الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد0%

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 440

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 114386
تحميل: 5001

توضيحات:

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114386 / تحميل: 5001
الحجم الحجم الحجم
الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومن عمدة البحث أن نرى الرؤية الشرعيّة حول حقيقة البكاء، هل يرى الشارع أنّ البكاء حالة سلبيّة أم ايجابيّة؟ وعلى التفصيل فهل يكون بتوفّر الشرطين السابقين ايجابيّاً وإلاّ كان سلبيّاً كما ذَكر الحكماء وعلماء الأخلاق.

ولابدّ من استعراض الآيات القرآنيّة العديدة والروايات الواردة في هذا الموضوع، ومن ثَمّ نبدأ في تحليل تفصيلي لأجوبة بقيّة الإشكالات السبعة.

وما تقدّم من الشرطين في إيجابيّته: هو مورد توافق العلوم العقليّة والإنسانيّة التقليديّة القديمة في البشريّة، والعلوم النفسيّة والإنسانيّة الحديثة (من: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم السيكولوجيا) وهي تتوافق تقريباً على مثل هذا التقسيم للبكاء.

وعلماء الاجتماع يلاحظون ظاهرة مفارقة بين بلدان الشرق - سيّما الشرق الأوسط - وبين بلاد الغرب، ويشاهدون أنّ في الشرق ظاهرة وفور من العاطفة والأحاسيس، وإنّ كثيراً من الفضائل الأخلاقيّة التي هي من سنخ القوى العقليّة في النفس، سواء كانت تلك الفضائل العقليّة عملاً محضاً، أو كانت مزيجاً من جهات إدراكيّة علميّة، يلاحظون ويرون بأنّ نظم العاطفة ونظم الوجدان الموجود في الشرق - لا سيّما الشرق الأوسط - أقوى بمراتب بما لا يقاس منه في الغرب، وكأنّما الغرب فقط قوالب إدراكيّة، طبيعة الإنسيّة البشريّة الموجودة هناك كأنّها تقتصر على قوالب إدراكيّة قد فُرِّغت من الجانب العاطفي والجانب الروحي.

ومن ثَمّ نجد الإحصائيّات تشير - في مجالات عديدة - إلى بروز الأمراض الروحيّة والعُقد وتَفكّك الأُسرة، إلى غير ذلك ممّا هو مرتبط بجانب العاطفة

٢٨١

والوجدان والروح والخلق المتعلّق بالجانب العملي.

فهناك فارق شاسع جدّاً بين بلاد الشرق (الأوسط) وبلاد الغرب، بين أولئك الذين يتّخذون نمطاً من الحياة المادّيّة والذين يتّخذون نمطاً من الحياة الروحيّة، ولو كانوا على غير دين الإسلام من بلاد الشرق: كالهنود والبوذيّين وما شابه ذلك، وقد أضحى هؤلاء - في الآونة الأخيرة - يتخوّفون من الغزو الثقافي الغربي والأمريكي، الذي يكاد يهدّد الثوابت الروحيّة والعاطفيّة لديهم.

والقوانين المدنيّة إنّما وجِدت لأجل سلامة المحيط الاجتماعي، وهو - مع قلّة الحريّات في المجتمعات الشرقيّة وتخلّف القانون الوضعي - يُعدّ في الشرق أسلم منه من الغرب.

والسرّ في ذلك: هو أنّ الإنسان في زوايا نفسه ودرجات روحه لا يقتصر على جناح الإدراك، وهو ليس مجرّد علبة كمبيوتريّة تُزقّ بالمعلومات، الإنسان يحتوي على جناح عملي أيضاً، بل الجناح الإدراكي ليس يقتصر على قنوات إدراك، بل فيه إدراكات روحيّة وما يسمّى بالحاسّة السادسة، وهي غير الإدراكات الحصوليّة التي هي من قبيل المفاهيم، والإدراكات الباطنيّة التي هي في أعماق الروح يُعبّر عنها الحكماء القدماء بالقلب والسرّ والخفي والأخفى، يعني الدرجات، فضلاً عن الجناح العملي في النفس، فكثير من أجنحة النفس ليست إدراكاً محضاً، والجناح الإدراكي الفوقاني(1) هو غير جناح الإدراك التحتاني(2) الذي ذَكرنا له درجات، وهي: الوهم، الخيال، العقل النظري.

____________________

(1) جناح الإدراك الفوقاني: هو الإدراكات الحضوريّة الوجدانيّة.

(2) جناح الإدراك التحتاني: هو الإدراكات الحصوليّة بتوسّط القوى الفكريّة.

