المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 110774
تحميل: 6812

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110774 / تحميل: 6812
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لأمِّ عمرو باللوّى مربع

دارسةٌ إعلامه بلقعُ(1)

فسمعتُ النحيب من داره، فسألني لمَن هي؟ فأخبرته إنّها للسيّد. وسألني عنه فعرّفته وفاته. فقال: رحمه الله..)(2) .

وهنا نجد، أنّ شعر السيد الحميري، أنشده شخص آخر، وجرى ما جرى مع إنشاد السيد الحميري السابق من البكاء والنحيب، من دار الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام . وهي إشارة إلى بروز البعض، ممّن أخذ ينشد الشعر الرثائي في الإمام الحسينعليه‌السلام ، وربّما نشير إلى أسماء بعض أولئك المنشدين فيما يأتي إنّ شاء الله تعالى.

(5) كما ورد في ترجمة الشاعر الكميت بن زيد الأسدي(3) . وهو من شعراء العصر الأموي، أنه وفد على الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام (4) ، (فأذن له ليلاً فأنشده: فلمّا بلغ قوله:

____________________

(1) اللّوى: هو اسم مكان، والمربع: هو المكان الذي يُقام فيه زمن الربيع. الدارسة أي الأمكنة المختفية وما انمحى وذهب أثره، والبلقع هو المكان المقفر، الذي لا شيء فيه، والعرب من عادتها أنْ تبدأ قصائدها بالوقوف على الأطلال. وهنا يخبرنا الشاعر أنّ لأمّ عمرو - وهي امرأة يجعلها محلاًّ للخطابة - دار كانت ذات خصب باللوى، وهي الآن قد انمحت آثارها وصارت معالمها مقفرة موحشة. (ابن منظور، محمّد بن مكرم: لسان العرب 8 / 104، 6 / 79، 8 / 21).

(2) الأصفهاني، علي بن الحسين: الأغاني 1 / 241.

(3) الكميت بن زيد بن قيس الأسدي، شاعر الهاشميين وفارس من أهل الكوفة. من شعراء العصر الأموي ولد (سنة 60 هـ، 680م) كان عالماً بآداب العرب وأخبارها وأنسابها. يتشيّع، كثير المدح لبني هاشم. وله قصائده المعروفة بالهاشميات توفّي سنة 126 هـ 744م. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 5 / 233).

(4) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام . أمّه فاطمة بنت الحسن بن عليعليه‌السلام أبو جعفر. من أئمّة المسلمين وخامس أئمّة أهل البيت ولد في المدينة عام 57 للهجرة ومن أشهر ألقابه الباقر لأنّه بقَر وعاء العلم فنشره، أي شقّه. حضر عنده جمع من كبار التابعين والفقهاء. وفد على عبد الملك بن مروان في مسألة النقد الإسلامي. حضر واقعة كربلاء وكان طفلاً فأخذ أسيراً. مات في المدينة المنورة ودفن في البقيع سنة 114 هجرية. (الأربلي، علي بن عيسى: كشف الغمة في معرفة الأئمّة، 2 / 328).

٦١

وقتيلٍ بالطّفِ غودر منهمُ

بين غوغاء أمةٍ وطُغامِ(1)

بكى أبو جعفر، ثمّ قال: (يا كميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك، ولكن لك ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحسّان بن ثابت:

لا زلتَ مؤيّداً بروح القُدُس، ما ذببت(2) عن أهل البيت، فخرج من عنده)(3) .

وبعد سنين، وفي أيام الحجّ الكريمة، ينقل عن صاحبٍ للكميت، أنّه قال: (دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد، فقال له: جعلت فداك، ألا أُنشدك؟ قال: (إنّها أيامٌ عِظام)، قال: إنّها فيكم، قال: (هات) - وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقُرّب - فأنشده، فكثر البكاء. وحين أتى على هذا البيت:

يصيب به الرامون عن قوسِ غيرهم

فيا آخراً سدّى له البغيّ أول(4)

فرفع أبو عبد الله - - يديه فقال: (اللهمّ اغفر للكميت ما قدّم وأخّر، وما أسرّ وما أعلن، وأعطهِ حتى يرضى)(5) .

ففي هذا الخبر؛ نجد أنّ الكميت، هو الذي بادر الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، واستأذنه بالإنشاد. والإمام ذكّره، أنّ تلك الأيام كانت

____________________

(1) الطف: في اللغة: ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق. والطف، أرض من ضاحية الكوفة، في طريق البرية، كان فيها مقتل الحسين بن علي (رضي الله عنه). (الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان، 4 / 35). غوغاء: الجراد حين يخف للطيران ثمّ استعير للسفلة من الناس المتسرعين إلى الشر والطغام هم أوغاد الناس. (ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب 8 / 444).

(2) ذببت من ذبّ: أي دافع.

(3) المسعودي، علي بن الحسين: مروج الذهب 3 / 229. وراجع كذلك (الأصفهاني، علي بن الحسين: الأغاني 17 / 24).

(4) أي إنّ الذين صوّبوا السهام على الحسين لم يكونوا المبتدئين بالظلم بل مهّد لهم ذلك آخرون.

(5) الأصفهاني، علي بن الحسين (أبو الفرج): الأغاني - 17 / 24.

٦٢

أيام الحجّ العظيمة، والتي يُكرهُ فيها قول الشعر.

ولمّا أذن له الإمام بالإنشاد، لم يكتف بالاستماع إليها بمفرده، بل ودعا بعض أهله، ليكون هناك تجمّع ومأتم، يستمع فيه إلى قصيدة رثاء للإمام الحسين.

وقد كان الكميت، موضع إكرام أهل البيت، لقوله الشعر فيهم، ورثاء الحسينعليه‌السلام وأهله.

