المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 110785
تحميل: 6812

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110785 / تحميل: 6812
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عبد المطّلب(1) : إنّ لي غلاماً يُقال له كُلاب، أعملُ الناس. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرهُ أنْ يعمله، فأرسلهُ إلى أثلة(2) بالغابة فقطعها ثمّ عمل منها درجتين ومقعداً، ثمّ جاء به فوضعه في موضعه اليوم)(3) .

ويشرح صاحب السيرة الحلبية مقالة تميم الداري (كما يصنع في الشام) فيقول: (أي تصنعه النصّارى في كنائسهم لأساقِفتهم تُسمّى المرقاة يصعدون إليها عند تذكيرهم)(4) .

فهل يعنى هذا، أنّ المنبر الذي صُنع ووضع في المسجد، كان شبيهاً بمنصّات الكنائس؟ أم أنّ الفكرة أُخذت فقط، ومن ثمّ صُنع المنبر في هذا الشكل، الذي نجده اليوم مختلفاً عن منصّات الكنائس الحالية؟ الظاهر من النّص السابق، إنْ المنبر لم يكن شبيهاً بمنصّات الكنائس.

(2) إنّ المنبر كان باقتراح من المسلمين، دون ذكر أحدٍ منهم بالخصوص. حيث تذكر بعض المصادر، إنّ المسلمين هم الذين بادروا بذلك، بعدما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّكئ على جذع، (فقال له أصحابه: يا رسول الله، إنّ الناس قد كثروا، فلو اتّخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس! فقال:(ما شئتم). قال سهل(5) : ولم يكن

____________________

(1) عبّاس بن عبد المطّلب الهاشمي القرشي: عمّ النبي، وهو آخر من بقي منهم بعد وفاته. حيث توفي سنة 32 هـ في المدينة. إليه ينتسب العباسيون. أسر في معركة بدر من قبل المسلمين أسلم وحسن إسلامه قاتل مع المسلمين في واقعة حنين. كان سخياً وجواداً، توفي بالمدينة. (معلوف، لويس: المنجد 2 / 446) وغيره.

(2) الأثلة: نوع من الشجَر يكون في الأراضي الصحراوية، واعمل الناس أي أكثرهم خبرة في العمل.

(3) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 525.

(4) الحلبي، علي بن برهان الدين: السيرة الحلبية، 2 / 138.

(5) هو سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الأنصاري الساعدي، كان عمره خمس عشرة سنة حينما مات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وطال عمره حتّى أيام الحجاج، وامتحن معه، وكان عمره حين وفاته ست وتسعين وقيل مِئة سنة، ويقول هو آخر من بقي من الصحابة بالمدينة. (ابن الأثير علي بن عبد الواحد: أسد الغابة، 2 / 576).

٢١

بالمدينة إلاّ نجّار واحد، فذهبتُ أنا وذلك النجّار إلى الخافقين فقطعنا هذا المنبر من أثلةٍ. قال: فقام عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...)(1) .

وفي رواية أُخرى، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما أُقترح عليه اتخاذ شيءٍ يقوم ومحل الجلوس، فكان ثلاث درجات، وقام عليه في يوم الجمعة...)(2) .

ففي الرواية الثانية، نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر صراحةً ببناء منبر، ولم يترك الأمر لاختيار صحابته، الذين اقترحوا عليه أنْ يتّخذ شيئاً يقوم عليه أثناء خطبته.

(3) إنّ المنبر كان باقتراح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(.. حدّثني مَن سمع جابر بن عبد الله يقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم على جذع نخلةٍ منصوبٍ في المسجد، حتى إذا بدا له أنْ يتّخذ المنبر، شاور ذوي الرأي من المسلمين، فرأوا أنْ يتّخذه، فاتخّذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(3) .

ويؤيّد ذلك مصدر آخر، حيث يذكر: (وقال سهل بن سعد: أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فلانة - امرأة سمّاها سهل - أنْ مُري غلامك النّجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهنّ إذا كلّمت الناس، متّفق عليه)(4) ومنه يفهم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو صاحب الاقتراح.

(4) إنّ المنبر كان باقتراح مِن أحد الصحابة لم يذكر اسمه.

____________________

(1) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 251.

(2) الحلبي، علي بن برهان الدين: السيرة الحلبية، 2 / 137.

(3) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 251.

(4) ابن قدامة، عبد الله بن أحمد: المغني الكبير، 2 / 144.

