكّد على مرحلة بروز الدول الشيعيّة، وتأثيرها الإيجابي على تطوّر المنبر الحسيني واتّساعه. وهو الأمر الذي أغفله الرأي الأول، وكذلك فعل الرأي الثاني.

5 - إنّ المرحلتين اللّتين تمّ الاتفاق عليهما، ضمن هذه الآراء الثلاثة، هما: المرحلة الأولى؛ والتي كانت بعد واقعة كربلاء، وضمن حياة أئمّة أهل البيت، وتوجيهاتهم لشيعتهم، بإقامة المآتم وإحياء أيام عاشوراء.

وأمّا الثانية، فهي المرحلة الأخيرة (الثالثة ضمن تقسيم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وما أورده معجم الخطباء، والسادسة، ضمن تقسيمات مركز الدراسات الحسينيّة)، وهي المرحلة التي تناولت، بداية العصر الحديث، وعودة الوعي إلى الأمة الإسلامية، والتي لا تزال تمتد إلى زمننا الحاضر.

وأرى أنّ كل دراسة، تريد البحث في متابعة الأدوار، والمراحل، التي مرّ بها المنبر الحسيني، سوف توافق الآراء الثلاثة، على المرحلتين الأولى والأخيرة، ولكن الاختلاف في وجهات النظر، ومعرفة الأدوار، تأتي في الزمن الممتد بين هاتين المرحلتين.

ولا أعتقد، أنّي أُجانب الحقيقة، إذا ما قلت: إنّ الأساس الذي يُعتمد في مسالة تطوّر المنبر الحسيني، هو مقدار الوعي، الذي يسود الأمّة، في أي مرحلة من مراحلها. فالمنبر الحسيني، هو ظاهرة دينيّة اجتماعية، على حدّ سَواء، وإنّ حالة الوعي، سوف تترك أثرها

١٦١

واضحاً، على هذه الظاهرة، في نوعية التطوّر، ومستوى أداء المنبر، وسعة المساحة التي يتناولها في امتداداته.

ولتوضيح المسألة؛ يمكن لنا أنْ نستعين بمنبر الجمعة، وتطوّر الموضوعات، والأبحاث والاهتمامات، التي يتناولها خطيب الجمعة. إذ لا شك ولا ريب، أنّ منبر الجمعة في أيام الإسلام الأولى، وارتباط المسلمين الشديد والواعي بدينهم، كان منبراً حيّاً فاعلاً في الأمّة.. ومع شيوع حالة الضمور في وعي الأمّة، ودخولها في عصور الظلام والتخلّف، فإنّ منبر الجمعة لم يكن إلاّ متأثّراً بتلك الظروف والأحوال. ولهذا فإنّنا نلمس اليوم مع عودة الوعي والصحوة الإسلامية المباركة، كيف عاد منبر الجمعة، منبراً فاعلاً، ينتظر الناس من خطيبه، أنْ يكون بمستوى من الوعي، والطرح، يتناسب وهموم الناس، وآمالهم وآلامهم على حدٍّ سواء.

فوعي الأمّة، ومستوى فهمها، وتفقّهها في دينها، أمور أساسيّة، تؤثّر على مستوى أداء منبر الجمعة.

وهذا ما ينطبق كذلك على المنبر الحسيني ومستوى عطائه، ضمن الدوائر التي ينشط فيها. وكملاحظة واقعيّة، فإنّ المنبر يختلف في زمنٍ واحدٍ، وضمن المرحلة الواحدة بين مكان وآخر ومنطقة وثانية، حسب مستوى الوعي، والأرضية الثقافيّة والتعليميّة.

فالمنبر الحسيني اليوم، لا يختص بأداء واحد، في كل الأقاليم والمناطق. فهو في العواصم، أو مهاجر المسلمين في العالم الغربي، حيث المستوى الثقافي المرتفع، غير المنبر، في المناطق الريفيّة أو ذات الحظ الثقافي المتواضع(1) .

____________________

(1) ستتضح هذه النقطة أكثر في الفصل الرابع حيث نتحدّث عن أوصاف الخطيب الحسيني، وخاصة فيما يتعلّق بالمستوى الثقافي، والتعليمي له.

١٦٢

فإذا كان المنبر يختلف في أدائه، وهو في فترة زمنية واحدة من مكان إلى آخر، فكيف لا يختلف ولا يتميّز، من جيل إلى آخر، ومن قرن إلى آخر؟!

ولهذا فإنّي أذهب إلى ضرورة أخذ عامل الوعي والمستوى الفكري والثقافي، كعامل مهم من عوامل تطوّر المنبر الحسيني. ولا شك أنّ الأحداث المهمّة والمفاصل الأساسية في حياة الأمّة وتاريخها، هي من مسببات زيادة الوعي، وتفتّح الأذهان، وارتفاع مستوى التفكير. وقد كانت بعض مراحل الآراء الثلاثة أعلاه، قد تأثّرت بمثل تلك الأحداث في بداياتها. مع التأكيد على أنّه لا يوجد حد فاصل وواضح، يمكن أنْ نفصل فيه دوراً عن دور آخر، كما الوضوح والدقّة مثلاُ، في نهاية الدولة الأمويّة وبداية الفترة العبّاسية حيث يمكن أنْ تحدّد باليوم، في بداية حكم ونهاية آخر.

نقول هذا، مع عدم إغفال خصوصيّة المنبر الحسيني، وطبيعة تأثّره بالأوضاع، بما يتلاءم مع مهمّاته، التي تختزن الجوانب المُحزنة وذات التأثير العاطفي، بشكل بارز.

