نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)0%

نهضة الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 138

نهضة الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
تصنيف: الصفحات: 138
المشاهدات: 50952
تحميل: 4224

توضيحات:

نهضة الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 138 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50952 / تحميل: 4224
الحجم الحجم الحجم
نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالعَراء في غير خضر، وعلى غير ماء...) إلى آخره.

فعرضوا عليه النزول، فسأل الحسينعليه‌السلام عن اسم الأرض، فقيل:(كربلاء) .

فقال: (نَعوذُ بالله مِن الكَرب والبلاء، هل لها اسم غير هذا؟).

فقيل له:(العَقر) .

فقال: (نَعوذُ بالله مِن العَقر ما شاء الله كائن).

ثمَّ قال للحُرِّ: (دعنا ننزل في هذه القرية- يعني نَينوى -، أو هذه- يعني الغاضريَّة -، أو هذه- يعني الشفثيَّة -) .

فقال الحُرّ:(هذا رجل قد بعث إليَّ عَيناً عليَّ) .

فقال زهير بن القين:(إنِّي والله، لا أرى أنْ يكون بعد الذي ترون، إلاّ أشدُّ مِمَّا ترون، وإنَّ قتال هؤلاء القوم الساعة، أهونْ علينا مِن قتال مَن يأتنيا مِن بعدهم، فلَعمري ليأتينا مِن بعدهم ما لا قِبَل لنا به) .

فقال الحسينعليه‌السلام : (ما كنتُ لأبدأهم بالقتال)، ثمَّ نزل وذلك يوم الخميس ثاني مُحرَّم.

٨١

جُغرافيَّة كربلاء القديمة

إنَّ لهذا البحث صِلة قويَّة، بوضوح مَقتل الحسينعليه‌السلام وحوادثه التاريخيَّة، واستيفاء هذا البحث يُكلِّف صاحبه؛ إذ لا يَجد المـَنابع الوافية بالتفاصيل الجغرافيَّة عن كربلاء القديمة، في أيَّام قتل الحسينعليه‌السلام ، وإنِّي أجتزي في أداء هذا الواجب بالمـُمكِن، فحسب ما أظنُّه:

أنَّ كربلاء اسم قديم، مأثور في حديث الحسين، وأبيه، وجَدِّهعليهم‌السلام ، ومُفسَّر بالكرب والبلاء، وإنَّ كربلاء مَنحوتة مِن كلمة (كوربابل) العربيَّة، بمعنى مجموعة قُرى بابليَّة، منها نينوى القريبة مِن أراضي سَدَّة الهنديَّة، ثمَّ الغاضريَّة، وتُسمَّى اليوم أراضي الحسينيَّة، ثمَّ كربله بتفخيم اللام بعدها هاء، وتَقرُب اليوم مِن مدينة كربلاء جَنوباً وشرقاً، ثمَّ كربلاء أو عَقر بابل، وهي قرية في الشمال الغربي مِن الغاضريَّات، وبأطلالها أثريَّات مُهمَّة.

ثمَّ النَواويس، وكانت مَقبرة عامَّة قبل الفتح الإسلامي، ثمَّ الحَير رواق بقعته المـُشرِّفة، أو إلى حدود الصَحن الشريف، وكان لهذا الحائر وهدة فَسيحة، محدودة بسِلسلة تِلال مَمدودة، وربوات تبدأ مِن

٨٢

الشمال الشرقي(حيث مَنارة العبد) ، مُتَّصلة بموضع باب السِّدرة في الشمال، وهكذا إلى موضع الباب الزينبيَّة مِن جِهة الغرب، ثمَّ تنزل إلى موضع الباب القبليَّة في جِهة الجنوب، وكانت هذه التِّلال المـُتقاربة تُشكِّل للناظرين نصف دائرة، على شاكلة نون مدخلها الجَبهة الشرقيَّة، حيث يتوجَّه منها الزائر إلى مَثوى سيِّدنا العبّاس بن عليعليهما‌السلام ، ويَجد المـُنقِّبون حتَّى يومنا، في أثافي البيوت المـُحدِّقة بقبر الحسينعليه‌السلام ، آثارَ ارتفاعها القديم في أراضي جِهات الشمال والغرب، ولا يجدون في الجِهة الشرقيَّة سِوى تربة رخوة واطئة الأمر، الذي يُرشد العرفاء إلى أنَّ وضعيَّة هذه البقعة، كانت مُنذ عصرها القديم واطئة مِن جِهة الشرق، ورابية مِن جِهتَي الشمال والغَرب على شَكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلاليَّة حوصر ابن الزهراءعليه‌السلام ، في حربه حين قُتِل كما سيأتي.