(6) وورد في ترجمة الشاعر دعبل بن علي الخزاعي(1) ، كما جاء في معجم الحموي (... وقصيدته التائيّة في أهل البيت، من أحسن الشعر، وأسنى المدائح، قصَدَ بها أبا علي بن موسى الرضا(2) بخراسان. فأعطاه عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه(3) ). ثمّ أورد الحموي ما صحّ عنده من هذه التائية ومنها الأبيات:

فأمّا الممضّات التي لستُ بالغاً

مبالغها مني بكُنْهِ صفاتِ

____________________

(1) دعبل بن علي بن رزين الخزاعي الكوفي، أبو علي، شاعر فحل عرفه المؤرّخون بأنّه هجّاء، ولد سنة 148 هجرية في الكوفة. أقام ببغداد وله أخبار وشعر جيد. صنّف كتاباً في طبقات الشعراء. هجا الخلفاء: الرشيد، المأمون، الأمين، المعتصم والواثق. كان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على مَن يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك!! مات ببلدة تسمّى الطيب قرب واسط سنة 246 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 2 / 339).

(2) والأصح هو علي بن موسى الرضاعليه‌السلام وليس أبا علي، وهو الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. الثامن من أئمة أهل البيت ولد عام 148 هـ أمه أمّ ولد اسمها تكتم. نشأ في المدينة ثمّ استدعاه المأمون العباسي إلى مرو وجعله ولياً لعهده، ولمّا أعلن ذلك قصده الكثير من الشعراء منهم دعبل بن علي الخزاعي. توفّي عام 203 هجري في طريق عودته مع المأمون إلى بغداد في طوس بخراسان دفنه المأمون بجوار قبر أبيه هارون الرشيد. (الأربلي، علي بن عيسى: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، 3 / 53) أقول: وقبره الآن مشهور ومعروف بمدينة مشهد الإيرانية.

(3) الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم الأدباء 11 / 99.

٦٣

نفوسٌ لدى النهرين مِن أرض كربلا

معرسُّهُم فيها بشطّ فرات(1)

كما ويورد المصدر نفسه قصيدة أخرى لدعبل، وهي عينية أولها:

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

يا للرجال على قناةٍ يرفع(2)

فيما يذكر مصدر آخر، كيفية دخول الشاعر، على الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (قال: دخلت على علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقال لي: أنشدني شيئاً، ممّا أحدثت، فأنشدته:

مدارس آيات خلَت من تلاوةٍ

ومنزلُ وحيٍّ مقفرُ العرصاتِ

حتى انتهيت إلى قولي:

إذا وتُروا مدّوا إلى واتريهم

أكفّاً عن الأوتار منقبضات

قال: فبكى حتى أغمي عليه، وأومأ إليّ خادمٌ كان على رأسه: أنْ اسكت! فسكتّ ساعة. ثمّ قال لي: أعد لي، فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً، فأصابه مثل ما الذي أصابه في المرة الأولى)(3) .

____________________

(1) الممضّ: الأمر المحزن والموجع، المعرّس: هو المكان الذي ينزل فيه. ومعنى البيتين: إنّ المصائب الموجعة التي لا يمكن أنْ يصل إلى أبعاد ألمها وحزنها، هي مصائب تلك النفوس التي قضت قتلاً في كربلاء حينما نزلوا إلى جنب الفرات حيث قضوا عطشاً. والنهران هما دجلة والفرات. وممّا يعرف به العراق أنّه، بلد ما بين النهرين.

(2) الحموي، ياقوت بن عبد الله، معجم الأدباء 11 / 210.

الوصي لقب من ألقاب الإمام علي. القناة: هي الرمح. والمعنى أنّ رأس الحسين الذي هو ابن بنت محمد والسيدة فاطمة الزهراء وابن الإمام علي يرفع على رمح، في استغراب واستهجان لما جرى.

(3) الأصفهاني، علي بن الحسين: الأغاني 20 / 148. وأمّا البيتان: فالأوّل واضح وهو يحكي عن منازل أهل البيت التي صارت خالية بما جرى على أهلها من قتلٍ وتشريد، فهي مدارس خلت من تلاوة آيات وهي كذلك منازل كان ينزل الوحي فيها على جدّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا بها موحشة خالية. والعَرْصة هي ساحة الدار أو المكان الذي ليس فيه بناء والأوّل أقرب مع مؤدّى البيت. القفر: الأرض التي لا ماء فيها ولا كلأ ولا ناس. وأمّا البيت الثاني: الوتر هو الظلم، ومعنى البيت: إنّ من صفات أهل البيت، أنّهم إذا ظُلموا لم يواجهوا الإساءة بمثلها، بل مدّوا إلى من ظلمهم أيادٍ خالية ومنقبضة عن الظلم والأحقاد.

٦٤

وقد بلغ من اشتهار هذه القصيدة، أنّ المأمون(1) حين عفا عن دعبل - بعدما هجاه - وأعطاه الأمان، (فلمّا دخل - أي دعبل - وسلّم عليه - أي على المأمون - تبسّم في وجهه، ثمّ قال: أنشدني.

مدارس آيات خلَت من تلاوة

ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ

فجزع! فقال له: لك الأمان فلا تخفْ. وقد رويتُها، ولكنّي أحبّ سَماعها من فيك. فأنشده إيّاها إلى آخرها، والمأمون يبكي حتى أخضلّت لحيته بدمعه!)(2) .

أقول: وسيأتي بيان آخر، لوفود هؤلاء الشعراء على أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما تنقلها المصادر الشيعية، التي سنوردها إجلاءً للصورة، وتوضيحاً للمطلب، إنّ شاء الله.

وقصيدة دعبل التائية هذه، من أشهر القصائد الرثائية في الإمام الحسينعليه‌السلام إلى الآن، ولا نكاد نجد خطيباً من خطباء المنبر الحسيني اليوم لا يحفظها.