الرأي المختار:

ولهذا فإنّ المراحل التي مرّ بها المنبر الحسيني، كما أراها هي أربع، وكما سبق ذكره، فإنّ الآراء لم تختلف لا في تحديد المرحلة الأولى (في عهد الأئمّة من أهل البيت، بعد الإمام الحسينعليهم‌السلام )، ولا في المرحلة الأخيرة، وهي منذ بداية العصر الحديث، وعصر الاستعمار، إلى الوقت الحاضر.

وأحب أنْ أضيف كذلك، أنّ المنبر الحسيني، أصيب بما أصيب به عموم وضع المسلمين، في عصور التخلّف والركود، وذلك قبل

١٦٣

العصر الحديث، حيث ضعف المسلمون، وتشتّت كلمتهم.

وعلى ضوء ذلك، لابدّ أنْ نتوقّف عند هذه المراحل، بشيء من التوضيح والبيان.

1 - المرحلة الأولى:

وهي المرحلة التي تبدأ بعد واقعة عاشوراء سنة 61 هـ، إلى حين قيام الدول الشيعيّة، ولا سيما البويهيين في بغداد ومجيء سنة 352 هجرية.

وتحديدي لهذه المرحلة، على أساس، أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عملوا على أنّ تستمر المآتم، على الإمام الحسينعليه‌السلام ، بشكل مقصود وهادف، لا أنْ تنتهي مع ضمور التعاطف المأساوي مع الواقعة، الذي شهدته الكوفة والشام والمدينة. حيث أفلح الأئمّة في تركيز هذه المسالة، في وجدان الإنسان الشيعي، عبر الحثّ المستمر، وبيان ثواب البكاء على الحسين، وقول الشعر الرثائي فيه، والدعوة إلى حضور المآتم والمجالس، التي يرثى فيها الحسينعليه‌السلام .

وقد سجّلنا بعض تلك التوجيهات، التي صدرت عن أئمّة أهل البيت لشيعتهم في هذا الشأن حينما تحدّثنا عن المنبر الحسيني، ونشوئه والآراء في ذلك، وأدلّة كل رأي، في الفصل السابق وفي الرأي الرابع من تلك المسألة (الفصل الثاني ص59 - 64)، واستمر الوضع بالاتساع، حتى صار قبر الحسين في كربلاء، محجّاً لزوّاره، وكان رثاء الحسينعليه‌السلام ، والبكاء والإنشاد الحزين، أمور ملازمة للزيارة. ولم يكن كل الأئمّة على وتيرة واحدة، من حيث الظروف التي تعينهم، على إقامة المآتم واستقبال الشعراء والمنشدين.

فالحالة التقليديّة هي حالة التشنّج مع خلفاء بني أمية وبني العبّاس، إلاّ في فترات خاصة حيث هدأت الأوضاع السياسية، ممّا مكّن الأئمة من أهل البيت وشيعتهم من

١٦٤

توسيع نطاق المنابر والمآتم الحسينية، بشكل أكثر بروزاً واتساعاً من المستوى العادي والمحدود، في ظل الظروف السياسية الخانقة.

وأفضل تلك الفترات، كانت فترة الإمام الصادقعليه‌السلام (جعفر بن محمد) (83 - 148 هجرية) حيث شهدت انتقال الخلافة من بني أميّة إلى بني العباس، ممّا هيّأ ظروفاً مميزةً انتعش فيها المأتم الحسيني. وقد انعكس ذلك، على وفرة الأحاديث والروايات الواردة، عن هذا الإمام في الحث على إقامة المجالس الحسينية، وعلى زيارة قبر الحسين في كربلاء، بما سجّله التاريخ، عن وفود العديد من الشعراء والمنشدين والراثين، على بيت الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام .

والفترة الثانية، التي شهدت توسّعاً في المآتم الحسينية، كانت فترة إمامة حفيده، الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (148 - 203 هجرية)، حيث انتعشت المآتم، بشكل واضح، حينما صار الرضا وليّاً لعهد المأمون العباسي(1) . ممّا مكّن العديد من الشعراء وشجّعهم، على قصده وإنشاد الشعر الرثائي بحضرته وقد سجّلت بعض كتب الأدب وتراجم الشعراء، دخول بعض الشعراء على هذين الإمامين،

____________________

(1) لا يذهب الشيعة - حسب ما يرونه - إلى شرعية الخلافة العباسية وما سبقتها من أموية. وأمّا مسألة ولاية عهد الإمام علي بن موسى الرضا للمأمون العباسي، فهم يرون أنّ المأمون هدّد الرضا بقبول ولاية عهده، فلمّا رأى الإمام ذلك، شرط على المأمون أنْ لا يأمر ولا ينهى ولا يعزل ولا يولّي، ولا يتكلّم بين اثنين في حكومة، ولا يغيّر شيئاً ممّا هو قائم على أصله.

وفي مصدر آخر عن الإمام الرضا (ولا أفتي ولا أقضي) (قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترتُ القبول على القتل). وعلى كل حال، فإنّ الشيعة يرون أنّ قبول الإمام علي بن موسى الرضا بولاية العهد يعني إضفاء الشرعية على الخلافة العباسية.

بل قد أجمعت الشيعة على أنّ موضوع ولاية العهد كان عملاً سياسياً ومناورة قام بها المأمون لإخماد ثورات العلويين. (الحسني، هاشم معروف: سيرة الأئمّة الاثني عشرة 2 / 383) (القمّي، عباس: الأنوار البهيّة، ص191) (الأمين، محسن: في رحاب أئمّة أهل البيت، 4 / 119) (ابن بابوية، محمد بن علي بن الحسين: عيون أخبار الرضا، 1 / 150) (دخيّل، علي محمد علي، أئمّتنا، 2 / 138).

١٦٥

كما بيّن شيء من ذلك في الفصل الثاني من هذا البحث.