وأمَّا نهر الفرات، فكأنَّه عموده الكبير يَنحدر من أعاليه، يَسقي القُرى إلى ضواحي الكوفة، وكذلك يَنشقُّ مِن عمود النهر، الشَّط مِن لدُن الرضوانيَّة نهر كفرع منه، يَسيل على بطاح ووهاد شمال شرقيِّ كربلاء، حتَّى ينتهي إلى قُرب مَثوى سيِّدنا العباس (رضوان الله عليه)، ثمَّ إلى نواحي الهنديَّة، ثمَّ يَنحدر فيقترن بعَمود الفرات في شمال غربيّ قرية ذي الكِفل(الكوثي القديمة) ، ويُسمّى حتَّى اليوم(العَلقمي) ، وكان هذا الفرات الصغير مِن صدره إلى مَصبِّه يُسمَّى(العلقمي) .

والطفُّ إسم عامٌّ لأراضي تَنحسر عنها مياه النهر، وسُمّيت حوالي نهر العَلقمي البارزة مِن شواطئه،(طفَّاً) لذلك، وسُمّيت حادثة الحسينعليه‌السلام فيه بواقعة الطفِّ.

٨٣

الإمام مَصدود مَحصور

حَلَّ حرم الحسينعليه‌السلام حدود كربلاء، في ثاني مُحرَّم، سنة 61 هِجريَّة، وأُنزل في بِقعة منها جَرداء، بعيدة عن الماء والكلاء، وصار مُعسكره زاوية مُثلث، يُقابله جيش الحُرِّ في الغاضريَّات، وجيش ابن سعد في نَينوى، وكان الحُرُّ يرى مُهمَّته المـُراقبة على مسير الحسينعليه‌السلام فقط، غير مُهتمٍّ في إخضاعه، ولا في إقناعه، ولا في إرجاعه، حتَّى وافاه ابن سعد مُهتمَّاً في إقناعه وإخضاعه؛ فصار هو والحسينعليه‌السلام يتبادلان الرأي والرُّسل، ابتغاء الوصول إلى حَلٍّ مُرْضٍ؛ وكلَّف ابن سعد مِن بين حاشيته رجالاً لمواجهة الإمام، فأبوا مُعتذرين أنَّهم مِمَّن كتبوا إليه يدعونه، فعمَّ يتساءلون؟

فأرسل ابن سعد، إلى ابن الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم)، رسوله الحَنظلي، فجاء إلى الإمام، وسأله عن لسان أميره عن موقفه ومسيره، فأجابه الحسينعليه‌السلام : (قد كتبَ إليَّ أهل مِصركم يدعونني إليهم، أمَّا إذا كَرِهتم ذلك، فأنْا أنصرف عنكم).

قال حبيب بن مُظاهر للرسول، وهو مِن أخواله:(ويحَك يا قُرَّة،

٨٤

أينَ ترجع؟ إلى القوم الظالمين؟ أُنصُر هذا الرجُل، الذي بآبائه أيَّدك الله بالكرامة) .

فقال له الحنظلي:(أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي) ، ثمَّ أنصرف إلى عمر بن سعد، وأخبره الخبر.

فقال عمر:(أرجو أنْ يُعافيني الله مِن حربه وقتاله) ، ثمَّ كتب إلى ابن زياد ما جرى بينه وبين الحسينعليه‌السلام ، وأنَّ الإمام مُستعدٌّ للانصراف عن العراق، وعن كلِّ أمل فيه.

قال حسان العَبسي: كنت عند ابن زياد، حينما جاءه هذا الكتاب، وقرأه، فقال:

الآن إذ عَلقت مَخالبُنا به = يرجو النجاة ولاتَ حينَ مَناص

ثمَّ اجتمع الحسينعليه‌السلام بعمر بن سعد، تَحرِّياً منه للسِّلم، واحتراماً للدماء، فتناجيا طويلاً، فكتب هذا إلى ابن زياد:

(أمَّا بعد، فإنَّ الله قد أطفئ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمره الأُمَّة، هذا حسين قد أعطاني عهداً أنْ يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو يسير إلى ثَغرٍ مِن الثغور؛ فيكون رجُلاً مِن المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم... ) إلى آخره.