(7) في بداية بروز الدولة العباسيّة، ذُكر: أنّ القائد العبّاسي قحطبة بن شبيب، الزاحف بالخراسانيّين إلى العراق، قد ولّى محمد بن خالد بن عبد الله القسري الكوفة. فلمّا وصل كتاب الولاية، ما كان من الأخير إلاّ أنْ يظهر بقوّته (فأتى المسجد الأعظم، في جمع كثير من اليمانيّة، وقد أظهروا السواد، وذلك يوم عاشوراء من المحرّم سنة

____________________

(1) المأمون: عبد الله بن هارون الرشيد، الخليفة العبّاسي السابع ولد عام 170 هـ ببغداد. من أمٍّ فارسية. عهد إليه أبوه بالقسم الشرقي من الدولة الإسلامية. دخلت جيوشه بغداد وقتلت الأمين أخاه سنة 198 هـ. اهتم بالعلم والأدب والترجمة وأشاد (بيت الحكمة) توفّي عام 218 بالقرب من طرسوس. (معلوف، لويس: المنجد 624).

(2) المصدر نفسه: 20 / 181. والجزع هو: عدم الصبر على المصيبة حتى يبدو الحزن والأسى، واخضل: أي أبلّ. وعلى صحّة هذا الخبر، فإنّه يدل على ميل المأمون وتعاطفه مع أئمّة أهل البيت.

٦٥

اثنتين وثلاثين ومِئة)(1) ، ولعلّ الظهور بالسواد في يوم عاشوراء، كان إشارة إلى أجواء الحزن في هذا اليوم، الذي قد ترافقه المناحات والبكاء.

(8) وممّا ورد في ترجمة ديك الجني(2) :

حيث ذكر: بأنّ (له مرّاثٍ كثيرة في الحسين بن علي -عليه‌السلام - منها قوله:

ياعين لا للقضا ولا الكتب

بكّا الرزايا سوى بكا الطرب

وهي مشهورة عند الخاصّ والعام. ويناح به ا، وله عدّة أشعار في هذا المعنى(3) ).

ولو توقّفنا عندما أورد صاحب الأغاني أعلاه لوجدنا:

أ - انتشار الشعر الرثائي في الإمام الحسين وعلى الأقل كثرة ما نظمه ديك الجن في هذا الشأن.

ب - إنّ بعضاً منها قصائد مشهورة.

ت - والأهم من كل هذا، أنّها قصائد يُناح بها على الحسينعليه‌السلام . وهو ما نبحث عنه، ممّا يعني بدوره، وجود تجمّعات خاصّة للنوح والبكاء.

ويذكر بعض المحقّقين(4) ، أنّ ديك الجن، لم يغادر مدينة حمص طول حياته، ممّا يرجّح أنّ تلك النياحة كانت قد انتشرت في

____________________

(1) الدينوري، أحمد بن داود: الأخبار الطوال ص367.

(2) ديك الجن: عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي، شاعر مجيد، فيه مجون، من شعراء العصر العبّاسي، لُقّب بديك الجن لأنّه عينيه كانتا خضراوين أصله من سلمية قرب حمص. ولد فيها عام 161 هـ لم يفارق بلاد الشام. ولم ينتفع بشعره، له ديوان شعر. مات بحمص سنة 625 هـ. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 4 / 1).

(3) الأصفهاني، علي بن الحسين: الأغاني 14 / 52. والرزايا جمع رزيّة، وهي المصيبة.

(4) كرد علي، محمد: خطط الشام - 6 / 250.

٦٦

بلاد الشام أيضاً.

وعلى هذا فلنا أنْ نتساءل، كيف كانت هذه المناحات في العراق؟ وخاصّة عند قبر الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء.

وكشاهد؛ نذكر بيتاً من قصيدة للسيد الشريف الرضي(1) ، يقول فيه:

كانت مآتمُ في العراق تعدّها

أمويّةً في الشام من أعيادها

وممّا يفهم من هذا البيت، أن المآتم كانت في العراق، أيام حكم الأمويين في الشام، الذين كانوا يعدّون عاشوراء من أعيادهم.

وقد أنشد الشريف الرضي قصيدته هذه، يوم عاشوراء من سنة 391 هـ(2) .

(9) المآتم في كربلاء.

لقد شهدت كربلاء أوّل المناحات على قتل الحسين وأهل بيته وأنصاره، حينما بكت النساء قتلاهن - كما ذكرنا بعضاً من ذلك في المآتم العفويّة -.

كما شهدت كربلاء أوّل من رثا الحسين، وهوسليمان بن قتّه العدوي (3) حيث مرّ بعد ثلاث ليالٍ فنظر إلى مصارعهم واتّكأ على

____________________

(1) الشريف الرضي: محمد بن الحسين بن موسى الرضي العلوي الحسيني الموسوي. أبو الحسن. هو أشعر الطالبيين ولد ببغداد سنة 359 هجرية. انتهت إليه نقابة الإشراف في حياة أبيه. له ديوان شعر في مجلدين. جمع خطب الإمام علي في نهج البلاغة توفّي ببغداد سنة 406 هجرية. ودفن بمقابر قريش وقبره معروف. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 6 / 99).

(2) الرضي، محمد بن الحسين: ديوان الشريف الرضي 1 / 278.

(3) سليمان بن حبيب بن محارب العدوي التميمي، مولى بني هاشم اشتهر بابن قتّه وكان منقطعاً إلى بني هاشم. توفّي بدمشق سنة 126 هجرية. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني، ص41).

٦٧

فرس له، وهو يقول:

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها يوم حلّت(1)

إلى آخر أبياته.

ولم تنقطع المناحات وأصوات الباكين عند قبر الحسينعليه‌السلام . وقد مررنا بما صنعه التوابّون، قبل خروجهم إلى واقعة عين الوردة(2) . وسنورد ما ذكرته المصادر الشيعيّة، عن وجود تجمّعات عند قبر الحسين، من الكوفة وأطرافها، وهم يبكون وينوحون على الحسين. أيّام الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام المتوفّى سنة 148 هجرية.

