المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل0%

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 397

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 110799
تحميل: 6814

توضيحات:

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110799 / تحميل: 6814
الحجم الحجم الحجم
المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حيث أورد علماء الشيعة العديد من الروايات والأخبار، والممارسات عن أئمتهم، والتي تدعو شيعتهم إلى إقامة مجالس العزاء، وثواب البكاء على الحسين فيها.

يقول السيد محسن الأمين(1) : (إمّا إنّهم - أي أئمّة أهل البيت -... بكوا على الحسين، وعدّوا مصيبته أعظم المصائب، وأمروا شيعتهم ومواليهم وأشياعهم بذلك، وحثّوا علي، واستنشدوا الشعر في رثائه وبكوا عند سماعه، وجعلوا يوم قتله يوم حزنٍ وبكاء، وذمّوا من اتخذه عيداً، وأمروا بترك السعي فيه في الحوائج، وعدم ادّخار شيء فيه. فالأخبار فيه مستفيضة عنهم، تكاد تبلغ حدّ التواتر، رواها عنهم ثقات شيعتهم ومحبّيهم بأسانيدها المتصلة إليهم)(2) .

إذن، فالشيعة يعتقدون أنّ الأخبار في هذه المسألة، قد بلغت حدّ التواتر، وأنّ رواتها ثقات يُعتمد عليهم.

وسنتوقف عند بعض ما أورده علماؤهم من أقوال الأئمّة من أهل البيت، في هذا الباب ضمن نقطتين:

الأولى: حثّ الأئمّة على البكاء على الإمام الحسينعليه‌السلام

روى الشيخ ابن قولويه(3) في الكامل:

____________________

(1) السيد محسن الأمين: محسن بن عبد الكريم العاملي ولد في شقراء بجبل عامل عام 1248 هجرية وهاجر إلى النجف الأشرف حتى نال درجة الاجتهاد ورجع إلى دمشق واستقر فيها، له مواقف وطنية ومشاريع إصلاحيّة، كثير التأليف مصلح كبير ومحقّق معروف توفّي في بيروت عام 1371 هجرية وحمل ليدفن في دمشق. من أوسع مؤلّفاته: أعيان الشيعة. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 1 / 173.

(2) الأمين، محسن: إقناع اللائم على إقامة المآتم، ص174. ويمكن مراجعة هامش ص133 حول مسألة اتخاذ عاشورا عيداً.

(3) الشيخ جعفر بن محمد بن قولوية القمّي: فقيه ومحدّث من أبرز علماء الشيعة الإمامية، =

٨١

كان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول: (أيّما مؤمن دمِعت عيناه لقتل الحسين بن علي دمعةً حتى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنّة غُرَفاً يسكنها أحقاباً)(1) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً:

(أيّما مؤمن دمِعت عيناه حتى تسيل على خدّه، فيما مسّنا مِن الأذى من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله في الجنّة مُبوّأ صدق)(2) .

ب - وعن الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام فيما ينبغي عمله يوم عاشوراء:

(.. ثمّ ليندب الحسينعليه‌السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسينعليه‌السلام ..)(3) .

ج - وعن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :

(كل الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين)(4) .

____________________

= وهو أستاذ الشيخ المفيد (المعلّم). له كتب حسان معتبر عند علماء الطائفة.

توفّي ببغداد سنة 367 هجرية ودفن بمقابر قريش. (القمّي، عباس: الكنى والألقاب، 1 / 391) عالم شارك في أنواع من العلوم. من آثاره: الجمعة والجماعة، تاريخ الشهور والحوادث، الرضاع، كامل الزيارات، النوادر (كحالّه، عمر رضا: معجم المؤلفين، 3 / 146).

(1) ابن قولويه، جعفر بن محمد: كامل الزيارة، ص201.

(2) الصدوق، محمد بن علي بن بابوية: ثواب الأعمال، ص111.

(3) ابن قولويه، جعفر بن محمد: الكامل في الزيارات، ص326.

(4) الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي ص163.

٨٢

ذكر ذلك الشيخ الطوسي(1) في أماليه.

وعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أيضاً:

(وما بكى أحد لنا، ولما لقينا، إلاّ رحمهُ الله قبل أنْ تخرج الدمعة من عينيه)(2) .

ويخاطب الإمام الصادقعليه‌السلام أحد تلامذته واسمه فضيل بن يسار:

(تجلسون وتتحدّثون؟ قال: نعم جعلت فداك. قال: إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرنا رحم الله مَن أحيا أمرنا، يا فضيل؛ من ذَكَرَنا أو ذُكْرَنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه..)(3) .

وعن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام :

(إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل عيوننا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء. فعلى الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام)(4) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً: (من ترك السعيّ في حوائجه يوم عاشوراء، قضى الله له حوائج

____________________

(1) الشيخ جعفر بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي ولد سنة 385 هجرية من علماء الإمامية المعروفين تتلمذ على يد أكابر علمائها، سكن بغداد ثمّ تركها إلى النجف بعد عدّة سنين، واستقرّ في النجف سنة 448 هجرية فالتحق به تلامذته ومريدوه، وتصدّى للتدوين والتأليف ويعتبر المؤسّس الأوّل للجامعة الدينية في النجف، وتوفّي بها سنة 460 هـ. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 2 / 853).

(2) ابن قولويه، جعفر بن محمد: كامل الزيارات، ص179.

(3) المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار 44 / 282.

(4) الصدوق محمد بن علي بن بابويه: الأمالي ص111. المجلسي، محمد باقر: البحار 44 / 282.

