الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 114395
تحميل: 5001

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114395 / تحميل: 5001
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إذاً، الذي يظهر حول بحث البكاء من كلمات علماء الإماميّة - من: فقهاء، ومتكلّمين، ومفسّرين، ومحدّثين، ومؤرّخين، ومن الروايات أيضاً - أمران:

1 - كون البكاء الدعامة الأصليّة في الشعائر الحسينيّة.

2 - استمرار البكاء وتأبيده إلى يوم الثأر، وقبل الخوض في تفاصيل ظاهرة البكاء يجب الالتفات إلى جانب مهمّ جدّاً.

حقيقةُ البكاء

إنّ البكاء مادّة حيويّة للبحث في عدّة علوم، مثل: علم النفس، والاجتماع، والأخلاق، والفلسفة، وعلم التمدّن، والحضارة، قد شغل حيّزاً في اهتمام العلوم الإسلاميّة، وبمحاولة لمعرفة حقيقة البكاء نقول: إنّه فعل من أفعال النفس الجانحيّة لا الجارحيّة، وهنا تظهر تساؤلات على السطح منها: أين تصدر النفس البكاء، وكيف تصدره، ومتى؟ هل البكاء فعلٌ سلبي أم إيجابي، باعتبار أنّ أفعال النفس الجانحيّة أو الجارحيّة لا تتّصف بلونٍ ما بذاتها؛ وإنّما تتّصف بلحاظ الغايات، فيا ترى كيف هو البكاء في لونه الذاتي؟ فلابدّ من تحليله موضوعيّاً ماهويّاً تحليلاً عقليّاً كاملاً لنرى ما هي أجوبة هذه الأسئلة؟

ولأجل ذلك، يجب الالتفات إلى ما ذكرنا في جهات سابقة في الفصل الأوّل من الشعائر الدينيّة العامّة: وهو وجود أجنحة مختلفة في النفس قد جهّزها الله عزّ وجل بها، ولا ريب أنّ أحد أبواب معرفة الله سبحانه ناشئ من معرفة النفس،

٢٦١

فقد وردَ في الأثر عن أمير المؤمنين (عليه السلام):(مَن عَرف نفسه فقد عَرفَ ربّه) (1) ، وورد كذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(أعرفكم بنفسه، أعرفكم بربّه) (2) ، الذي يعرف نفسه سوف يعرف نقاط الضعف من نقاط القوّة فيها، ومن ثَمّ لا تُزعزعه دواهي الدهر، فمعرفة النفس لها فوائد عديدة في سبيل الاتّصاف بالأخلاق، وفي بناء شخصيّة الإنسان، والنفس فيها أجنحة عديدة، وأحد أجنحة النفس مشجّرات القوى الإدراكيّة، وهي على نوعين: الإدراكات الحصوليّة، والإدراكات الحضوريّة.

الإدراكات الحصوليّة: هي قوّة الحس، وقوّة المخيّلة (الخيال)، وقوّة الوهم، ثُمّ قوّة العقل.

الإدراكات الحضوريّة: هي إدراكات عيانيّة للأشياء في نشآت أخرى غير النشأة المادّيّة الحسّيّة.

القوّة الإدراكيّة والقوّة العمليّة

على كلّ حال، هناك أيضاً جناح آخر في النفس هو: جناح القوّة العمليّة، أو ما يسمّى بالقوّة العمّالة، مثل: القوى العضليّة، والقوى الشهويّة، والغرائز المختلفة في النفس، وقوّة العقل العملي، هذه القوى سمتها المهمّة المميِّزة لها عن الجناح الأول - أو الأجنحة الأخرى - أنّها باعثة ومحرّكة في النفس.

فلدينا جناحان من الأجنحة العديدة في النفس، أو جهتان:

____________________

(1) بحار الأنوار 2: 32: 33؛ مصباح الشريعة (المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)): 13.

(2) الاقتصاد (الشيخ الطوسي): 14؛ روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): 20.

٢٦٢

الأوّل: الجهةُ الإدراكيّة.

الثاني: الجهةُ العمليّة.

طبعاً الجناح الذي هو في الجهة العمليّة هو المحرِّك والباعث، لكنّه ليس بكلّ درجاته خالياً من الإدراك، كلاّ، بل هو في بعض درجاته مزيج ومختلط بالإدراك، مثل: قوّة العقل العملي، وخاصيّة قوّة العقل العملي هو الإدراك مع كونه محرّكاً أيضاً.

مثلاً: يَدرك الإنسان حُسن فضيلة معيّنة ويتشوّق إليها، فيمارسها ويعزم عليها ويوطّن نفسه على تطبيقها، أو ربّما - بدل أن يتشوّق إلى فضيلة ما - يستنكر رذيلة ما وينفر منها، ويشحن نفسه بالنفرة منها، فتراه ينقطع في سلوكه العملي عن تلك الرذيلة، وهلمّ جرّاً.