ويظهر أنّ قبر الإمام الحسين، برز كمكان له مَن يقوم بخدمته ورعايته منذ وقتٍ مبكّر. فمّما حدّث به الطبري في أحداث سنة 193 هجرية، أنّه قد (بعث الرشيد(3) إلى ابن أبي داود، والذين يخدمون قبر الحسين بن علي في الحائر(4) ، فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد وقال: مالك؟ قال: بعث إليّ هذا الرجل - أي الرشيد -

____________________

(1) الأصفهاني، علي بن الحسين: مقاتل الطالبين، صفحة 81. ابن عساكر، علي بن الحسن: تاريخ دمشق الكبير، 14 / 245.

(2) عين الوردة: راجع ص49.

(3) الرشيد: هارون بن محمّد المنصور العبّاسي، أبو جعفر، خامس الخلفاء العبّاسيين في العراق وأشهرهم. ولد بالرّي سنة 149 هجرية نشأ في بغداد، غزا الروم. بويع له بالخلافة سنة 170 هجرية، تبادل الهدايا مع شارلمان ملك فرنسا، يلقّب بجبّار بني العبّاس. حكم 23 سنة توفّي بطوس من قرى خراسان سنة 193 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 8 / 62). ويظهر من الخبر، أنّ (ابن أبي داوود) هو الموكّل بقبر الحسين آنذاك.

(4) الحائر، الحاير: هو في الأصل، حوض يصبّ إليه سيل الماء من الأمطار. سمي بذلك؛ لأنّ الماء يتحيّر فيه، يرجع من أقصاه إلى أدناه.

والحائر: قبر الحسين بن علي رضي الله عنه. (الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان 2 / 208) أقول: وهناك عوائل في العراق وإيران تنسب إلى كربلاء، فيقال للفرد منهم أنّه حائري، أي كربلائي.

٦٨

فأحضَرَني ولستُ آمنه على نفسي!.. قال له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بن راشد وضعَني في هذا الموضع. فلمّا دخل إليه، قال هذا القول. قال: ما أخلق أنْ يكون هذا من تخليط الحسن، أحضروه. فلمّا حضر، قال: ما حمَلك على أنْ صيّرت هذا الرجل في الحَير (الحائر)؟ قال: رحم الله من صيّره في الحير، أمَرتني أمّ موسى أنْ أصيّره فيه. وأنْ أجري عليه في كلّ شهر ثلاثين درهماً. فقال: ردّوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى(1) ). والظاهر، أنّ أمّ موسى هنا هي أمّ الرشيد، وموسى هذا أخوه الأكبر الملقّب بالهادي العباسي(2) .

ومن هنا يظهر أنّ قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، كان يُقصد للزيارة قبل أنْ يلي الرشيد الخلافة، التي بدأت عام 170 للهجرة(3) ، أو على الأقل في خلافته. كما يظهر أنّ الرشيد امتعض ممّا رآه عند قبر الحسين، وهذا ما برّر خوف متولّي القبر من استدعاء الرشيد له.

ولا شكّ أنّ الحضور عند قبر الحسينعليه‌السلام ، يستدعي دائماً تذكّر مقتله وأحزانه، ثمّ التأثّر والحزن والبكاء لذلك.

وقد أخذ قبر الحسينعليه‌السلام ، يتحوّل شيئاً فشيئاً، إلى موضع يقصده بعض الشيعة للسكن والاستقرار فيه، حتى غدا قرية أو ما قاربها، يبرز فيها تجمّع شيعيّ كبير، في مواسم الزيارة وإقامة العزاء، ممّا حدا بالخليفة العبّاسي المتوكّل(4) أنْ يصدر قراره بهدم القبر. فقد

____________________

(1) الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك - 6 / 537.

(2) موسى بن محمّد بن أبي جعفر العباسي الهاشمي، رابع الخلفاء العبّاسيين ولد بالرّي سنة 144 هـ ودفن في بستان بعيسى آباد ولى الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 169 هـ. أراد خلع أخيه هارون الرشيد من ولاية العهد، فأمرت أُمّهُ جواريها أنْ يقتلنه فخنقنه سنة 170 هـ. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 7 / 327).

(3) الدميري، زكريا بن أحمد: حياة الحيوان الكبرى 1 / 107.

(4) المتوكل: جعفر بن محمد بن هارون الرشيد، أبو الفضل، ولد سنة 206 ببغداد، بويع له =

٦٩

جاء في أحداث سنة مِئتين وثلاثين، أنّه قد (أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأنْ يُرث ويُبذر ويُسقى، في موضع قبره. وأنْ يُمنع الناس من إتيانه. فذُكر؛ أنّ عامل صاحب الشرَطة نادى في الناحية: مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المُطبق، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حوله)(1) .

والمُطْبِق: سجن تحت الأرض، سيء الصيت آنذاك.

وأمّا ابن الأثير، فإنّه يزيد على ما ذكره الطبري، بما عُرف عن المتوكّل من بغضه لعلي وأبنائه(2) . وزادت بعض المصادر في أوامر المتوكل حول قبر الحسين، بأنّه أمر جنده أنْ (لا يجدون أحداً إلاّ أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة)(3) .

ويذهب بعض الباحثين، إلى أنّ مِن أسباب هدم قبر الحسينعليه‌السلام ، منع المتوكّل (للشعائر التقليدية في ذكرى الحسين)(4) .

وتغيّر الوضع بعد ذلك في حكم ولده المنتصر بالله العباسي(5) حيث (كان المنتصر عظيم الحلم، راجح العقل، غزير المعارف، راغباً

____________________

= بالخلافة سنة 232 بعد وفاة أخيه الواثق. نقل الخلافة من بغداد إلى دمشق لشهرين ثمّ عاد إلى سامراء. عرف ببغضه للعلويين، هدم قبر الحسين سنة 236 هجرية فهجاه بعض الشعراء. مات مقتولاً بسامراء 247 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 2 / 127).

(1) الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأُمم والملوك 7 / 365.

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 5 / 287.

(3) الأصفهاني، علي بن الحسين: مقاتل الطالبين ص395.

(4) الأمين، حسن: من نوافح خراسان، ص142. نقلاً عن الخلافة العبّاسية - للدكتور فاروق عمر، ص42.