٨٣

الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء، يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عزّ وجل يوم القيامة، يوم فرحه وسوره، وقرّت بنا في الجنان عينه)(1) .

ح - ويخاطب الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أحد أصحابه، وهو الريّان بن شبيب وقد دخل عليه في أوّل يوم من المحرّم:

(يا ابن شبيب، إنْ كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب؛ فإنّه ذُبح كما يذبح الكبش، وقُتِل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم على الأرض شبيهون، يا ابن شبيب، إنّ سرّك أنْ تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة، مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالعن قتلة الحسين.

يا ابن شبيب، إنْ سرّك أنْ يكون لك من الثواب، ما لمن استشهد مع الحسين بن عليعليه‌السلام فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً)(2) .

وعن الإمام الرضاعليه‌السلام أيضاً:

(من تذكّر مصابنا، وبكى لما ارتكب بنا، كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذُكّر بمصابنا، وبكى وأبكى، لم تبك عينُه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا، لم يمت قلبه، يوم تموت القلوب)(3) .

وأحسب أنّ ما ورده أعلاه من الروايات، وأخبار بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، في مسألة البكاء والحزن على الإمام الحسينعليه‌السلام والحثّ عليه، أحسب أنّ ذلك، يوضّح النقطة الأولى في حث أئمة أهل البيت شيعتهم على البكاء وإقامةِ العزاء على الإمام الحسين.

____________________

(1) الحر العاملي، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 10 / 394.

(2) الصدوق، محمد بن علي: عيون أخبار الرضا 2 / 267.

(3) المصدر نفسه: 2 / 268.

٨٤

حثّ أئمة أهل البيت على قول الشعر في الإمام الحسينعليه‌السلام

شجّع أئمة أهل البيت، على قول الشعر في الإمام الحسين وإنشاده. وما يصاحب ذلك من إبكاء وانتحاب، ممّا شكّل البدايات الأولى للمنبر الحسيني، وإقامة المآتم ومجالس العزاء. إنّ الشعر - كان يعتبر - ذو شأن بالغ الأهمية والتأثير في المجتمع، وله انعكاسات حسّاسة، خاصة فيما يتعلّق بنقد السلطة آنذاك، في قتلها الحسين وأصحابه.

وقد أفرد الشيخ ابن قولويه، في كتابه (كامل الزيارات) باباً خاصّاً وهو الباب الثالث والثلاثون تحت عنوان:(ثواب من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى).

والكتاب، من الكتب الحديثية التي نالت اهتماماً كبيراً عند فقهاء الطائفة.

فعن أبي عمارة المُنشد(1) ، حينا دخل على الإمام جعفر بن محمد، قال: قال لي: (يا أبا عمارة، أنشدني في الحسينعليه‌السلام ).

قال: فأنشدته، فبكى، ثمّ أنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى. قال: فوالله ما زلت أنشده ويبكي، حتى سمعت البكاء من الدار...

فقال لي: (يا أبا عمارة، من أنشد في الحسينعليه‌السلام شعراً فأبكى خمسين، فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً، فأبكى أربعين فله الجنّة....)(2) .

____________________

(1) أبو عمارة المنشد: عاصَر الإمام جعفر بن الصادق، أوّل من لقّب بهذا اللقب (المنشد) ممن رثا الإمام الحسين، لم يعرف إلاّ بكنيته، من أهل المدينة، مات فيها في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني ص318).

(2) ابن قولويه، جعفر بن محمد: كامل الزيارات 208.

٨٥

فوجود الخمسين أو الأربعين، فيه دلالة على وجود تجمّع يستمع لهذا الشعر.

وفي رواية أخرى للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال: (مَن أنشد في الحسين بيت شعَر فبكى وأبكى عشرة فله الجنّة...)(1) .

ودخل جعفر بن عفّان الطائي(2) على الإمام الصادق، فقرّبهُ وأدناه، ثمّ قال: (يا جعفر)، قال: لبيك جعلني الله فداك.

قال: (بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين وتجيد)، فقال: نعم جعلني الله فداك. قال: (قل)، فأنشدته فبكى ومن حوله، حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته)(3) .

ويصل الأمر إلى أنْ يتدخّل الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام في أُسلوب إنشاد الشعر الرثائي، حيث يطلب من بعض المنشدين أنْ يكون إنشادُه بأسلوب رقيق وطريقة شجيّة... فعن أبي هارون المكفوف(4) ، قال: (قال لي الإمام أبو عبد اللهعليه‌السلام : (يا أبا هارون، أنشدني في الحسين)، قال: فأنشدته فبكى، فقال: (أنشدني كما تنشدون) - يعني بالرقّة - قال فأنشدته:

أمرر على جدَث الحسين

فقل لأعظمـه الزكية

____________________

(1) المصدر نفسه: 211.

(2) هو أبو عبد الله جعفر بن عفّان الطائي الكوفي، مدحه علماء الرجال ووثّقوه، من رجال الشيعة المعروفين وفاته بحدود سنة 150 هجرية له أبيات كثيرة في أهل البيت. (الكرباسي، محمد صادق: معجم خطباء المنبر الحسيني، ص42).

(3) الطوسي، محمد بن الحسن: الرجال 289 / 508.

(4) أبو هارون موسى بن عمير الكوفي، من أصحاب الإمامين محمد بن علي الباقر (ت: 114) وولده الإمام جعفر الصادق (ت: 148هـ)، كان ينشد قصائد السيد الحميري وغيره، ومن أوائل من عرف بالمنشد، توفّي سنة 150 هجرية. (الكرباسي: مصدر سابق، ص42).