فعلى كلّ حال، العقل العملي حيث إنّه محرِّك عملي، إلاّ أنّ جنبة الإدراك تتوفّر فيه أيضاً، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى: لابدّ من امتزاج هاتين القوّتين العمليّة والإدراكيّة في النفس الإنسانيّة، فافتراض وجود إنسان له جانب إدراكي فقط، أو له جانب عملي فقط مخالف للفطرة الإنسانيّة، وبعبارة أخرى: فأنت تريد بافتراضك هذا أن تجعله إنساناً له جانب عمّالي فقط دون جانب إدراكي أو بالعكس، لكنّ مثل هذا الشخص ليس من الحقيقة الإنسانيّة بشيء، بل الحقيقة الإنسانيّة فَطرها الله عزّ وجل على مزيج من القوى العمليّة والقوى الإدراكيّة، فمن المحال وجود حقيقة إنسانيّة تتمحّض في إدراك المعلومات فحسب، بل لابدّ أن تجد فيها جناحاً آخر وجنبة أخرى، وهي جنبة

٢٦٣

عمّاليّة، كذلك من المحال أن ترى إنساناً فيه جنبة عمّاليّة فقط - كالحيوانات -، بل جملة من الحيوانات تكون الجنبة الإدراكيّة خفيفة فيها، لكنّ الجنبة العمّاليّة فيها بارزة وظاهرة.

وقد وزّع الله عزّ وجل الصفات العمليّة في الحيوانات بشكلٍ عجيب، مثلاً: الحرص تجده في النمل(1) ، والوفاء تراه في حيوان آخر، والغيرة على الأنثى في حيوان، وانعدام الغيرة في حيوان، كأنّ هذه الصفات العمليّة وزِّعت على كثير من أقسام الحيوانات عبرةً للإنسان، والفطرة الإنسانيّة تختلف عن الفطرة الحيوانيّة التي تكمن فيها الجنبة العمليّة فقط، وإن كان هناك صفات عمليّة (فضيليّة) موزّعة وموجودة لدى الحيوانات من اللطائف، ومَن يتتبّع حياة بعض الحيوانات سوف يلاحظ في كلّ حيوان صفة معيّنة، وهذا مورد للاعتبار، حيث يقال: الإنسان يُحشر حسب صفته، وهذه الأشكال من الحيوانات الموجودة هي نموذج وأمثال للصفات المختلفة، فإن كانت صفات الإنسان رذيليّة - لا سامح الله - فإنّه سوف يُحشر بحسبها.

فليست الفطرة الإنسانيّة تحتوي على جانب إدراكي محض، ولا على جانب عملي محض، بل هما جناحات ممتزجان لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا يُفصل بينهما في حاقّ النفس البشريّة، وإذا وجدنا بعض الناس فيه طغيان جنبة إدراكيّة على جنبة عمليّة، أو طغيان جنبة عمليّة على جنبة إدراكيّة، فهذا نوع من الاختلال وعدم التوازن والتكامل فيه.

____________________

(1) راجع توحيد المفضّل: القسم الخاص لبيان أسرار وعجائب الحيوانات - بحار الأنوار 3: 90.

٢٦٤

مثلاً: الحسد، أو الشهوة، هما من جنبة إدراك المخيّلة التي هي النافذة العظمى للشيطان في الإنسان، التي يدخل من خلالها، حيث يُري الشيطان الصور للإنسان من بعيد، يُريه صورة لفعل أو لشيء، ثُمّ يشوّقه نحو ذلك الفعل( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي... ) (1) ، فبتوسّط نفس الدعوة من بعيد يُري الصورة في عالَم النفس، ثُمّ يُغري الإنسان فيتشوّق ويتحرّك نحوها، فالإنسان إذا عزفَ وانصرف عن هذا الإغراء ينقطع سلطان الشيطان عنه، أمّا مع رغبة النفس وتركيزها وانجذابها؛ فإنّ الشيطان سوف يستولي عليه، وهذا قد يكون تفسير الحديث المعروف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّ الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم) (2) .

وباعتبار أنّ هذه النوافذ الإدراكيّة لا يضبطها الإنسان ولا يحرسها بحراسة جيّدة، وإنّه يُطلِق عنانها من دون مراقبة النفس؛ فإنّ الشيطان سيخترق النفس من خلالها وينفذ إلى أعماقها.

فالفطرة الإنسانيّة ذات جنبتين لا يمكن تفكيك إحداهما عن الأخرى.

ونواصل بعض الأمثلة لكي نكون على بصيرة من هذا البحث، حتّى نصل إلى حقيقة النكات الفلسفيّة والعقليّة.

مثلاً: يروِّج البعض في بعض الأبحاث الفكريّة والثقافيّة الحديثة أنّ

____________________

(1) إبراهيم: 22.

(2) مستدرك الوسائل 16: 220.

وفي الكافي 2: 440، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:(يا ربّ سلّطتَ عليّ الشيطان وأجريتهُ منّي مجرى الدم..) .

٢٦٥

التقديس والقدسيّة والتعظيم هي نوع من الحجاب أمام التحرّر الثقافي والانفتاح الفكري، لذا لابدّ من إزالة هذا الحاجب والوقوف في وجه أشكال التقديس والاحترام والتعظيم.