٢٢

فحينما (كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي إلى جذع، إذ كان المسجد عريشاً، فكان يخطب إلى ذلك الجذع. فقال رجلٌ من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أنْ أعمل لك منبراً تقوم عليه يوم الجمعة، حتى يراك الناسُ وتُسمعَهم خطبتكَ؟ قال: (نعم)، فصُنع له ثلاث درجات هنّ اللائي على المنبر...)(1) .

ويمكن أنْ نجمع بين القول الأوّل؛ بأنّ الذي اقترح إشادة المنبر، هو تميم الداري وبين القول الرابع، والأخير، من أنّ ذلك، باقتراح من صحابي، لم يُذكر اسمه، من احتمال؛ أنْ يكون الصحابي هو نفسه تميم الداري، والله أعلم.

وهكذا عرفنا السبب في بروز المنبر في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة المنورّة، حتى أصبح المنبر أساسيّاً في إنشاء المساجد، وإلى جانب المحراب يقوم المنبر في تناغم وانسجام بين الصلاة والخطابة، في تصاميم المسجد وبنائها، ونشر قِيَم الإسلام ومبادئه.

واكتسب المنبر قدسيّةً وحرمةً متميزة، بما جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن أحاديث تبيّن ذلك وتوضّحه، فمّما نقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(منبري هذا على تُرعة(2) مِن ترع الجنّة، وقوائم منبري رواتب(3) في الجنّة).

(ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة).

(منبري على حوضي)(4) .

____________________

(1) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 252.

(2) الترعة: مسيل الماء إلى الروضة.

(3) رواتب جمع راتب، وهو الثابت.

(4) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 251.

٢٣

وسنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأيمان على الحقوق عند منبره، وقال:

(مَن حَلَف على منبري كاذباً، ولو على سواك أراكٍ، فليتبوّأ مقعده من النار)(1) .

(وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط، قال: رأيت ناساً من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا خلا المسجد، أخذوا برمّانِة المنبر الصلعاء، التي تلي المنبر، بميامنهم، ثمّ استقبلوا القبلة يَدْعون)(2) .

وأمّا عن الكيفية، التي كان يخطب عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد سجّلتْ ذلك بعض المصادر حيث (جاء: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان على المنبر، يعتمد على عصاً من الشوحط(3) . وفي الهدى، لم يعتمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته على سيفٍ أبداً، وقبل أن يُتخذ له المنبر كان يعتمد على أقواسٍ أو عصا، وقيل: كان يعتمد على قوسٍ إنْ خطَب في الحرب، وعلى عصا إنْ خطب في غيره...)(4) .

وكما سبق ذكره سنجد، كيف أنّ أخذ العصا أثناء الخطبة صار سُنّة يستنّ بها خطيبُ الجمعة، كما سننقل ذلك، عن آراء المذاهب الإسلامية. ومن المصادر الأخرى، التي أشارت إلى كيفيّة الخطبة:

(كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوكّأ على عصاً، يخطب عليها يوم الجمعة، وكانت من شوحط)(5) . (وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب بالقضيب...)(6) .

____________________

(1) الحلبي، علي بن برهان الدين: السيرة الحلبية، 2 / 139. السواك: هو الذي تدلك به الأسنان وتنظف. أراك: شجر صحراوي طيّب الرائحة.

(2) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 254.

(3) الشوحط: وهي من شجر الجبال، جبال السراة.

(4) الحلبي، علي بن برهان الدين السيرة الحلبية، 2 / 139.

(5) ابن سعد، محمد بن سعد البصري: الطبقات الكبرى، 1 / 250.

(6) الجاحظ، عمرو بن بحر: البيان والتبيين، 3 / 34. القضيب: العصا.

٢٤

والذي نصل إليه في هذا المبحث، أنّ المنبر إنّما عرفُه المسلمون بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وبروز الحاجة إلى مرقاة يرتقيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثناء خطبته في يوم الجمعة، لاسيّما بعد ازدياد عدد المسلمين، واكتظاظ المسجد بالمصلّين، فكان المنبر جهازاً إعلاميّاً مباركاً، مارس دوره، ولا يزال، في مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

منبر الجمعة

إذا ذكرت الكتب المهتمّة بعالم الخطابة، أنواع الخطبة، فإنّها تقسّمها إلى: خطبة اجتماعية، وسياسية، وعسكرية، واقتصادية، والخطبة الدينية... إلخ.

ولعل الخطبة الدينية، هي من أقدم أنواع الخطب، ولقد كان الأنبياءعليهم‌السلام أوّل خطباء البشرية، كما سبق الإشارة إلى ذلك.

وتعتبر خُطبة الجمعة في التشريع الإسلامي، أهم الخطب الدينيّة، حيث اللقاء الأسبوعي مع المصلّين، وفيها بيان أحكام الدين، والدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وتربية المجتمع تربيةً صالحة، والبحث في شؤون المسلمين.