٨٦

قال: فبكى، ثمّ قال: (زدني)، قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى. وسمعت البكاء من خلف الستر)(1) . والبيت أعلاه هو من قصيدة للشاعر الحِمْيَري(2) . وأمّا البكاء من خلف الستر؛ فهو بكاء نساء الإمام الجالسات خلف الستر.

ويعقّب السيد محسن الأمين على لفظة (الرقّة) فيقول:

(قوله: بالرقّة - بكسر الراء المشدّدة - أي بالطريقة التي تستعملونها عند الإنشاد، التي فيها الرقّة والطلاوة(3) ، والتي توجب التأثير في القلب - لا مجرد التلاوة)(4) .

وهذا يعني؛ أن هنا تطوّرّاً شكلياً أخذ يُراعى في المأتم الحسيني وهو أخذ عامل الصوت، وحُسن الإنشاد بالاعتبار، كي يتمّ التفاعل العاطفي الحزين، مع واقعة كربلاء. حتى برز من عُرفوا(بالمنشدين) في مجالات إنشاد الشعر الرثائي الذي قيل في الحسين وأحداث عاشوراء علم 61 هـ.

وأخيراً نذكر حادثة، دخول الشاعر دعبل بن علي الخزاعي، على الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (الثامن من أئمّة أهل البيت)، في مرو، حينما كان وليّاً لعهد المأمون العباسي(5) . والتي سبق لنا أنْ

____________________

(1) الصدوق، محمد بن علي: ثواب الأعمال، ص111.

(2) يمكن مراجعة ص59 من هذا البحث.

(3) الطلاوة: بفتح الطاء أو كسرها. الحُسن والبهجة.

(4) الأمين، محسن: إقناع اللائم إلى إقامة المآتم ص186.

(5) في الثاني من شهر رمضان سنة 201 هـ أعلن الخليفة العباسي المأمون، أنّ علي بن موسى بن جعفر، صار ولي عهده والخليفة من بعده. وهي سابقة فريدة في علاقة خلفاء بني العبّاس مع أئمّة أهل البيت. وللمؤرّخين والمحلّلين التاريخيين، آراء عدّة في تفسير هذا الحدث. فمنهم من قال: إنّ المأمون شيعيّ الهوى ولذا اتخذ هذه الخطوة. ومنهم من قال: إنّه نذر نذراً لئن ظفر بأخيه الأمين ليردّن الخلافة إلى أحقّ الناس بها. وآخرون قالوا: إنّ المأمون يريد - بهذا الأمر - أنْ يردّ الجميل على العلويين؛ لأنّ الإمام علي بن أبي =

٨٧

ذكرناها في ص64 من هذا الفصل، حيث قد أوردتها العديد من المصادر الشيعية، مع تفصيلات مختلفة ومنها هذه الصورة حيث يقول دعبل:

(دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا بمرو(1) ، في أيّام عشرة محرّم. فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه جلوس، فأجلسني إلى جانبه. ثمّ قال: (يا دعبل، أُحبّ أنْ تنشدني الشعر، فإنّ هذه الأيام أيذام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيام سرور - كانت على أعدائنا - خصوصاً بني أميّة). ثمّ التفت إليّ وقال: (يا دعبل، ارثِ الحسين، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً). قال دعبل: فاستعبرتُ، وسالت دموعي وأنشدت:

أفاطمُ لو خلت الحسين مجدّلاً

وقـد مـات عطشاناً بشط فراتِ

إذا للطمت الخدّ فاطمُ عنده

وأجريت دمع العين في الوجناتِ)

(ولمّا فرغ مِن إنشادها، قام أبو الحسنعليه‌السلام ودخل منزله، وبعث إليه بخرقة خزّ فيها ستمِئة دينار، وقال للجارية: (قولي له، يقول لك مولاي: استعن بهذه على سفرك واعذرنا). فقال لها دعبل: لا والله ما

____________________

= طالبعليه‌السلام ، أعطى المناصب لأولاد العباس أيام حكمه.

ومهما كان من أمر، فإنّ هذه الولاية لم تتم، إذ توفّي الإمام علي بن موسىعليه‌السلام الذي لقّب بالرضا أو الرضا من آل محمد، توفّي بطوس من بلاد خراسان في طريق عودته مع المأمون من مرو إلى بغداد في صفَر من سنة 203 هـ، وصلّى عليه المأمون ودفنه بجنب قبر أبيه الرشيد. (الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، 7 / 139)

(ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ، 5 / 183) (المسعودي، علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 3 / 440) (السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر: تاريخ الخلفاء، ص307). ولكنّي أرجّح أن هذه البادرة كانت مناورة سياسية قصد بها المأمون، إسكات عدّة من حركات التمرّد على حكمه، والتي كان من ورائها العلويون.

(1) مرو: أشهر مدن خراسان وقصبتها، بينها وبين نيسابور سبعون فرسخاً. عرفت بجمالها وكثرة مياهها. سكنها المأمون العباسي وجعلها عاصمة للدولة العبّاسية بعد قتل أخيه الأمين. واستدعى إليه الإمام علي بن موسى الرضا جعله ولياً لعهده. (الحموي، ياقوت، معجم البلدان 5 / 112).

٨٨

لهذا أردت، ولا له خرجت. ولكن قولي له: هب لي ثوباً من ثيابك، فردّها عليه أبو الحسن، وقال له: (خذها، وبعث إليه بجبّة من ثيابه)(1) .