ولمـَّا تلاه ابن زياد، قال:(هذا كتاب ناصحٍ مُشفقٍ على قومه) (يعني على قريش).

فقام إليه شِمر بن ذي الجوشن قائلاً:(أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك، والله لَئن رحل مِن بلادك، ولم يَضع يده في يدك؛ ليكونَنَّ أولى بالقوَّة؛ ولتكونَنَّ أولى بالضُّعف والعَجز، فلا تُعطه هذه المنزلة؛ فإنَّها مِن الوَهن، ولكنْ ليَنزل على حُكمِك هو وأصحابه، فإنْ عاقبت، فأنت

٨٥

أولى بالعقوبة، وإنْ عَفوت كان ذلك لك) .

فلمـَّا رأى ابن زياد، في شِمر غلوَّاً في عداء الحسينعليه‌السلام وشَوقاً إلى حربه، قال له:(نِعمَ ما رأيت، والرأي رأيك، أُخرج بكتابي إلى ابن سعد، فإنْ أطاعني فأطِعه، وإلاَّ فأنت أمير الجيش، واضرب عُنقه)، وكتب إلى عمر كتاباً يقول فيه:(إنِّي لم أبعثك إلى الحسين شَفيعاً، ولا لتُمنِّيه السلامة، ولا لتَعتذر عنه، فإنْ نزل هو وأصحابه على حُكمي؛ فابعث بهم إليَّ، وإلاَّ فازحف عليهم واقتلهم، ومَثِّل بهم؛ فإنَّهم بذلك مُستحقِّون، وإنْ قَتلت حسيناً، فأوطئ الخيل صَدره وظهره؛ فإنَّه عاقٌّ ظَلوم، ولستُ أرى أنَّ هذا يَضرُّ بعد الموت شيئاً، ولكنْ على قول قد قتلتَه...) إلى آخره.

جاء شِمر بكتابه إلى ابن سعد(والرجُل السوء يأتي بالخبر السوء) ، فلمـَّا قرأ ابن سعد كتاب أميره، وتلقَّى أسوأ التعاليم مِن نَذيره، تَغيَّر وجهه، وقال:(لعنك الله يا شمر، لقد أفسدتَ علينا أمراً كُنَّا نرجو إصلاحه) .

لكنَّما ابن سعد، بعدما حَسِب شِمراً رَقيباً عليه، ومُهدِّداً له تَجاهر، إذ ذاك بلزوم إخضاع حسين العُلا، فتبدَّلت منه لهَجته، وفِكرته، وهَيئته؛ فانتقل بجنوده إلى مَقرُبةٍ مِن الحسينعليه‌السلام ، وثلَّث جِباه الحرب، فصار هو في القلب بين الحِير والنهر؛ لصدّ الحسينعليه‌السلام مِن عبور النهر، ومِن الورود منه، فإذا وجد الحسينعليه‌السلام سُبل سَيره مَقطوعة، ومَشارع وروده مَمنوعة، اضطرَّ إلى النِّزال معهم، أو النزول على حُكمهم، وهم واثقون مِن الغَلبة عليه في الحالين معاً.

٨٦

ولمـَّا رأى الإمام ذلك، علم أنَّه مقتولٌ لا مَحالة؛ إذ هو نازل بالعَراء في منطقة جَرداء، لا ماء فيها ولا كلاء، فإنْ انتظر قدوم الأنصار؛ هَلكتْ صِبيتهم وماشيتهم مِن الجَوع والعَطش، وإنْ خَضع للقوم وبايع أُميَّة؛ فقد باع الأُمَّة والشريعة، بعدما انعقدت فيه الآمال، وإنْ بدأ بحربهم خالف خُطَّته الدفاعيَّة، حينَ لا مأمل في الانتصار عليهم في ظاهر الحال، والحُرَّ إنْ لم يستطع أنْ يَعيش عزيزاً، فأحرى به أنْ يموت كريماً.