وقد عرفنا قبل قليل، أنّ صلاة الجمعة، لم تشرّع في مكة، وإنّما شُرّعت بعد الهجرة وإنّ أول جمعةٍ أُقيمت، كانت في بني سالم، في منصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من قباء إلى المدينة المنورة، ولهذا لابدّ لنا هنا أنْ نتوقف عند منبر الجمعة، وآراء مذاهب المسلمين في شروط خطبة الجمعة وسننها، كمقدّمة لمعرفة المنبر الحسيني وأوجه المقارنة بين المنبرين؛ منبر الجمعة والمنبر الحسيني، موضوع البحث.

فالشافعية يقولون: (ولا تصحّ الجمعة حتى يتقدمها

٢٥

خطبتان.....

(وفرضها - الخطبة - أربعة أشياء؛ أحدها: أنْ يحمد الله تعالى.... والثاني: أنْ يصلّي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... والثالث: الوصية بتقوى الله عزّ وجل.... والرابع: أنْ يقرأ آية من القرآن...)(1) .

ثمّ تذكر سنن الخطبة، وفق المذهب الشافعي، (وسننها: أنْ يكون على منبر، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب على منبر، ولأنّه أبلغ في الإعلام. ومن سننها، إذا صعد على المنبر، ثمّ أقبل على الناس، أنْ يسلّم عليهم... ومن سنها، أنْ يجلس إذا سلّم حتى يؤذّن المؤذِّن.. ويستحب أنْ يعتمد على قوس أو عصا... ومن سننها أنْ يقبل على الناس ولا يلتفت يميناً وشمالاً...)(2) .

أمّا المذهب الحنفي، فقد (قال أبو حنيفة: أنّ الشرط؛ أنْ يذكر الله تعالى على قصد الخطبة، وكذا نُقِلَ عنه في الالي مفسّراً، قلّ الذكر أم كثر، حتى لو سبّح وهلّل أو حمد الله على قصد الخطبة أجزأه)(3) .

(وأمّا سنن الخطبة: فمنها أنْ يخطب خطبتين... يخطب خطبة خفيفة، يفتتح فيها بحمد الله تعالى ويثني عليه، ويتشهد، ويصلّي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعظ ويذكّر، ويقرأ سورة ثمّ يجلس جلسة خفيفة، ثمّ يقوم فيخطب خطبة أُخرى، يحمد الله ويثني عليه، ويصلّي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات... ومنها أنْ يخطب قائماً... وأنْ يستقبل القوم بوجهه)(4) .

____________________

(1) الفيروز آبادي، إبراهيم بن علي: المهذّب في فقه الإمام الشافعي، 1 / 209 - 210.

(2) المصدر نفسه 1 / 211.

(3) الكاساني الحنفي، علاء الدين بن مسعود: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 1 / 262.

(4) المصدر نفسه، 1 / 263.

٢٦

وهذا المصدر، لم يُشِرْ إلى مسألة المنبر، أو العصا في سنن خطب الجمعة، فيما يذكر صاحب كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة): إنّ من سنن الخطبة عند الحنفية (وأنْ يعتمد على سيف، متّكئاً عليه بيده اليسرى، في البلاد التي فُتحت عنوة، بخلاف البلاد التي فُتحت صلحاً فإنّه يخطب فيها بغير سيف)(1) .

أمّا على المذهب المالكي، فإنّهم يؤكّدون، أنّ (الخطبة فرض في الصلاة، قاله جمهور المالكية.. ويكفي من ذلك أقلّ ما ينطلق عليه الاسم اللغوي: أعني اسم خطبة عند العرب)(2) .

ولم يذكر هذا المصدر سنن الخطبة ولهذا رجعت إلى كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة)، والذي ذكر ان من سننها عن المالكية: (ويُندب أنْ تكون الخطبةُ على منبر، والأفضل أنْ لا يصعد إلى أعلاه بغير حاجة... وأنْ يسلّم للناس حال خروجه للخطبة.. وأنْ يعتمد في الخطبتين، على العصا ونحوها، وابتداء كل من الخطبتين، بالحمد والثناء على الله تعالى)(3) .

وما يقوله المذهب الحنبلي، فإنّ من شروط الخطبة يوم الجمعة (اشتراط القيام في الخطبة، وأنّه من خطب قاعداً، بغير عذر لم تصح.. ويشترط لكل واحدةٍ منهما - الخطبتين - حمداً لله تعالى، والصلاة على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فأمّا القراءة، فقال القاضي: يحتمل أنْ يشترط لكل واحدة من الخطبتين...)(4) .

