نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)0%

نهضة الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 138

نهضة الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
تصنيف: الصفحات: 138
المشاهدات: 50911
تحميل: 4224

توضيحات:

نهضة الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 138 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50911 / تحميل: 4224
الحجم الحجم الحجم
نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالناهض بفِكرة صالحة، لابُدَّ وأنْ يُثابِر على نشره، والدعوة إليه، ثابت العَزم، راسخ القَدم، لا تُزحزحه عواصف العواطف، ولا تُزلزله قواصف المـَخاوف، ولكنْ عليه أنْ يستخدم في سبيلها العِبر، والغير والأحوال، وبقاء الحال مُحال، حتَّى لو وجد مُحيطه بالغ الفساد، غير صالح للإصلاح، استبدل عن المكان بمكان، وعن الجيران بجيران، تلك سُنَّة الأنبياء والمـُصلحين، حتَّى إذا فاز بهيئةٍ صالحةٍ، وقوَّة مُسلَّحة، عاد إلى مركزه(والعَود أحمد) كذلك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن مَكَّة، ثمَّ إليها وذاك موسى مِن مِصره، ثمَّ إليه، هذا، وليس حسينُ التاريخ بِدْعاً مِن رُسل الإصلاح؛ إذا هاجر مِن موطنه خَوفاً على مَسلكه، أو أملاً بنهضته.

فقد سَمِعتَ الأسباب، التي دَعت حسيناً أنْ يُغادر يثرب خائفاً يترقَّب، فاسمع الآن آثار هذه الهِجرة، وحُسْن انعكاسها في العالم الإسلامي.

قد سَبق أنَّ المـُخابرات بين المدينة والمـُدْن، كانت تحت المـُراقبة ومفقودة الوسائل والوسائط، فصارت حركة الحسينعليه‌السلام قضيَّة ذات بالٍ تَناقلتها المـَحافل والقَوافل، والناس بعد حُلوله أُمَّ القُرى، ومَن حولها سوابلَ جاريةً إلى الجهات، فانتشر الخبر بأهميَّة لا مزيد عليها، حتَّى صار حديث كلِّ اثنين يَجتمعان.

-(ما وراك؟) .

-(هاجر الحسين عليه‌السلام مِن مدينة جَدِّه) .

-(لماذا؟) .

-(لأنَّ يزيد قصد إرغامه على مُبايعته) .

٤١

-(نَعمْ، نِعْمَ ما صنع الحسين عليه‌السلام ، فإنّه لو بايع يزيد الجائر المـُتجاهر بفِسقه؛ فعلى الإسلام السلام، إذاً ما ترى أنْ يكون؟) .

-(ليس سوى اجتماع المسلمين حوله، ونصبه خليفة كأبيه عليٍّ عليه‌السلام ؛ ليُحيي بعلمه معالم دين جَدِّه؛ ويُحامي بغيرته الهاشميَّة عن مصالح المسلمين؛ ويُنقذ بقوَّة إيمانه العلويِّ أحكام القرآن النازل في بيته) .

هذه وأمثالها، كانت أحاديثَ أكثر المـَجامع يومئذٍ في الحِجاز أوَّلاً، وفي سائر الأقطار بعده، وما فاز الحسين بهذه الإذاعة والإشاعة، إلاَّ بخروجه مِن المدينة مَظلوماً، وناقماً على الظالمين.

٤٢

الحسين وابن الزبير

استقوت بحركة الحسينعليه‌السلام عزائم ابن الزبير، وأجهر أيضاً بخِلاف يزيد ورفض بيعته، ولازم مَكَّة أُمَّ القُرى، يسلُك مَسلك الحسينعليه‌السلام لمْ يصرّح بالدعاء إلى شَخصه، وإنَّما أجهر برفض بيعة يزيد فقط بالتقيَّة مِن شَرِّ أُميَّة، راضياً بأنْ يُخلِّي له السِّرب؛ كي يَنفذ إلى ثَغرٍ مِن الثغور.