٢٨٢

الجناح الإدراكي الفوقاني في النفس هو: القلب، السرّ، الخفي، الأخفى، أو ما يسمّى بأعماق الباطن في النفس، أعماق النفس الباطنة - في الفلسفة الحديثة - ليس صرف إدراك محض، بل فيه جذب وقطع، وصل ونفرة، انقباض وانبساط، إقبال وإدبار.

هذه حالات غامضة روحيّة تناولتها الشريعة والفلسفة القديمة والحديثة والعرفان بالتحليل والدراسة، فهذه حالات ليست حالات إدراكيّة جافّة فقط، كذلك الجانب العملي في النفس: الغضب، الشهوة، الغرائز المختلفة، قوّة العقل العملي، الإرادة، الصبر، الشجاعة، العفّة، هي كلّها من أفعال النفس التي يتكفّل بها دائماً الجانب العملي في النفس وليس الجانب الإدراكي النازل، فالجانب العملي - سواء النازل(1)، أو العملي الفوقاني(2) - في الإدراك الفوقاني، هو من الجوانب العمليّة في النفس وليس إدراكات جافّة محضة.

فلو ألقى المتحدّثون على الناس عشرات المحاضرات، والعديد من الأفكار من دون تطعيمها بعاطفة صادقة ومن دون إثارة عمليّة للأفكار، لم تحصل الفائدة المرجوّة لذلك! بل النتيجة: قوالب جافّة، وسوف لن تصل هذه البرامج الفكريّة المحضة في تأثيرها إلى البرامج العمليّة، ولن يؤثّر ذلك بالمجتمع في طريق إصلاحه، مع أنّ الغاية من البرامج الفكريّة هو الإقدام العملي في شرائح المجتمع.

وهذا نظير ما يقوله القائل في شأن المرحليّة الفكريّة والفكر من دون تطعيمه

____________________

(1) الجانب العملي النازل مثل: الغضب، والشهوة، والغرائز المختلفة.

(2) الجانب العملي الفوقاني: هو إدراك حضوري مزيج مع العمل.

٢٨٣

بعاطفة صادقة، وقد شرحنا العاطفة الصادقة حينما تطرّقنا في البحث عن البكاء الصادق.

حيث إنّ البكاء الصادق هو أحد الحالات والظواهر العاطفيّة الصادقة كالتقديس، باعتبار أنّ تحقّق الإدراك الصادق يحصل بمتابعة غاية صادقة وصحيحة، فتنشأ العاطفة الصادقة، أي تكون العاطفة ترجماناً عمليّاً للفكرة.

وأمّا تزريق: المستمع، أو القارئ، أو المُشاهد بأفكار ومعلومات من دون أن تستثير فيه الجانب العملي والعاطفي؛ فإنّه سيُخفق في التأثير عليه، ولن ينجح في إرشاده إلى الصلاح، سواء في التربية المدرسيّة، أو الاجتماعيّة، أو الدينيّة، أو الحسينيّة، ومثل تلك الطريقة لن تصلحه ولن تستثيره، بل المفروض هو: أن تشحذ همّة إرادته حيث توجد عنده إرادة عازمة حازمة، لكي يبدأ بتغيير مسيره.

بينما البكاء يختصر الطريق، البكاء أو العواطف الصادقة تختصر الطريق أمام آلاف المحاضرات والأفكار، وإنّ فكرة جامعة لمادّة غنيّة بالأفكار مقرونة بإثارة عاطفيّة صادقة نابعة من هذه الفكرة الإجماليّة الجامعة الصحيحة، رُبّما تقلب الإنسان رأساً على عقب، فيتبدّل وضعه، وتتغيّر بيئته السلبيّة، وينقلب فجأة إلى العزم للمضي نحو الفضائل، وينشأ ذلك من الإثارة العاطفيّة الصادقة، إذ المفروض أنّ الإثارة العاطفية الصادقة رسالة، مُستمعها (المُرسل إليه) هو الجانب العملي في النفس، والجانب العاطفي في النفس، المنفعل والمتقبّل لها هو الجانب العاطفي في النفس، فإذا كان المشتري والسامع والمنفّذ لها هو الجانب العملي في النفس، فهذا اختصار للطريق، وبعبارةٍ أخرى، فإنّ معيّة الفكر مع العاطفة أو مع الجانب العملي في النفس ضرورة لا يمكن التفريط بها للوصول إلى الإرشاد

٢٨٤

والإصلاح الاجتماعي، أو الفردي، أو التربية السليمة والكمال المنشود.

ومن ثَمّ حصلَ الفارق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة، فمن الخطورة بمكان أن ننحو نحو سلبيّات الغرب، بخلاف إيجابيّات الغرب - من التقدّم العلمي والتكنولوجي - فإنّه لابدّ من الأخذ بهما.

