حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي0%

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 200

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وليد الخزعلي
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 44039
تحميل: 7085

توضيحات:

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 44039 / تحميل: 7085
الحجم الحجم الحجم
حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مقدّمة:

كثير من الآيات القرآنية خاطبت الناس بكلّ أجناسها، فالنسبة واحدة بين بني البشر وبين خالقهم ولا توجد قرابة بين الله عزّ وجلّ وبين أحد من خلقه، بل القُرب من الله عزّ وجلّ يكون بشرائط التقوى والإيمان وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

قال تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً ) (١) .

وقال تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرّسُولُ بِالحَقّ مِن رَبّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (٢) .

وقال تعالى:( قُلْ يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (٣) .

وقال تعالى:( يَا أيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٤) .

وقال تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ ) (٥) .

ومن هذه الآيات الكريمة الكثير التي خاطبت جميع الناس بلفظ ( أيّها الناس )، فلم تُفرّق بين لون ولون، أو بين قوم وقوم وكذلك في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام الكثير من هذا القبيل، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الوداع:

( أيّها الناس: إنّ ربكم لواحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربيّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسوَد، ولا لأسوَد على أحمر، فضل إلاّ بالتقوى، ألا هل بلّغت.

اللَّهُم اشهد، ألا فليبلّغ

____________________

١ - النساء: ١.

٢ - النساء: ١٧٠.

٣ - الأعراف: ١٥٨.

٤ - يونس: ٥٧.

٥ - فاطر: ١٥.

١٠١

الشاهد منكم الغائب )(١) ، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في العلاقة بين الناس: ( إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلْق )(٢) .

فعلى ضوء ما تقدّم تتّضح لنا المبادئ الأوّلية - أي التصوّر الأوّلي لها، وليس المقصود المبادئ الأساسية - في علاقة المسلمين مع غيرهم، وهي على النحو الآتي مُجملة:

١ - التعارف الإنساني:

الأساس الإسلامي في التعامل الإنساني هو مبنيٌّ على التعارف والتعاون، و إرساء العدل في ما بينهم، يقول عزّ وجلّ:( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (٣) ، فالتعارف بين الناس بشتّى أعراقهم من أُسس الدين الإسلامي الذي دعى إليه ولا يمكن تجاوزه ؛ وإلاّ اختلّ النظام.

وهذا أيضاً ما أشار إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصيّته لمالك الأشتر ؛ ليجعله أساساً في ولايته على الناس في مصر: ( فإنّهم (أي الناس) صِنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلْق )(٤) .

فعلى كلّ المسلمين التعامل مع غيرهم من هذا المنطلق، وهو الجانب الإنساني ؛ لأنّه مثيل له في الإنسانية، وعليه وجّه الباري عزّ وجلّ خطابه للمسلمين في تعاملهم مع غيرهم على أساس البِرّ والعدل، قال تعالى:( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) (٥) ، وكذلك إرشاد الرسول بشكل مطلق الى البِرّ مع جميع الناس، حيث يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أسرعُ الخير ثواباً البِرّ )(٦) .

٢ - التعايش المطلوب:

أكثر ما أكّد عليه أهل البيتعليهم‌السلام هو الدعوى الى الله عزّ وجلّ عن طريق العمل وليس باللسان، فالتعامل الأخلاقي هو خير هادٍ الى سبيل الرشاد: ( كونوا لنا دعاةً صامتين ) أي دعوة

____________________

١ - أبو محمد الحسن بن علي، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص٣٠.

٢ - الشريف الرضي، نهج البلاغة (الرسائل)، ص٥٣.

٣ - الحجرات: ١٣.

٤ - نهج البلاغة (الرسائل)، ص٥٣ مصدر سابق.

٥ - الممتحنة: ٨.

٦ - محمد بن علي، الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج٤، ص٣٧٩، ح٥٨٠٣.

١٠٢

بالعمل، وليس بالقول دون العمل.

وقال الأمام الصادقعليه‌السلام مخاطباً عيسى بن عبد الله (أحد أصحابه): ( يا عيسى بن عبد الله، ليس منّا - ولا كرامة - مَن كان في مِصرٍ فيه مئة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المِصر أحد أورع منه )(١) ، فهنا الإشارة إلى العمل بصفة الورع تجاه كلّ الناس مسلمهم وغيره ؛ لأنّه ذكر (سلام الله عليه) المِصر فيه مئة ألف ولم يحدّدهم بالمسلمين، وهذا يعتبر في أقصى درجات التعايش السِلمي من خلال إظهار التعامل المندوب من الشرع مع غير المسلمين.