٨٧

الحسين مُستميت ومُستميتٌ مَن معه

في مَكارم الأخلاق تتلألأ خِلَّة التضحية، تلألأ القمر البازِغ بين النجوم الزواهر، فإذا شوهد في امرءٍ شعور التضحية، اكتفى الناس بها عن أيِّ مَكرُمة فيه، أو أيَّة مأثرة له.

ولا عَجب، فإنَّ الصِّدق إذا عُدَّ أصل الفضائل، فإنَّ شعور التضحية هو مِن أجلّ مظاهر الصدق، والمـُستميت يُميت مع نفسه كلَّ شُبهة وشائبة: مِن سُمعة، أو رياء، أو مَكر، أو دهاء.

إذنْ، فشعور شريف كهذا يَنجم في تربة الصدق، ويُسقى بماء الإخلاص، لابُدَّ وأنْ يُثمر لأهل الحَقِّ بالخير الخالد، وإذا كان الموت ضربةَ لازبٍ لا مَهرب منه، ولا مَحيد عنه، فلنشتر بهذا العمر القصير نَفعاً عامَّاً، وخيراً خالداً، هي هي، والله الصفة الرابحة، وتجارة لنْ تَبور.

فخير الموت، الفداء، وأفضل الأضاحي مَن أمات هيكله البائد؛ لإحياء نفعٍ خالد، وكذلك الشهداء في سبيل إصلاح الأُمَّة، أو تحريرها مِن أسر الظالمين.

٨٨

وسيد هؤلاء الشهداء، الحسين بن عليعليه‌السلام الذي أحيى(هو والذين معه) مَجد هاشم، ودين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعارف القرآن، وشعائر الإسلام، وأخلاق العرب في وثباتهم ضِدَّ سلطة الجَور والفجور، فلم تختلف لهجته، ولا تخلَّفت سيرته، ولا وهنت عزيمته، ولا ضعُفت حركته، ولا ضيَّع مصالح أعوانه لترضية عدوانه.

ونفس قويَّة وأبيَّة مِثل هذه، أضحت كالمـُغناطيس جذّابة، إليها أمثاله، ومَن على شاكلتها في الإخلاص والتضحية (وشبه الشيء مَجذوب إليه).

فالتفَّ حول حسين المـَجد، مِن صَحبه وآله، مَن يَجرون على مِنواله، بتضحية النفس والنفيس في سبيل الدين، وصالح الأُمَّة؛ حتَّى أنَّه يوم أحس بالصَّدِّ والحصار بكربلاء، وأنَّه مقتول لا مَحالة، عَزَّ عليه أنْ يُقتل بسببه غيره، فأذِنَ لأهله وصحبه بالتفرُّق عنه - حيث إنَّ القوم لا يُريدون غيره -؛ ليدرأ عنهم الموت بحِلِّ بيعته عن ذِممهم، فخطب فيهم قائلاً:

(أُثني على الله أحسن الثناء، وأحَمده على السرَّاء والضرَّاء، اللّهم إنِّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلَّمتنا القرآن، وفقَّهتنا في الدين، وجعلتَ لنا أسماعاً، وأبصاراً، وأفئدة، فاجعلنا مِن الشاكرين.

أمَّا بعد، فإنِّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً مِن أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ، ولا أوصل مِن أهل بيتي، فجزاكم الله عنِّي خيراً، ألاْ وإنِّي قد أذِنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ، ليس عليكم حرج مِنِّي ولا ذِمام، هذا الليل مِن بيعتي قد غَشيكم، فاتَّخذوه جَملاً...) إلى آخره.

٨٩

فقال له أخوه، وأبناؤه، وبنو أخيه، وأبناء عبد الله بن جعفر:(لِمَ نَفعل ذلك؟ لنَبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً) .

فقال الحسينعليه‌السلام : (يا بَني عقيل، حَسبُكم مِن القَتلى بمسلم، فاذهبوا أنتم، فقد أذِنت لكم).

فقالوا:(سبحان الله، فما يقولون لنا؟ إنَّا تركنا شيخنا، وسيِّدنا، وبَني عمومتنا خير الأعمام، ولم نَرمِ معهم بسهمٍ، ولم نَطعن معهم برُمحٍ، ولم نَضرب معهم بسيف، ولا نَدري ما صَنعوا، لا والله لا نفعل، ولكنْ نَفديك أنفسنا وأموالنا، ونُقاتل معك حتَّى نَرِد موردك، فقبَّح الله العيش بعدك) .