أمّا أن نكون مَجمعاً للروافد السلبيّة المنتشرة والشائعة في مجتمعاتهم، فهذا مرفوض من الأساس؛ لأنّ حقيقة الفطرة الإنسانيّة مزدوجة من جانبين، بل قيادة النفس إنّما هي بالإرادة، والإرادة صفة عَمليّة، والذي يوجدها ويولِّدها ويثيرها ويحرّكها هو جانب العاطفة - العاطفة الصادقة - أو جانب العقل العملي الصادق الوليد للجانب الإدراكي.

فإذا فقدَ الإنسان إرادته، فإنّه سوف يفقد كلّ شيء في شخصيّته، فالإرادة - التي هي أثمن شيء في الوجود، وهي الصفة التي امتاز بها الإنسان عن بقيّة المخلوقات - لابدّ من تطعيمها بعاطفة صادقة، فحينئذٍ من الجناية على المجتمع والفكر والحقيقة بمكان أن نُسمّي الفكر الجاف، أو نسمّي عدم التفاعل الصادق مع الحقائق والجمود في قبال الحقائق، نسمّيه نوع اعتدال، أو نوع تقدّم، أو حالة حضاريّة، بل هي حالة تخلّف تقودها جاهليّة الغرب، وهم يعانون منها الآن، ونحن بالتبع نجترّها، نجترّ فضلاتهم بعناوين برّاقة زائفة وأثواب جميلة خادعة، ونتنازل عن المفاهيم والعناوين الصادرة عن تراثنا.

هذه لقطة أخيرة من حقيقة البكاء، وهي: أنّ البكاء وأخواته من الأفعال العاطفيّة النفسيّة إذا كان ضمن الصور الإيجابيّة، فهو من كمالات النفس ومن

٢٨٥

كمالات المجتمع والبشريّة، التي تحتاج إليها لتصل إلى رُقيّها المنشود.

وأمثلة المفردات العاطفيّة: التشكيك، والتقديس، والبكاء.

ونذكر الآن مفردة أخرى، وفعلاً عمليّاً آخر يثار وهو: وصف شخص بأنّه عاطفي وانتقاده؛ لأنّه يتأثّر بالخبر مباشرة سلباً أو إيجاباً، وإنّ الشخص السوي والسليم: هو الذي إذا رأى صورة صادقة لا يتأثّر بها ولا يتحمّس لها، وإذا رأى صورة باطلة لا يتنفّر منها ولا يرفضها، وبعبارة أخرى: غلق باب العقل العملي، وقد عرفتَ أنّ العقل العملي من فطرة الله سبحانه، وإنّ الغاية منه قيادة حركة نورانيّة في النفس، بحيث ينفّرها عن المنكر والنقص والمساوئ، ويجذبها نحو الخير والكمال والفضائل، فهو حبل ربّاني نوراني وهداية ورحمة إلهيّة.

هذه الفطرة التي أنعمَ بها الباري عزّ وجل على الإنسان، لماذا نطمسها؟ ولماذا نقول: بأنّ العاطفة في الإنسان تعتبر حالة شاذّة! العاطفة ليست بجميع صورها خاطئة، العاطفة ترجمان عملي صادق حقيقي طبيعي للإنسان إذا كان ناتجاً عن معلومة صادقة، أو تأثّر بالنفرة والإنكار من معلومة كاذبة، كيف تُلغى العاطفة من وجود الإنسان، كيف تُهمل من وجود المجتمع، اللهمّ إلاّ أن نَصْبوا إلى مجتمع مفكّك عن العاطفة والأخلاق، كالمجتمع الغربي الذي يسبح في بحر الرذائل ويتخبّط في أدنى مستوى من الانحطاط.

التناسبُ الطردي بين المعلومة والعاطفة

نعم، الجدير بالذكر: أنّ كلّ معلومة لها حجم مقدّر من العاطفة في علم السيكولوجيا، إذا زاد التفاعل معها عن حجمها كان إفراطاً، وإذا نقص عن

٢٨٦

حجمها كان تفريطاً، وهذا مقرّر في تعاليمنا الدينيّة، مثلاً: على الإنسان أن لا يتعدّى بالغيرة على غيرة الله في محرّماته، فإذا جعلَ الله لشارب الخمر حدّاً معيّناً، فيجب أن لا تشتدّ الغيرة فيُحدّ أكثر من حدّ الله سبحانه، فإنكار المنكر اليسير يختلف عن المنكر المتوسط والمنكر الشديد الذي يصل إلى حدّ الكبيرة، والكبائر أيضاً لها درجات، فالزائد يكون إفراطاً وليس في محلّه، وهناك ترابط، فكلّ معلومة لها حجم عاطفي معيّن لابدّ أن يتولّد منها، وعدم تولّده يعني مسخ الفطرة الإنسانيّة عمّا هي عليه؛ لأنّ المفروض أنّ المُدركة لابدّ أن تُترجَم على الصعيد العملي، ولو لم تُترجَم فلا فائدة من الإدراك، وهذا هو الفرق بين النفس وبين الكمبيوتر، وبينها وبين الكتب، وبينها وبين مجرّد المعلومات.