وهذا يندرج ويجري في نفس المسار في بحث البكاء أيضاً، فما مدى صحّة هذه المقولة يا ترى؟

للإجابة عن ذلك - ولتمحيص حقيقة هذه المزاعم والدعاوى - لابدّ من معرفة ماهيّة القدسيّة، وإنّها فعل أيّ قوّة من قوى النفس، وأيّ جناح من أجنحة النفس؟

مثلاً، قيل: إنّ التشكيك نبراس ومعلم للحريّة الفكريّة وللأسلوب الفكري والتحقيقي، وإنّه ديدن العلم، هل هذا صحيح بقول مطلق أم فيه تفصيل؟ التشكيك أيضاً عمليّة فكريّة تمارسها بعض القوى الإدراكيّة، فهل هذا الفعل - كفعل نفساني - هو فعلٌ سليم دوماً أم لا؟

إذاً، يجب أن ندرس أفعال النفس بدقّة كي لا نقع في الخطأ ولا في المغالطات، ولا في الالتباسات، وعلينا أن نتعرّف على مجال ممارسة النفس لها، ومواطن عدم الممارسة، كذلك البكاء فعل من أفعال النفس، وكذلك التقديس والتعظيم والإذعان والمتابعة النفسيّة كلّها من أفعال النفس، وترتبط بالقضايا الإدراكيّة والاعتقاديّة والفكريّة والسلوكيّة، وهي برنامج يتعلّق بسير الإنسان في معاشه وحياته، فمتى يا ترى تمارسه النفس بصحّة، ومتى تمارسه النفس خطأً؟

كذلك التشكيك، أو التساؤل، أو التنقيب فعل من أفعال النفس، فمتى تمارسه النفس بشكل صحيح، ومتى تمارسه النفس خطأً؟ هل يجب أن يقف الإنسان

٢٦٦

دوماً في منطقة التشكيك والتساؤل؟ أم ينبغي عليه أن يتجاوز ذلك؟ كلّ هذه الأبحاث ونحوها ممّا ترتبط بمباحث دينيّة حسّاسة وخطيرة، فلابدّ من الوقفة العلميّة عندها؛ لإنعام النظر فيها.

ثوابتٌ عن ظاهرة التقديس

كيف يمارس الإنسان عمليّة التقديس بشكل صحيح؟ التقديس والقدسيّة: عبارة عن الإذعان، وحينما يذعن الإنسان لشيء ويتصوّر أنّه حقيقة فإنّه يُبدي المتابعة أو الخضوع له، فالتقديس: عبارة عن خضوع النفس عمليّاً ومتابعة القوى العمليّة في النفس لأمرٍ أذعنت النفس له وتصوّرت أنّه حقيقة، فمن ثَمّ يظهر لنا متى يكون التقديس صحيحاً ومتى يكون خاطئاً.

فإن كان ما أذعنت له النفس حقيقة من سنخ الواقع، فالتقديس صحيح، وإصرار النفس عليه ممدوح، وتعظيمها لتلك المعلومة الحقيقة راجح وصحيح؛ لأنّ المفروض أنّها من نفس الواقع، ورفع اليد عنها يعني ارتطام النفس ودفعها في سلسلة الجهل، مثل العالِم التجريبي إذا وصل إلى حقيقة معيّنة، ثُمّ يرفع اليد عنها ولا يعتمد عليها، أو لا يستفيد منها فيكون ذلك ضياعاً للحقيقة.

نعم، التقديس والقدسيّة إن كانت لأمر مخالف للواقع أو للحقيقة، أو كانت نابعة عن تصوّر وتخيّل رسمتهُ المخيّلة بعيداً عن الواقع، كانت خاطئة.

فإذاً، التقديس - بشكل مختصر -: هو عبارة عن متابعة النفس لمَا أذعنت له وتصوّرت أنّه حقيقة، فإن كان حقيقة واقعاً، ومبتنياً على مقدّمات وأدلّة يقينيّة مُنتجة، فيكون هذا التقديس صحيحاً وراجحاً، ولكن لابدّ أن يوضع حريم

٢٦٧

حوله؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل الذي أوصلك إلى مثل هذا بعد عناء وجهد، إذا لم تعمل به يكون ابتعاداً عن الواقع وإغراقاً في الجهالات والظلمات، وهذه حقيقة متّبعة في جميع العلوم التجريبيّة والعلوم المرتبطة بالنشآت وعلوم العقيدة وغيرها.

فإذا كان التقديس ناتجاً من إدراك حقيقة، فهو حالة طبيعيّة في النفس، ويبدأ التقديس من أرفع درجة من درجات القوى العمليّة في النفس، وهو العقل العملي، فيتابع العقل النظري فيما أدركه من حقيقة، وأمّا لو كان التقديس نتيجة لإدراك تخيّلي أو ظنّي أو وهمي أو غير مُبرهن وغير ثابت، كان التقديس نوعاً من التقليد.

فعلى كلّ حال، إطلاق وصف التقليد أو الإتّباع الأعمى على التقديس مطلقاً أمرٌ فيه مغالطة، حيث تبيّن أنّ ليس كلّ تقديس هو تقليد، بل حقيقة التقديس هي تعظيم للحقائق فيما إذا كان وليداً وتابعاً لإدراك حقيقة ما، نعم، لو كان التقديس أو المتابعة أو الإخبات والخضوع في الجناح العملي في النفس نتيجة لإدراك تخيّلي أو وهمي، كانت حقيقة هذا التقديس اتّباعاً أعمى وتقليداً خاطئاً، إذاً ليس من الصحيح ذمّ التقديس في نفسه مطلقاً.