كذلك الشريعة تَقضي على المسلم، إذا لم يَسعه إظهار دينه في بلده، أنْ يُهاجر منها إلى مأمن، لا يضطرَّه إلى التقيَّة، وسبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحرى بالتزام شريعته، وكان يتَّسع نطاق شيعته يوماً فيوم، لإخلاص الحسينعليه‌السلام في أمره، وجليِّ فضله وسموِّ شَرفه، وكرم مَحتدِه، لكنَّ حزب ابن الزبير، وإنْ كان صغير، قد نفع الحسينعليه‌السلام ، في تنفير العامَّة مِن بَني أُميَّة، وكانت لابن الزبير وأبيه سابقة سوء مع عليِّعليه‌السلام ، في بدء خِلافته، بالرغم مِن القُربى الماسَّة بينهم؛ حتَّى قال عنهما عليٌّعليه‌السلام :

٤٣

(لمْ يَزل الزبير مِنّا، حتَّى نشأ ابنه عبد الله)، لكنَّما الغاية المـُشتركة وضُعفهما تجاه العدوِّ القوي، دعاهما إلى تجديد عهود الولاء، ونسيان سوالف البَغضاء؛ فصار يزور كلٌّ منهما الآخر عَشيَّةً وضُحاه، وقد صار لمـَظهر اتِّحاد ابن الزبير مع الحسين أثرٌ حَسَنٌ، ورهبة في نفوس مَن عاداهم، ومَن عداهم، وذهبت الرُّسل مِن الحَرمين إلى يزيد بأخبارٍ مُذعِرة، وبصورةٍ مُكبرة؛ دعته إلى التأهُّب عليهما بكلِّ ما أوتي مِن قوَّة ومَكيدة، فأرسل عمرو بن سعيد والياً على المدينة، وأميراً على الموسم، مُزوَّداً بالتعاليم، وموعوداً بالتأييد، فقَدِم مَكَّة ليلة التروية.

٤٤

وضعيَّة الإمام في مَكَّة

حَلَّ الحسينعليه‌السلام في حرم الله؛ مُستجيراً به مِمَّن يريدون إرغامه على مُبايعته لرجُلِ الجَور والفُجور، وقد استحسن المسلمون اعتصابه واعتصامه بالتقاليد المـُقدَّسة عند المسلمين، فأخذ المـُتقدّمون إلى الحَجِّ يتهافتون عليه، ويهتفون بالدعوة إليه، يطوفون حوله، هذا يلتمس العِلْم والحديث، وذاك يقتبس منه الحِكَم النافعة، والكَلِم الجامعة؛ ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة، والرجُل بينهم مِرآة الكرامة والشهامة، ومِثال الحِكمة والسلامة؛ فطارت في الأقطار أخباره وآثاره، فتواترت الكُتب والرُّسل، والوعود والوفود، سيَّما مِن كوفة العراق (عاصمة أبيه) مِن وجوه شيعته ومواليه؛ إذ بلغهم هلاك معاوية، فارجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسينعليه‌السلام ، وامتناعه مِن بيعته، وما كان مِن أمر ابن الزبير في ذلك، وخروجهما إلى مَكَّة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة، في مَنزل سليمان بن صرد الخزاعي، فذكروا هلاك معاوية؛ فحمد الله سليمان وأثنى عليه، ثمَّ قال:(إنَّ مُعاوية قد هلك، وإنَّ حسيناً قد نقض على القوم أمرهم، وقد خرج إلى مَكَّة،

٤٥

وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنَّكم ناصروه ومُجاهدوعدوّه، فاكتبوا إليه، وإنْ خِفتم الفَشل والوَهن، فلا تغرُّوا الرجُل في نفسه...) .

قالوا:(لا، بلْ نُقاتل عدوَّه، ونقتل أنفسنا دونه) ، وكتبوا إليه الكتب في أواخر شعبان.

وشَذَّ ما ترى في الكتب المـُرسلة، كتاباً بإمضاء الواحد والاثنين، وإنَّما هي رِقاع (مَضابط)، موقَّعة بأسماء آحاد وعشرات مِن وجهاء ورؤساء (شيوخ) يعترفون بإمامته، ويتمنّون قدومه إليهم، بألفاظ جَذَّابة، ولكنْ كذَّابة، ومواعيد جَلاَّبة، ولكنْ خَلاَّبة.