ومن مصاديق التعايش: هي الصحبة والمجالسة، وقد ذكرها الأمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في رسالة الحقوق، في حقّ الصاحب مطلقاً - مسلماً كان أو غير مسلم - وكذلك حقّ الجليس - سواء كان مسلماً أو غيره - حيث يقولعليه‌السلام في حقّ الصاحب: ( فأن تصحبه بالتفضّل والإنصاف، وتُكرمه كما يُكرمك، ولا تدَعْه يسبق إلى مكرمة فإنْ سبق كافيته، وتودّه كما يودّك، وتزجره عمّا يهمُّ به من معصية الله، وكُن عليه رحمة ولا تكن عليه عذاباً، ولا قوّة إلاَّ بالله )(٢) .

وحقّ الجليس: ( وأمّا جليسك، فأنْ تُلين له جانبك، وتُنصفه في مجاراة اللفظ، ولا تقوم من مجلسك إلاّ بإذنه ومَن يجلس إليك يجوز له القيام عنك بغير إذنك، وتنسى زلاّته وتحفظ خيراته، ولا تُسمعه إلاّ خيراً )(٣) .

٣ - الإحسان والتودّد:

حثّ الإسلام على الإحسان وحبّ الخير لجميع البشر بما فيهم الكفّار، ومن مصاديق حبّ الخير لغير المسلمين، هو دعوتهم إلى الهدى لإنقاذهم من الضلال، حتّى مع أعداء الإسلام الذين كانوا يقاتلون أهل الدين، وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يقاتل قوم حتّى يدعوهم للهدى كما مرّ

____________________

١ - الكافي، باب الورع، ح١٠ مصدر سابق.

٢ - علي بن الحسين، زين العابدين، رسالة الحقوق، حقّ الصاحب.

٣ - رسالة الحقوق، حقّ الجليس نفس المصدر.

١٠٣

استناداً لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( يا عليّ، وايم الله لئِن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت )(١) .

ومن وصايا أهل البيت الكثير في هذا المضمار، فعن أبي بصير عن أبي جعفر (الإمام الباقر)عليه‌السلام قال: سألته عن( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٢) ؟ قالعليه‌السلام : ( مَن استخرجها من الكفر إلى الإيمان )(٣) .

وقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( أوحى الله تعالى إلى موسىعليه‌السلام حبّبني إلى خلْقي وحبِّب خَلْقي إليّ، قال: يا ربّ، كيف أفعل؟ قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبّوني، فلئِن تردّ آبقاً عن بابي أو ضالاًّ عن فنائي، أفضل لك مِن عبادة مئة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها، قال موسىعليه‌السلام : ومَن هذا العبد الآبق منك ؟ قال: العاصي المتمرّد، قال: فمَن الضالّ عن فنائك ؟ قال: الجاهل بإمام زمانه، تعرّفه، والغائب عنه بعد ما عَرِفَه، الجاهل بشريعة دينه تعرّفه شريعته، وما يُعبد به ربّه ويتوصّل به إلى مرضاته )(٤) .

وأكرم الباري عزّ وجلّ الساعي في هداية الكافر إلى مادّة الصواب، بأن يجعله شفيعاً لمَن يُريد في يوم القيامة كما وَرَد عن عبد العظيم الحسني (رضوان الله عليه)، عن عليّ بن محمّد الهاديعليه‌السلام ، عن آباءهعليهم‌السلام ، عن عليّعليه‌السلام قال: ( لمّا كلّم الله موسى بن عمران، قال موسى: إلهي ما جزاء مَن دَعا نفساً كافرة إلى الإسلام ؟ قال: يا موسى، آذن له في الشفاعة يوم القيامة لمَن يريد)(٥) .

وعلى هذا النمط العديد من الروايات التي دلّت على الحثّ على هداية الناس بالموعظة الحسنة، والسعي إلى إرشادهم إلى ما فيه سعادتهم.

ومن مصاديق حبّ الخير لغير المسلمين والإحسان إليهم، هو بقضاء حوائجهم والرحمة إليهم، فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم

____________________

١ - الحسين بن محمد بن نصر، الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص٢٧٧، من باب ذكر الجُمل من نواهي الرسول.