بل لو انعكس التقديس إلى حالة الرفض الدائم في الجانب العملي للنفس، وهو ما قد يسمّى بالتشكيك، إذا كان رفضاً دائماً فسيكون حالة مرضيّة في النفس وليس حالة صحّيّة في بعض أقسامه، حيث إنّ الجناح الإدراكي في النفس إذا أدركَ حقيقةً ما ولم يتابعه الجناح العملي، ولم تُتابعه القوى العمليّة التجريبيّة أو غير التجريبيّة، إذا لم تحصل المتابعة بين الجناح العملي والجناح الإدراكي،

٢٦٨

ستكون هذه حالة مرضيّة في النفس؛ لأنّها تُدرك الحقائق ولكن لا تنتفع بها ولا تستفيد منها، وإصرار النفس على الرفض والإباء عن متابعة الحقائق يؤدّي إلى تضييع الحقيقة والتفريط بها.

كما يُفسّر المحقّق الأصفهاني الآية الكريمة( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) (1) : أنّهم في البداية قد يكون هناك لديهم إيقان مع الجحود، لكن في النهاية والمآل فإنّ هذا الإيقان يذهب كشيء ووجود شريف ثمين، يذهب وتفتقده النفس بسبب عدم متابعة الجانب العملي للجانب الإدراكي(2) ، ولعلّ إليه الإشارة الأخرى في قوله تعالى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (3) .

وكما أنّ الجانب العملي في النفس يتأثّر بالجانب الإدراكي؛ فإنّ الجانب الإدراكي في النفس كذلك يتأثّر بدوره بالجانب العملي، وأمراض الجانب العملي في النفس تُسبّب أمراضاً في الجانب الإدراكي أيضاً، وكذلك الحال في أمراض القوى الإدراكيّة: كالوسوسة، أو سرعة الجزم (القطّاعيّة)، أو غلبة الوهم والتخيّل على التعقّل، حيث لا يستطيع أن يدرك المعاني العقليّة نتيجة السجن الذهني في القضايا الخياليّة والوهميّة.

فهناك أمراض في الجانب الإدراكي، كما أنّ هناك أمراضاً تقابلها في الجانب العملي إضافة للصفات الصحيحة في الجانب العمليّ، ومثال من أمثلة

____________________

(1) النمل: 14.

(2) آخر بحث الانسداد في كتاب نهاية الدراية للشيخ الأصفهاني.

(3) الروم: 10.

٢٦٩

أمراض الجانب العملي: دوام الإباء في الجانب العملي للنفس، أو دوام الإخبات والخضوع لكلّ مقولة ولأيّ دعوى، فهذه تعتبر حالة غير صحيحة وغير سليمة.

وهذه الأمراض في الجانب العملي لها أسماء أيضاً، مثل: التقليد العام الأعمى، أو بالعكس الرفض الدائم التي هي حالة السفسطة، فالحالة السفسطائيّة الدائمة المطلقة هي حالة مرضيّة في الجانب العمليّ في النفس، وحالة التقليد الأعمى هي أيضاً حالة مرضيّة ومذمومة عند العقلاء، وإليها وإلى غيرها من الأمراض يشير إليها القرآن الكريم وتشير الأحاديث النبويّة، وقد تعرّض لها أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن خُطبه الشريفة في نهج البلاغة، مثل:(حُبّك الشيء يُعمي ويُصمّ) (1) .

هذه حالات الجانب العملي، فإذا اشتدّت المحبّة فإنّها توجب ظلامة وحاجباً في الجانب الإدراكي، وشدّة البغض كذلك قد توجب التأثّر والستر في الجانب الإدراكي.

لا بمعنى أن لا تشتدّ محبّة الإنسان لمَن أمره الله بمحبّته، إذ إنّ الله سبحانه أمر بمحبّة نفسه، وأمرَ بمحبّة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام)، أو لا تشتدّ عداوته لمَن أمرَ الله سبحانه بعداوته، وليس المعنى أنّ زيادة المحبّة المأمور بها تكون خاطئة، أو الكراهة والبغض المأمور بها كذلك، ليس المراد ذلك، ولسنا وراء ما يطرحه العِلمانيّون أو ما يسمى بالعولَمة، أي الحياديّة في كلّ شيء، وإنّ المدار الأول والأخير هو نفسي ونفسي فقط، كطرق العولَمة المطروحة حديثاً - في الثقافات العالميّة - ليس هذا هو المقصود.

____________________

(1) رسائل المرتضى (الشريف الرضي) 2: 216.

٢٧٠

وليس الاتّزان هو: عدم المحبّة في موردها (التي أمرَ بها الشارع والعقل)، أو عدم العداوة الشديدة في موردها الذي بيّنه الشارع، بل الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يدرك أمراً، ينبغي له عدم جعل المحبّة مؤثّرة في كيفيّة الإدراك، حتّى لو كانت محبّة في موردها، وكذلك الأمر في العداوة الشديدة، فضلاً عمّا لو كانت ليست في محلّها؛ وإنّما ينبغي جعل موازين الإدراك على ما هي عليه، وجعل موازين الحركات والأفعال في النفس على ما هي عليه، هذا هو المنطق القرآني والتوجيه النبوي والعلوي.

المنطقُ الشرعي وظاهرة البكاء

إنّ المنطق الذي يطرحه القرآن - والسُنّة المعصوميّة النبويّة والمعصوميّة العلويّة في نهج البلاغة - منطق ليس أُحاديّاً ولا تمايليّاً إلى طرف معيّن.