وفي الفترة الأولى، أيام الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام ، استخدم مصطلح (منشد) لأوّل مرّة في تاريخ المأتم الحسيني. ولعلّ أوّل من لقّب به، في هذا الحقل كان أبو عمارة المنشد(1) ، كما وبرز آخرون كمنشدين، وإنْ لم يلقّبوا بهذا اللقب، مثل أبو هارون(2) المكفوف، وجعفر بن عفان الطائي(3) .

نجد من ناحية ثانية في رواية متقدّمة عن الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام ، حينما يسأل رجلاً من أهل الكوفة، عن الحالة التي وصفت له، عند قبر الحسين: (بلغني أنّ قوماً يأتونه، (قبر الحسين عليه السلام) من نواحي الكوفة، وناساً من غيرها ونساءً يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قاري يقرأ، وقاصٍ يقصّ، ونادبٍ يندب، وقائل يقول المراثي...)(4) .

فقد وردت الإشارة لأول مرّة إلى وجود (قصّاصين) يقصّون على الناس، ما جرى على الإمام الحسينعليه‌السلام وعياله بعده.

ويعتبر ذلك (تطوّراً شكليّاً آخر طرأ على ممارسة المأتم الحسيني، وذلك بأنْ غدا ثمّة رجال ونساء، متخصّصون في تلاوة

____________________

(1) أبو عمارة المنشد، ولد في المدينة عرف برثائه للإمام الحسين، من أعلام القرن الثاني الهجري. (الكرباسي، محمّد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني ص318).

(2) هو موسى بن عمير الكوفي، من أصحاب الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق (ت: عام 148م) كان يدخل على الإمام الصادق ويرثي الإمام الحسين عنده، بقصائد الشاعر السيد الحميري. (الكرباسي، محمد صادق، معجم خطباء المنبر الحسيني، ص42).

(3) جعفر ابن عفان الكوفي الطائي، من الشعراء الشيعة توفي في حدود 150 هـ عرف بإنشاده الشعر في أهل البيت وربّما ذكرته بعض المصادر بـ جعفر بن عثمان وهو تصحيف. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني، ص42).

(4) ابن قولويه، جعفر بن محمد: كامل الزيارات ص539.

١٦٦

سيرة الحسين، وآخرون متخصّصون، في إنشاد الشعر المقول في رثائه، بأسلوب النوح. فبعد أنْ كانت السيرة حواراً بين مجتمعين غدت نصّاً، يتلى ويستمع إليه الآخرون. والذين يتولّون التلاوة، هم القصّاص)(1) .

والقصّاصون لم يوجدوا في هذا العصر، بل سبقوه (ولم يكن القصّاص، زمن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لاجتماع كلمة المسلمين، ولقرب العهد من الرسالة، وإنّما أحدثت القصص زمن معاوية، حيث كانت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، وكانت مقصورة على الموعظة الحسنة والتذكير وما إلى ذلك..)(2) .

والقصّاصّون أو القصاص (هم الذين يقصّون على الناس، ويكون من علمهم التفسير والأثر والخبر عن الأمم البائدة وغيرهم، ينقلون ذلك تعليماً وموعظةً،.. ثمّ صار القصص، ممّا يلقى في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأول من لزم ذلك؛ مسلم بن جندب الهذلي)(3) .

ويورد الجاحظ(4) في بيانه، عدداً من أسماء من عرفوا كقصّاص(5) .

فالقصّاصون، كانوا موجودين، حتى قبل واقعة كربلاء ولكن (يبدو أنّ المأتم الحسيني، بعدما غدا مؤسّسة نامية، تجتذب مزيداً من الجماهير، قد غدا من جملة اهتمامات القصّاص، أو أنّه قد أوجد

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص258.

(2) الرافعي، مصطفى صادق: تاريخ آداب العرب، ص379.

(3) المصدر نفسه، ص379.

(4) سبقت ترجمته.

(5) الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان والتبيين 1 / 195.

١٦٧

قصاصه الخاصّين به)(1) .

إذن فقد برز مصطلحان، أو قل استخدم مصطلحان، فيما يتعلّق بالمنبر الحسيني، أحدهما؛ المنشد (وأحياناً يعبّر عنه بالنائح أيضاً) والثاني؛ هو القاص. حيث يتولّى الأول، إنشاد ما قيل من شعر، في رثاء الإمام الحسين، فيما يتولّى الثاني؛ مسألة سرد قصة وسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحوادث كربلاء، وما بعدها.

وإنّ خطيب المنبر الحسيني اليوم، يقوم بإنشاد أبيات من الشعر الرثائي، إضافة إلى ذكر شيءٍ من قصة كربلاء(2) .

إذن، لقد كانت هاتان الفترتان، في عهدَي الإمامين جعفر ابن محمد الصادق وحفيده بعد ذلك، علي بن موسى الرضاعليهم‌السلام ، أفضل الفترات التي مرّت على المنبر أو المأتم الحسيني، في المرحلة الأولى.

فيما كانت أحرج تلك المرحلة، هي في زمن الإمام علي بن محمد بن علي بن محمد بن جعفر الملقّب بالهاديعليه‌السلام (3) ، والذي كانت إمامته قد شملت فترة حكم المتوكّل العباسي، وإجراءاته العنيفة ضدّ قبر الإمام الحسين وعموم الشيعة.

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص239.

(2) سنفصل ذلك، في الفصل الرابع، من هذه الدراسة إنْ شاء الله في مبحث أوصاف خطيب المنبر الحسيني ومبحث هيكلية المنبر الحسيني.