هذه مجموعة، من تأكيدات بعض الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام (2) ، على مسألَتي البكاء على الإمام الحسين والتشجيع على إنشاد الشعر فيه.

وقد بلغ، من وفرة تلك الروايات والأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيت، أنْ صنّفتْ كتبٌ خاصّة في هذا الشأن، لعلّ من أشهرها وأكثرها توثيقاً عند علماء الشيعة كتاب (كامل الزيارات)، كما مرّ ذكره.

ومن جانب آخر، فأنّ زيارة قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، صارت موسماً متّصلاً لإقامة المآتم، وإنشاد الشعر عنده. إذ حثّ أئمة أهل البيت شيعتهم على الزيارة في أيام ولياليَ، ذاتَ بُعدٍ عباديّ، يشترك

____________________

(1) العطاردي، عزيز الله، مسند الإمام الرضا 2 / 444.

(2) لقد تمّ تركيز البحث على مظاهر الحزن لقتل الإمام الحسين، بعد أحداث كربلاء سنة 61 هـ. وهذا لا يعني أنّ بداية هذا الحزن كانت بعد هذه الأحداث، حيث أوردت مجموعة من المصادر الحديثة والتاريخية، بكاء رسول الله على ما سيجري على سبطه الشهيد، بما أخبره جبرئيلعليه‌السلام عن الله تبارك وتعالى.

فعلى سبيل المثال؛ فقد جاء في (ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى)، بكاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ولادة الحسين بما روته أسماء بنت عُميس (وجعله في حجره فبكىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قلت: فداك أبي وأمّي ممّ بكاؤك؟ فقال:

(يا أسماء، إنّه تقتله الفئة الباغية من أمّتي، لا أنالهم الله شفاعتي...) (الطبري، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبى، ص119). وفي الصواعق المحرقة عن الإمام عليعليه‌السلام : قال:(دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي: فقلت: ما يبكيك. قال: كان عندي جبرئيل آنفاً، وأخبرني أنّ ولدي الحسين يُقتل بشاطئ الفرات) (العسقلاني، أحمد بن حجر: الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، ص192).

وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل: عن علي بن أبي طالب: قال:(دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، أغضبك أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل قبلُ فحدثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات) (ابن حنبل، أحمد بن محمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: 1 / 137) ويمكن كذلك مراجعة منتخب كنز العمّال للهندي، علي بن حسام الدين: 5 / 266 وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص225، والعقد الفريد لابن عبد ربه 4 / 359 ومصادر أخرى.

٨٩

في معظمها عموم المسلمين؛ مثل ليلة منتصف شعبان وليالي القدر المباركة، وليلة عرفة ويومها، وليلة العيد ويومها إضافة إلى زيارة يوم عاشوراء، ويوم الأربعين (أي الأربعون يوماً بعد قتل الحسينعليه‌السلام ، ويقع في العشرين من شهر صفر).

فغدت هذه المواسم، مواسم عبادة وزيارة لقبر الإمام الحسين، ولا تزال كربلاء إلى اليوم، تزدحم بوفود الزائرين من كل أنحاء الأقاليم الشيعيّة، من العراق وخارجه في تلك المناسبات، والتي توفّر أجواءً مؤاتية لازدهار ونمو مؤسّسة المنبر الحسيني.

وتطوّر مواسم زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام ، إلى مآتم للبكاء كان قديماً، ولعلّ أوّل إشارة إلى ذلك كانت في زمن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام (ت 148 هجري). ففي رواية، يستوضح الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، من أحد أصحابه الكوفيين عمّا سمعه من اجتماع الزائرين عند قبر جدّه الحسين، حيث يسأل الإمام الصادق:

(بلغني أنّ قوماً يأتونه - أي قبر الحسين - من نواحي الكوفة، وناساً من غيرهم، ونساءً يندبنه، وذلك في النصّف من شعبان. فمن قارئٍ يقرأ، وقاصٍ يقصّ، ونادبٍ يندب، وقائل يقول المراثي). فقلت له: نعم جُعلت فداك، قد شهدت بعض ما تصف. فقال: (الحمد لله الذي جعل في الناس، من يَفِد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا...)(1) .

وأحسب، أنّ ما ذُكر من روايات عن أئمّة أهل البيت، سَواء فيما يخص حث الشيعة على البكاء على الإمام الحسين، أو القسم الثاني

____________________

(1) ابن قولويه، جعفر بن محمد: كامل الزيارات، ص539.

أقول: وفي عصرنا الحالي، لا نجد ظاهرة البكاء موجودة في زيارة منتصف شعبان؛ لأنّها اقترنت بعد ذلك بمولد الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت وهو محمد بن الحسن المهديعليه‌السلام عام 255 هـ فتحولّت بتقادم الزمن إلى زيارة ابتهاج وأفراح. في حين تشهد بقية مواسم الزيارة مآتم ضخمة ولاسيما تلك التي تكون في يوم عاشوراء ويوم العشرين من شهر صفر، والتي تعرف بزيارة الأربعين.

٩٠

المتعلّق بتشجيعهم للشعراء والمنشدين. أو حتى اهتمام الأئمة بمسألة زيارة قبر الحسين، حتى غدت أغلب مواسم الزيارة مواسم مآتم.