وقام إليه مسلم بن عوسجة، فقال:(أنحن نُخلِّي عنك؟! وبما نَعتذر إلى الله في أداء حَقِّك؟ لا والله حتَّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضرِبهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي، ولو لم يَكُن معي سلاح أُقاتلهم به، لقذفتهم بالحِجارة، والله لا نُخليك حتَّى يَعلم الله أنَّا قد حَفظنا عَيبة رسوله فيك، أما والله لو قد علمت أنِّي أُقتل، ثمَّ أُحيى، ثمَّ أُحرَق، ثمَّ أُحيى، ثمَّ أذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مَرَّة، ما فارقتك، حتَّى ألقى حِمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنَّما هي قَتلة واحدة، ثمَّ هي الكرامة التي لا نَفاد لها أبداً!) .

وقام زهير بن القين، فقال:(والله، لوددت أنِّي قُتلت، ثمَّ نُشرت، ثمَّ قُتلت، حتَّى أُقتل هكذا ألف مَرَّة، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفِتيان مِن أهل بيتك) .

وتكلَّم جماعة مِن أصحابه بكلام يُشبِه بعضه بعضهاً في وجه واحد، فجزَّاهم الحسين خيراً.

وروي أنَّ رجُلاً جاء حتَّى دخل عسكر الحسينعليه‌السلام ، فجاء إلى رجُل مِن أصحابه، فقال له:(إنَّ خبر ابنك فُلان وافى أنَّ الديلم

٩٠

أسروه، فتنصرِف مَعي؛ حتَّى نسعى في فِدائه) .

فقال:(حتَّى أصنع ماذا؟! عند الله أحتسبُه ونفسي!) .

فقال الحسينعليه‌السلام : (انصرف، وأنت في حِلٍّ مِن بيعتي، وأنا أُعطيك فِداء ابنك).

فقال:(هيهات أنْ أُفارقك، ثمَّ أسأل الركبان عن خَبرك، لا يَكُن والله هذا أبداً، ولا أُفارقك) .

٩١

رُسُل السلام ونَذير الحرب

قدم إلى كربلاء شِمر الخارجي شَرَّ مَقدم؛ إذ كان نَذير الحرب، وحاملاً مِن ابن زياد إلى ابن سعد أسوأ التعاليم القاسية، وحَسِبه ابن سعد رَقيباً عليه، ومُهدِّداً له، فانقلبت فِكرته - إذ ذاك - رأساً على عَقب؛ لكي يدرأ عن نفسه تُهمة الموالاة للحسينعليه‌السلام ، طَمعاً بإمرة الريِّ؛ فنقل مُعسكره إلى مَقربة مِن الحسينعليه‌السلام على ضِفاف العَلقمي، وأوصد عليه باب الورود منه بمُصراعية، عهد بحراسة المـَشرعة إلى عمرو بن الحَجَّاج، كما فعله معاوية بجيش أمير المؤمنينعليه‌السلام في صِفِّين، وأخذ يتظاهر على الحسينعليه‌السلام ؛ تَقرُّباً إلى ابن زياد، ويتشبَّه بغُلاة الخوارج؛ إرضاءً لمـَن معه منهم، ولم يَقنع بكلِّ ما وقع، حتَّى زحف بخاصَّته على الحسينعليه‌السلام ، وتناول مِن دُريد سَهماً ووضعه في كَبِد قوسه، ورمى به إلى مُعسكر الحسينعليه‌السلام قائلاً:(اشهدوا لي عند الأمير، إنَّني أوَّل مَن رمى الحسين) .

ورأى المـُتزلِّفون هذه أسهل وسيلة، إلى نَيل القُربى مِن أولياء

٩٢

السلطة؛ فتكاثرت السهام على مُعسكر الحسينعليه‌السلام .

فقال حسين المـَجد لأصحابه: (قوموا يا كِرام، فهذه رُسُل القوم إليكم)، يعني أنَّ الخصوم بدؤونا بالنضال والنزال، بدل النزول على حُكم الكتاب والسُّنَّة، ولا يَسعنا في هذه الحال سِوى استمهالهم إلى حين، حين تهدأ فورتهم، وإنْ أبوا إمهالنا، فلابُدَّ مِن الدفاع عن مُقدَّساتنا، والذَّبِّ عن النواميس والحُرمات، أُسوة بالكرام عند اليأس مِن السلام.