والمشهور أنَّه أحصوا عليه في أيَّام قلائلَ كُتُبَ اثني عشر ألف، فاختلف عند ذلك الإشارات عليه مِن أصحابه وخاصَّته، فمنهم المـُشير عليه بإقامة مَكَّة، وإرسال عُمّاله ودُعاته إلى الجِهات.

ومنهم المـُشير عليه بالذهاب إلى اليمن، مَنبت الصدق والإيمان، ومَهبِّ الحِكمة والعروبة، وقد سبق منهم لأبيه ولاؤهم الصادق، منذ ولاَّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لولا أنّ المتوّجه إلى اليمن ينقطع خَطّ رجعته، كما تَنقطع مواصلاته مع الآفاق.

ومنهم المـُشير عليه بالمـَسير إلى العراق، عاصمة أبيه، ومَوطن أصحابه ومواليه، ومَعدن الفروسة والفراسة، ومَنبت الأموال والرجال، وهما قوْام كلِّ حكومة.

٤٦

الحسين عليه‌السلام يَختار الكوفة

كانت خُطَّة الحسينعليه‌السلام ، إلى حين تواتر الرُّسل والكتب إليه، خُطَّة دفاعٍ عن نفسه، والالتجاء مِن آثام بيعة يزيد إلى مَلجأ حَصين.

غير إنَّ صَريخ البلاد والعباد، وهِتاف الأنصار والأمصار به، وله، وإليه حولا فِكره مِن دفاع مَحدود، إلى دفاع وسيع النِّطاق، رجاء نُصرة الدين، ودفع عادية الظلمة عن المسلمين، فاستخار الله، وندب إلى العراق، بعدما أرسل إليهم ليث بني عقيل، مُسلماً ابن عمِّه، حتَّى إذا وجدهم على ما كتبوا إليه، توجَّه إليهم بنفسه وأهله، وكان مسلم كبقيَّة آل عليعليه‌السلام ، رجُلَ الصدق والصَفاء، ومِثال الشجاعة والإيمان، فقام لأمر صِهره وسيّده الحسينعليه‌السلام ، وما قَدِم الكوفة إلاَّ وتكوَّفت جماهير الرؤساء لأخذ يمينه؛ يُبايعونه نائباً عن الحسين، وقد كان لآل عليعليه‌السلام ، وفي صدورهم عِتاب مع أهل الكوفة، في خُذلانهم الحسن بن عليعليهما‌السلام ، واغترارهم بدراهم معاوية، لكنْ حُسْن استقبالهم لمسلم مَحى كلَّ عِتاب، وكفَّر كلَّ ذنبٍ، سيَّما وإنَّ الكرام سريعو الرضا، والمـُصلِح لا يَحفظ غِلاً أو حِقداً.

٤٧

فكتب مسلم إلى الحسينعليه‌السلام بإقبال العامَّة، وإخلاص الخاصَّة، نادمين على ما فرَّطوا في جنب البيت الهاشمي، الذي كان سلطانه أنفع لدينهم، وحَثَّ الحسينعليه‌السلام على القدوم إلى العراق؛ ليُجدِّد على ربوعه معالم أسلافه.

٤٨

بنو أُمية والخطر الحسيني

أخذت قضيَّة الحسينعليه‌السلام تُحرِّك العزائم، وتُنبِّه المشاعر في الدوائر الأُمويَّة، وساد القَلق على حُلفائهم وأوليائهم، وهم عالِمون أنَّ حسيناً يضرب على أيدي الجائرين، ولا يُولِّي فاسقاً أمر المسلمين؛ فغدت رجال الحكم الأُموي ألسِنَةً وعيوناً، وأقلاماً وسيوفاً، ضِدَّ الحركة الحسينيَّة، سيَّما في مناطق العِراق والحِجاز، واستفزَّوا قبل كلِّ شيء حكومة الشام، والهيئة المـَركزيَّة بالتأهُّب للخطر الهاشمي؛ فكتب عمر بن سعد، وعمارة بن عقبة، وعبد الله بن مسلم، وأضرابهم إلى يزيد:

(أمَّا بعد، فإنَّ مسلم بن عقيل قَدِم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسينعليه‌السلام ، فإنْ يَكُن لك في الكوفة حاجة، فابعث إليها رجُلاً قويَّاً، يُنفِّذ أمرك، ويعمل مِثل عملك في عدوِّك؛ فإنّ النعمان بن بشير (والي الكوفة) رجل ضعيف أو يتضعَّف).