أظن أنّ ذلك، قد أوضح الفكرة التي يتبناها الشيعة، من أنّ أئمّتهم هم أوّل من دعا إلى إقامة المآتم والتجمّعات، لإنشاد الشعر والبكاء على الإمام الحسين، وشهداء كربلاء. والتي تطوّرت بعد ذلك إلى المنبر الحسيني اليوم. هذه التوصيات التي بدأت بعد أحداث كربلاء، وتحديداً بالإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، استمرّت مع بقية الأئمّة من ولده.

وقد بلغ من اعتماد الشيعة على تلك الروايات، أنّ كتب الأخلاق، ضمّت توصيات تحثّ على إقامة مجالس العزاء في البيوت، حتى ولو كانت في دائرة الأهل. كما ورد ذلك في كتاب مرآة الرشاد، والذي صِيغَ على شكل وصايا، من أحد العلماء إلى ولده (وعليك - بُني - بإقامة عزاء أبي عبد الله في كل يوم وليلة حسب مقدورك، حتى إنّ لم يتيسر لك مؤنتها، ولم تقدر إلاّ على قراءة كتاب التعزية، لعيالك في اليوم والليلة مرّة فافعل، فإنّه عزيز الله تعالى، بلغ في الإطاعة (هكذا)، إلى درجة تفرّد بها، فبذل نفسه وماله وعياله كلّها في سبيله تعالى...)(1) .

ومن ناحية أخرى، فإنّ العادة المتّبعة حالياً بالنسبة لخطباء المنبر الحسيني، أنْ تخصّص الليلة الأولى من المحرّم، لبيان وشرح الروايات الواردة من أئمّة أهل البيت في إقامة المآتم والبكاء على الحسين، وإنشاد الشعر فيه(2) .

وفي نهاية عرض الآراء الأربعة، حول مسألة نشوء المنبر الحسيني، بصورته البسيطة تلك، رأيت أنّ من المناسب، أنْ أذكر هنا

____________________

(1) المامقاني، عبد الله محمد باقر: مرآة الرشاد ص106.

(2) راجع ص219.

٩١

آراء بعض علماء الشيعة المعاصرين وكتّابهم، في موضوع البويهيين ودورهم، في مؤسّسة المأتم الحسيني.

فنجد أنّ الشيخ محمد جواد مغنيّة(1) يقول، في أثناء ذكره الدول الشيعيّة، البويهيّين ومعزّ الدولة، الذي يعرّفه بأنّه (هو الذي جعل اليوم العاشر من المحرّم يوم حزن لذكرى واقعة كربلاء).

ويوضح ذلك فيقول: (أي جعلهُ يوم حزن بصفة رسمية، تعطّلُ فيه الدوائر الحكومية، وتقف الأسواق. وإلاّ فإنّ هذا اليوم، هو يوم حزن عند الشيعة قبل المعزّ، ومنذ اليوم الأوّل الذي استشهد فيه سيد الشهداء)(2) .

ويقول السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني(3) :

(وقد سجّل التاريخ اهتمام معزّ الدولة البويهي وسائر الملوك البويهيّين في الدولة العباسيّة ببغداد عام 352 هجرية، بشأن إقامة مأتم الحسين وإبرازها في هيئة مواكب خارج البيوت. فكانت النساء (يخرجن) ليلاً ويخرج الرجال نهاراً....)(4) .

____________________

(1) محمد جواد بن عبد الكريم بن محمود العالمي ولد بطيردبا بجبل عامل عام 1323. عالم محقّق ومؤلف مكثر. بأسلوب سلس، هاجر إلى النجف الأشرف لطلب العلم حتى نال المستويات الرفيعة. من آثاره تفسير الكاشف. فقه الإمام الصادق، الفقه على المذاهب الخمسة، والإسلام العقل وتوفّي ببيروت، عام 1400 هجرية (ودفن في النجف الأشرف) (الأميني، محمد هادي، معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 1 / 66).

(2) مغنية، محمد جواد: الشيعة في الميزان ص141.

(3) هو السيد محمد علي بن حسين بن محسن الحسيني الحائري الكاظمي. ولد في سامراء عام 1301 هجرية. عالم مجتهد فاضل مجد من العلماء المصلحين. سياسي محنّك. هاجر إلى النجف. له جولات في جهاد الإنكليز حتى سُجن. تولّي عدّة مناصب سياسيّة هامة. توفّي سنة 1386 هجرية ببغداد. (الأميني، محمد هادي: معجم رجال الفكر والأدب في النجف، 2 / 761).

(4) الشهرستاني، هبة الدين: نهضة الحسين، صفحة 175.

٩٢

فهو إذن اهتمام وإبراز لمظاهر العزاء على شكل مواكب تخرج إلى الشوارع.

ويرسل الشيخ محمد مهدي شمس الدين هذا الرأي إرسال المسلّمات بقوله وهو يعلّق على ما ذكره ابن الأثير في أحداث عاشوراء سنة 352، فيقول:

(ومن المعلوم أنّ المأتم الحسيني في العراق، لم يبدأ في هذا الوقت، وإنّما يعود إلى أقدم العصور الإسلامية، كما ذكرنا فيما سبق، وإنّما انتشر واتّسع في هذا العصر، وغدا في أيّام البويهيين عملاً رسميّاً)(1) .

وحينما يُسأل السيّد محمد حسين فضل الله عن هذه النقطة، بهذا السؤال: يقول البعض: إنّ المأتم الحسيني، أسّسه البويهيون عندما سيطروا على بغداد، فما مدى دقّة هذا القول؟

فإنّه يجيب: (إنّ المأتم الحسيني أسّسه أئمة أهل البيت، الذين كانوا يعقدونه في بيوتهم، ويستدعون من يقرأ الأشعار، التي تذكر مصيبة الحسينعليه‌السلام بطريقة عاطفيّة)(2) .