انظر مثلاً إلى المنطق الأرسطي الذي يضع موازين معيّنة على فرض صحّتها - كلّها أو بعضها - في جانب من جوانب الإدراكات، وهو فقط الإدراك الحصولي، وعلى بعض تقاديره ليس كلّ الإدراكات، أمّا الإدراك العياني فإنّه لا يضع له ميزاناً، أو الإدراك الحصولي من تقادير أخرى قد لا يضع لها ميزاناً.

أو أنّك ترى مثلاً المنطق الرياضي يضع موازين من جانب آخر، أو ترى المنطق النفسي الحديث المتداول أو المنطق الوضعي، ومدارس منطقيّة كثيرة كلّها تتناول جانباً معيّناً وتهمل الجوانب الأخرى، ومع ذلك فإنّ تلك الجوانب المتناولة قد تكون غير مستوعِبة لوضع الموازين فيها.

أمّا المنطق الشرعي: فإنّك ترى خلاف ذلك، المنطق الشرعي يتناول موازين

٢٧١

القوى العمليّة ويتناول موازين القوى الإدراكيّة، وعلى صعيد الإدراك العياني والإدراك الحصولي، وهلمّ جرّاً، يعني أنّه يتناول الموازين في أجنحة النفس العديدة، وينظر في كيفيّة ملائمة هذه الأجنحة في النفس مع بعضها البعض، وهذا ممّا لا تتناوله مدرسة منطقيّة بشريّة إلى الآن، هذا هو المنطق الشرعي أو المنطق الذي تُقدّمه المعرفة الدينيّة.

إنّه منطق الإنسان المتكامل في كلّ أجنحة النفس، وهو أيضاً يُحدّد العلاقة بين أجنحة النفس بعضها البعض، وإلاّ فأيّ منطق تراه يُحدّثك أنّ الحبّ والبغض يُعمي ويصمّ(1) ، أو يتناول قول أمير المؤمنين (عليه السلام):(إذا أقبَلَت الدنيا على أحدٍ أعارتهُ محاسن غيره، وإذا أدبَرت عنه سلبتهُ محاسن نفسه) (2) ومثل هذه التعبيرات، وهذه أمور منحصرة في منطق الأطروحة الدينيّة.

التشكيكُ سلاح ذو حدّين

فالإباء المطلق حالة مرضيّة في النفس في الجانب العملي، والتشكيك أو التساؤل في منطق المعرفة الدينيّة وفي المنطق العقلي البشري؛ إنّما هو قنطرة لكي يراجع الإنسان حسابات الأدلّة التي يعقد عليها إيمانه، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة في أيّ مجال من المجالات، وفي أيّ علم من العلوم المرتبطة بالنشأة الدنيويّة، أو المرتبطة بالنشآت الأخرى، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة التي إمّا أن تكون مطابقة أو غير مطابقة.

____________________

(1) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ) بحار الأنوار 77: 166 / ح 2.

(2) بحار الأنوار 75: 357 / ح 17 عن نهج البلاغة - رسائل المرتضى 2: 216.

٢٧٢

لا أن يبقى في الإنسان منطقة التساؤل أبد الدهر، فليس التساؤل إلاّ محرّكاً وآلة للفحص وطاقة للبحث، وليس الفحص إلاّ طريق للوصول للحقيقة، ولو وقف الإنسان دائماً في منطقة التساؤل من دون أن يتحرّك، فهذه تعتبر حالة مرضيّة في النفس وليست حالة صحيّة؛ إنّما التساؤل يُعتبر بوّابة لأجل الفحص، لأجل التنقيب، لأجل التحرّي للوصول إلى الحقائق، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على الوقوف دوماً في منطقة التساؤل والتشكيك لمَا اكتُشف شيء في العلوم القديمة والحديثة، فليست هذه حالة صحّيّة، أمّا إذا كان التشكيك بمعنى التساؤل، ثُمّ يأتي بعده التحرّي والتنقيب - الذي يستتبع الجزم والتصميم على ضوء المعطيات البرهانيّة اليقينيّة - كانت الحالة حالة سليمة وصحيّة للنفس، أمّا أن نقف في دوّامة التساؤل والإباء والرفض فهذه حالة جهالة وليست حالة علميّة ولا صحيحة.

والذي يعيش بشكل دائم حالة سفسطائيّة وتشكيكيّة سيؤدّي به ذلك إلى القضاء على الفطرة علماً وعملاً، إدراكاً وتطبيقاً، وليس فيه نوع من التقدّم بل سوف يتحجّر المرء على نفسه، ولو كان الأمر كذلك لمَا وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات، هذا كمثال في العلوم التجريبيّة، فكيف في العلوم الإنسانيّة الأخرى.

فالشكّ والحيرة حينئذٍ يُشكّلان داعياً وباعثاً للتساؤل الذي يستعقبه تحرّك وفحص وتنقيب وتحقيق، حتّى يحصل الجزم والوصول إلى النتائج.