٢ - المائدة: ٣٢.

٣ - محمد بن مسعود بن عيَّاش، العيَّاشي، تفسير العيَّاشي، ج١، ص٣١٣، من سورة المائدة ح٨٨.

٤ - الحسن بن علي، العسكري، تفسير الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، ص٣٤٢، ح٢١٩.

٥ - بحار الأنوار، ج٢، ص١٥، باب٨، ح٢٧ مصدر سابق.

١٠٤

مَنْ في السماء )(١) ، فَحَسَب هذا الحديث ينبغي للمسلمين أن يكونوا رحماء بغيرهم، فإنّ الدين هو دين الرحمة والرأفة، وكيف لا يكون كذلك وأساس دستوره هو الرحمة، قال عزّ وجلّ:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٢) أي لكلّ الناس بشتّى صنوفهم، وأُمِر المسلمون بأن يتّخذوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أسوةٌ لهم:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) (٣) فينبغي أداء البرّ والرحمة لغير المسلم، حتّى لو أصرّ على كفره من بعد دعوته إلى الهدى وسعادة نفسه، فإنّه نظير لنا في الخلْق.

____________________

١ - مستدرك الوسائل، ج٩، ص٥٥، ح١٠١٨٧ مصدر سابق.

٢ - الأنبياء: ١٠٧.

٣ - الأحزاب: ٢١.

١٠٥

المبحث الثاني:

المساواة الإنسانية

١٠٦

١ - المساواة في التعامل:

قال تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (١) .

ففي هذه الآية لم يخصّص الباري عزّ وجلّ الحكم بالمسلمين فحسب، بل يشمل المسلمين والكفّار، كلّهم متساوون في الإنسانية وما يرتبط بها من قوانين فبالنسبة للمسلمين، الدستور الإسلامي آخذٌ بالتساوي في حقوقهم وواجباتهم العامّة، فلا فرق بين أطيافهم وأعراقهم فيما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات، إلاّ في استثناءات مشروعة، فمثلاً في حال الوظائف العامّة لا فرق عنده بين عربيّ وأعجميّ، ولا أبيض ولا أسوَد، أو إقليم دون آخر ؛ لقوله تعالى:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (٢) .

إلاّ إذا كان هناك شخصٌ أكفأ من آخر فالوظيفة تُناط بالأكفأ ؛ قال تعالى:( إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأَمِينُ ) (٣) ، فهو قويّ (أي كفوء) في العمل (لأنّ عمله يستند على عامل القوّة)، وأمين في المعاملة.

وفي كلام يوسف:( إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (٤) فكفاءته (بعلمه بالعمل وأمانته في الحِفظ) أي في مصطلحنا المعاصر (خبير اقتصادي في عمله)، ومبدأ الكفاءة لا يتنافى مع المساواة، بل عدمه (عدم الأخذ بالكفاءة يتنافى مع العدالة، وبالنتيجة يخلّ بالنظام ويقضي على مبدأ المساواة) ؛ حيث إذا أُعطيت الوظيفة مثلاً لغير الكفوء، وليس أهل لحِفظ الأمانة ؛ اختلّ النظام الاقتصادي، وتَبعاً له النظام الاجتماعي، وشاعت الفوضى وانتفت العدالة، فلا مساواة في الحقوق بين المواطنين.

وعليه فإنّه إذا لم يكن هناك محذور قد يهدّد استقرار النظام الإسلامي، فالمسلم والكافر متساويَيْن في جميع الحقوق والواجبات، ( فإنّ علياًعليه‌السلام صار أجيراً عند يهودي )(٥) ،

____________________

١ - الحجرات: ١٣.

٢ - الحجرات: ١٣.

٣ - القصص: ٢٦.

٤ - يوسف: ٥٥.

٥ - مستدرك الوسائل، ج١٤، ص٢٨، ح١٦٠١٤ مصدر سابق.

١٠٧

و(الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله استقرض من يهودي )(١) ، كذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام ( استقرض شعيراً من يهودي فاسترهنه شيئاً، فدفع إليه ملاءة فاطمة، التي رأتها زوجة اليهودي في الليل تسطع نوراً )(٢) .