أمّا سنن الخطبة، عند الحنابلة، (فيُستحب أنْ يُصعد للخطبة،

____________________

(1) الجزيري، عبد الرحمان: الفقه على المذاهب الأربعة، 1 / 396.

(2) القرطبي، محمد بن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، 1 / 160.

(3) الجزيري، عبد الرحمان: الفقه على المذاهب الأربعة، 1 / 395.

(4) ابن قدامة، عبد الله بن أحمد: المغني، 2 / 152.

٢٧

على منبر ليُسمع الناس ويستحب أنْ يكون المنبر، على يمين القبلة، يستحب للأمام، إذا خرج أنْ يسلّم على الناس، إذا صعد المنبر، فاستقبل الحاضرين، سلّم عليهم وجلس... ويستَحب أنْ يعتمد على قوسٍ أو سيفٍ أو عصا...)(1) .

والذي تذهب إليه الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، في واجبات صلاة الجمعة أنّه (يجب فيها - صلاة الجمعة - تقديم الخطبتين المشتملتين، على حمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبي وآله والوعظ، وقراءة سورة خفيفة...)(2) .

(ويستحب بلاغة الخطيب ونزاهته، ومحافظته على أوائل الأوقات، والتعمّم شتاءً وصيفاً للتأسّي، مضيفاً إليها الحنك والرداء، ولبس أفضل الثياب والتطيّب، والاعتماد على شيءٍ حال الخطبة، من سيفٍ أو قوسٍ أو عصا للإتّباع..)(3) .

وأمّا الزيدية، فإنّ من السنن التي يرونها في خطبتي صلاة الجمعة، أنّه قد (ندب في الأولى الوعظ، وسورة وفي الثانية، الدعاء للإمام الصادق، صريحاً أو كناية ثمّ للمسلمين. وفيها القيام، والفصل بقعود أو سكتة، ولا يتعدّى ثالثة المنبر، إلاّ لبعد سامع، والاعتماد على سيف أو نحوه، والتسليم قبل الأذان)(4) .

____________________

(1) المصدر نفسه، 2 / 144 - 1 / 155.

(2) العاملي، محمد بن مكّي: اللمعة الدمشقية في فقه الإمامية، 1 / 296.

(3) المصدر نفسه، 1 / 298.

(4) اليماني، أحمد بن يحيى: الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، ص11.

٢٨

المنبر الحسيني

سبق لنا، وأنْ عرّفنا(المنبر) ، لغةً واصطلاحاً، في أوّل هذا الفصل.

وبقي علينا أنْ نعرّف اللفظ المركّب، من المنبر وإضافته إلى (الحسيني). كما لا بدّ، أنْ نوضّح، لماذا أضيف المنبر إلى (الحسيني) هنا، ولمْ يُضفْ إلى (العلوي) أو (الحسني) مثلاً.

أمّا لفظة منبر، فقد سبق لنا الوقوف على تعريفها.

وأمّا (الحسيني) فإنّ (الحسين) هنا هو الذي نعني به: الإمام السبط الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الشهيد بكربلاء يوم عاشوراء عام 61 للهجرة، وأُمّه فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إذن، فهو منبر مضاف إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، والياء للنسبة.

وإذا أردنا أنْ نعرّفالمنبر الحسيني ، فيمكن لنا أنْ نقول:

إنّ المنبر الحسيني عبارة عن نوعٍ من أنواع الخطابة الدينية عند أغلب المسلمين الشيعة(1) ، يعرّج في نهايتها - وبأسلوب فنّي خاص - على ذكر فاجعة مؤلمة، من فجائع مقتل الإمام الحسين، أو أهل بيته، أو أصحابه، يوم عاشوراء. أو ما جرى على عياله بعد مقتله، أيام السبا(2) . ولابدّ أنْ يقترن هذا الذكر، بأشعار مختارةٍ من الرثاء سَواء

____________________

(1) إنّما قلنا (أغلب) لأنّ أتباع المذهب الإسماعيلية في شبه القارة الهنديّة، المعروفين بالبهَرة، يقيمون هذه المنابر أُسوة بالاثني عشرية. فيما لا يقيمها أتباع الآغاخان من الإسماعيليين. بينما لا يعرف الشيعة الزيديون هذا النمط من المنابر كذلك. والغالبية هنا تعود إلى أنّ الشيعة الاثني عشرية يشكّلون غالبيّة الشيعة حالياً.