(3) الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، الهاشمي القرشي العسكري (نسبه إلى عسكر وهي مدينة سامراء)، أبو الحسن، العاشر من أئمّة أهل البيت، ولد في المدينة المنورة عام 212م عاصر الخلفاء العباسيين، من المعتصم حتى المعتمد، استدعاه المتوكّل العباسي مع أهله من المدينة إلى سامراء، حينما كانت عاصمة العباسيين، وله مواقف معه، وبقي في سامراء وتوفّي في سنة 254 هـ وقبره معروف بارز. (الطبرسي: الفضل بن الحسين: تاج المواليد ص105).

١٦٨

وكان المنبر الحسيني، يتّسع ويضيق، تبعاً لتلك الظروف السياسية. وكان يجد الدعم والتأييد، من أئمّة أهل البيت في هذه المرحلة. وقد تبيّن لنا في الفصل السابق، من هذا البحث، مدى الارتباط الواضح بين المنبر الحسيني، والأوضاع السياسية المحيطة به.

2 - المرحلة الثانية: 334 - 567 هجرية

وهي الفترة التي تلت، ما عرف عند الشيعة، بالغيبة الصغرى، لآخر إمام من أئمّة أهل البيت، محمد بن الحسن المهديعليه‌السلام ، حيث طرأت أحداث مهمّة، أسهمت إلى حد كبير في توسيع دائرة المنبر الحسيني وإبرازه بصورة علنية وجليّة في العديد من البلاد الإسلامية آنذاك. ممّا أدخل المنبر الحسيني في مرحلة جديدة، حينما ظهرت الدول الشيعية، حيث سيطر آل بويه على مقاليد الأمور في بغداد سنة 334 هجرية، والفاطميّون على القاهرة سنة 362 هجرية، فيما سيطر الحمدانيّون على حَلَب وأماكن أخرى، سنة 333 هجرية.

إنّ بروز هذه الدول الشيعية الثلاث، وفي فترة زمنية تكاد تكون واحدة، قد شكل دفعاً كبيراً للمأتم، أو المنبر الحسيني، وقد مرّ بنا في الفصل الثاني من هذا البحث، كيف عمّت المآتم وانتشرت النياحات، في بغداد والقاهرة، أيام البويهيين، والفاطميين.

لقد أسهم في دعم مؤسّسة المنبر الحسيني، أيام هذه الدول، الانتماء المذهبي لملوكها وسلاطينها من جهة، وتلك الجدلية، التي عاشها الإنسان الشيعي، في مسألة المأتم الحسيني، طوال الحكمين الأموي والعباسي. حيث كان التضييق والاضطهاد، سمة تكاد تكون عامّة، في تعامل الخلافتين السابقتين، مع ظاهرة المآتم، التي كانت تقام أيام عاشوراء، أو مع ظاهرة زيارة قبور شهداء كربلاء، من جهة أخرى.

١٦٩

فكأنّ الإنسان الشيعي، قد وجد في دوله هذه متنفّساً وفرصةً، كان ينتظرها طويلاً لترجمة ما كان يعتقده من الولاء لأهل البيت. كما أنّ الدول الشيعية، من جهتها أرادت أنْ تبرهن للشيعة، صدقها في ولائها، عبر تشجيعها للمآتم والنياحات(1) .

ولقد تحوّل المنبر الحسيني، والمآتم التي كانت تقام في عاشوراء، تحوّل كل ذلك، إلى جوٍّ نفسي يجتذب الإنسان الشيعي، ينفّس فيه من كُربَهِ وآلامه، ويجد في إصراره على إقامة هذه المآتم نوعاً من التحدّي، يواجه به الحاكم الذي يضطهده. وهذا الشعور ما يزال إلى الآن، ولاسيما في تلك الأماكن التي لا يزال فيه المنبر الحسيني ومريدوه مضطهدين.

إذن فقد كان بروز تلك الدول الشيعية، قد هيّأ لفترة ازدهار كبيرة وواسعة، للمنبر الحسيني، والمآتم مع امتداد حكم تلك الدول.

____________________

(1) إنّ علماء الشيعة لا يرون في هذه الدول الشيعية الأطروحة المطلوبة، ولا يعتقدون إنّها كانت تمثّل الدولة الشرعية التي تطبّق أحكام الله تعالى في كل شؤونها، فهي دول ضمن ما كان قائماً من دولٍ في تلك الفترة الزمنية، نعم هي دول كانت تتميّز بالتعاطف والاندكاك مع مدرسة أهل البيت بأنحاء متفاوتة وقد وجدت جماهير الشيعة فيها متنفّساً، فراحت تبرز بعض طقوسها وممارساتها المذهبية بشكل واضح، وأنقل هنا نصّاً لأحد العلماء الشيعة حول البويهيّين فقد ورد في كلمة للشيخ محمد مهدي شمس الدين، قالها أيام عاشوراء وهو ينتقد مذهبة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، فيقول: (على مدى التاريخ المتأخّر في الإسلام، من العصر البويهي، ولدواع طائفية محضة، أعطيت هذه الذكرى، مضموناً شيعياً، وكان تزويراً حقيراً وإجرامياً في حق هذه الذكرى، وتزويراً للتاريخ واستغلالاً، على أننا نكنّ احتراماً للبويهيين، ولكنهم زوّروا التاريخ، وسرقوا الذكرى، وأعطوها مفهومها الطائفي، على حساب جوانبها الإسلامية) (شمس الدين، محمد مهدي: عاشوراء، ص7).

نعم (راجَ مذهب الشيعة في عصرهم واستنشق رجاله نسيم الحريّة بعدان تحمّلوا الظلم والاضطهاد طيلة الحكم العبّاسي...) (السبحاني، جعفر: الشيعة في موكب التاريخ، ص98).

١٧٠

فقد (تشجّع الشيعة بمصر، وتظاهروا بشعائرهم... واشتكى المتردّدون على المسجد العتيق، بأنّ امرأة عجوزاً عمياء، تنشد بباب المسجد قصائد في رثاء الحسين والثناء عليه)(1) .