(5) المنتصر العباسي: محمد بن جعفر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، أبو جعفر. خليفة عباسي ولد بسامراء سنة 223 هجرية. بويع بالخلافة بعد قتل أبيه سنة 247 =

٧٠

في الخير، جواداً كثير الإنصاف، حسن العشرة.

وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسينعليه‌السلام ، وآمن العلويين، وكانوا خائفين أيّام أبيه)(1) .

ومن مظاهر البكاء عند قبر الحسينعليه‌السلام ؛ ما سجّله بعض المؤرّخين عرضاً، وهم يؤرّخون لبدايات نشؤ الدولة الفاطميّة في بلاد المغرب، ثمّ مصر بعد ذلك.

فقد جاء في حوادث سنة ست وتسعين ومِئتين، مجيء اثنين من المؤسّسين لفكرة الدولة الفاطمية، إلى كربلاء، ولقائمها عند قبر الحسين، رجلاً يمانيّاً. (وكان باليمن رجل اسمه محمد بن الفضل، كثير المال والعشيرة من أهل الجند، متشيّع. فجاء إلى مشهد الحسين بن علي يزوره، فرآه أحمد ورستم يبكي كثيراً. فلمّا خرج اجتمع به أحمد وطمع فيه لما رأى من بكائه)(2) .

ولسنا معنيّين هنا بمسألة بدايات الفاطميّين، والذين سنفرد لهم مبحثاً خاصّاً في هذا الفصل، إنْ شاء الله. إلاّ أنّ ما يعنينا مسألة شيوع ظاهرة البكاء عند قبر الحسين، وما يرافق ذلك؛ من قول شعر الرثاء هي الظاهرة التي لا تزال موجودة إلى الآن عند قبره في كربلاء.

كما ويذكر القاضي التنوخي(3) ، أنّ أبا الحسن الكاتب، بعث أبا القاسم علي بن محمد التنوخي، إلى نائح كان في الحائر (كربلاء) يسمّى أصدق، ينوح علي الحسينعليه‌السلام ، كي ينوح بقصيّدة لبعض

____________________

= هجرية. لم تطل مدّته. مات مسموماً بسامراء سن 248 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 6 / 70).

(1) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ - 5 / 311.

(2) المصدر نفسه 6 / 126.

(3) القاضي التنوخي: علي بن المحسن بن علي التنوخي. ولد سنة 365 هجرية بالبصرة. قاض من علماء المعتزلة. تقلّد في نواح عدّة. هو حفيد القاضي التنوخي الكبير. توفّي سنة 447 هجرية ببغداد (القميّ، عباس: الكنى والألقاب، 2 / 124).

٧١

الشعراء الكوفيين، وأوّلها:

أيّها العينان فيضا

واستهلاّ لا تغيضا

لم أمرّضْهُ فأسلو

لا ولا كان مريضا(1)

وأبو القاسم التنّوخي ولد سنة 278 هجرية وتوفي سنة 342 هجرية(2) .

ويظهر من هذا الخبر، أنّ هذه المسألة كانت أيّام سيطرة الحنابلة على بغداد، حينما قرر أبو القاسم الخروج من بغداد، متوجّهاً إلى كربلاء، كي يلقي ذلك النائح، ويطلب منه أنْ ينوح بتلك القصيدة، فيقول (وكان هذا في شعبان، والناس إذ ذاك يلقون جهداً جهيداً من الحنابلة، إذا أرادوا الخروج إلى الحائر، فلم أزل أتلطّف، حتى خرجت، فكنت في الحائر ليلة النصّف من شعبان. فسألت عن ابن أصدق حتى رأيته)(3) وسيأتي بعد قليل في موضوع مآتم بغداد، ترجمة رئيس الحنابلة الذي مات عام 329 هجرية، ممّا يعني أنّ الخبر كان قبل سن 329 هجرية.

(10) النياحة في مصر قبل الفاطميّين (322 - 358) هـ

وحينما يؤرّخ المقريزي في خُططه، لاهتمام الفاطميّين بأيام عاشوراء وإقامة المآتم على الإمام الحسينعليه‌السلام ، يقول: (انصرف خلق

____________________

(1) التنوخي، علي بن المحسن: نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة 2 / 230. (استهلّ من هلّ، إذا اشتد المطر. تغيض، من غضّ، وهو المنع، ومنه غضّ البصر إذا صرفه عمّا لا يحل رؤيته).

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 6 / 345.

(3)التنوخي، علي بن المحسن: نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة - 2 / 232. أقول: ولا تزال ليلة النصف من شعبان من أكبر مواسم زيارة الحسين في كربلاء إلى أيّامنا هذه، ويبدو أنّها بدأت في أيام الإمام الصادق ت: 148، كما سيأتي بيان ذلك.

٧٢

من الشيعة وأشياعُهم إلى المشهدين، قبل كلثوم(1) ونفيسة(2) ، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم، بالنياحة والبكاء على الحسينعليه‌السلام ... وقد كانت مصر لا تخلو منهم، في أيّام الأخشيدية(3) والكافوريّة(4) في أيّام عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة)(5) . ويفصّل المقريزي ذلك حينما يذكر عاشوراء سنة 350 هجرية، (وما زال أمر الشيعة يقوى في مصر، إلى أنْ دخلت سنة 350 هجرية. ففي يوم عاشوراء، وقعت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلويّة، بسبب ذكر السلف والنوح. وقُتِل فيها جماعة من الطرفين)(6) .

____________________

(1) كلثوم أو أم كلثوم وهي: زينب بنت يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، شريفة علويّة، وكانت عابدة صالحة، يتبرك بها الناس، توفيت بمصر عام (240 هـ 854م) ودفنت في المشهد المجاور لقبر عمرو بن العاص. كان الظافر الفاطمي يأتي إلى زيارتها ماشياً (الزركلي، خير الدين، الأعلام، 3 / 67).

(2) نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. دخَلت مصر مع زوجها إسحق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وكانت تقية صالحة. سمع عليها الإمام الشافعي الحديث. ولمّا توفّي أُدخلت إلهيا جنازته فصلت عليها. توفّيت سنة 208 هجرية، صاحبة المشهد المعروف بمصر. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 8 / 42).