(2) وهي الأيام التي بدأت بعد يوم عاشوراء، أي يوم 11 محرّم سنة 61 هـ، إلى نهاية شهر صفر من نفس السنة، إذ وصل الحسين إلى كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم عام 61 هـ. وقُتل في العاشر منه. وأُخذت نساؤه وعياله وأطفاله سبايا، يوم الحادي عشر من =

٢٩

أكان بالشعر العربي الفصيح، أم بالشعر الشعبي العاميّ. كما ويتميز بمقدمةٍ، تُقرأ بصورة خاصة. ويمكن أنْ يبدأ هذا المنبر - هذا الخطبة - في بعض الأحيان، بقصيدة يعرّج منها إلى ذكر أحدى الفجائع التي جرت للحسينعليه‌السلام ، أو لِمن كان معه، فيكون في مقدّمته ونهايته يتضمّن ذلك الشدّ العاطفي. يتخللها الموضوع الذي يطرقه خطيب المنبر الحسيني.

ومن هنا، عرفنا سبب هذه النسبة، إلى (الإمام الحسين)، دون سواه من أئمة أهل البيت. ذلك؛ لأنّه منبر لابدّ فيه، من ذكر إحدى المصائب المرتبطة بالإمام الحسين دون أي إمام آخر، والأمر راجع إلى الخصوصيّة المأساويّة والفجائعيّة الحزينة، التي تميّزت بها عملية استشهاد الإمام الحسين، هو وأهل بيته وأصحابه، وما جرى على نسائه وأطفاله بعده من آلام السبا، بما لم تحدث حتّى مع من هو خيرٌ منه؛ كجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيه علي وأمّه وأخيه.. ولما توارثه الشيعة عن أئمتهم، في الحثّ على إقامة مجالس عزاء الإمام الحسينعليه‌السلام .

ولهذا لا يقال منبر (علوي) لأنّه ليس منبر يهتم - فَرَضَاً - ببلاغة الأئمّة، فيفضّل علياًعليه‌السلام على غيره، أو (منبر حسني). أو حتى (منبر محمديصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته. أو بقية الأئمّة والصحابة، ورموز الإسلام. ولكن -

____________________

= المحرّم، من كربلاء باتجاه الكوفة، ومنها إلى دمشق. حيث وصلوها في أوّل شهر صفر من السنة نفسها ثمّ عادوا إلى المدينة. ويقال: إنّهم مرّوا بكربلاء، في طريق العودة وذلك في العشرين من شهر صفر من السنة نفسها. (الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، حوادث سنة 61 هـ، ولاحظ منها 3 / 298، 300)، (الخوارزمي، الموفق بن أحمد: مقتل الحسين، 2 / 62).

٣٠

في نهاية الخطبة - لا بدّ من ربط الموضوع بمصيبة الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، كما أسلفنا.

وستتّضح الصورة إنْ شاء الله تعالى، في الفصل الرابع من هذا البحث، حينما نتعرّض إلى موضوع (هيكلية المنبر الحسيني)، بتفصيل يفي بالتوضيح، ولأنّ منبر الجمعة منبرٌ معروفٌ ومألوفٌ من قِبَل جميع المسلمين، بينما يكون المنبر الحسيني مقتصراً على أتباع المذهب الأمامي الاثني عشري بشكلٍ خاص وواضح تقريباً.

ولكي نوضّح واقع المنبر الحسيني، نعقد مقارنةً بينه وبين منبر الجمعة.

وسنحاول أنْ تكون أوجه المقارنة، من لحظات مختلفة؛ مساهمة في إجلاء الصورة، وذلك من خلال ما يلي:

(1) الموقع: فموقع منبر الجمعة - كما هو معروف - المساجد، وعلى يمين المتّجه نحو المحراب، ولا يخرج من المساجد(1) . أمّا المنبر الحسيني فقد يكون في المساجد، وقد يكون في (تكايا) خاصّة تقام لأجل خطابة المنبر الحسيني (الحسينيات)(2) ، أو في البيوت، أو الأسواق، أو الساحات العامّة.

ويمكن أنْ يكون المنبر مجرّد كرسي عادي، يطرح عليه قماش

____________________

(1) وممّا ذكره أبو هلال العسكري، في كتابه الأوائل صفحة 247 (أوّل مَن أخرج المنبر في يوم العيد مروان فبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام إليه رجل فقال: خالفت السنّة، فأخرجت المنبر ولم يكن يُخرَج وبدأت بالخطبة قبل الصلاة).

(2) الحسينيات: جمع مفردها (حسينيّة) وهي (تكية) تبنى لأجل إقامة عزاء الإمام الحسين وسيأتي تفصيلٌ عنها في الفصل الرابع تحت عنوان (أماكن إقامة المنبر الحسيني)، ص248.