٩٣

حَول مُعسكر الحسين عليه‌السلام

بعدما أيقن الحسينعليه‌السلام ، أنَّ أعداءه لا يَتناهون عن مُنكر في سبيل النَّكال والنِّكاية به، استعدَّ لدفاع الطوارئ عن أهله، ورحله وانتظار قتله، لكنَّما وجد مُعسكره في أجرد البِقاع عن مَزايا الدفاع، وكان مع العدوِّ رِجالة سوء مِن أسقاط الكوفة، تَبعوا شِمراً الضبابي؛ لطمعهم في الجوائز المـُشاعة، وجَشعهم على بقايا موائد الرؤساء، وشَوقاً إلى غَنيمةٍ باردةٍ، ولا سلاح لدى هؤلاء، سِوى الحِجارة والجَسارة؛ فكان يَخشى منهم على مُعسكر الحسينعليه‌السلام مِن كلِّ الوجوه، سيَّما وإنَّ هؤلاء الأذناب، لا يلتزمون بما تلتزم به رؤساء القبائل، مِن آداب العرب؛ فخرج الحسينعليه‌السلام مِن مُعسكره، يَتخيَّر مَوضعاً مُناسباً للدفاع.

وبعدما سَبَر غَور الوهّاد والأنجاد، أشرف على سِلسلةِ هِضاب، وروابي تُليق حسب مزاياها الطبيعيّة، أنْ تُتَّخذ للحرم والخِيَم، وهذه الروابي والتِّلال مُتدانية على شاكلة الهلال، وهو المـُسمَّى بـ(الحِير) أو(الحائر) ، لكنَّ هذا الحِصن، إنَّما يُفيد مَن استغنى عن الخروج لطلب ماء،

٩٤

أو ذخيرة، أو عتاد، وأمَّا مَن لا يَجد القَدر الكافي منها، كالحسينعليه‌السلام ، فإنَّ تَحصُّن في مِثل الموضع، فكأنَّه يَبغي الانتحار، أو إلقاء أهله في التَّهلُكة؛ لأنَّ عدوَّه يَتمكَّن مِن حصاره مِن فُرجَة الجِهة الشرقيَّة بكميَّة قليلة، وإهلاك المـَحصور جوعاً وعَطشاً في زمن قصير.

لكنَّ الحسينعليه‌السلام ، رأى بجنب هذه وجنوبها رابيةً مُستطيلة، أصلح مِن أُختها للتحصين؛ لأنَّ المـُحتمي بفِنائها يَكتنفه مِن الشمال والغرب ربوات، تَقي مِن عاديات العدوِّ، برُماة قليلين مِن صَحب الحسينعليه‌السلام ، إذا اختبأوا في الروابي، وتَبقى مِن سَمتي الشرق والجنوب، جوانب واسعة تحميها أصحاب الحسينعليه‌السلام ورجاله، ومنها يخرجون إلى لقاء العَدوِّ، أو تَلقِّي الرُّكبان؛ فنقل إلى هذا الموضع حرمه ومعسكره، ويعرف الآن(بخيمكاه) ،(أي المخيم) ؛ فصارت مُحوَّطة الحِير خير فاصلة بينهم وبين مُعسكر الأعداء، وأمر أصحابه أنْ يُقرِّبوا البيوت بعضها مِن بعض، ويُدخلوا الأطناب بعضها مِن بعض، وأنْ يُضرِموا النار في قَصب وحطب، كانا مِن وراء الخِيم في خَندق حفروه مِن شِدَّة الاحتياط، وأوجد في مُخيَّمه مزايا الدفاع المـُمكِنة، وهو ينتظر الفرج كلَّما ضاق المـَخرج.