وكأنَّهم ورُسلهم استلفتوا أنظار حكومة الشام، إلى أنَّ العراق مفتاح الشرق الأدنى، وهو باب الشرق الأوسط؛ فالحسين (عليه

٤٩

السلام) إذا رسخت أقدامه بين النهرين، وأهلوهما شيعة أبيه، ومَدائن كِسرى تواليه(مُنذ وَلْيَها سلمان، وتزوَّج بشاه زنان) ، فأنوار مباديه تشعُّ على ربوع إيران؛ فيكون له منهم أنصارُ المال، وأنصارُ الحرب، وأنصارُ الرأي والإرادة، وأنصارٌ لنشر مَعارف القرآن، وعلوم شرع جَدِّه الزاهر، فإذا توفَّق بهم على تكوين حكومة راقية؛ صار أولى مِن أُميَّة بالولاية على الأقطار، حتَّى الحجاز والشام؛ لأنَّ المـُهيمن على العراق يُهدِّد أبداً خُطوط مواصلات الشام للحرميَن، وربَّما يُجدِّد العراق على الشام حرب صِفِّين، حينما أرض الشام خالية مِن الداهيتيَن: مُعاوية، وابن العاص.

أمَّا يزيد، فلم يَكُن منه بادي بدء، سِوى استشارة (سرجون) مولى أبيه معاوية، في كُتُب القوم إليه؛ فأشار عليه باستعمال عبيد الله بن زياد على العراق، وكانت بينه وبين يزيد برودة، وأبرز سرجون ليزيد عهداً كان معاوية قد كتبه في هذا الشأن، قُبيل وفاته(1) ، فوافق يزيد على ذلك، وانتهى إلى ابن زياد أمره، وكتب إليه:

(أمَّا بعد: فإنَّه كتب اليَّ شيعتي مِن أهل الكوفة، يُخبرونني أنَّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع؛ ليَشُق عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا، حتَّى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتَّى تُثقِّفه، وتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه. إلى آخره).

فأخذ ابن زياد مِن كتاب يزيد ورسوله، قوَّة وبصيرة، وصلاحيَّة واسعة في صرف المال، وبَثَّ المواعيد، ومَنحه الاختيارات التامَّة.

____________________

(1) العقد الفريد، لابن عبد ربَّه ج2 ص306، وإرشاد المـُفيد ص184.

٥٠

رأت حكومة يزيد مِن الدهاء والحزم، سكوتها عن ابن الزبير مُوقَّتاً، حتَّى يَحسم الزمان أمر الحسينعليه‌السلام ، الذي أصبح يُهدِّد كيان أُميَّة أيَّ تهديد، فإذا قضت أُميَّة لُبانتها مِن الحسينعليه‌السلام ، سَهل عليها أمر ابن الزبير؛ لأنَّ المرعوبيَّة تسود على أضداد يزيد، بعد الإجهاز على الحركة الحسينيَّة؛ ولأنَّ موقع ابن الزبير في النفوس، ليس كموقع الحسينعليه‌السلام ، سيَّما وابن الزبير شحيح (ولا يَسود إلاّ مَن يجود)؛ ولأنَّ ابن الزبير لم يرتبط ببلاد ذات خيرات وبركات، كالعراق واليمن، حتَّى يستفيد مِن مِيرتها وذخيرتها لجيشه، لو انتضى له جيش! فلو فُرِض استمراره على خِلاف يزيد بعد الحسينعليه‌السلام ؛ فجُند أُميَّة يُحاصره في بلاد الحجاز، القاحلة بين الجبال والرمال، حتَّى يُسلِّم هو وجُنده، أو يُقاتل وحده والوحيد مغلوب.