٣١

أسوَد، ويطلق عليه حينئذٍ (منبر). وإنْ كان في الواقع كرسيّاً أو أي شيء يجلس عليه، ولاسيما إذا أُقيمت المجالس في القرى أو الأماكن التي تخلو من المنابر.

(2) هيئة الخطيب: فخطيب منبر الجمعة، يكون قائماً، وهو يخطب في المصلّين. أمّا خطيب المنبر الحسيني اليوم، فيكون جالساً على آخر مرقاة، أو أي مرقاة يختارها(1) .

والسنّة - كما عرفنا - في الخطيب، أنْ يكون قائماً و(أوّل من خطب جالساً معاوية)(2) ولا يُعلم متى صار خطيب المنبر الحسيني، يجلس في خطبته.

كما يمكن لخطيب منبر الجمعة، أنْ يحمل بيده ورقةً فيها خطبته، أو نقاطها المهمّة. فيما جرت العادة أنّه لا يمكن لخطيب المنبر الحسيني أنْ يحمل معه أي ورقة، بل يُعدّ ذلك قَدحاً في منزلته الخطابيّة، وملكة الحفظِ؛ التي تُعتبر رَكناً أساسيّاً في مواصفات الخطيب الحسيني - كما سيأتي في فصل لاحق -.

(3) الوقت: إذ من المعلوم أنّ منبر الجمعة إنّما يُعقد في يوم الجمعة، بعد أذان الظهر، وقبل صلاة الجمعة. أمّا المنبر الحسيني، فليس له وقت معيّن، فيمكن أنْ يعقد فجراً أو صباحاً أو ظهراً أو ليلاً، بل وفي أي ساعة من ساعات النهار أو الليل وحسب الظروف. نعم، إنّ المنابر المهمّة تعقد عادةً في المساء، ولاسيما ليلاً. بينما تعقد مجالس البيوت والأسواق صباحاً أو نهاراً، عادة. ويمكن لهذه المنابر أنْ تعقد في أي يوم من أيّام الأسبوع طوال أشهر السنة.

____________________

(1) هكذا هي العادة المتّبعة اليوم، وربما قام بعض خطباء المنبر الحسيني - أثناء خطبتهم - في بعض الأوقات في بعض مجالس بلدان الخليج.

(2) العسكري، الحسن بن عبد الله: الأوائل، ص240.

٣٢

(4) المادّة: قد مرّ بنا، ما قالته المذاهب الإسلاميّة، حول خطبة الجمعة، وشروط كل خطبة من الخطبتين، وسنّها وآدابها؛ مَن حمد الله والثناء عليه، والصلاة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو قراءة شيء من القرآن، والدعاء للمسلمين. ولخطيب الجمعة، أنْ يذكر ما يراه مناسباً من المواضيع التربويّة، أو الاجتماعية، بل حتّى السياسيّة والاقتصادية، وذلك حسب حاجة المجتمع، وظروفه.

أمّا بالنسبة لخطيب المنبر الحسيني، فإنّه مُلزمٌ بمقدّمة يُعرف بها المنبر الحسيني وتقرأ بطريقة معيّنة أولاً.

وثانياً، هو ملزمٌ أيضاً بأنْ ينهي خطابته، بذكر مصيبة من المصائب والفجائع، التي جرت على الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأهل بيته وأصحابه، كما أسلفنا وبالشعر الرثائي.

أمّا ما بين تلك المقدّمة، وهذه النهاية فإنّ لخطيب المنبر الحسيني، الحرية الكاملة، في اختيار نوع الموضوع، وأسلوبه، وفي مختلف شؤون الحياة. وبهذا يتميّز الخطيب المطّلع المُتابع عن غيره، من الخطباء الحسينيين. من حيث سعة الثقافة، وإحاطته بالعوم المختلفة، وسنوضح ذلك لاحقاً.

(5) خطيب الجمعة، يمارس خطابته في مسجد خاص عادة، لا ينتقل منه إلى غيره وإنْ حدث فبعد مدة وقد تكون طويلة عادة. فلكل مسجد خطيبه الخاص به.

أمّا خطب المنبر الحسيني، فشأنه التنقّل في محاضراته - حسب الدعوات الموجّهة إليه - فقد يقضي العشرة الأولى من محرّم، في مكان، والثانية منه في مكان آخر، وهكذا في شهر صفر. كما وقد يدعى لإلقاء محاضرات، في شهر رمضان، في نفس الأماكن السابقة أو أماكن أخرى، وربّما في دولة أخرى.