٩٥

عُطاشى الحرب في الشريعة

لا يَبرح البشر، مِن احترام بعض الآداب في المـُحاربات، مَهْما كان المـُحاربون وحوشاً وكَفرة، كاجتنابهم قتل النساء والأبرياء، ومنع الماء والطعام عنهم، وأصبحت حكومات اليوم تُراعي هذه الأُصول بعَين الاحترام، وتُعَدُّ ارتكاب هذه المظالم مِن أقبح الجرائم، وقد نهى شرع الإسلام كبقيَّة الشرائع السماويَّة عن: حصار الأبرياء، والتعرُّض بالنساء، ومَنع الماء والطعام عنهم، أو عن المرضى والأسرى والأطفال؛ لأنّهم بُراءٌ مِمَّا قامت به رجالهم المـُحاربون، وقد مَنعت الشريعة والعاطفة أيضاً ذبح الحيوان عَطشاناً.

أمَّا الحزب السُّفياني، فقد ارتكب كلَّ هذه المـَظالم والجرائم؛ حَنقاً على حسين الفضيلة وآله.

ولا نَنسى ما حَدث يوم الدار، يوم ثار المـُهاجرون والأنصار؛ فحاصروا الخليفة عثمان بن عفَّان، وطالبوه أنْ يُسلِّم إليهم ابن عمِّه (مروان)، فاستغاث بعليٍّعليه‌السلام ، وشكا إليه العَطش -وعليٌّ يومئذٍ مُلتزم الحِياد التامَّ -؛ فأرسل إليه مع ذلك، وَلديه الحسن

٩٦

والحسينعليهما‌السلام يَحملان له الماء، وهو مَحصور، ويَحاميان عنه وعن بيته الجمهور، وتَحمَّلا في سبيله الجروح والحرايج، غير إنَّ محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه)، تَسوَّر هو ومَن معه مِن وراء البيت، وكان منهم ما كان.

أمَّا معاوية الدَّهاء، فقد شَيَّع الأمر في أهل الشام بالعكس، مِمَّا كان بغرض بعثهم إلى حرب أمير المؤمنين؛ فنشر بينهم أنَّ عثماناً قُتِل عَطشان، وأنَّ عليَّاً منع الماء عنه؛ لذلك سَبَق عليَّاً في صِفِّين إلى استملاك المـَشرعة، ومنع أهل العراق مِن ورودها.

أمَّا عليعليه‌السلام ، فأرسل مِن أبطال العراق مَن فتحوه، ثمَّ تركها مُباحةً للجانبين، فأبت نفسه الكريمة أنْ يُقاتلهم بالسوء، وقال: (كلاَّ، لستُ أمنع عنهم ماءً أحلَّه الله لهم).

فجدَّد ابن زياد هذه البِدعة، وأمر بمنع الماء عن الحسينعليه‌السلام ومَن معه، وروَّج أكذوبته؛ فكتب إلى ابن سعد:(حِلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا مِنه قَطرة، كما فُعِل بالتقيِّ الزكيِّ عثمان...) إلى آخره.

مع أنَّ الحسينعليه‌السلام ، هو الذي حمل الماء إلى عثمان يوم الدار، وعانى في سبيله المـَشاقَّ، وحاشا حسين الفضيلة، وعليَّ الفتوَّة أنْ يرتكِبا منع الماء على ذي نفس، ولو فرض الأمر كذلك، فهل تؤخَذ عشرات النساء ولفيفٌ مِن الصِّبيَة والأطفال والمرضى بذلك؟! فيُحرَمون مِن الماء المـُباح!! كلاّ!! فالإسلاميَّة بريئة، والإنسانيَّة ناقِمة مِن هذه المـَظلمة الفاحشة.

تُرِك ابن ساقي الكوثر، مَمنوعاً مِن الماء المـُباح ثلاثة أيَّام، هو

٩٧

وصحبه وآله، وعشرات مِن نسوة وصِبيَة، يُعانون هم وخيلهم العَطش في شهر آب اللَّهاب بعراء، لا ماء فيه ولا كَلاء، والخيل تصهل طالبة الماء، والنسوة تَعجُّ لحاجتها إلى الماء، والصِبيَة تَضجُّ وتنتظر الماء، والرضيع يَصرخ؛ إذ جفَّت مَراضعه، والماء يَلمح جارياً بأعينهم، والمانعون ينتحلون الإسلام، وكلُّ هاتيك المـَظالم القاسية، مِن أجل أنَّ الحسينعليه‌السلام ، لم يَضع يده في أيدي الظالمين، يُبايعهم على مَحو كتاب الله، وسُنَّة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان لسان الحال مِن حسين العُلا يقول:(إنَّ في وِسعكم أيُّها الأعداء، تُضيِّقوا حدود مبدئي العالي، ومقصدي العامّ، وكذا في وسعكم أنْ تقضوا على حياتي، وعلى صَحبي وعلي صِبيَتي، ولكنْ ليس في وسعكم قَطّ، أنْ تقضوا على قَضيَّتي، ولا على دعوتي، ولا على فِكرتي ما دُمت حيَّاً، وما دام المسلمون أحياء) .