فالفكرة والمعلومة كما هي خطيرة جدّاً، وكذلك العاطفة والمقولة العاطفيّة الصحيحة خطيرة جدّاً أيضاً، وخطورتها إيجابيّة أيضاً، سواء في النفس، أو في الإنسان، أو في المجتمع، وكما أنّنا لا يمكننا إلغاء الأفكار فكذلك لا يمكننا إلغاء العاطفة الناتجة من تلك الأفكار، وتبديل العلم إلى الجهل مساوق لإلغاء وتعطيل العمل، وقوام العمل بالزخم الروحي والقوّة العاطفيّة الصادقة التي تقوم بها النفس، من البكاء والتقديس والتأثّر.

وهذا المنحى المادّي، أو اللاروحي، أو اللاخلقي، ينتشر في الأوساط الفكريّة العلمانيّة والأوساط الإسلاميّة المتأثّرة بالعلمانيّة تدريجيّاً، وهو أمر بالغ الخطورة.

هذا مُجمل البحث التخصّصي في موضوعات ظاهرة البكاء، حيث ألقينا الضوء على البكاء من ناحية تخصصيّة بغضّ النظر عن الفقه، وبغضّ النظر عن

٢٨٧

روايات الشريعة الواردة في خصوص البكاء على الحسين (عليه السلام)، بغضّ النظر عن ذلك كلّه، وفي الواقع فإنّ الشريعة لا تتناول البكاء فقط، بل تتناول كثيراً من الأفعال العمليّة التي تقوم بها النفس وتمارسها ولكن وفق شروط وضوابط معيّنة.

البكاءُ في القرآن الكريم

1 - ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (1)، فالقرآن يُثني على ظاهرة البكاء التي تنشأ من درك الحقيقة، أي أنّه يمدح التأثّر والتحسّس العاطفي الذي يكون البكاء مظهراً من مظاهره، وقسماً من أقسامه، يمدحه القرآن ويصفه بأنّه: تأثّر صادق ومطلوب وطبيعي وفطري وكمالي إذا نتج من معلومة حقيقيّة( وَإِذَا سَمِعُوا... تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) ، وهنا إشارة لنفس الشرطين اللذين ذكرناهما باعتبار أنّه تأثّر من المعلومة الحقيقيّة.

2 - ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) (2) ، فيمدحهم القرآن على

____________________

(1) المائدة: 82 - 83.

(2) التوبة: 91 - 92.

٢٨٨

تأثّرهم، هذا التأثّر هو على نحو الانفعال البكائي نتيجة التشوّق للمشاركة في فعل الخير من الجهاد والإنفاق، هذا التأثّر يمدحه القرآن ويصفه بأنّه: فعل إيجابي وكمالي.

3 - ( قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأذقَان سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ للأذقَان يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (1) .

مَدحهم لأجل البكاء والتأثّر، ولو كانوا يستمعون فقط لمَا أُنزل من الوحي ولا يبكون، فلن يكون لديهم خشوع، والخشوع - الذي هو ذروة الحالات النفسيّة العمليّة - هو في الواقع حالة عمليّة، ليس من الجناح العملي النازل، بل من الجناح العملي الصاعد، حيث مرّ بنا أنّه من أجنحة النفس الذي هو: القلب، السرّ، الخفيّ، الأخفى.

فالخشوع: هو فعل من أفعال القلب وليس فعلاً من أفعال الغرائز، وليس فعلاً من أفعال العقل العملي، وليس فعلاً من أفعال الشهوة، وليس من أفعال الحس ولا من الإدراك الحصولي؛ إنّما هو فعل من أفعال إدراك الباطن العلوي في النفس وهو القلب، فلولا البكاء لمَا حصل ذلك الفعل العلوي للنفس( وَيَخِرُّونَ للأذقان يَبْكُونَ ) ؛ لأنّه ناتج من معلومة صادقة وغاية صادقة، وهو الفرار من الذنوب والتشوّق إلى النشآت الأبديّة الخالدة، وهذا التشوّق والتأثّر يمدحه القرآن، وهو سير نفساني، وسير حقيقي في النشآت الأبديّة الخالدة، يمدحه القرآن الكريم وإن لم ندركه نحن الآن، وسيُكشف لنا الغطاء - إن شاء الله - فندرك أنّ

____________________

(1) الإسراء: 107 - 109.