هذه النقاط الخمس، والتي قارنّا من خلالها، ما بين خطبة

٣٣

الجمعة من جهة، وخطبة المنبر الحسيني وخطيبيهما - ولو بشكل سريع - من جهة أخرى، أحسبها قد أسهمت في رسم ملامح ولو عامة، للمنبر الحسيني، ونقاط اللقاء أو الاختلاف بين المنبرين. والذي وصلنا إليه، أن المقصود بالمنبر الحسيني، نوع من أنواع الخطبة الدينية، فإذا قيل المنبر الحسيني، فإننا لا نقصد به المنبر الخارجي، المصنوع من الخشب أو غيره، وإنما نقصد؛ الخطبة الخاصة به، وإذا قيل عن رجل انه منبري، فإننا نعني به انه خطيب.

كما أنّ هناك عدّة ألفاظ مرادفة(1) لمؤدّى لفظة (المنبر الحسيني)، ستصادفنا أثناء الكتاب مثل لفظة (المأتم الحسيني) و(المجلس الحسيني) و(مجلس تعزية) و(مجلس عزاء). وذلك حسب اختلاف المصطلحات المستعملة في المناطق الشيعية المختلفة.

وستكون مباحث الفصول القادمة - إنْ شاء الله تعالى - كفيلةً بإعطاء صورة واضحة المعالم، عن موضوع بحثنا (المنبر الحسيني).

ومِن الله تعالى نستمد التسديد والتوجيه، وهو المستعان.

ملحق: أوّل خطبة جمعة

أوّل خطبة جمعة خطبها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(أخبرنا أبو أحمد، عن عبد الله بن العبّاس، عن الفضل بن عبد العزيز، عن إبراهيم الجوهري، عن الواقدي، قال: حدثنا أبو سعيد القرشي.

قال: أوّل خطبة خطبها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم أوّل جمعة، صلاّها في بني سالم فقال:

____________________

(1) الألفاظ المترادفة: ألفاظ مختلفة موضوعة لمعنى واحد. مثل أسد وسبع وليث.

٣٤

(الحمدُ لله أحمده وأستعينُه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفرهُ، وأعادي من يكفرهُ، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، أرسله بالهدى والنور والموعظَة، على فترةٍ من الرسُلِ وقلّةٍ من العمل، وضلالةٍ من الناس، وانقطاعٍ من الزمان، ودنوٍ من الساعة وقرب من الأجل، مَن يُطع الله ورسوله فقد رشَد، ومَن يعصي الله ورسوله فقد غوى وفرطَ وضلّ ضلالاً مبيناً).

(أوصيكم بتقوى الله، فإنّه خيرُ ما أوصى به المسلمُ المسلمين، أنْ يحضّهم على الآخرةِ، ويأمرهم بالتقوى. فاحذروا ما حذّركم الله من نقمته، فلا أفضل من ذلك نصيحةً، ولا أجلّ منه ذكرى، تكون لمن عمل به على وجلٍ ومخافةٍ من ربّه، عونَ صدقٍ على ما ينوي، بذلك من أمر آخرته، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره، في السّرِ والعلانية، لا ينوي بذلك إلاّ وجه الله، يكن ذلك دَرَكاً لعاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدّم، وما سوى ذلك( تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) (1) .

فسبحان الذي صدق قوله وأنجز وعده، بلا خلف، لقوله ذلك فإنّه يقول:( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) (2) فاتقوا الله في عاجل أمركم، وآجله، في السرّ والعلانية فإنّه( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ) (3) ومَن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإنّ تقوى الله تقوى نعمته، وتقوى سخطهِ. وإنّ تقوى الله تبيّض الوجه وتُرضي الربّ، وترفع الدرجة.

خذوا بحقّكم، لا تفرّطوا، وأحسنوا كما أحسن الله إليكم،

____________________

(1) 30 / سورة آل عمران.

(2) 29 / سورة ق.

(3) 5 / سورة الطلاق.

٣٥

وعادوا أعداءه( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) (1) وسمّاكم المسلمين( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )( 43 ) (2) .

ولا قوّة إلاّ بالله، أكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنّه من يُصلح ما بينه وبين الله، يكْفِهِ الله الذي بينه وبين الناس. ذلك بأنّ الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملكُ من الناس ولا يملكون منه)(3) .

____________________

(1) 78 / سورة الحج.

(2) 43 / سورة الأنفال.

(3) العسكري، الحسن بن عبد الله: الأوائل ص11، وقد أورد ابن هشام، في سيرته نصاً آخر يمكن مراجعته 2 / 110.