٩٨

اهتمام الإمام بالمـَوعظة والنصيحة

سيرة الحسينعليه‌السلام ، سِلسلة أدلَّة على قوَّة حُسن ظَنِّه بالناس، وإنَّ نفسه كانت مُفعَمة بآمال الخير فيهم، ولا غَرو؛ فإنَّ قوَّة آمال الناهضين تُقاس بقوَّة اعتقادهم بحَقِّهم، والحسينعليه‌السلام كان رمز الإيمان، وآية الحَقِّ، ويرى حَقَّه كما يرى الشمس في رابعة النهار، فحَريٌّ بأنْ يكون على الدوام مُتفألاًّ وبشيراً، وهو يرى أكثر الناس، نحو ما يرى نفسه مُستعدِّين لعبادة الحَقِّ، إذا صادفوا الدليل، فكان الحسينعليه‌السلام يُعامل أعداءه مُعاملة مَن يَحترمون الحَقَّ، بينما هم غافلون عنه، فكان يبذل قُصارى الجُهد في تنوير أفكارهم بالاحتجاجات، وإقامة المـُظاهرات، ويستفرغ وسعه في إنذارهم وإخطارهم، بالرُسل والخُطب.

وجمهور خصومه كانوا مِن سَفلة البشر، وعَبدة الطاغوت، أولئك الذين لا يُقيمون للحَقِّ وزناً، ولا يرون لغير المال والقوَّة شأناً؛ وعليه قام حسين الإيمان، بمُظاهرة باهرة، بعد اليأس مِن سماح القوم له بالرجوع، فلَبس عِمامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٩٩

ورداءه، وتقلَّد بسيف جَدِّه النبي، وركب ناقته أو فرسه المـَعروفة، وخرج إلى العدوِّ بهيئة جَدِّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيِّه، وقد كان هو في مَلامحه شَبيه جَدِّه، وكانت هذه الهيئة وحدها، كافية لإظهار أولويَّته بخِلافة جَدِّه مِن طاغية الشام، لو كانوا يعقلون.

وعَرف شياطين القوم، أنّ هذه المـُظاهرة تعود على الحسينعليه‌السلام بفائدة، سيَّما لو وجد مجالاً للكلام، وذكَّر السامعين بآيات مِن وحي جَدِّه، فولولوا بلَغطٍ وضَجيج؛ ليُضيِّعوا على السامعين كلام الله، مِن فَم وليِّ الله، بهيئة نبيِّ الله، وهو ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير إنَّ حسين المـَجد، لم يُضيِّع فُرصته، فاستنصتهم فأبوا أنْ يُنصتوا له؛ لجُاجاً وعِناداً، فنادى فيهم: أيُّها الناس، اسمعوا قولي، ولا تَعجلوا، حتَّى أعِظكم بواحدة، وحتَّى أُعذر إليكم، فإنْ أعطيتموني النَّصف كُنتم بذلك سعداء، وإلاّ فاجمعوا رأيكم، ثمَّ لا يَكُن أمركم عليكم غُمَّة، ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تُنظرون،( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) .

فلمـَّا ساد الصَّمت، وهدأ الضجيج خَطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ونعت النبي، فصلَّى عليه، فلم يَسمع أبلغ مَنطقاً منه.

ثمَّ قال: (أمَّا بعد، فانسبوني مَن أنا، ثمَّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هلْ يَحلُّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي؟

ألستْ ابن بنت نبيِّكم، وابن وصيِّه، وابن عمِّه، وأوَّل المؤمنين المـُصدِّق لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما جاء مِن عند ربِّه؟

أوليس حمزة سيِّد الشهداء عَمِّى؟ أوليس جعفر الطيار في الجَنَّة بجَناحين عَمِّي؟

١٠٠