والإنسان - ضمن الفحص والتحقيق والسير - ربّما يسير ويفحص وتنتابه حالة مرضيّة أخرى غير السفسطة، وقد تكون مقابلة لها، وهي حالة بُطأ اليقين لديه، أو سرعة اليقين لديه، وكلاهما من الحالات المرضيّة في الإدراك، والمفروض أنّ

٢٧٣

الحالة الصحّيّة المتّزنة هي أنّه إذا رأى النتائج مُقنعة للنفس بشكل قطعي، وبمعزل عن ميوله الشخصيّة وقناعاته الخاصّة، فإذا كانت النتائج بنفسها موزونة ومنتجة، فاللازم أن يُسلّم ويُذعن ويقرّ بها.

فقيمة الشكّ إذاً من جهة الفحص والوصول إلى النتائج، أمّا إذا كان الشكّ محطّة دائمة فيصبح صورة سلبيّة وصفة مذمومة،

وكما يقال: فإنّ العلوم خزائن مفتاحها السؤال(1) .

ومن ثَمّ ذهبَ الفقهاء وعلماء الكلام إلى أنّ مَن اعتقدَ عقائد الحق لا عن دليل، فهو وإن كان من الناجين - إن شاء الله - إلاّ أنّه قد ارتكب معصية؛ لأنّه لم يعتقد ذلك عن دليل وبرهان، إذ إنّ العلم بالحقائق عن دليل واجب، وإن كانت النجاة مرهونة بصرف اعتقاد الحقّ ولو كان عن تقليد(2) .

فالاعتقاد والاعتناق عن تقليدٍ - بدون تفكير وتدبّر - لا يُعتبر اعتقاداً تامّاً؛ لأنّه يكون في معرض الحرمان والزوال، بخلاف الاعتناق والاعتقاد عن دليل وبرهان وحجّة، فإنّه يظلّ دائماً متمسّكاً بتلك العقيدة، ثابت القدم على أركانها.

حصيلةُ المطاف: هذان نموذجان بشكل مختصر عن التقديس والتشكيك، أين موضعهما من أفعال النفس، ومتى يصبحان حالة مرضيّة، أو حالة سليمة في

____________________

(1) قال الخليل: العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها، نهج البلاغة 20: باب 486: 247.

(2) مثلاً: مَن يتّبع هذه الحقيقة عن تقليد وهي: أنّ الكهرباء قاتلة؛ فإنّه سوف ينجو من الكهرباء وإن كان اعتقاده عن تقليد وبدون دليل، ولكن لو عَلم بأنّ الكهرباء قاتلة عن طريق الدليل لمَا كان في معرض الشكّ؛ لأنّ الذي يبني على أنّ الكهرباء قاتلة من دون دليل، قد يكون في معرض الوقوع في هلكة الكهرباء؛ لأنّه قد يشكّكه أحد، فالإذعان بالحقائق - ولو عن تقليد - أمر له فائدته، لكن ليس كمَن يعتقد ويذعن بالحقائق عن دليل وبرهان.

٢٧٤

جهاز الوجود للنفس.

أمّا البكاء: فعلينا التعرّف أنّ حكم الفعل من قِبل أيّ جناح من أجنحة النفس يصدر، وهل له ارتباط مع جناح آخر للنفس؟ وهل هو صحيح وسليم مطلقاً؟ أو قد يكون حالة مرضيّة؟

تعريفُ البكاء

يُعرّف اللغويّون البكاء: بخروج الدمع حزناً وتأثّراً(1) ، وهذا التعبير إنّما هو باللازم للمعنى الحقيقي، أمّا علماء الأخلاق والحكماء فقالوا: إنّ البكاء هو حالة انفعال في الجناح العملي للنفس، وهو ما يسمّى بتأثّر الضمير والوجدان في الإنسان، سواء خرج الدمع أم لا، مع الصيحة أو بدونها.

والمقصود بالضمير والوجدان: هو تأثّر الجانب العملي الذي فيه مزيج إدراكي؛ (لأنّا أشرنا إلى أنّ الجناح العملي في النفس في بعض درجاته وإن كان عمليّاً، إلاّ أنّه ممزوج بالإدراك، أي فيه جنبة إدراكيّة، يعني ليست جنبة عمليّة بحتة) نظير قوّة العقل العملي، نظير الشوق، إذ لابدّ من إدراكٍ ما، ثُمّ يستتبعه العمل، ونظير الغضب، وما شابه ذلك.

على كلّ حال، فبعض الدرجات العمليّة هي موجودة بالإدراك.

البكاء: فعل ناتج وناشئ من القوى النفسيّة الموجودة، وهو عبارة عن حالة

____________________

(1) قال الجوهري: البكاء يُمدّ ويُقصر، فإذا مددتَ أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرتَ أردت الدموع وخروجها.

٢٧٥

انكسار، أو تأثّر، أو انفعال - تعبيرات مختلفة - في الجانب العملي نتيجة لإدراك ما، وذاك الإدراك هو إدراك لحرمان ما؛ لأنّ الكمال لم يستتمّ لدى الإنسان حتّى ينفعل تشوّقاً إليه، فقد يكون البكاء عن تشوّق، وقد يكون عن حزن لفقد حقّ من الحقوق، وقد يكون مزيجاً من الحزن والشوق، وهكذا.

المهمّ أنّه نوع من الانفعال في الجانب العملي في النفس نتيجة لإدراك ما، وهذا الإدراك هو فقدٌ لشيء ما، سواء في صورة الحزن، أو في صورة الشوق، وإلاّ لو كان الإنسان حاصلاً على ذلك الشيء فإنّه لا يتشوّق إليه، هذا تعريف إجمالي من الحكماء أو علماء الأخلاق للبكاء.