٥١

الكوفة في نَظر الحسين عليه‌السلام

شاعت مُبايعة العراق للحسينعليه‌السلام بالإمامة، ففَرِح أولياؤه وأهل الحَرمين، وتفاءلوا مِن ذلك بعود الحَقِّ إلى أهله، عسى أنْ تموت البِدع، وتحيا السُّنن، لكنَّ خاصَّة الحسينعليه‌السلام بعد الإطلاع على سَفر مسلم إلى الكوفة، كانوا بين مُحبِّذٍ ومُخطِّيء، ويُمثِّل الأخير عبد الله بن عباس (رضي الله عنه)، فجاء إلى الحسينعليه‌السلام يُحذّره مِن الرواح إلى العراق، ويُذكِّره بخُذلانهم أخاه وعصيانهم أباه، في حين أنَّهم لم يكونوا يحلمون بإمام كأبي الحسينعليهما‌السلام ، أشرف الناس، وأذكاهم، وأفصحهم، وأسخاهم وأعلمهم، وأتقاهم، يلبس الخشِن ويكسوهم حِلله، ويبيت طاوياً ويُنفِق عليهم مأكله، ويَكدُّ مِن سَعي وسَقي، ويتصدَّق على الفُقراء، وإذا شُنَّت عليهم الغارات؛ فهو في مُقدِّمة المـُدافعين عنهم، يخوض بنفسه حومة الوغى، حتَّى يهزم الجمع ويولّون الدُّبُر، فأيُّ إمامٍ يكون لهم كعليٍّعليه‌السلام ، وكيف كافئوه وأهله في حياته وبعد وفاته.

نعم، إنَّ ابن عباس كان حِبرَ الأُمَّة، ووليَّ الأئمة، ربَّاه

٥٢

أمير المؤمنينعليه‌السلام وعلَّمه، وأسرَّ إليه مِن صَفوة مَعارفه، وكان راجحَ العقل والفضل والأخلاق، وكان مِن أعزِّ أقرانه على الحسينعليه‌السلام ؛ فإنَّ عليَّاً قام في سنوات اعتزاله الخِلافة بتربية غُلمـَة في المدينة مِن أُسرته وأحبته.

لكنَّ الإمام لم يأخذ برأي مُحذِّرٍ؛ إذ كان يَحسب نفسه في وادٍ والمـُحذِّر في وادٍ؛ فحسين الفِخار(ونفس أبيه بين جنبيه) لا يَسعه إلاّ أنْ يُلبِّي المـُستغيث به، ولا يُطيق الصبر على مَحْق الدين، وسَحْق الموحِّدين، ولو ذاق في جهاده الأمرَّين.

إنَّ غاية ما كان يراه الحسينعليه‌السلام ، في تحذير المـُحذِّرين، أنَّ العراق لا يَفي بوَعده، ولا يقوم على عهده، فهبْ أنَّ ذلك كذلك، فما ضَرَّ الإمام أنْ يُتمَِّ الحُجَّة عليهم، قبل أنْ يُتمِّوا الحُجَّة عليه، فإنْ ظفر بمَطلبه مِن إبادة الظالمين فبها ونِعْمَتْ، وإلاَّ سار عنهم إلى الثغور القاصية، حتَّى يفتح الله عليه بالحَقِّ وهو خير الفاتحين، أو يأتيه الموت؛ فيُلاقي ربَّه غير خاضع لأعدائه.

أمَّا رَحْلُ الحسينعليه‌السلام وفِتيته، فكانوا كلَّما ذكروا العراق، تجلَّت لديهم ذكرياته الحُسنى، وتذكَّروا حَنانه نحو الغريب وطلاوة الحديث الجَذَّاب، والعواطف الرقيقة، وذكروا عذوبة ماءه، وطْيب هوائه، عِلاوةَ ذِكرى مَن ألفوه بالكوفة، مِمَّن تبودِلت بينه وبينهم الحقوق، والنِّعم، والعواطف، والحسنات.