(3) الإخشيديون: أسرة حكمت مصر وفصلتها عن الخلافة العباسيّة ببغداد. وأشيد عنوان رسمي وهم قوم من ابن طغج الفراغنة. أول حكّامهم محمد حسين الأخشيد وكان أبوه خادماً عند الخليفة العباسي الراضي بالله فغضب عليه الخليفة وسجنه، حتى مات في السجن فعيّن ولده محمد على الشام فضمّ إليه مصر وأعلن تمرّده على بغداد سنة 323، انتهى حكمهم على يد الفاطميين سنة 356 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 6 / 174).

(4) الكافوريّة نسبة إلى كافور بن عبد الله الإخشيدي ولد سنة 292 هجرية وهو أمير مشهور، مدحه المتنبّي. ملك مصر عام 355 هجرية وكانت مدة إمارته 22 عاماً وتوفي في القاهرة سنة 357 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام 5 / 216).

(5) المقريزي، أحمد بن علي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - 2 / 212.

(6) المصدر نفسه 3 / 270 - 271.

٧٣

ففي هذا النصّ، دليل على أن مظاهر الحزن على الإمام الحسين، التي عبّر عنها بـ (النوح)،كانت موجودة في مصر قبل سنة 350 هـ. ثم قوي الأمر في هذه السنة. وهذا التاريخ هو قبل إعلان البويهيين المشهور عام 352 هـ في بغداد. وكما هو معروف، فإنّ الإخشيديين، قد ملكوا مصر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمِئة، حين استقلّ محمد الإخشيد عن الخلافة العباسيّة(1) .

(11) مآتم للحسينعليه‌السلام في بغداد قبل عام 352 هجرية

أ - أودت بعض المصادر، أنّ النياحة على الحسين، كانت معروفة ببغداد قبل مجيء البويهيين إليها. وربّما أقيمت بعض تلك النياحات في الأسواق أو المساجد. وسنحاول ذكر بعض الأمثلة.

يذكر القاضي التنوخي (قال أبي، وابن عيّاش: كانت ببغداد، نائحة مجيدة حاذقة، تعرف بخِلْب (والخلب هو حجاب القلب) تنوح بقصيدة منه ا:

أيّها العينان فيضا

واستهلاّ لا تغيضا

فسمعناها في دور بعض الرؤساء، لأنّ الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكّنون من النياحة إلاّ بعزّ السلطان، أو سرّاً لأجل الحنابلة.

ولم يكن النوح إلاّ مراثي الحسين وأهل بيته فقط، قالا: فبلغنا أنّ البربهاري(2) قال: بلغني أنّ نائحة يُقال لها خِلب، تنوح،

____________________

(1) حسن، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام، 3 / 144.

(2) يقول ابن الأثير في من توفي سنة 329 من الأعيان: وتوفي أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، رئيس الحنابلة، توفي مستتراً ودفن في تربة قصر القشوري وكان عمه ستاً وسبعين عاماً. (الكامل في التاريخ - 6 / 282).

أما ابن كثير فيقول في ترجمة البربهاري: أبو محمد البربهاري العالم الزاهد الحنبلي الواعظ صاحب المروزي وسهلاً التستري، وتنزّه عن تراث أبيه - وكان سبعين ألفً - لأمر كرهه، وكان شديداً على أهل البدع والمعاصي وكان كبير القدر، تعظّمه الخاصة والعامّة. =

٧٤

اطلبوها فاقتلوها)(1) .

ويبدو أنّ خِلب قد قُتلت في تلك السنة، التي كانت فيها قوّة الحنابلة في بغداد، وهي سنة 323 هجرية. حيث كانوا يستخدمون القوّة، (ويكبسون بيوت القادة والعامّة. حتى إذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان الذين استعانوا بهم وهم ممن يأوون المساجد، فيضربونه بعصيّهم حتى يكاد يموت)، حتى اضطر الخليفة الراضي(2) ، إلى إصدار بيان بشأنهم تراجع أحداث سنة 323 هجرية(3) .

وليس المهمّ لدينا أنّ خِلب قُتلت أم لم تقتل، لكن المهمّ هنا أنّ المآتم كانت معروفة قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، من أمر معزّ الدولة البويهي في عاشوراء عام 352 هجرية. كما أنّ خِلب - كما يبدو من الرواية - كانت مشهورة. وشهرتها هي التي أدّتْ بها إلى أنْ تنوح في بعض دور الرؤساء، ثمّ إلى قتلها بعد ذلك. ولابدّ أنّ تكون الشهرة قد سبقت أحداث سنة 323 تلك. والبربهاري مات عام 329 مختفياً من السلطان، وعلى هذا؛ فحتى لو فرضا أنّ البربهاري أمَر بقتل خلب في سنة وفاته، فإنّ هذا يعني؛ أنّ المآتم الحسينية كانت معروفة في

____________________

= وقد عطس يوماً - وهو يعظ - فشمته الحاضرون ثمّ شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد! فانتهت الضجّة إلى دار الخلافة، فغار الخليفة من ذلك!! وتكلّم فيه جماعة من أرباب الدولة فطلب فاختفى عند أخت بوران شهراً. ثمّ أخذه القيام - داء - فمات عندها. فأمرت خادمها فصلّى عليه فامتلأت الدار رجالاً عليهم ثياب بيض ثمّ دفن عندها ثمّ أوصت إذا ماتت أنْ تدفن عنده، وكان عمره يوم مات ستّاً وتسعين سنة. (البداية والنهاية 11 / 169).

(1) التنوخي، علي بن المحسن: نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة 2 / 233.

(2) محمد بن جعفر المقتدر، الخليفة العباسي العشرون، ولد ببغداد 297 هـ، وتولّى الخلافة سنة 322 هـ. ضعفت سيطرته على مقاليد الأمور، وبرز وزيره ابن رائق الشخصية الأبرز في أيامه. توفّي 329 هـ. (معلوف، لويس: المنجد الأعلام ص302).