وأمّا حكم البكاء - بأنّه على الإطلاق حالة سليمة في النفس، أم هو حالة مرضيّة، أو على التفصيل - فلابدّ هنا من التفصيل؛ لأنّ البكاء يتّبع معنىً ما، هذا الانفعال في الجانب العملي يتّبع معنىً معيّن، فإن كان المعنى الذي يتّبعه الانفعال النفسي بحيث يكون الانفعال عنه ايجابيّاً، وذلك المعنى هو معنىً حقيقي وصادق إن كان ناشئاً عن معنىً صادق وحقيقة صادقة، والتأثّر كان إيجابيّاً، فيكون حالة صحيحة في النفس، وأمّا إن كان المعنى الموجود معنىً غير صادق، أو كان صادقاً لكنّ التأثّر به غير ملائم، فسوف يكون سلبيّاً.

مثلاً إذا كان إنسان يبكي لفقد كمال معيّن: كعِلم معيّن، أو احترام معيّن، أو قدرة معيّنة - ماليّة أو غير ماليّة - بكى لفقدها، فإدراك هذا الفقد حقيقي وليس كاذباً، حيث أدرك أنّه فاقد للكمال، والمفروض أنّ كماليّة ذلك الشيء واقعيّة، فإنّ تأثّره بهذا الفقدان أيضاً شيء إيجابي؛ لأنّ المفروض أنّه يتأثّر كي يستعدّ للحركة، ولزيادة شدّة حركة النفس وطاقتها وانشدادها باتّجاه ذلك الكمال، ولزيادة

٢٧٦

السعي نحو تحصيل ذلك الكمال، وعلى عكس المقولة المعترضة على ظاهرة البكاء بأنّه يُعدّ مفرّغاً للطاقة، بل هو يزيد سعرات الطاقة ويسرّع حركة النفس نحو تحصيل ذلك الكمال، نعم، هو مفرّغ للحصر النفسي - كما يعبّر به علماء النفس - لا أنّه يوجب تخفيف تشوّق النفس نحو المطلوب ونحو المتشوّق إليه.

أمّا لو فقدَ الإنسان شيئاً، وكان ذلك الشيء موجوداً عند صديقه، وبكى لأجل إزالة الشيء عن صديقه وحصوله عنده، فهذا نوع من الحسد طبعاً، إن كانت المعلومة صادقة، وهي فقد ذلك الكمال، ولكن تأثّره موجّه باتّجاه أن يسعى لإزالة كمال عن الآخرين، ولا ريب أنّ هذا التأثّر سلبي وليس تأثّراً ايجابيّاً، فتارة تكون المعلومة صادقة ولكنّ التأثّر خاطئ.

أو أنّ الإنسان قد يفقد أعزّ أحبّته فيتأثّر وهو جيّد، لكن إذا اشتدّ البكاء أو تحوّل إلى حالة من السخط والجزع والاعتراض على الله سبحانه أو..، فهذا المظهر يكون خاطئاً، وإن كانت المعلومة صادقة؛ لأنّ تأثّره وِجّه بتوجيه خاطئ، ولغاية معيّنة، وإنّ أيّ فعل عملي ترتكبه النفس، كأي فعل إدراكي ترتكبه النفس دائماً يكون لغاية، فلابدّ أن نلاحظ العلّة، ونلاحظ العِلل الفرعيّة، والعلّة الغائيّة، كما في العلّة الماديّة والصوريّة.

فحينئذٍ، إذا كان البكاء منطلقاً ومتولّداً من معلومة حقيقيّة، فيكون صحيحاً، وإذا كان تأثّره موجّهاً إلى غاية كماليّة هادفة، فإنّه أيضاً يكون إيجابيّاً وسليماً.

بخلاف البكاء الذي يكون لأجل غاية سلبيّة، وبخلافة ما إذا كان مع الصبر والتحمّل.

والبكاء إنّما يحصل للتأثّر ولبيان المحبّة التي كانت بين الباكي وبين المفقود

٢٧٧

مثلاً، الذي لأجله حصل البكاء، فيعتبر هذا نوع من الصلة للميّت، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما فقدَ ابنه إبراهيم:(تدمعُ العين، ويحزنُ القلب، ولا أقول إلاّ ما يرضي ربّنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون) (1)، وفي رواية أخرى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لو عاشَ إبراهيم لكان نبيّاً) (2) هذا نوع من إظهار المحبّة والرحمة.

فالفعل الذي يصدره الجناح العملي للنفس تأثّراً بالجانب الإدراكي في النفس يُشترط فيه أمران لكي يكون إيجابيّاً:

أحدهما: أن يكون منطلقاً من إدراك صادق ومعلومة حقيقيّة.

الثاني: أن تكون غايته غاية هادفة وإيجابيّة.

وإذا اختلّ أحد هذين الشرطين يكون البكاء سلبيّاً.

هذا ما قرّره العلماء في البحوث العقليّة والحكميّة والأخلاقيّة وفي علم النفس، على نحو الإجمال، حول موضوع البكاء.