وعلى هذا الأساس؛ فإنّ زوال ونهاية دول الشيعة هذه - من طرف آخر - لا شك أنّه قد أثّر سلباً، على فترة الازدهار تلك. وإنْ كانت تلك المناطق تختلف فيما بينها، في مسألة امتداد ظاهرة النياحة وإقامة المآتم. إذ استمر أهل بغداد في إقامتها، حتى مع زوال حكم البويهيين سنة 447 هجرية. فيما لم ينقل التاريخ شيئاً من ذلك عن القاهرة، بعد انهيار الحكم الفاطمي سنة 567 هجرية. ويبدو أنّ الأيّوبيّين، الذين حكموا مصر بعد ذلك، واجهوا تلك المآتم والتجمّعات، التي كانت مألوفة في القاهرة، حتى في أيام الإخشيد وكافور، واجهوا تلك المظاهر بشدّة، بحيث إنّها انتهت إمّا بشكل سريع، وإمّا بعد أمدٍ ليس بالبعيد.

أمّا الحمدانيون، فلم يستمروا طويلاً في حلَب وأطرافها (333 - 394 هجرية)، ويبدو أنّ حظّ حلب، كان كالقاهرة، في مسألة المأتم الحسيني، بعد غياب الفاطميّين والحمدانيين عنها، أو بمستوىً قريبٍ منه. حيث لا تزال المآتم الحسينية، موجودة في قرىً شيعية في أطراف مدينة حلَب الحاليّة. فيما لا يوجد أثر لهذه المآتم في القاهرة اليوم(2) .

3 - المرحلة الثالثة: 567 - 1300 هجرية

بعد أنْ شهد المنبر الحسيني، عصراً مزدهراً، في عهود الدول

____________________

(1) جلال، إبراهيم: المعز لدين الله.

(2) يمكن مراجعة المزيد من موضوع التشيع في حلب في كتاب (حلب والتشيّع) للشيخ إبراهيم نصر الله، مؤسّسة الوفاء بيروت.

١٧١

الشيعية الثلاث السابقة، صار بعد ذلك إلى مستويات بروز مختلفة. كان أفضلها وأكثرها دواماً، في العراق، كما ذكرنا.

حيث يبدو؛ أنّ المنبر الحسيني عاد إلى مستواه الذي كان عليه في بغداد، قبل البويهيّين. ولكن مع امتداد أكبر. وأحسب، أنّ وجود قبور أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في العراق(1) ، وخاصّة قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث كربلاء وساحتها، قد أسهم إلى حدٍ كبير، في بقاء مؤسّسة المأتم الحسيني وثباتها، رغم الظروف والمتغيّرات الكبيرة التي مرّت على العراق.

إضافة إلى عوامل أخرى، لعلّ من أبرزها تمركز الدراسات الدينية الشيعية (الحوزات العلمية) بين بغداد والنجف والحلّة وكربلاء، أي بقاؤها في العراق.

ولهذا فلا يمكن أنْ نؤرّخ لهذا الفترة، بتاريخ محدّد؛ لأنّ وضع المنبر الحسيني يختلف، من منطقة إلى أخرى، حسب امتداده واستمراره، بعد انتهاء فترة الدول الشيعية.

ولكن يمكن لنا أنْ نقول، بأنّ المنبر الحسيني عاد إلى الوضع الذي كان عليه، قبل هذه الدول، مع زيادة ملحوظة في الممارسات، لما تراكم في الذهنية الشيعية طوال تلك المدّة الممتدّة، مع الدول الشيعية، واتساع المآتم في أيامها.

____________________

(1) يوجد في العراق، قبور ستة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهم 1 - الإمام علي بن أبي طالب (الإمام الأول) في النجف الأشرف 165 كلم جنوب غرب العراق. 2 - قبر الإمام الحسين بن علي (الإمام الثالث) في كربلاء 100 كلم جنوب غرب بغداد حيث الواقعة وأحداث عاشوراء. 3 - قبر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (الإمام السابع). و4 - قبر الإمام محمد بن علي الجواد (التاسع) في الكاظمية، ضاحية بغداد الشمالية. 5 - قبر الإمام علي بن محمد الهادي (العاشر). و6 - قبر الإمام الحسين بن علي العسكري (الحادي عشر) في سامراء 120 كلم شمال بغداد. إضافة إلى عشرات القبور، المنسوبة إلى أبناء الأئمة الذين كانوا يهربون إلى الكوفة وأطرافها، أيام العباسيّين، وللتوسع يمكن مراجعة: (أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين) وكذلك (الشيخ محمد حرز الدين: مراقد المعارف).

١٧٢

وقد تستثنى من ذلك القاهرة، التي عرفت النوح على الحسينعليه‌السلام قبل الفاطميّين، ولكن المظاهر العزائية اختفت مع مجيء الأيّوبيّين.

وعاد المنبر الحسيني، ليكون مجرّد استذكار لأيام عاشوراء بشكل سلبي، حيث اعتبر أمثل حالة، يلتجئ إليها الإنسان الشيعي ليخفّف من معاناته، وينفّس عن شعوره بالألم. ولهذا طغت حالات التزهيد في الدنيا، حتى صار البكاء، غاية ما يأمله قاصد تلك المنابر، في هذه المرحلة.

ويمكن لنا أنْ نستشهد بفقرات، من الكتب التي أُلّفت في تلك الفترة، حيث جاءت حاكية، لما كان المنبر الحسيني آنذاك.