ولم يقتصر الإسلام على المساواة في العنصر الإنساني، بل تعدّى إلى الترابط الاجتماعي لنزع أيّ فروق داخل المجتمع، فقد أحلّ طعام أهل الكتاب في غير اللحوم ؛ لأنّها مشروطة بالتذكية الشرعية، كما أحلّ النكاح منهم حيث قال سبحانه وتعالى:( الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) .

وروى أبو مريم الأنصاري، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( سألته عن طعام أهل الكتاب ونكاحهم حلال هو ؟ قالعليه‌السلام : ( نعم، كانت تحت طلحة يهودية )(٤) .

٢ - المساواة في الخِلْقة:

لا موجب للتمييز بين بني الإنسان ؛ فالخالق واحد، والأب واحد، والمصدر واحد، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب )(٥) وهم متساوون في الخَلْق، كما قال الإمام عليعليه‌السلام : ( فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلْق )(٦) ، كما مرّ فالناس متساوون في طبيعة الخِلْقة، ولا ميزة لسلالة عن سلالة، لكنّ التمايز بالانفعالات نتيجة لمؤثّرات خارجية:( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ

____________________

١ - قطب الدين بن سعيد بن هبة الله، الراوندي، فقه القرآن، ج٢، ص٥٨.

٢ - قطب الدين بن سعيد بن هبة الله، الراوندي، الخرائج والجرائح، ج٢، ص٥٢٧.

٣ - المائدة: ٥.

٤ - محمد بن الحسن، الطوسي، تهذيب الأحكام، ج٧، ص١٩٧، ح٤.

٥ - الحسن بن علي بن شعبة، الحراني، تحف العقول، ص٢٤.

٦ - ابن أبي الحديد، المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج١٧، ص٣٢.

١٠٨

الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) (١) ، فهم متفاوتون بالنسبة للأشياء المذكورة في الآية ؛ نتيجة لتفاعلهم تجاهها، وإلاّ فهم متساوون في جميع ما يتعلّق بالإنسان من خصائص ذاتية وطبيعية، جسدية وروحية، نفسية وعقلية، قال تبارك وتعالى:( قُلْ هُوَ الّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) (٢) ،( إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) (٣) .

٣ - المساواة في الابتلاء:

ومن السُنن الإلهية أن تكون هناك مساواة بين جميع الناس في التمتّع ببركات الله والحرمان منها، حسب ما تقتضيه هذه السُنن لكلّ إنسان فإن كان من الذين آمنوا واتّقوا، فأنّه سوف تترتّبْ عليه التمتّع ببركات الباري (عزّ وجلّ)، وإن كان من المكذّبين بآيات الله (جلّ وعلا)، فسوف يُحرم من تلك البركات، سواءً في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى:( وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٤)

وجعل الله تبارك وتعالى دار الدنيا ابتلاء وامتحان لكلّ إنسان، فهي من لوازم الخِلْقة، دون تمييز قوم عن قوم، ولا عنصر عن عنصر ؛ لكي يعودوا إلى الإيمان به والاستقامة على منهجه، قال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : ( إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات وحبْس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ؛ ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكّر متذكّر ويزدجر مزدجر )(٥) .

٤ - الناس مختارون ومكلّفون على السواء:

ومن حكمته (عزّ وجلّ) أن ساوى بين خلْقه في منحهم نعمة العقل، وجعل تبعاً له حريّة الاختيار، فهم متساوون في هذه الهبة الربّانيّة، فلكلّ إنسان حريّة اختيار منهجه الدنيوي وما

____________________

١ - آل عمران: ١٤.

٢ - الملك: ٢٣.

٣ - المعارج: ١٩.

٤ - الأعراف: ٩٦.

٥ - شرح نهج البلاغة، ج٩، ص٧٦، الخطبة ١٤٣.

١٠٩

يترتّب عليه من حصاد في دار الآخرة، فبإمكان الإنسان أن يختار طريق الهداية والرشاد، وبإمكانه اختيار طريق الغواية والفساد.

وبجانب هبة العقل من الربّ، أرسل إليهم الرُسل هادين لهم ومُلقين عليهم الحُجج ؛ ليتبينّ لهم سبيل الخير مِن سبيل الشرّ، ولئلاّ يكون لهم عُذر يوم الحساب، قال تعالى:( إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً، إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (١) ، وكذلك قال تعالى:( قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقّ مِن رَبّكُمْ فَمَن اهْتَدَى‏ فَإِنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) (٢) .