٢٨٩

هذا السير النفساني هو سير في تلك النشآت وكمال فيها.

4 - ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ...) تَذكر هذه الآية الأنبياء والصفة البارزة لكلّ نبيّ منهم، إلى أن تقول:( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (1) ، فالأنبياء هم الأمثولة المحتذى بها والأنموذج المقتدى للبشريّة، وهم المَثل السامي للبشريّة، والقرآن الكريم يمدحهم بأنّ لهم تأثّراً عاطفيّاً يظهر بشكل البكاء.

( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ ) على نحو القضيّة الحقيقيّة، أي: كلّما تُليت آيات الرحمان - ولو على مرّ الدهور - فهناك فئة ممّن هداهم الله سبحانه واجتباهم يتأثّرون بها فيخرّون للسجود ويبكون( إِذَا تُتْلَى... خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) .

5 - عندما أُخبر يعقوب بأنّ ابنه الثاني أيضاً قد أُخذ منه، قال:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ (2) تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (3) يعني: ما أمارسه هو فعل من الأفعال الراجحة، ويعقوب نبيّ من أنبياء الله عزّ وجل، والقرآن يُخلّد ذكره ويُخلّد فعله لنا، ويُعطينا قدوة نموذجيّة وأمثولة للاقتداء به في هذا التفاعل

____________________

(1) مريم: 58.

(2) لا تفتأ، لا تنقطع.

(3) يوسف: 83 - 86.

٢٩٠

العاطفي، هذا البكاء والتشوّق لنبيّ آخر هو من أبنائه ليس تشوّقاً إلى كمالٍ زائل؛ وإنّما هو تشوّق لنبوّة نبيّ آخر، فالغاية سامية، والتأثّر لأجل صلة الرحم.

بكاؤه استمرّ طيلة غياب يوسف، وأدّى إلى بياض عينيه( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ) يعني: عَميت، اشتدّ به البكاء إلى درجة العمى، فالبكاء كان باختياره، فإذا كان النبي يتشوّق ويبكي إلى هذا الحد، وقد كان ضمن مَن وَصفهم الله عزّ وجل( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ... ) (1) ، فيعقوب ضمن هؤلاء الأئمّة، ومع ذلك يتشوّق إلى نبي مثله، فكيف إذا تشوّق غير النبي وغير المعصوم إلى المعصوم، وهل يكون تشوّقه أو بكاؤه - لو وصلَ به الأمر إلى الإضرار بالعين - فعلاً محرّماً، هذا بحث آخر سيأتي في جهة الضرر الحاصل بسبب الشعائر.

فهذا نوع من السلوك والخُلق النبويّ الذي سطّره لنا القرآن الكريم بُغية الاحتذاء به واتّباعه، حيث يقول في آخر السورة:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (2)، وبهدف التأسّي من هذه النماذج(3) .

حينئذٍ، هذا الفعل من يعقوب (عليه السلام) أورده الباري سبحانه في هذه السورة لأجل أن يُحتذى به، وهو فعل كمالي وليس فعلاً مذموماً أو فيه منقصة، وآية

____________________

(1) الأنبياء: 73.

(2) يوسف: 111.

(3) وكما قال الزمخشري مخاطباً الأشاعرة مع أنّه من العامّة، في ذيل الآية( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (يوسف: 24): قاتَلهم الله، عمدوا إلى سورة ضربها الله مثلاً للبشريّة إلى يوم القيامة؛ احتذاءً لعفّة النبي يوسف، فجعلوها نقضاً على الله سبحانه في كتابه.

٢٩١

( فَارْتَدَّ بَصِيراً ) تدلّ على أنّه أُصيبَ بالعمى، تصل الدرجة لنبي من الأنبياء أنّه مارسَ البكاء بهذه الشدّة، فكيف يمكن أن يكون الفعل سلبيّاً، بل فعله ايجابي، ولذلك ضربهُ الله سبحانه أنموذجاً يُحتذى به.

6 - ( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ) (1) ، فيها زجر ونهي عن الضحك، وعن الإمساك عن البكاء.

فما تُطالبنا به هذه الآيات الكريمة هو: البكاء المتوفّر فيه الشرطان السابقان: وهو انطلاقه وتولّده من معلومة حقّانيّة، واندراجه تحت غاية كماليّة، مثل هكذا بكاء يمتدحه القرآن أشدّ مدح.

- في الجانب الآخر هناك آيات تنهى عن الفرح المذموم، مثل:

سورة هود: 10( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) .