(3) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ 6 / 248.

٧٥

بغداد قبل ثلاث وعشرين سنة من أمر البويهيين أيّام عاشوراء.

ثمّ إنّ النصّ السابق، يوضّح؛ أنّ نساءً في بغداد كُنّ ينُحَن على الحسينعليه‌السلام ، ولم يقتصر الأمر على الرجال. مثل ابن أصدق الذي ذكر سابقاً، والذي كان في كربلاء أيّام تعاظم قوة الحنابلة في بغداد أي عام 323 هجرية.

يقول التنوخي: (حدّثني أبي قال: خرج إلينا يوماً أبو الحسن الكاتب فقال: أتعرفون في بغداد رجلاً يقال له ابن أصدق؟ قال: فلم يعرفه من أهل المجلس غيري، فقلت: نعم، فكيف سألت عنه؟ فقال: أي شيء يعمل؟ قلت: ينوح على الحسين)(1) . إنّ وجود رجال ونساء متخصّصين بالنياحة على الحسينعليه‌السلام ، يعني فيما يعنيه، وفرة الطلب على مجالس النياحة، التي تحتاج إلى زمن يعتّد به كي تُعرف بين الناس وتشتهر.

ومن جهة أخرى، يروي الحموي في معجمه (.... حدّثني الخالع، قال: اجتزت بالناشئ(2) يوماً هو جالس في السرّاجين(3) ، فقال لي: قد عملت قصيدة وقد طُلِبَتْ وأريد أنْ تكتبها بخطّك حتى أخرجها. فقلت: أمضي في حاجة وأعود، وقصدت المكان الذي أردُته، وجلست فيه، فحملتني عيني، فرأيت في منامي، أبا القاسم عبد العزيز الشطرنجي النائح، فقال لي: أحبّ أن تقوم، فتكتب قصيدة

____________________

(1) التنوخي علي بن المحسن: نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة 2 / 230.

(2) الناشئ: علي بن عبد الله بن وصيف الحلاّء، أبو الحسن المعروف بالناشئ الصغير أو الأصغر. شاعر مجيد من أهل بغداد، ولد فيها سنة 271 هجرية. كان إمامياً له قصائد كثيرة في أهل البيت. أخذ علم الكلام عن ابن نوبخت وغيره. صنّف كتباً وقصد سيف الدولة بحلب. أملى ديوان شعر في مسجد الكوفة وحضر مجلسه بها المتنبّي وهو صغير. توفّي ببغداد سنة 366 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 4 / 304).

(3) سوق من أسواق بغداد. أقول: ولا يزال اليوم في بغداد القديمة، سوق يُعرف بسوق السّراجين في الجانب الشرقي منها.

٧٦

الناشيء البائية؛ فإنا نُحنا بها البارحة في المشهد(1) . وكان هذا الرجل قد توفّي وهو عائد من الزيارة. فقمت ورجعت إليه، وقلت: هات البائية حتى أكتبها، فقال: من أين علمت أنّها بائية، وما ذكرتُ بها أحداً. فحدثته بالمنام، فبكى، وقال: لا شك أنّ الوقت قد دنا، فكتبتها فكان أولها:

رجائي بعد والممات قريب

رويُخطئ ظنّي والمنون تصيب)(2)

وقد برز إلينا في هذا النصّ، اسمٌ لنائحٍ آخر، وهو عبد العزيز الشطرنجي، وكان معروفاً ببغداد في تلك السنين. كما يدل الخبر على شيوع ظاهرة النياحة عند قبر الحسين واشتهارها.

(ب) يذكر الحموي في معجمه، وهو يترجم للخالع(3) الشاعر (حدّثني الخالع، قال: كنت مع والدي في سنة ست وأربعين وثلاثمِئة، وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد بين الورّاقين والصاغة (سوقان من أسواق بغداد) وهو غاصّ بالناس. وإذا برجل قد وافى، وعليه مرقعة، وفي يده سطحية وركوة ومعه عكاز، وهو شعث(4)

____________________

(1) المشهد مصطلح يطلق على كل موضع فيه قبر لأحد أئمّة أهل البيت، فقد يعني به مشهد الإمام علي أو مشهد الحسين أو مشهد الإمامين موسى بن جعفر الكاظم ومحمد الجواد ببغداد، وقد يعني به مشهد الإمام الرضاعليه‌السلام في خراسان. وفي أيامنا هذه إذا قيل مشهد فإنّه ينصرف إلى قبر الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد سميت به حالياً مدينة طوس القديمة. أمّا في هذا النص فإنّ المقصود من لفظة (مشهد) هو قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث كان يناح بالقصائد الرثائية هناك. (المصنّف).

(2) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء - 13 / 280. المنون، جمع منيّة وهي الموت، و(عائد من الزيارة) أي من زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام بكربلاء.

(3) الخالع: هو الحسين بن محمد بن جعفر الرافقي نسبة إلى الرافقة وهي بُلَيدة كانت ملاصقة للرقّة على الفرات. أديب له شعر حسن. يقال أنّه من ذرية معاوية بن أبي سفيان. ولد سنة 333 هجرية. سكن بغداد وتوفي سنة 422 هجرية. (الزركلي، خير الدين: الأعلام، 2 / 254).

(4) مرقعة: ثوب فيه رقعة. سطحية: (السطحية) وهي المزادة، إناء يوضع فيه الزاد. ركوة إناء صغير من الجلد يشرب فيه الماء. عكاز: عصا ذات زجّ في أسفلها يتوكّأ عليها. =

٧٧

(وهي من صفات المتصوّفة آنذاك). فسلّم على الجماعة بصوت يرفعه، وقال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها!! فقالوا: مرحباً بك وأهلاً. ورفعوه. فقال: أتعرّفون لي أحمد المزوّق النائح؟ قال: ها هو جالس. فقال: رأيت مولاتنا في النوم فقالت: امضِ إلى بغداد واطلبه، وقل له: نُحْ على ابني بشعر الناشيء(1) الذي يقول فيه:

بَني أحمد قلبي لكم يتقطّع

بمثل مصابي منكم ليس يُسمع..