كما أنّ المؤرّخ السيد حسن الأمين، حينما يذكر هذه المسألة يقول:

(إنّ الاحتفال بعاشوراء، كان سابقاً العهد البويهي بأزمان بعيدة، ولم يكن يجري بشكل جماهيري واسع؛ لأنّ السلطات كانت تمنع ذلك، وكان يجري ضمن البيوت الرحبة (الواسعة) ويضمّ من الناس

____________________

(1) شمس الدين، محمد مهدي: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي ص263.

(2) فضل الله، محمد حسين: الندوة، 5 / 509 (إعداد عادل القاضي) كذلك حديث عاشوراء ص238.

٩٣

بما يتّسع له كل بيت. وكانت تنشد في هذه الاحتفالات، الأشعار الرقيقة، التي تُبكي الناس وتشجيهم، وكل ما فعله معزّ الدولة، هو أنّه أباح الاحتفالات الجماهيرية، ومنح أصحابها حريّتهم، فأخرجوها من دائرتها الضيّقة، إلى الدائرة الأوسع)(1) .

وقد وصل بعض الباحثين من غير الشيعة إلى هذه النتيجة وأذكر بهذه المناسبة الأستاذ محمد كرد علي، في كتابه (خطط الشام) حيث يقول:

(وتجتمع الشيعة في أيام عاشوراء، فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاءعليه‌السلام . وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة، وأوّل من رثاه أبو دهبل الجمحي(2) بقصيدة يقول فيها:

تبيت النشاوى من أمية نوّماً

وبالطف قتلى ما ينام حميمها(3)

والظاهر من سيرة ديك الجنّ الحمصي في كتاب الأغاني، أنّ هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه، ثمّ إنّ بني بوية أيام دولتهم، عنوا بها مزيد العناية، ولا تزال إلى اليوم تقام في جميع أقطار الشيعة(4) ).

ويؤكّد ذلك، أحد المؤرّخين المصريّين، وهو يعلّق على ما كان

____________________

(1) الأمين، حسن: من نوافح خراسان، ص142.

(2) أبو دهبل الجمحي: وهو وهب بن زمعة بن أسد، من أشراف بني جمح بن لؤي بن غالب. أحد الشعراء العشّاق المشهورين من أهل مكة. في شعره رقة وجزاله، له ديوان شعر. ولاّه عبد الله بن الزبير بعض أعمال اليمن توفي سنة 63 هـ 682م بعليب (موضع في تهامة) (الزركلي، خير الدين، الأعلام، 8 / 125).

(3) النشاوى، جمع نشيان: أي السكران. الحميم: هو قريب الرجب الذي يهتم بأمره. ومعنى البيت: إنّ السكارى أمّا بالمعنى الحقيقي وهو شرب الخمر أو المجازي أي سكارى من نشوة نصرهم الذي زعموه بقتل الحسين وأصحابه، فإنّهم ينامون نشاوى ولكن لقتلى الطف (كربلاء) قوم لا ينامون إمّا تألّماً وإمّا طلباً للثأر.

(4) كرد علي، محمد: خطط الشام 6 / 250.

٩٤

يجري في القاهرة، من مظاهر العزاء في أيام عاشوراء، في عهود الفاطميّين، يعلّق بقوله: (وقد ظلّ الشيعيّون، يحتفلون بذكرى هذا اليوم، في عهد الأمويين والعباسيّين، ويلقون ألوان الاضطهاد، حتى قامت الدولة الفاطميّة الشيعية في المغرب ومصر، واستولى بنو بويه الشيعيّون على السلطة في بغداد، حاضرة الدولة العباسيّة السنّية، فغدا يوم عاشوراء، عيداً من أعياد الفاطميّين والبويهيّين)(1) .

وعلى ضوء ما مرّ بنا، من أدلّة وشواهد تاريخية وأدبية من جهة، وما توارثه علماء الشيعة وفقهاؤهم من أحاديث صحيحة مسندة إلى الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام ، من جهةٍ أخرى. وأخذاً بما ذكره بعض المحقّقين من أنّ المآتم الحسينية رأت النور قبل البويهيين بأمدٍ بعيد، من جهة ثالثة... فأنّي أرجّح الأخذ بالرأي القائل بأنّ المآتم على الإمام الحسين كانت قد بدأت بعد أحداث كربلاء. وبهذا تكون قد سبقت البويهيين بأقلّ من ثلاثة قرون. وإنّ أهل التواريخ وغيرهم، ممّن ذكر أنّ البويهيّين هم أوّل من أمر بالنوح على الحسينعليه‌السلام ببغداد عام 352 هـ، قد يكونوا ممّن لم يطّلع على هذه الروايات والأخبار. ممّا يجعل ما أطلقوه من رأي لا يتناسب مع ما أوردنا من أدلة.

____________________

(1) حسن، إبراهيم حسن: تاريخ الدولة الفاطمية، ص654.

٩٥

المبحث الثاني: علاقة المنبر الحسيني بالأوضاع السياسية

كان حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ، حركة سياسية في بعض أبعادها وجوانبها؛ لأنّها حركة خرجت على وضع سياسي قائم، وسعت إلى أبداله بوضع آخر. وقد جنّد الأمويون قوتهم، من أجل تطويق حركة الإمام الحسين حتى قُتل ومعه أهل بيته وأنصاره يوم عاشوراء، في سنة أحدى وستين للهجرة في كربلاء. ولم تنته فصول هذه الحركة، حيث أُخذت نساء الحسين وعياله أسرى، وطيف بهن كسبايا من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، عبر طريق طويل يمرّ بتكريت والموصل ونصيبين حتى حلب وحماة وحمص وبعلبك، وانتهاء بدمشق.