هذه الآيات تذمّ الفرح( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) (2) ، والفرح الذي يكون منشأه حَدث دنيويّ يذمّه القرآن أشدّ الذم،( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (3) يعني بما عند الله بالآخرة، يُخصّص الفرح الممدوح بما يكون في سياق النشأة الأخرويّة، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فَرحاً: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر) (4) .

____________________

(1) النجم: 59 - 60.

(2) القصص: 76.

(3) يونس: 58.

(4) مقاتل الطالبيّين (أبو الفرج الأصفهاني): 6؛ الاحتجاج (الطبرسي) 1: 172.

٢٩٢

نعم، هذه في سلسلة النشأة الأخرويّة، وأمّا ما لا يصبّ في سبيل النشأة الأخرويّة فيذمّه القرآن أشدّ ذم، ويُخصّص شطراً كبيراً منه بذمّ الفرح إلاّ ما كان قد تعلّق بالتشوّق إلى الجانب الأخروي.

وأمّا الخشية والخشوع - اللذان هما صفتان وفعلان نفسيّان قريبا الأفق من البكاء - فهما صنفان يتلازمان ويتزامنان مع البكاء، والآيات المادحة لذلك كثيرة جدّاً(1) .

الخشية، أو الخشوع والإشفاق: حالات نفسيّة من أفعال الجانب العملي في النفس، وتكون مقرونة بالبكاء، بل في أكثر الأحيان ناشئة منه، ولا تنفكّ غالباً عنه، وإذا كان ما هو ناتج عن البكاء مُستحبّاً وراجحاً ومرغوباً فيه في الشريعة، فالسبب (وهو البكاء) أيضاً مرغّب فيه من قِبل الشريعة أيضاً.

لذا فإنّ البكاء من خشية الله يُعدّ من أعظم العبادات، حتّى أنّه وردت روايات عديدة في أنّ البكاء في الصلاة من أفضل أعمالها.

فنظرة الشريعة - من خلال الآيات والروايات - تدلّ على أنّ البكاء المتوفّر فيه هذان الشرطان: هو من الأفعال الكماليّة النفسانيّة ومن الفطرة المستقيمة للبشر، والقرآن يمدح هذه الحالة في أنبيائه ورسله، ويضرب لنا في ذلك أُمثولة وقدوة نتأسّى بها حتّى في الحزن، فنظرة الآيات القرآنية - وقبل أربعة عشر قرناً - تُقرّر وتُثبت ما توصّلت إليه

____________________

(1) مثل: سورة الزمر: 23( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ) ، الحديد: 16، الأنبياء: 90، الحشر: 21.

٢٩٣

البحوث العقليّة والعلوم الحديثة: من أنّ البكاء ليس سلبيّاً على إطلاقه، بل أغلب وأكثر أفراده إيجابيّةً.

بعضُ الأدلّة الواردة في البكاء

أمّا الروايات الواردة في الحثّ على البكاء، والمدح والثناء للباكين، فمنها:

1 - بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّه حمزة، وحثّه وترغيبه البكاء عليه، ويظهر ذلك من عدّة أدلّة تاريخيّة، منها:

أ) قال ابن الأثير وغيره: لمّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة قتيلاً بكى، فلمّا رأى ما مُثّل به شهقَ(1) .

ب) وذكرَ الواقدي: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذٍ(2) إذا بكت صفية يبكي، وإذا نَشجت ينشج. قال: وجَعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

ج) روى ابن مسعود، قال: (ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكياً قط أشدّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لمّا قُتل - إلى أن قال - ووضعه في القبر، ثُمّ وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله على جنازته وانتحبَ حتّى نشغ(4) من البكاء...)(5) .

د) ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في ص: 40 من

____________________

(1) أُسد الغابة 2: 48.

(2) أي: يوم أحد.

(3) كما نقلَ ذلك السيّد شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد: 293.

(4) النشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغشي.

(5) ينابيع المودّة (القندوزي) 2: 215؛ شرح مسند أبي حنيفة (ملاّ علي القاري): 526؛ ذخائر العقبى (أحمد بن عبد الله الطبري): 181.

٢٩٤

الجزء الثاني من مسنده: من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رجعَ من أُحد، جَعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنّ، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(ولكنّ حمزة لا بواكي له ، قال: ثُمّ نام، فانتبهَ وهنّ يبكين، قال:فهنّ اليوم إذا يبكينَ يندُبن حمزة) .

- وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي، قال: لم تبكِ امرأةٌ من الأنصار على ميّت - بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لكنّ حمزة لا بواكي له) - إلاّ بدأنَ بالبكاء على حمزة(1) .