وكان الناشئ حاضراً، فلطم لطماً عظيماً على وجهه، وتبعه المزوّق(2) . والناس كلّهم. وكان أشدّ الناس في ذلك الناشئ ثمّ المزوّق ثمّ ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم. إلى أنْ صلّى الناس الظهر وتقوّض المجلس. وجهدوا بالرجل أنْ يقبل منهم شيئاً، فقال: والله لو أعطيت الدنيا ما أخذتها، فإنّني لا أرى أنْ أكون رسول مولاتيعليهم‌السلام ، ثمّ آخذُ على ذلك عوضاً. وانصرف ولم يقبل شيئاً، قال: ومن هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً:

عجِبت لكم تفنون قتلاً بسيفكم

ويسطوا عليكم مَن لكم كان يخضَع

كأن رسول الله أوصى بقتلكم

وأجسامكم في كل أرضٍ تُوزَعُ)(3)

ومن هذه القصيدة كذلك:

____________________

= شعث: ذو الشعر المتلبّد المغبّر.

(1) الناشئ: سبقت ترجمته.

(2) المزوّق: وهو أحمد النائح، من النائحين المعروفين ببغداد في النصف الأول من القرن الرابع. ولد ببغداد أواخر القرن الثالث وتوفّي بحدود سنة 350 هجرية. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني، ص47). أقول: وهذا اسم نائح آخر بعد ابن أصدق والشطنجي وخِلب وكلّهم من بغداد.

(3) ياقوت الحموي - معجم الأدباء - 13 / 292.

٧٨

(فما بقعةٌ في الأرض شرقاً ومغرباً

وليس لكم فيها قتيلٌ ومصرعُ

ظُلمتم وقتُلتم وقسّم فيئُكم=وضاقت بكم أرض فلم يُحْمَ موضع)(1)

والذي يهمّنا من ما ذُكر أعلاه؛ هو المأتم الذي أٌيم على الحسينعليه‌السلام في بغداد، وذلك سنة 346 هجرية. أي قبل أمر معزّ الدولة بست سنين.

وبهذا الخبر نصل إلى نهاية ما سجّلنا من الأدلّة التي عثرنا عليها، وفيها بيان - بنسب متفاوتة - على أنّ ظاهرة النياحة وإقامة المآتم على الإمام الحسين، كانت معروفة قبل عام 352 هـ.

ولقد توسّعت - بعض الشيء - في إيراد هذه الشواهد التاريخية والأدبية، إجلاءً للصورة، وتقوية للبحث، وتنويعاً للمصادر.

الرأي الثالث: الإمام زين العابدين علي بن الحسين

يذكر أحدُ الكتّاب المصريّين المعاصرين، في كتاب له، وصول ركب السبايا إلى الشام، وخطبة الإمام زين العابدين في المسجد الأموي بدمشق، لمّا وصلها مع عمّاته وأخواته في الأوّل من شهر صفر عم 61 هـ.

فيقول: (جعل علي بن الحسين، يخطب، ويفتخر بأهل بيته، ويسمّيهم بأسمائهم فرداً، فرداً، ويذكر فضائلهم، وأياديهم على الملّة والناس، وما زال يقول ويطنب حتى بكى الناس وانتحبوا، وتحرّكوا أو كادوا)(2) .

____________________

(1) الأميني، عبد الحسين أحمد، الغدير، 4 / 31. الفيء: من الفعل فاء أي رجع، والمعنى هنا: الغنيمة أو مطلق المال.

(2) سيد الأهل، عبد العزيز: الإمام زين العابدين، ص29.

٧٩

ثمّ يعلّق على كلامه هذا، صاحب كتاب تاريخ النياحة، بما يلي: (... فكان أيضاً أوّل انتحاب)(1) .

ولقد سبق لنا، لمّا مررنا على ذكر المآتم العفوي، في بداية هذا الفصل، سبق وإنْ اعتبرنا أنّ بكاء أهل الشام، على إثر خطبة الإمام زين العابدين، هو من مصاديق المآتم العفوية.

إلاّ إذا اعتبرنا أنّ الكاتب، كان يرى في الخطبة وفقراتها ومفرداتها، تهييجاً للنفوس، وإذكاءً للعواطف، وإبرازاً للمواقف المحزنة، ممّا أدّى إلى البكاء بل والانتحاب.

ولمزيد من الاطلاع على هذا الخطبة، فإنّنا سنورد نصّها في ملحق هذا الفصل، إكمالاً للفائدة، وتقويماً لهذا الرأي.

ويمكن لهذا الرأي - الثالث - أنْ يضاف إلى ما سنذكره في الرأي الرابع التالي، الذي يعتمده الشيعة في هذه المسألة، فيكون ضمن ذلك الرأي.

الرأي الرابع: أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

وهذا الرأي يتبناه الشيعة، في مسألة نشوء المنبر الحسيني وبداياته، التي كانت عبارة عن دعوات للاجتماع، من أجل الاستماع، إلى ما قيل من شعر في رثاء الحسين، والحثّ على البكاء، وثواب ذلك، كما وقد ورد الحث على قول الشعر.

____________________

(1) الشهرستاني، صالح إبراهيم: تاريخ النياحة، 1 / 73. ويمكن مراجعة نص هذه الخطبة في مقتل الخوارزمي 2 / 76 واعتماداً على ما ذكره الخوارزمي، فقد أحدثت خطبة الإمام علي بن الحسين المعروف بزين العابدين، تأثيراً كبيراً على مستمعيها، ممّا أحدث تجاوباً عاطفياً مع أهل بيت الحسين. ويعزو بعض من كتب في مقتل الحسين، أنّ إرجاع النساء المسبيّات إلى المدينة بالرفق وإخراجهن من الشام، إلى خطبة الإمام هذه، وما تركه مِن أثر في النفوس.

٨٠