وكذلك ألهمهم (عزّ وجلّ) كلّ عناصر الفجور والتقوى، فهم متساوون في إصلاح ذواتهم وعدم إصلاحها، ورسم لهم ذلك الطريق، كما قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا ) (٣) .

أمّا من ناحية تكليفهم، فهم مكلَّفون بالتكليف الإلهي في هذه الدار، ويترتّب عليه الجزاء مِن ثواب وعقاب في الدار الآخرة، حيث الجميع مطلوبٌ منهم الإيمان بوجود الله وتوحيده والإيمان باليوم الآخر، وذلك بعد إظهار البيّنات لهم وإيضاحها بالبراهين، مع ما وهبهم الباري عزّوجلّ مِن عقول، فيُحرّكها بتلك البراهين والحُجج الخارجية مِن أنبياء ورُسُل وأوصياء ؛ لكي يحقّ عليهم التكليف ولا حُجّة لهم بعد ذلك، قال تعالى:( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (٤) ، وقال (عزّ وجلّ):( وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى‏ نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٥) .

وخاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله هو حجّةٌ على جميع البشر، فإنّهم متساوون في أنّه بُعِثَ إليهم بأجمعهم ؛ لإرشادهم إلى سبيل الهداية وإنقاذهم من الغواية والضلال ويُلقي عليهم الحُجّة، قال

____________________

١ - الإنسان: ٢ - ٣.

٢ - يونس: ١٠٨.

٣ - الشمس: ٧ - ١٠.

٤ - الحشر: ٢١.

٥ - الإسراء: ١٥.

١١٠

تعالى:( قُلْ يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (١) ، وقال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) (٢) ،( قُلْ يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٣) .

فالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بلّغ رسالته الإلهية لجميع الناس، عرباً وعجماً، وثنيين وأهل كتاب، بلا تمييز بينهم والناس في المقابل عليهم تحمّل مسؤوليتهم تجاه هذه الحُجج، فهم مكلّفون بالإيمان بما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلٌّ حسب طاقته، فالتكليف للعباد في حدود ما يُطيقون، قال تعالى:( لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا ) (٤) ،( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٥) ، وقال تعالى:( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٦) .

٥ - لا تفاضل بين العباد إلاّ بالتقوى والعِلم النافع:

الله (عزّ اسمه) كرّم عباده من جهات عدّة، فهو مكرمهم في الخِلقة، قال تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (٧) ، وكرّمهم بالتمتّع بما سخّره لهم، لا فرق بين إنسان وآخر، قال تعالى:( هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٨) ،( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٩) ، فللجميع حقّ الاستفادة من الإمكانيات المسخّرة لهم في استثمار وإعمار، لا فرق في ذلك بين عنصر وعنصر ؛ لإدامة النظام الكوني واجتماعهم، لكن هناك يحصل تفاضل بينهم على أساس قواعد وأُسُس صالحة، كالإيمان والتقوى والعمل الصالح، قال تعالى:

____________________

١ - الأعراف: ١٥٨.

٢ - سبأ: ٢٨.

٣ - الحج: ٤٩.

٤ - البقرة: ٢٨٦.

٥ - الحج: ٧٨.

٦ - البقرة: ١٨٥.

٧ - التين: ٤.

٨ - البقرة: ٢٩.

٩ - الجاثية: ١٣.

١١١

( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ ) (١) ، وقال تعالى:( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) ، وقال (عزّ وجلّ):( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (٣) .

ومثل هذا التكريم للعباد لا يتنافي مع مبدأ المساواة في ما بينهم، بل هو من أجل احترام إنسانيّتهم والوصول بهم الى درجات الكمال والقُرْب الإلهي.

____________________

١ - البقرة: ٢٢١.

٢ - الحجرات: ١٣.

٣ - الزمر: ٩.

١١٢

المبحث الثالث:

مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام وحقوق غير المسلمين

١١٣

أولاً: حرّية العقيدة الدينية وإبداء الرأي:

دستور الإسلام أكّد على مبدأ حرّية الاعتقاد في ظلِّ الإسلام، وعدّ هذا المبدأ من واجبات التطبيق ؛ حتّى ينعم الإنسان بالأمْن والسلام، ويكون حُرّاً في رأيه، وأنْ لا يُكرَه على نظريّة خاصّة، سواء كانت دينية أو غيرها.