فكأنَّ هذه، والتي سبقت، خواطرَ مُهمَّة أدَّت إلى المسير نحو العراق، وقَبول ما استدعاه وكيله الأمين (مسلم) في كتابه؛ غير إنَّ الجميع واثقون مِن أنَّ الرحيل إلى العراق لو كان، فإنَّما يكون بعد فريضة الحَجِّ، وبعد الأضحى.

٥٣

خُروج الحسين عليه‌السلام مِن مَكَّة

كان الحسينعليه‌السلام أوسع علمٍ، وأقوى ديناً مِمَّن انتقدوا عليه الخروج مِن مَكَّة، قبل إكمال الحَجِّ، مُستبدِلاً حَجَّه بعُمرةٍ مُفرَدة؛ ليتسنَّى له الخروج يوم التروية، ومُجاوزة حدود الحرم بأقرب وقت مُمكِن؛ إذ صار بين جاذبٍ ودافعٍ، تجذبه ظاهراً أنباء حِجَّاج العراق، بأنّ ابن زياد تأهَّب للخروج مِن البصرة نحو الكوفة، والحسينعليه‌السلام يعرف مَبلغ دهائه وريائه، وقوَّة إقدامه وجَسارته، وأنَّه إذا سبق الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة، قَلَب القلوب، وقَطَع عليه الدروب، واستعمل لخُذلان مسلم كلَّ وسيلةٍ وحيلةٍ، وأنَّ مُسلماً بنفسيَّته الحربيَّة، قد تَخْفَى عليه الحركات السياسيَّة؛ فلا يَنجح مع ذلك الشيطان رجُل المروءة والإيمان؛ فخرج إلى الكوفة مُسرعاً، إنقاذاً لمـُسلم وللمسلمين.

وأمَّا دافعه مِن الحرم، فعلمه بالمـَكايد المـُدبَّرة مِن خصومه لحصره، أو اغتياله في مَكَّة مِن حين تَفرُّق الحاجِّ منه؛ فيُصبح إمَّا مَقتول، أو مُقاتَل، وفي كِلا الأمرين هَتْكُ الحرم، المـَمنوع فيه سَفك

٥٤

الدم، وقد بدت قرينة مُناوأته، في قُدوم عمرو بن سعيد، عامل يزيد قَبل التروية بيوم، وتَقدُّمه إلى الصلاة بالمسلمين، وبَثِّه العيون حول الحسينعليه‌السلام ، وحول ابن الزبير، فصلَّى الإمام، فطاف وسعى، وحَلَّ الإحرام، ثمَّ خرج. وبعدما عَرِف عمرو بن سعيد، صرخ بالناس قائلاً:

(أركبوا كلَّ بَعير بين السماء والأرض، واطلبوا حسيناً، ولم يَحتشم حُرمة البلد الأمين، ولا النبيِّ الأمين).

بادر الحسينعليه‌السلام بمسيره، قبل أنْ يُبادر العدوُّ إلى صَدِّه وإحصاره، أو اغتياله؛ وألجأته الضرورة إلى حركة غير مُنتظَرة، وخارج الحُسبان، وأوجد بمسيره هذا ثورة فِكريَّة؛ أوجبت انتشار خبره بسرعة البرق.

وحقَّاً أقول: إنَّ الحسينعليه‌السلام مُجتَهد في نيَّته، ومُستفرِغ كلَّما في وسعه، في نشر دعوته، في عصرٍ ومِصرٍ شحَّت وسائل النشر فيهم؛ فكان لخروجه في غير أوانه دويٌّ يَرنُّ صداه في الداخل والخارج، والناس يتسائلون عن نبأه العظيم، وعن أنَّ الحسينعليه‌السلام هل حَجَّ أو خرج؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ وإلى أين؟

هذا والحسينعليه‌السلام يسير بموكبه الفخيم، وحوله أهله كهالَةٍ حول القمر، كأنَّ موكبه داعية مِن دُعاته؛ فإنّ الخارج يومئذ مِن أرض الحَجِّ والناس متوجهون إلى الحَجِّ، لابُدَّ وأنْ يستلفِت إلى نفسه الأنظار، وإنْ كان راكباً واحداً، فكيف برَكبٍ أو موكبٍ؟

إنَّه لأمر مُريب وغَريب، يستوقف الناظر، ويستجوب كلَّ عابرٍ.