وحدث جرّاء ذلك ألم وتأثّر كبيران لدى المسلمين؛ بما كانوا يرون من سبايا آل محمد، وبما كانت تُحدثُه خطب وحوارات بعضهم، لاسيما السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب والإمام علي بن الحسينعليه‌السلام ، ممّا أزاد الحنق على الأمويين.

وبرزت معادلةٌ مفادها: إنّ ذكر ما جرى على الحسين، يعني إدانةً وتعريضاً بالدولة الأموية، وخاصة بن يريه بالشعر الذي كان له أثر كبير على الناس آنذاك.

فكيف إذا تضمنت قصيدة الرثاء نقداً للأمويين وشجباً لمواقفهم؟ الذي هو أمر يلازم ذكر ما جرى على الحسين وعياله من بعده.

وهكذا ارتبط رثاء الإمام الحسينعليهم‌السلام بانتقاد السلطة الأموية.

٩٦

وكان بعض ذلك الرثاء يكتّم، وبعضه ينسب لغير قائله، لئلاّ يصيب صاحبه مكروه.

وكشاهد على ذلك، ما ذكرنا سابقاً، من قول ابن الأثير في تاريخه وهو يعلّق على قصيدة لأعشى همدان يرثي بها التوابين، حينما ذكر: (وهي مما يكتّم ذلك الزمن)(1) .

كما أنّ أبا الفرج الأصفهاني، في كتابه (مقاتل الطالبيّين)، بعد ذكره لأول قصيدة رثاء للإمام الحسين، يقول: (وقد رثى الحسين بن علي - صلوات الله عليه - جماعة من متأخري الشعراء، أستغني عن ذكرهم في هذا الموضع، كراهية الإطالة. وأمّا من تقدّم، فما وقع إلينا شيء رثي به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بني أمية، وخشية منهم)(2) .

إضافة إلى أنّ الحركات التي خرجت للطلب بثأر الإمام الحسين، قد زادت من توتّر الأوضاع، وقوّت أطراف المعادلة، من أنّ رثاء الإمام الحسينعليه‌السلام ، يستدعي حتماً نقداً للأمويين وتعريضاً بهم.

مثل حركة التوابين، وما صنعه المختار في الكوفة، وقتل عبيد الله بن زياد في واقعة الزاب(3) . ثمّ برزت ظاهرة - تحتاج إلى دراسة - وهي نسبة بعض ما قيل من شعر في رثاء الإمام الحسين إلى الجنّ. وقد ذكرت بعض كتب التاريخ والأدب بعضاً من تلك الأشعار. وأعتقد أنّ تلك القصائد، كانت لأناس خافوا من أن تُعرف أسماؤهم،

____________________

(1) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ، 3 / 345.

(2) الأصفهاني، علي بن الحسين: مقاتل الطالبيين 81.

(3) واقعة الزاب: معركة نشبت يوم عاشوراء سنة 67 للهجرة عند نهر الزاب في شمال العراق بين الجيش الأموي بقيادة عبيد الله بن زياد وجيش المختار بقيادة إبراهيم بن مالك الأشتر، قُتل فيها عبيد الله بن زياد مع جمع من الأمويين. وجيء برأسه إلى المختار. راجع الزاب في: (الحموي، ياقوت: معجم البلدان، 3 / 123).

٩٧

في زمن كانت فيه القصائد الشعرية بمثابة المنشورات السياسية في هذه الأيام.

وقد كان المعارضون لبني أمية، يتذكرون مواقف الحسينعليه‌السلام في ساعات مواجهتهم للأمويين؛ فهذا مصعب بن الزبير(1) ، لمّا أحيط به من قِبَل الأمويين، وهم يحاصرون جيشه في البصرة، إذا به قد (التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة، فاستدعاه، فقال له: أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فأخبره، فقال:

إنّ الأُلى بالطفّ من آل هاشم

تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا

قال عروة: فعلمت أنّه لا يبرح حتى يُقتل!!)(2) .

ولا شك أنّ ما جرى على زيد بن علي الحسين(3) بعد ذلك، قد عمّق من تلك الجراح، وأكّد على مسألة تلازم رثاء الحسين مع نقد

____________________

(1) مصعب بن الزبير بن العوّام بن خويلد الأسدي القريشي، أبو عبد الله، ولد سنة 26 للهجرية، من الولاة والفرسان في صدر الإسلام، نشأ بين يدي أخيه عبد الله بن الزبير فكان عضده الأقوى في تثبيت ملكه في الحجاز والعراق. تولّى البصرة سنة 67 للهجرة بعدها أضيفت الكوفة إليه. تجرّد عبد الملك بن مروان لقتاله. رفض كل العروض، حتى قتل عند دير الجاثليق (شمال بغداد) سنة 71 للهجرية. (الزركلي، ير الدين: الأعلام 7 / 48).

(2) ابن الأثير، علي بن عبد الواحد: الكامل في التاريخ - 4 / 11. والبيت يشيد بمواقف الهاشميين في كربلاء الذين صارت مواقفهم أسوة وقدوة لكل الكرام.

(3) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القريشي الهاشمي، أبو الحسن، ولد في المدينة 79 للهجرة. يعرف بالإمام زيد عن الزيدية التي تنسب إليه. ويعرف بزيد الشهيد، من شجعان بني هاشم وخطبائهم، قال عنه الإمام أبو حنيفة: ما رأيت في زمانه أفقه منه ولا أسرع جواباً ولا أبين قوّة. أُشخِص إلى الشام فحبسه هشام بن عبد الملك.