ودلّت الكثير مِن الآيات على هذا المبدأ ( = حريّة الرأي والعقيدة ) كقوله تعالى:( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ ) (١) ، وقوله (عزّ وجلّ):( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (٢) ، وقوله تعالى:( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ) (٣) ، أي لتعدّد الاعتقادات والأديان كما تُشير إليه الآية التالية:( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً ) (٤) ، وقال تعالى:( فَذَكّرْ إِنّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر ) (٥) إلى غيرها من الآيات.

وعليه فالإسلام لا يرغم أحداً على اعتناق عقيدة معيّنة، ولا يُكرِه غير المسلم على اعتناق عقيدته ليصبح مسلماً، ولكنّه كان يدعو الناس إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة:( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (٦) .

ويحثّ على استعمال العقل والنظر في مخلوقات الباري (عزّ وجلّ)، ويرشده إلى سبيل السعادة الأبديّة بالرغبة والاختيار في دار الدنيا، قال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٧) ؛ لأنّه دين الحقّ، وإلاّ لَما كان شرّعه وجعله خاتم الأديان، لكنّ الإنسان حرٌّ في اختياره في هذه الدار، فالترغيب ديدن هذا الدين، ولكن لا إكراه:

____________________

١ - البقرة: ٢٥٦.

٢ - الكافرون: ٦.

٣ - البقرة: ٢٥١.

٤ - الحج: ٤٠.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٦ - النحل: ٢٥.

٧ - آل عمران: ٨٥.

١١٤

( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ ) (١) ، وقال تعالى:( وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلّهُمْ جَميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى‏ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٢) .

فباري الناس وخالقهم لا يُكرههم على الإيمان بالإسلام، وكذلك إشارة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّه لا يكرههم على ذلك، وكذلك كلّ مَن يقتدي بالنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس لهم إكراه الناس على الإسلام فلم يُعهد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عن أهل بيته الأطهارعليهم‌السلام في إكراه الناس وإجبارهم على الإسلام ؛ والشاهد على ذلك أسرى النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم تحت يده، وبإمكانه إجبارهم على اعتناق الإسلام، لكنّه لم يفعل، وكذلك فعل أصحابه مقتدين بهدْيِهِصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ذكر العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان حول تفسير آية الإكراه( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ ) : ( أنّ المراد ليس في الدين إكراه من الله، ولكنّ العبد مخيّر منه ؛ لأنّ ما هو دين في الحقيقة هو مِن أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه فأمّا ما يُكره عليه مِن إظهار الشهادتين، فليس بدين حقيقة )(٣) .

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان: ( وهذه إحدى الآيات الدَّالَّة على أنّ الإسلام لم يبْتَن على السيف والدم، ولم يفْتِ بالإكراه والعنوة، على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم: أنّ الإسلام دين السيف . إنّ القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنْفَس متاع للفطرة، وهو التوحيد وأمّا بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهّود والتنصّر، فلا نزاع لمسلم مع موحّدٍ ولا جدال )(٤) .

وكما ذكرنا سابقاً جسّدَ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الحقيقة في سيرته العملية، ففي أوائل هجرته (جاءه اليهود (قريظة والنضير وقينقاع) ( فقالوا: إلى ما تدعو ؟ قال: ( إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله، الذي تجدونني مكتوباً في التوراة، والذي أخبركم به علماؤكم أنَّ مخرجي بمكّة

____________________

١ - البقرة: ٢٥٦.

٢ - يونس: ٩٩.

٣ - مجمع البيان، ج١، ص٣٦٤ مصدر سابق.

٤ - الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج٢، ص٣٤٣.

١١٥

ومهاجري بهذهِ الحرّة ).

فقالوا له: قد سمعنا ما تقول، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك، ولا نُعين عليك أحداً، ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا، حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك.

فأجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً: ( أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان، ولا يد، ولا بسلاح، ولا بكراع، في السرّ والعلانية، ولا بليل ولا بنهار، والله بذلك عليهم شهيد )(١) .

وهذه الحقائق حول حريّة الاعتقاد والتدّين التي التزم بها النظام الإسلامي، من الواضحات التي اعترف بها غير المسلمين، إنصافاً منهم لِما شاهدوه ولمسوه من الممارسات الإسلامية في هذا المجال، حيث قال مونتجومري وات: ( حتّى إذا ما بَدَت علامات التحلّل على الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، وشعر الناس بالحاجة إلى شيء متين يتمسّكون به، قدّمت الأُمّة الإسلامية لهم هذا الاستقرار المطلوب )(٢) .