٣٦

الفصل الثاني:

نشوء المنبر الحسيني

٣٧

٣٨

تمهيد

لقد كان لقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن كان معه من أهل بيته وأنصاره، ثمّ لحمل رأسه بعد الواقعة، أثر كبير على مشاعر المسلمين وعواطفهم. انعكس في مظاهر الحزن والبكاء، (وكان مقتله (رض) يوم الجمعة عاشر المحرّم، وقد ظل هذا اليوم، يوم حزن وكآبة عند جميع المسلمين)(1) وبرزت بعض مظاهر الحزن هذه، أحياناً، في تجمّع هنا أو هناك يقام للنوح والبكاء على الإمام الحسين، إمّا تأثّراً بقصيدة رثاء، وإمّا تذكّراً لحادثة مؤلمة، تتفاعل معها النفوس بالحزن والحسرة.

ثمّ تطوّر الأمر، لتتحوّل مظاهر الحزن وتجمعّات البكاء، إلى ظاهرة دينية - اجتماعية عند المسلمين الشيعة، حتى صارت تقليداً سنوياً، قطبها ما يُعرف بالمنبر الحسيني، وخطيبُه المتخصّص في هذا الشأن. وسنحاول في هذا الفصل دراسة الآراء التي ذُكرت في مسألة نشوء هذه الظاهرة ومناقشتها، وقبل ذلك، سنتوقّف عند بعض مظاهر الحزن والتأثّر العاطفي، التي كانت لقتل الحسين، مِن بعض أعلام المسلمين من الصحابة والتابعين، ثمّ نتابع المظاهر العزائية العامة، التي بدأت في كربلاء، وترافقت مع مسيرة السبايا في الكوفة والشام، وإلى حين الرجوع إلى المدينة المنورة.

ولنطلق عليها: (المآتم العفويّة).

وسنحاول تسجيل ورصد بعض ما وصل إلينا من مظاهر العزاء، التي تلت حادثة كربلاء، والتي كانت عن قصدٍ واستجابة لدعوة بهذا الخصوص. أي إنّها لم تكن مجرّد مآتم عفوية، متأثّرة بأحداث

____________________

(1) الزركلي، خير الدين: الأعلام، 2 / 243.

٣٩

كربلاء، وإنّما أقيمت خصّيصاً كي تستمر الجذوة العاطفية المتأثرة بذلك. وهي ما نطلق عليه مصطلح (المآتم الهادفة). وهذه النقطة هي مدار دراستنا في هذا الفصل.

إنّ المآتم العفويّة، شكّلت أرضيةً لبروز المآتم الهادفة، أي إنّ المآتم الهادفة لم تنطلق من فراغ، بل سبقتها مآتم أُخرى، كانت قد برزت تعاطفاً مع أحداث كربلاء.

أمّا بالنسبة للنقطة الأولى، فإنّ التاريخ سجّل لنا، بعض من بكى على الحسينعليه‌السلام ، من الصحابة والتابعين نذكر منهم:

1 - أم سلمة (رض)(1) : حيث (ذكر ابن سعد عن أمّ سلمة: إنّها لمّا بلغها قتل الحسينعليه‌السلام ، قالت: أوَقَد فعلوها؟، ملأ الله قبورهم ناراً، ثمّ بكت حتى غشي عليها)(2) .

2 - أنس ابن مالك(3) : عن الصواعق المحرقة (لمّا حمل رأس

____________________

(1) أمّ سلمة: وهي هند بنت سهيل المعروف بأبي أميّة ابن المغيرة، القريشية المخزومية. ولدت سنة 28 قبل الهجرة، من زوجات النبيّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تزوّجها في السنة الرابعة للهجرة وكانت مِن أغنى النساء عقلاً وخلقاً. هاجرت مع زوجها الأول أبي سلمة بن عبد الأسد بن المغيرة إلى الحبشة، ثمّ رجعت إلى مكّة، ثمّ هاجرا إلى المدينة، ومات زوجها في المدينة متأثّراً بجرح. روت 378 حديثاً ماتت بالمدينة سنة 62 للهجرة. (الزركلي، خير الدين، الأعلام، 8 / 97).

(2)سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي: تذكرة الخواص، ص240. ابن حجر، أحمد الهيثمي: الصواعق المحرقة ص293 / ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 4 / 38.

(3) أنس ابن مالك بن النصر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري. أبو ثمامة أو أبو حمزة خادم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحد المكثرين من الرواية. ولد في المدينة سنة 10 قبل الهجرة وأسلم صغيراً وخدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أنْ قُبض. ثمّ رحل إلى دمشق ومنها إلى البصرة فمات فيها سنة 93 للهجرة وهو آخر من مات في البصرة من الصحابة.

(العسقلاني، أحمد بن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 71).

٤٠