عاد إلى الكوفة ثمّ المدينة ثمّ الكوفة سنة 120 هجرية وبايعه أربعون ألفاً، قاتل الأمويين حتى قتل بالكوفة سنة 122 للهجرة. (حمل رأسه إلى الشام فنصب على باب دمشق، ثمّ أرسل إلى المدينة فنصب عند قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً وليلة. وحمل إلى مصر فنصب بالجامع، فسرقه أهل مصر ودفنوه). (الزركلي، خير الدين: الأعلام 3 / 59).

٩٨

السلطة الأموية.

وكانت المتوقّع، أنّ مجيء العباسيين سوف ينهي حالة التأزّم والعداء مع السلطة، ولكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً؛ حيث بدأت حالات التنافر تزداد بعد بضع سنوات من الحكم العباسي، وبدأت السلطة العباسية، تنظر من جديد، بحساسة إلى مسألة الإمام الحسين، وإلى التجمّعات التي تعقد عند قبره في كربلاء.

ومرّ بنا النصّ الذي ذكره الطبري، حول تحسّس الرشيد العباسي، من وجود من يرعى قبر الحسينعليه‌السلام . وتأزّم الوضع بشكل خطير أيّام المتوكّل العباسي، الذي أمر بهدم قبر الإمام الحسين سنة ست وثلاثين ومِئتين، كما ذكر ذلك الطبري وابن الأثير في تاريخهما وتبعهما آخرون.

وأمّا أبو الفرج في مقاتله فقد أضاف إلى خبر هدم القبر، أنّ المتوكّل قد (وضع على سائر الطرق مسالح(1) ، لا يحدون أحداً زاره إلاّ أتوه به فقتله، أو أنهكه عقوبة)(2) أمّا السوطي، فيعلّق على مسألة هدم قبر الحسين، أيام المتوكّل بقوله (وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب، فتألّم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء؛ وممّا قيل في ذلك:

تالله إنّ كـانت أُمـيّةُ قـد أتت

قـتل ابـن بنت نبيّها مظلوماً

فـلقد أتـاه بـنو أبـيه بـمثله

هـذا لـعَمريَ قـبرُه مـهدوماً

أسفوا على أنْ لا يكونوا شاركوا

فـي قـتله فتتبّعوه رميماً)(3)

____________________

(1) مسالح، جمع مسلحة وهي مجموعة من الرجال المسلحين الموكّلين بأمر، من قبل السلطة.

(2) الأصفهاني، علي بن الحسين: مقاتل الطالبيين، 195.

(3) السيوطي، عبد الرحمان بن أبي بكر: تاريخ الخلفاء - 347 والأبيات تقول: إنْ كان الأمويون قد قتلوا الحسين مظلوماً فإنّ العباسيين قاموا بأمر يُشابه ما فعله الأمويون حيث هدموا قبره، فكأنّهم أرادوا أنْ يعبّروا عن أسفهم لعدم اشتراكهم في قتل الحسين فتتبّعوا =

٩٩

ويعلقّ ابن خلكان في وفيّاته حيث يقول: (وكان المتوكّل كثير التحامل على علي وولديه الحسين والحسين رضي الله عنهم جميعاً، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلّق به، وأمر أنْ يُبذر ويُسقى موضع قبره، ومنع الناس من إتيانه)(1) ثم ذكر الأبيات أعلاه.

وبهذا، صار الإنسان الشيعي ينظر إلى العباسيّين كامتداد للأمويين في ظلمهم لأهل البيت. وهذا ما أعطى مبرّرات أخرى لاستمرار المآتم الحسينية وحالات رثاء الإمام الحسين ونقد الذين قتلوه أو ظلموه. وامتدّت المآتم لتضمّ بقية الأئمة من أهل البيت، وفي محاولة ربط ما جرى عليهم من ظلم، بما جرى على الإمام الحسين من قبل.

وهذا لا يعني عدم وجود حالات انفراج، كما حدث بعد ذلك في حكم المنتصر ابن المتوكّل الذي ألغى ما أمر به أبوه من منع الناس عن زيارة القبر. ولكن الأمر لم يستمر كثيراً.

إنْ منع الناس، من الوفود على قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، لا يعني المنع من الزيارة فقط، بل يعني منع المآتم والنياحات التي تعقد هناك.

ومهما يكن من أمر، فإنّ تحسّس السلطات من ظاهرة المآتم الحسينية، قد جعل هذه المآتم تتأثّر كثيراً بالأوضاع السياسيّة، فمع مجيء سلطة متسامحة نجد أنّ المأتم الحسيني ينمو ويتّسع، فإذا جاءت سلطة متشددة، فإنّ مساحته تقل وتختفي عن الأنظار. ولهذا

____________________

= جسده وهو مدفون. والأبيات للشاعر البسامي، وهو علي بن محمد بن منصور بن بسّام. ولد ببغداد 230 هـ وتوفّي بها سنة 302 هـ، شاعر هجّاء له علم بالأدب والأخبار، تولّى البريد نشأ في بيت كتابة، له عدّة كتب (الزركلي، خير الدين: الأعلام 4 / 324).

(1) ابن خلكان، أحمد بن محمد: وفيّات الأعيان 3 / 465، وانظر كذلك ابن الساعي، علي بن أنجب: مختصر أخبار الخلفاء ص16.

١٠٠