وقال جوستاف لوبون: ( إنّ القوّة لم تكن عاملاً في انتشار الإسلام والحقّ أنّ الأُمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب - أي المسلمين - )(٣) .

كما قال سير توماس أرنولد: ( يمكننا أن نحكم من الصِلات الودّية التي قامت بين المسلمين من العرب والمسيحيين، بأنّ القوّة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام )(٤) .

وذكر عبّاس محمود العقّاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) نقلاً عن كلام للكاتب توماس كاريل: ( أن اتّهام محمّد بالتعويل على السيف في حَمْل الناس على الاستجابة لدعوته سُخفٌ غير مفهوم )(٥) .

وقال روبرتسون: ( إنّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الجهاد والتسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، الذين غلبوهم وتركوهم أحراراً في إقامة شعائرهم الدينية )(٦) .

____________________

١ - الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ص٧٩.

٢ - منتجومري وات، محمد في المدينة، ترجمة: شعبان بركات، ص٢٢١.

٣ - جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص١٤٥ - ١٤٦

٤ - سيرتوماس وأرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص٦٥.

٥ - عباس محمود، العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص٢٢٧.

٦ - شوقي، أبو خليل، الإسلام في قفص الاتّهام، ص١٢٥.

١١٦

وكذلك قالت الكاتبة الإيطالية لورا فيشيا فاغليري: ( إنّ الإسلام لا يُبيح امتشاق الحسام إلاّ دفاعاً عن النفس، وهو يحرّم العدوان تحريماً صريحاً وأباحت الشريعة القتال للمسلمين دفاعاً عن حرّية الضمير ؛ لإقرار السِلم واستتباب الأمْنِ والنظام )(١) .

أمّا الأب ميشون، فيقول: ( إنّ من المحزن للأُم المسيحية، أن يكون التسامح الديني - الذي هو أعظم ناموس للمحبّة بين شعب وشعب - هو ممّا يجب أنّ يتعلّمه المسيحيون من المسلمين)(٢) .

ويذكر المؤرّخ المسلم شكيب أرسلان في شرح وضع المسيحيين في تركيا، وكيفية تعامل المسلمين معهم على نحو الشرع الإسلامي، هذا ما أدرجه لوثروب إستودارد في كتابه (حاضر العالم الإسلامي): ( الذي منع الأتراك من حَمْل النصارى الذين كانوا تحت سلطانهم على الإسلام أو الجلاء، هو الشرع المحمّدي، الذي يمنع الإكراه في الدين ويرضى من المعاهد بالجزية )(٣) .

أمّا بالنسبة لإبداء الرأي وحريّة تفكير غير المسلم، فهذه ممّا منحها الإسلام لغير المسلمين، وجعلها من سماحته الواجب تطبيقها من قِبَل السُلُطات الإسلامية تجاه أتباع الأديان الأخرى في ظلّ الدولة الإسلامية ؛ لأنّ هذا المبدأ مِن مبتنيات الشرع الإسلامي في تحرير العقل والتفكير ؛ للحصول على الحجّة والبرهان لأيّ مسلك سلكه، غير مقلّد ولا تابع.

وهو من جوهر الحريّات العامّة التي ينادي بها خاتم الأديان، فقد ذكرت الآيات، ووردت الروايات، على هذا المنوال من حيث الحوار والمناقشات في حدود العقل والمنطق، وفي المقابل حثّ المسلمين وغيرهم على التزام الأدب والأخلاق، والبُعد عن الممارسات التي يأباها المنطق السليم من العنف، يقول الله عزّ وجلّ:( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ

____________________

١ - لورافيشيا فاغليري، دفاع عن الإسلام، ص١١ - ١٢.

٢ - لوثروب إستودارد، حاضر العالم الإسلامي، ج٣، ص٢١١.

٣ - نفس المصدر، ج٣، ص٢٠٩.

١١٧

ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنّا بِالّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (١) ، وكذلك في آية أخرى:( وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) (٢) .