2 - بكاءُ النبي جعفر بن أبي طالب وحثّ النساء بالبكاء عليه:

فقد أخرجَ المزّي في تهذيب الكمال عن مغازي الواقدي، بسنده عن أم جعفر بنت محمّد بن جعفر، عن جدّتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحتُ في اليوم الذي أُصيبَ فيه جعفر وأصحابه، فأتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد هيّأتُ أربعين منّاً من أُدُم، وعجنتُ عجيني، وأخذتُ بَنيّ، وغسلتُ وجوههم، ودهنتُهم، فدخلَ عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:(يا أسماء، أين بنو جعفر؟

فجئتُ به إليهم فضمّهم وشمّهم، ثُمّ ذَرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلّه بَلغك عن جعفر شيء، فقال:نعم، قُتل اليوم.

فقالت: فقمتُ أصيح واجتمعَ إليّ النساء.

____________________

(1) عن كتاب النص والاجتهاد: 297؛ وهناك شواهد كثيرة على ثبوت بكاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحثّه عليه، وقد جمعَ أكثرها السيّد عبد الحسين شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد: 297، فراجع.

٢٩٥

قالت: فجعلَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:يا أسماء، لا تقولي هَجراً ولا تضربي صدراً ، قالت: فخرجَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى دخلَ على ابنته فاطمة، وهي تقول:واعمّاه.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :على مِثل جعفر فلتبكِ الباكية .

ثُمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :اصنَعوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم) (1) .

3 - بكاءُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولده إبراهيم: ما أخرجه البخاري في صحيحه، قال فيه:

ثُمّ دخلنا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإبراهيم يجود بنفسه، فجُعلت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تذرفان.

فقال له عبد الرحمان بن عوف: وأنت يا رسول الله؟

فقال:(يا بن عوف، إنّها رحمة، ثُمّ أتبعها بأخرى.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلاّ ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) (2) .

وبكى كذلك على عثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وزيد بن حارثة(3) .

4 - ما وردَ في خطبة الأمير (عليه السلام) في وصف المتّقين، وشدّة انفعال همام إلى حدّ الموت، فصُعق همام صعقةً كانت نفسه فيها، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):(أمَا

____________________

(1) تهذيب الكمال (المزي) ج 5: 60.

(2) صحي البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي:(إنّا بكَ لمحزونون) .

(3) راجع كتاب النص والاجتهاد: 295.

٢٩٦

والله لقد كنتُ أخافها عليه، ثُمّ قال:هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين(1) ، فقال:ويحك إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه ولا يتجاوزه، فمهلاً لا تعُد لمثلها فإنّما نفثَ الشيطان على لسانك) (2) .

5 - وما ذكرهُ الأمير (عليه السلام) عندما غارت خيل معاوية على الأنبار، وقُتل حسّان بن حسّان البكري، فكان (عليه السلام) متأثّراً ومتذمّراً، وهو يستنهض الناس في الكوفة للقتال ضدّ معاوية، فكان يقول (عليه السلام):(ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حِجلها وقلائدها ورُعثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثُمّ انصرفوا وافِرين، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أُريقَ لهم دمٌ، فلو أنّ امرءاً مسلماً ماتَ بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً) (3) .

فهو (عليه السلام) يصف شدّة الانفعال من جهة الغيرة(4) (الغيرة: هي أيضاً صفة نفسانيّة، عاطفيّة، منطلقة ووليدة من إدراك معلومة حقيقيّة، ولأجل غاية حقيقيّة، وهي الذبّ عن حريم الدين، وحريم المسلمين، والدفاع عن شرف وكرامة

____________________

(1) أي: لمَ سبّبتَ له ذلك.

(2) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبدة 2: 160، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 10: 149.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(الغيرةُ من الإيمان، والبذاء من الجفاء) ، كتاب النوادر (قطب الدين الراوندي): 179؛ بحار الأنوار 103: 250 / 44.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(كان إبراهيم أبي غيوراً، وأنا أغيَر منه، وأرغمَ الله أنف مَن لا يغارُ من المؤمنين) بحار الأنوار 103: 248 / 33.

٢٩٧

المؤمن).

إذاً، الجامع بين الخشية والخشوع والأسى والحزن هو شدّة الانفعال، وهو من المعاني الحقيقيّة، هذه الشدّة لا يعتبرها الإمام إفراطاً، ولا مغالاة، مثلَ ما وقع من النبي يعقوب( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) ، أو كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام):(بل كان به عندي جديراً) ، حيث يصفها بأنّها فعلٌ كمالي.