فقد ورد في كتاب(اللهوف في قتلى الطفوف) لمؤلّفه علي ابن موسى بن جعفر بن طاووس الحسيني (المتوفّي سنة 664)، والذي كان عبارة، عن كتاب مقتل الحسينعليه‌السلام ، وسيرته قبل كربلاء، ثمّ حالة القتال يوم عاشوراء، ثمّ ذكر الحوادث بعد مقتله. ولكنّنا سنوظف نصّاً، من مقدمة هذا الكتاب، يعيننا على تلمّس وضع المنبر الحسيني في تلك الفترة، حيث يذكر ابن طاووس في مقدمة كتابه (فيا ليت لفاطمة وأبيها، عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها، ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح، وبنات مشققات الجيوب، ومفجوعات بفقد المحبوب، وناشرات الشعور، وبارزات من الخدور(1) ، ولاطمات للخدود، وعادمات للجدود(2) ومبديات للنياحة والعويل، وفاقدات للمحامي والكفيل.

فيا أهل البصائر من الأنام؛ ويا ذوي النواظر والأفهام؛ حدثوا أنفسكم بمصارع تلك العترة(3) ، ونوحوا بالله لتلك الوحدة والكثرة،

____________________

(1) الخدور: جمع خدر، وهو ستر يمدّ للجارية، من طرف البيت.

(2) الجدود: جمع، مفردة جدّ، وهو هنا الحظّ.

(3) العترة، ولد الرجل وذريته، من العَتَر، وهو الأصل والمقصود هنا، عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٧٣

وساعدوهم بموالاة الوجد والعبرة(1) ، وتأسّفوا على فوات تلك النصّرة، فإنّ نفوس هؤلاء الأقوام ودائع سلطان الأنام، وثمرة فؤاد الرسول، وقرّة عين البتول، ومَن كان يرشف(2) بفمه الشريف ثناياهم(3) ، ويفضل على أمّه أمهم وأباهم)(4) .

فالنصّ أعلاه يكاد يحصر مسألة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو يقدّم لكتاب في مقتله، في ضرورة البكاء والنحيب، على تلك المصائب. دون أن يدعوا مثلاً، إلى أخذ الدروس والعبر من موقف الإمام الحسين، أو التزوّد من واقعة كربلاء، بما يعين على حياة حرّة كريمة. وهذا الكتاب، وإنْ لم يكن في الأساس، كتاباً يُتلى كمجالس حسينية في المآتم، إلاّ أنّه يوضّح مستوى التعامل، مع أحداث كربلاء، في ذلك العصر.

كما إنّ أسلوب السجع، وترتيب الكلمات، سمة أخرى واضحة فيه.

ونأخذ نصّاً آخر، ومن كتاب آخر، جاء في أخريات هذه المرحلة. وهو كتاب صيغ على شكل مجالس تتلى في المآتم، وهو كتاب (المنتخب) لمؤلّفه الشيخ فخر الدين الطريحي (المتوفّي سنة 1085 هجرية) وقد قلنا في هذا الفصل، أنّ هذا الكتاب، لا يزال يُتلى في بعض مآتم منطقة الخليج، ممّا يعني أنّه بقي طوال المرحلة، وفي قسمها الأخير بالتحديد، من الكتب المعتمدة عند خطباء المنبر الحسيني. وهو في غاية الأهمية، بالنسبة إلى دراستنا هذه، ولم يصل إلينا كتاب، صيغ على شكل مجالس حسينية، تُقرأ في المآتم، إلاّ هذا الكتاب، والبقية كانت كتب مقاتل، كما بيّن سابقاً.

____________________

(1) العبرة: هي الدمعة، أو الحزن بلا بكاء.

(2) يرتشف: من رشف أي مصّ، يقال رشف الماء إذا مصّه بشفتيه.

(3) الثنايا: هي أسنان مقدم الفم.

(4) ابن طاووس، ع لي بن موسى: اللهوف في قتلى الطفوف، ص7.

١٧٤

يقول هذا النصّ:

(أيّها الأخوان! كيف تخفى زفرات الأحزان؟ أم كيف تطفى لهبات الأشجان؟ أتراكم تعلمون ما جرى على سادات الزمان، في تلك الأماكن والأوطان؟ قسَماً بالبيت العتيق، لو فكّر المؤمن فيما أصابهم من المِحَن، لغدى روحه أنْ تخرج من البدَن! كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه، وأصفياء الله وأبنا أصفيائه، اجتروا عليهم فقطعوا منهم الأوصال، وجدّلوهم على الرمال، وجرّعوهم كؤوس الحتوف، بأرض الطفوف)(1) . (الزفرات: جمع زَفْرة: وهي النَفَس الحارّ. لهبات بالجمع لَهَبة وهي اللسان من النار بدون دخان، والأشجان؛ جمع شجَن، وهو الحزن، اجترأ: أقدم، الأوصال: جمع وُصل أو وِصل: وهو كل عضوّ على حدة. جدّله: رماه، الحتوف: جمع حتف وهو الموت).

وهذا النصّ كسابقه، يحكي طبيعة ما يقال في المآتم الحسينية، في هذه المرحلة، من التركيز على جانب الحزن، واستخدام لغة السجع، وتنسيق الألفاظ. ثمّ حدث تطوّر مهم في هذه المرحلة، كان له - ولا شكّ - أثرٌ واضح وجلي على تعميق جذور المنبر الحسني واتساعه، وبالأخص في العراق. إنّ هذا التطوّر، قد تمثّل ببروز الدولة الصفوية(2) في إيران، وامتداد نفوذها ليشمل العراق، ولاسيما المدن المقدّسة فيه. حيث دخل الشاه إسماعيل الصفوي(3) بغداد، سنة

____________________

(1) الطريحي، فخر الدين: المنتخب ص177.