في علم النفس وعلم الاجتماع الحديث يذكرون في بعض تعريفاتهم: أنّ البكاء تنفيس عن الضغط؛ لأنّ الإنسان قد تتكدّس عليه ضغوط، فتنشأ منها حالة البكاء لدى الإنسان، ويكون بكاؤه نوعاً من التنفيس والتخفيف، هذه هي كلماتهم بغضّ النظر عن تصويبها أو تخطئتها أو مقارنتها مع ما ذُكر في علوم أُخرى(3) .

____________________

(1) بحار الأنوار 16: 235 / ح 35.

(2) بحار الأنوار 22: 458 / ح 4.

(3) وجود ظاهرة اجتماعيّة وهي: أنّ مَن يُصاب بحادثة أو مصيبة يحاول أن يتّخذ مجالس تعزية بالإجارة، (وعلماء النفس والسيكولوجيا في أوروبا يوصون بذلك) بأن يُستأجر

٢٧٨

ففي علم النفس الحديث - السيكولوجيا - ثبتَ بأنّ الذي تلمّ به فادحة ومصيبة ويتّخذ البكاء كوسيلة لتهدئته والتخفيف عنه، يكون أبعد من غيره في احتمال وقوعه في الاختلال الروحي، حيث يكون لديه اتّزان روحي في الحوادث والمصائب، وإنّ نفسه تسلم وتطهر وتتخلّص من العقد، بخلاف الذي يمتنع عن البكاء ويتجلّد، حيث تنشأ لديه نوع من العُقد والاعتقادات الخاطئة، أو تتكوّن لديه وساوس وأحقاد على البشريّة، وربّما تصيّره وحشاً على مَن حوله أو على بيئته بسبب تلك الاعتقادات الخاطئة.

فالبكاء يولِّد نوع من الاتّزان الروحي ووقاية عن الاختلال الروحي في النفس، ويُحصّنها من ابتلائها بالعُقد.

وتَذكر إحصائيّات في هذا الصدد أنّ مَن يمارس البكاء - سيّما النساء - يَسلم عادة من الأمراض النفسيّة أو العُقد، أو من تلك الحالات التي تكون قريبة من الكآبة والتمرّد على المجتمع.

طبعاً هذه الضمائم نسبيّة، والجانب العاطفي عند المرأة أكثر من الجانب العاطفي عند الرجل، ومن ثَمّ فإنّ مقابلة الرجل للصدمات أكثر من المرأة، ولذا جَعل الدين الإسلامي الرجل هو القيّم، وجعلَ بعهدته الجانب الإداري والتنفيذي؛ لأنّه أشدّ وأصلب.

ولكن نفس هذا التحليل جُعل إشكالاً وعاد انتقاداً على ظاهرة البكاء، بتقريب أنّ البكاء يُنفّس عن الإنسان الحالة الضاغطة، فهو يُقلّل سعرة الحركة

____________________

جماعة، ويتباكون معه للتنفيس عن الضغط الذي حلّ بصاحب المصيبة، وهو نوع من الحالة الصحّيّة لمَن ألّمت به المصيبة والفادحة.

٢٧٩

والعمل؛ لأنّه يُنفّس ويهدّئ، فيبرد الإنسان ويبقى على حالة اتّزانه، فمن ثَمّ يكون البكاء سلبيّاً في بعض الموارد.

مثلاً: إذا وقعَ الظلم على الإنسان فهو ينفّس عن نفسه بالبكاء، وبذلك يرجع إلى الحالة الطبيعيّة ويفقد السعرة والطاقة والباعث نحو التصدّي والمقابلة لذلك الفعل الموجّه ضدّه، ويتقاعس عن أخذ حقّه، وهو أثر سلبي.

وفي الجواب نقول: إنّ البكاء ينفّس عن الحالة الضاغطة، لا أنّه يُقلّل السعرة ويُخمد الهمّة لاسترجاع الحقّ، بل على العكس؛ لأنّ المفروض أنّ البكاء لابدّ أن يوجّه إلى غاية معيّنة، مثل: أنّ المظلوم يبكي لفقد حقّ من حقوقه وفقد ما هو كمال له، وهذا وإن نفّس عن نفسه من جهة الضغط المتراكم عليه نتيجة ذلك الفقدان، لكن لا زال البكاء يزيد المظلوم تشوّقاً إلى ذلك الكمال والحقّ المطلوب، فلا يكون نوعاً من تقليل السعرة والإرادة لإرجاع حقّه، فإذا كان أحد الناس فاقداً لشيء وبكى لفقده، فإنّنا نرى بالوجدان والعيان أنّه يزداد إرادة وتصميماً من ناحية، وطاقةً وعملاً من ناحية أخرى نحو تحصيل ذلك المفقود منه، وإنّ بكاءه لا يُعيقه ولا يمنع حركته بتاتاً، فالإشكال بأنّ البكاء هو نوع من الممانعة نحو الحركة للكمال على إطلاقه غير صحيح وغير سديد.

وما ذكرهُ علماء النفس أو علماء الاجتماع الحديث، لا يتضارب مع ما نقوله: من أنّ البكاء على تفصيل بلحاظ اجتماع الشرطين(1) يكون ايجابيّاً، ومع فقد أحدهما يكون سلبيّاً، أمّا أنّ البكاء هو حالة انقهاريّة وانهزاميّة للنفس فهي مقولة غير سليمة على إطلاقها.

____________________

(1) ذكرنا الشرطين ص: 274 من هذا الكتاب.

٢٨٠