6 - وأيضاً، في زيارة الناحية التي نَقلها صاحب البحار، وهي منسوبة للإمام الحجّة (عليه السلام):(فلأندُبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدلَ الدموع دَماً حسرةً عليك وتأسّفاً وتحسّراً على ما دَهاك) (1) ، فهذا نوع من شدّة الانفعال التي هي ليست بمذمومة بل ممدوحة ومطلوبة.

7 - أيضاً في القصيدة التي ألقاها دعبل الخزاعي في محضر الرضا (عليه السلام):

أفاطم لو خِلت الحسين مجدّلاً وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذاً للطمت الخدّ فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوَجنات(2)

فَعلا صُراخ حرم الإمام (عليه السلام) من وراء الستر، ولطمنَ الخدود، وبكى الإمام الرضا (عليه السلام) حتّى أُغميَ عليه مرّتين من شدّة الانفعال والتأثّر.

8 - ما يُذكر في التاريخ من إغماء أمير المؤمنين (عليه السلام) مراراً من خشية الله في صلاة الليل، وهي مسندة في تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) في المصادر المختلفة، ونفس الحالة ثابتة أيضاً لباقي الأئمّة (عليهم السلام).

____________________

(1) بحار الأنوار 101: 238 / 38.

(2) ذكرها الصدوق مسندة في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 263؛ بحار الأنوار 45: 257 / 38.

٢٩٨

9 - ما ذكرهُ صاحب كامل الزيارات ابن قولويه(1) ، ونقله صاحب البحار أيضاً من كامل الزيارات نفس الرواية(2) الواردة في بكاء السجّاد (عليه السلام) وقول مولىً له: جُعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال (عليه السلام):(إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ خَنقتني العبرة) .

- وفي رواية أخرى: أمَا آنَ لحُزنك أن ينقضي؟!

فقال له:(ويحكَ، إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً، فغيّبَ الله واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودبَ ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرتُ إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني) (3) .

- وذكرَ صاحب حُلية الأولياء: أنّه (عليه السلام) بكى حتّى خيفَ على عينيه(4) .

10 - ما ذكرهُ الصدوق في عِلل الشرائع(5) ، من العلّة التي من أجلها جَعل الله عزّ وجل موسى خادماً لشعيب (عليهما السلام) وهي: لكثرة بكاء النبي شعيب من خشية الله حتّى عميَ مرتين أو ثلاث، يُعمى ويردّ الله عليه بصره، ثُمّ يبكي بشدّة ويردّ الله عليه بصره، حيث وردَ في هذه الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(بكى شُعيب (عليه السلام) من حُبّ الله عزّ وجل حتّى عَمي، فردّ الله عزّ وجل عليه بصره، ثُمّ بكى حتّى عَمي

____________________

(1) في الباب 35.

(2) بحار الأنوار 46: 108 / 1.

(3) بحار 46: 108.

(4) المصدر السابق.

(5) علل الشرائع: 1 / 74، 57 / باب 51.

٢٩٩

فردّ الله عليه بصره، ثُمّ بكى حتّى عميَ فردّ الله عليه بصره، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب، إلى متى يكون هذا أبداً منك، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك، وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبَحتك، قال: إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيتُ خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك، ولكن عُقد حبّك على قلبي، فلستُ أصبر أو أراك، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: أمَا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدِمك كليمي موسى بن عمران) (1) .

11 - فِعل الرباب زوجة الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّها من شدّة التأثّر لم تستظلّ تحت السقف(2) عاماً كاملاً إلى أن توفّيت، وكان ذلك بمسمع وبمرأى من السجّاد (عليه السلام)، أي مع تقرير المعصوم على هذا الفعل، فيكون نوعاً من التصحيح والإمضاء له.

وهناك موارد عديدة غير ذلك تُصوّر شدّة الانفعال، وتدلّ على رجحان البكاء، والجامع بين هذه الموارد والصور المتعدّدة للتفاعل العاطفي هو شدّة التأثّر للإدراكات الحقيقيّة، ولعلّ المتتبّع يجمع أكثر من هذه الموارد بكثير.

حينئذٍ يظهر أنّ البكاء والتأثّر العاطفي من معلومة حقيقيّة وإدراك حقيقي هو لأجل غاية حقيقيّة، وهذه من خاصّيّة النوع الإنساني وخاصّيّة الفطرة الإنسانيّة، ومن دون ذلك سوف يفقد الإنسان إنسانيّته ويكون حاله حال الجمادات، ويكون أدون من العجماوات، حيث أثبتَ القرآن الكريم أنّ للسماء والأرض

____________________

(1) عِلل الشرائع 1: 57.

(2) لواعج الأشجان (السيّد محسن الأمين): 223.

٣٠٠