(2) الصفويون: سلالة فارسية، اتخذت قزوين منطلقاً لها. تُنسب إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم وهو السابع من أئمّة أهل البيت، بدأوا كأصحاب طريقة صوفيّة وانتهوا إلى دولة، حتى سيطروا على معظم إيران وأفغانستان والعراق. وكانت عاصمتهم أصفهان في إيران، حكموا من (1502 - 1736م) (معلوف، لويس: المنجد، 2 / 424).

(3) الشاه إسماعيل بن حيدر بن جنبل بن صفي الدين، ينتهي نسبه إلى الإمام موسى بن جعفر =

١٧٥

914 هـ. (وفي اليوم الثاني بلا فصل توجّه إلى كربلاء، وأدّى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في الحائر)(1) .

لقد لقي المنبر الحسيني، رعاية خاصّة، من قبل الصفويّين، حينما كانت الدائرة لهم. وكان الصفويون حريصين على ضمّ بغداد، ومعها ضاحيتها الشمالية (الكاظمية). ومدينتَي كربلاء والنجف. إضافة إلى الطرق الموصلة إليها.

ولقد هيّأ هذا الحدث أجواءً سياسية وأمنية واقتصادية، مشجّعة لتطوير، واتساع المنبر الحسيني.

فـ (عندما تولّى السلطة على العراق، الملوك الصفويون، أو غيرهم من الإيرانيين، كان الإقبال على إقامة هذه المآتم والنياحات عظيماً. وكانت حرّية الشيعة في إحياء هذه الذكرى الأليمة مضمونة. وقد غالى الشيعة في إقامتها)(2) .

فقام الشاه إسماعيل (بتنظيم الاحتفال بذكرى مقتل الحسين..)(3) .

لقد أولى الصفويون، اهتماماً كبيراً بالمنبر الحسيني، وبقية مراسم العزاء، باعتبارها من أنجح الطرق الشعبية العاطفية في نشر التشيع، الذي تبنّاه الصفويون، وعملوا على نشره في البلاد الإيرانية.

فـ (الوضع كان قد تغيّر، عند مجيء الصفويين، إلى الحكم في

____________________

= الكاظم (ت: 183 هـ) أول ملوك الصفوية، ومؤسّس دولتهم، برز موحّداً للقبائل الفارسية ثمّ بدأ معاركه وفتوحاته ليدخل بغداد عام 914 هـ توفّي سنة 930 هـ. (معلوف، لويس: المنجد 2 /).

(1) مغنية، محمد جواد: دول الشيعة في التاريخ، ص122.

(2) صالح، الشهرستاني: تاريخ النياحة، 2 / 32.

(3) الوردي، علي: لَمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، 1 / 59.

١٧٦

إيران، في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وإعلانهم المذهب الشيعي، مذهباً رسمياً للبلاد، واستخدامهم مراسيم العزاء الحسيني، سياسياً ودعائياً لنشر التشيع وبسط نفوذهم، في جميع أنحاء إيران. وممّا ساعد على نشر العزاء الحسيني، وتطويره، أنّ الصفويين، كانوا قد شجّعوا ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، ومراسيم العزاء الحسيني، وزيارة العتبات المقدّسة في العراق، لنشر التشيع في إيران)(1) .

وقد بذل الصفويون أموالاً طائلة على عمارة مراقد الأئمّة، في العراق، ورعاية العلويين الساكنين هناك.

وأعتقد - من ناحية أخرى - إنّ فترة الحكم الصفوي في العراق، قد مكّنت مؤسّسة المنبر الحسيني، من الاستثمار والديمومة. فلو تمكّنت القاهرة كبغداد، من أنْ تعيش تجربة حكم شيعي آخر، بعد الفاطميّين، فإنّه من غير المستبعد أنْ نرى اليوم في القاهرة، وجوداً للمنبر الحسيني، استمراراً لما كانت عليه مصر، أيام الفاطميّين.

لقد حكم الصفويون بغداد ومدن عراقية أخرى، لاسيما المقدّسة منها من فترة (914 - 1114 هجرية) وهي تقع ضمن هذه المرحلة، أي المرحلة الثالثة، من المراحل التي مرّ بها المنبر، أو المأتم الحسيني.

ومن الغريب أنّ الآراء الثلاثة، التي ذُكرت آنفاً، في مسألة أدوار ومراحل المنبر الحسيني، قد أهمَلت هذا التطوّر المهم، على صعيد المنبر الحسيني، ولا سيّما في العراق(2) .

____________________

(1) الحيدي، د. إبراهيم: تراجيديا كربلاء، ص60 - 61.

(2) للدولة الصفوية تأثير بالغ على المسيرة المذهبية في إيران، وقد استثمر الصفويون المأتم الحسيني كأداة من أفضل السُبل التي انتهجوها في التبليغ المذهبي. ومسيرة المنبر الحسيني في إيران أو في البلاد الهندية، يحتاج إلى بحث مستقل، لأنّنا ركّزنا الحديث في =

١٧٧

فلم يذكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين أي إشارة إلى الدولة الصفويّة، كذلك فعل صاحباً الرأيين الثاني والثالث.

إنّ هذا المرحلة الثالثة قد انتهت مع نهاية فترة الركود والتخلّف، التي مرّ بها العالم الإسلامي عموماً، حتى جاءت بشائر الصحوة الحديثة، بعدما تلقت الأمّة الإسلامية ضرباتٍ قاسية من المستعمر الكافر، وتعرّضت إلى تحدّيات مصيريّة ممّا حدا المستعمر الكافر، وتعرّضت إلى تحدّيثات مصيريّة ممّا حدا بالمخلصين، والواعين من العلماء وروّاد الإصلاح إلى العمل الجاد، لإعادة الحياة إلى هذه الأمّة.