وهذه أيضاً عمليَّة، مِن شأنها شُهرةَ أمر الإمام، وانتشار خبره الهامِّ، ومِمَّن كان قادِماً إلى الحَجِّ، واستجلب نظره الركب والموكب

٥٥

الفرزدق الشاعر.

قال:حَجَجت بأُمِّي في سنة سِتِّين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحَرم، إذ لقيت الحسين بن علي عليهما‌السلام خارجاً مِن مَكَّة مع أسيافه وأتراسه، فقلت لمـَن هذا القطار؟

فقيل: للحسين بن عليعليهما‌السلام ، فأتيته وسلَّمت عليه، وقلت له:(أعطاك الله سؤلك، بأبي أنت وأُمِّي، يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحَجِّ؟)

فقال: (لو لمْ أُعجِّل لأُخِذت).

ثمَّ قال لي: (مَن أنت؟).

قلت:(أمرؤ مِن العرب، فلا والله ما فتَّشني عن أكثر مِن ذلك) .

ثمَّ قال لي: (أخبرني عن الناس خلفك).

فقلت:(مِن الخَبير سألتَ، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل مِن السماء) .

وسألته عن أشياء: مِن نذورٍ، ومناسك فأخبرني به، وحَرَّك راحلته، وقال: (السلام عليك).

وكان موكب الحسينعليه‌السلام ، يسير في بطون الفيافي والمفاوز، وقوافل القلوب تُشايعه مِن بُعدٍ بَعيد، وخفيف إلحاذ مِن عُشّاقه مُصمِّمٌ على الالتحاق بموكبه، بعد أداء فريضة الحَجِّ بأقرب ساعة، لكنَّ الإمام يُجِدُّ في مَسراه، والقمر دليل الركب ورفيقه، ولمـّا بلغ بَطْنَ عقبة، لقيه شيخ مِن بَني عِكرمة، فسأله أين تريد؟

فقال الشيخ:(أنشدك الله لَمْا انصرفت، فو الله، ما تُقدِم إلاَّ على الأسنَّة وحَدِّ السيوف، وإنَّ هؤلاء الذين بعثوا إليك، لو كانوا كفوك مَؤنة القتال، ووطئوا

٥٦

لك الأشياء، فقَدِمت عليهم كان ذلك رأياً) .

فقال له الإمام: (ليس يَخفى عليك الرأي، ولكنَّ الله تعالى لا يُغلَب على أمره).

ثمَّ قالعليه‌السلام : (والله، لا يدعونني حتَّى يستخرجوا هذه العَلقة مِن جَوفي، فإذا فعلوا سَلَّط الله عليهم مَن يُذلّهم، حتَّى يكونوا أذلَّ فِرق الأُمَم).

٥٧

ابن زياد على الكوفة

أمّا عبيد الله بن زياد، فقد ضَمَّ يزيد الكوفة إليه، مع البصرة، فحَسِب ذلك ضَرباً مِن الترفيع، سيَّما وقد أُعطي سِعة في النفوذ، والسلطة التامَّة العامَّة، فمهَّد أمره في البصرة، وعهد بأزمَّتها إلى أخيه، وإلى أعوانه المـُجرَّبين، خَوفاً مِن نشر الدعاية فيها لابن الزبير، أو الحسينعليه‌السلام ، وتأهَّب إلى الكوفة، مِن حيثُ لم يعلم العامَّة أمره، وسُرعان ما قَدِمها بكلِّ جَسارة، ودخلها مُتنكِّراً ومُتلثِّماً، وعليه عِمامة سوداء، يوهِم الناس إنَّه الحسين بن عليعليهما‌السلام ، وصار مَن يُصادفونه في خِطط الكوفة وطُرقاتها، يزعمونه الحسين السبط، فيُسلِّمون عليه بالإمامة، ويُحيِّونه بكلِّ كرامة، ويقبِّلون يديه ورُجليه، وهو لا يُكلِّم أحداً فوق راحتله، حتَّى بلغ قصر الإمارة، فطرق الباب على واليِّها المحصور النعمان بن البشير، حتَّى إذا عرفه فتح الباب ودخل.