وبهذا بدأ عصر جديد، من الوعي والثقافة والانفتاح البصير، على مفاهيم الإسلام، وقيمه وبمبادئه. في أجواء من التحدّي الواضح للأمّة وعقيدتها.

وبهذا نصل إلى المرحلة الرابعة من هذا التقسيم.

4 - المرحلة الرابعة

وهي المرحلة التي تبدأ مع بدايات القرن العشرين الميلادي، وإلى عصرنا الحالي.

إذ عملت أحداث عالمية، وتغيرات كبيرة في الحرب العالمية، وحركة الاستعمار، والتقدّم التقني المبهر، ووصول تيارات فكريّة إلحادية، وغير الحادية، تتحدّى الإسلام وأهله. هذه الأمور وغيرها أسهمت في إيقاظ المسلمين وتنبيههم على الأخطار المحيطة بهم، فبرزت حركات الإصلاح وشارك العلماء والمثقّفون المصلحون، في

____________________

= هذا البحث، على تطوّر المنبر الحسيني، والأدوار التي مرّ بها من مهده الأول في البلاد العربية، خاصة المدينة المنورة، والكوفة، وامتداده إلى بغداد والقاهرة.

١٧٨

خضم معترك فكري، وتيارات شرقية وغربية.

وحينما عمّ الوعي أغلب المرافق الثقافية والدينية للمسلين، شمل ذلك بصورة جلية وواضحة، المنبر الحسيني؛ لأنّ خطيب المنبر الحسيني عند المسلمين الشيعة، في تماس مباشر مع الناس، فلكي يؤدّي دوره كمبلّغ إسلامي من جهة، وحتى يكون منبره نافعاً(1) ، وجاذباً للجمهور من جهة أخرى، كان على الخطيب الحسيني، أنْ يكون مواكباً للتطوّرات الفكرية والحياتية، التي يعشها الناس، ويشعرون بأهمية الحديث عنها، وتسليط الأضواء عليها.

لقد حدث تطوّر نوعي واضح للمنبر الحسيني في هذه المرحلة، حيث توسّع أفقه بشكل جليّ. فالمنبر الحسيني الذي كان لا يتجاوز سرد قصة كربلاء، وأحداثها الحزينة، مع حفظ القصائد والأشعار الرثائية، (باللغة الفصحى واللهجة الشعبية الدارجة)، وبعض موضوعات التزهيد السلبي، في الدنيا ومتعها، أو مناقشة قضية تاريخية محدّدة، وإذا بهذا المنبر يقفز قفزات نوعية كبيرة، حيث راح شيوخ المنبر الحسيني، من الخطباء المبدعين يخوضون في مواضيع: فكرية، وأخلاقية، وأدبية، متنوعة، وعميقة. وراح الخطباء، ولاسيما الرساليين منهم. يناقشون الأفكار الوافدة، ويحاكمونها، كالمراكسية والرأسمالية، ويردّون شبهات أثيرت حول الإسلام، وأحكامه. كموضوعات حقوق المرأة في الإسلام، والرق، ونظام الأسرة، وعلاقة الدين بالعلم، وأهمية الإسلام كنظام سياسي أو اقتصادي...

وستتوضّح لدينا الصورة بشكل أفضل، إنْ شاء الله في الفصلين

____________________

(1) مصطلح يطلق على الخطيب، حيث يقال عن فلان: إنّ منبره نافعٌ، أي أنّ الموضوع الذي يتناوله على المنبر هو موضوع نافع، ولا يقتصر في منبره على الجوانب العافية والحزينة في أحداث كربلاء.

١٧٩

القادمين، حينما نتحدّث عن أوصاف خطيب المنبر الحسيني، ومنها الثقافية والمعلوماتيّة العامة، وحينما نبحث المدارس الخطابية في عصرنا.

وكلّما كان خطيب المنبر الحسيني، أكثر إحاطة بالجوانب الثقافيّة والتربوية والفكرية، كان الطلب عليه من قبل الهيئات المشرفة، على إقامة المآتم الحسينية، أكثر إلحاحاً(1) .

ولهذا فإنّ من الحقائق المعروفة الآن، أنّه (قد غدت، هذه الدراسات الإسلامية والقرآنية، في بلاد كثيرة، ولدى مساحات واسعة، من الرأي العام مقياساً تعتمد عليه الجماهير، في الإقبال على المأتم الحسيني، أو انكفائها عنه، كما أنّ هذا المقياس، يعتمد، في اختيار الخطيب الحسيني، المجوّد في هذا الشأن)(2) .

لقد شهدت هذه المرحلة تطوّراً في المنبر الحسيني، على صعيد المضمون، كما ذكرنا في نوعية الموضوعات، والأبحاث التي يتعرّض لها خطيب المنبر الحسيني. وكذلك على صعيد الشكل الفنّي - إنّ صحّ التعبير - وأقصد به، أنّ خطيب المنبر الحسيني في العصر الحديث، راح يطعّم أبحاثه بالعديد من الشواهد الأدبية، والتاريخية وأرقام علمية، ونتائج، وإحصاءات، ومعلومات حديثة. يدعم بها الموضوع الذي يطرحه، بما يناسبه من أرقام وشواهد. كما أنّ الخطيب، أخذ يسلك طريقة فنية، في السير بالمستمعين، وإدخالهم إلى أجواء كربلاء الحزينة، في نهاية محاضرته، وبانسيابيّة فنّية بحيث لا يشعر المستمع، إلاّ وقد دخل في الأجواء العاطفيّة الحزينة، حينما يجد الخطيب نقطة في بحثه يتخلّص بها من موضوع

____________________

(1) هناك مبحث خاص في الفصل القادم، حول الهيئات التي تشرف على إقامة المآتم الحسينية، ودعوة خطباء المنبر الحسيني إليها.

(2) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، ص299.

١٨٠