عند ذلك فشى خبره أنَّه ابن زياد؛ فباتت الكوفة تلك الليلة تَغلي كالمـَرجِل، والناس بين مُثبِّت ومُثبِّط، وابن زياد دخل البلدة وَحْدَه،

٥٨

وعلى حين غُرَّة، ولم ينزل إلاَّ في مَركز الحُكم، وأخذ في قبضته المال والسلاح، ورتَّب في ليلته على الدوائر المـُهمَّة مَن لم يَتجاهروا بمَعيَّة مسلم، وأصبح مُناديه يجمع الناس لخِطابته في الجامع الأعظم، فرقى المِنبر بكلِّ جَسارة - وجَسارة الخطيب تُعطي لكلامه قوَّة نفوذ، وتأثير على الأوهام - فصار يَعِدُ ويوعد، لا عن لسان الله ورسوله، بلْ عن لسان أميره يزيد، فبلَّغهم سلامه، ولكنَّ الناس لم يردُّوا السلام عليه أوَّلاً، حتَّى أخذ يُطمِّع المـُطيع بمواعيدَ جِسام، ويُهدِّد مُخالفيه بحَدِّ الحِسام، والسيف مُصلَت بيده، فعند ذلك ردَّ السلام عليه نَفر قليل، ثمَّ أضحى مُناديه يَجمع الرؤساء والعُرفاء إليه؛ لأخذ المواثيق، وإنجاز المواعيد، وتوزيع العطاي، ومُعاقبة المـُتخلِّفين عقوبة صارمَة؛ فهرع لندائه خَلْق كثير، وانقلبت القلوب، وانحرفت الوجوه، وتبدلَّت لهجات الأندية، ونشريَّات الشيع.

نعم، لا ينقضي العَجب، مِن خَيبة الكوفة في نَهضتها، إلاَّ بعد التدبُّر في أسبابها وأسرارها؛ إذ باغت ابن زياد الكوفييِّن بزيِّ الحسينعليه‌السلام ، حتَّى استقرَّ في دار الإمارة بين حامية مُستعدَّة، وقد كان الواجب على أهل الكوفة بعدما لبَّى الحسين دعوتهم، وإرساله مُسلماً وكيلاً عنه، أنْ تَجتمع أحياؤها، وتتَّحد رؤساؤه؛ فيُخرجوا عامل يزيد وحاشيته، ويُسلّموا دوائرها إلى وكيل الحسينعليه‌السلام ، أو أنْ يقترحوا عليه مِن الأعمال المـُهمَّة ما هم أدرى به وأعرف، ومسلم لمْ يقَدِم عليهم كوالٍ مُختار، أو مُفوَّضٍ مُطلَق؛ ليستقلَّ في أعماله وأعمالهم بالتصرُّف والمسؤليَّة، وإنَّما بعثه الحسينعليه‌السلام كمُعتَمد، يُشرف على أمرهم، ويستطلع حقيقة خبرهم،

٥٩

ولكنَّ الكوفيِّين (يا للأسف) غَرّوا مسلماً واغترّوا، ولم يغتنموا صَفاء جَوّهم، وتواني عَدوّهم إلى أنْ دَهمهم ابن زياد، وفرّق جمعهم بالوعد والوعيد، وسكَّن فورتهم بالطَّمع والتهديد، حتَّى إذا سكت الضجيج مِن حول مسلم، نَفى الرجال العاملين لمعونة مسلم مِن بلده، وزجَّ في السجن مِن وجوه الشيعة: أمثال المـُختار الثقفي، والمـُسيَّب بن نجيبة، وسُليمان، ورفاعة وغيرهم، مِمَّن لم تؤثِّر عليهم التضييقات، ولا اغترّوا بباطل الوعد، واستوظف آخرين، واختفى بعد ذلك أكثر المـُتهوِّسين في زوايا البيوت.

٦٠