وهذا هو دَيدن الشرائع السماوية الحقّة من اللطف والحنان في تعامل الناس مع بعضهم البعض فكرياً، ولكن في المقابل - مع الأسف - ترى تعابير أهل الكتاب في هذا المجال بأسلوب لا يستند إلى مجاري المنطق، كما حكي عنهم القرآن الكريم حسب رأيهم:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُودَاً أَوْ نَصَارَى‏ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) ، ومع آرائهم تلك، لم يمنعهم الإسلام في إبداء وجهات نظرهم عن طريق الحوار العلمي الهادئ، الذي يقوم على سبيل إقامة الدليل وإلقاء الحجّة، حيث يقول عزّ وجلّ:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ ) (٤) .

كما أنّه كان غير المسلمين في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يتمتعون بحرّية التفكير وفي إبداء آرائهم، دون ضغط أو إكراه، وكانت تلك الآراء تُلقى على مسامع رسول الله ).

عن عبد الله بن عبّاس: ( أنّ عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الصيف، وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران، خاصموا أهل الإسلام، كلّ فرقة تزعم أنّها أحقّ بدين الله من غيرها:

فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء.

وقالت النصارى: نبينّا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتُب.

وكلّ فريق منهما قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا.

فأنزل الله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودَاً أَوْ نَصَارَى‏ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٥) (٦) .

____________________

١ - العنكبوت: ٤٦.

٢ - سبأ: ٢٤.

٣ - البقرة: ١١١.

٤ - آل عمران: ٦٤.

٥ - البقرة: ١٣٥.

٦ - مجمع البيان، ج١، ص٢١٦ مصدر سابق.

١١٨

وقيل: إنّ ابن صوريا قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما الهدى إلاّ ما نحن عليه، فاتّبعنا - يا محمّد - تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية( وَقَالُوا كُونُوا هُودَاً أَوْ نَصَارَى... ) ‏)(١) .

ومن الوقائع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله التي تُظهر حرّية إبداء الرأي لغير المسلمين ( أنّ قوماً من اليهود أتَوْا الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، فقالوا: قد أتيناك نسألك عن أشياء، فقال عمر: سلوا عمّا بدا لكم، قالوا: أخبِرْنا عن أقفال السماوات السبْع ومفاتيحها فأطرق ساعة، ثمّ فتح عينيه، ثمّ قال: سألتم عمر بن الخطّاب عمّا ليس له به عِلم، ولكن ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - يعني عليّاًعليه‌السلام - يُخبركم بما سألتموني عنه، فأرسل إليه فدعاه.

فلمّا أتاه، قال له: يا أبا الحسن، إنّ معاشر اليهود سألوني عن أشياء لم أُجبهم فيها بشيء، وقد ضمِنوا لي إن أخبرتُهم أن يؤمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( يا معشر اليهود، اعرضوا عليّ مسائلكم، فقالوا له مثل ما قالوا لعمر فلمّا أجابهم، أقبلوا يقولون: نشهد أن لا اله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّك ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

كما أنّه ( لأهل الكتاب حقُّ كتابة التوراة والإنجيل وسائر الكتُب الخاصّة بهم، ولهم حقُّ الطبْع والنشْر )(٣) .

ومبدأ حرّية إبداء الرأي شامل لغير أهل الكتاب كذلك، فالمشركون كان ينظر لهم الإسلام بنفس النظرة، فمن حقّهم إبداء رأيهم، وهذا ما سرده التاريخ الإسلامي، فعلى سبيل المثال: (عندما قَدِم وفد بني تميم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نادَوه من وراء الحُجُرات: ( اُخرج إلينا يا محمّد ) فخرج إليهم.

فقالوا: جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا.

فقال: ( قد أذِنت ).فقام عطارد بن حاجب وقال: الحمد لله الذي جعلنا ملوكاً، والذي له الفضل علينا، والذي وهب علينا أموالاً عِظاماً نفعل بها المعروف، وجعلنا أعزُّ أهل المشرق وأكثر عدداً وعدّةً، فمَن مثلُنا في الناس ؟! فمَن فاخرَنا فليعدّ مثل ما عدّدنا، ولو شئنا لأكثرنا في الكلام، ولكنّا نستحي من الإكثار، ثمّ جلس.

____________________

١ - نفس المصدر.

٢ - محمد بن علي، الصدوق، الخصال، ج١، ص٤٥٦، أبواب الاثني عشر.

٣ - روح الله، الخميني، تحرير الوسيلة، ج٢، ص٥٠٧.

١١٩

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لثابت بن قيس بن شماس: ( قُم فأجبه ).

فقام فقال: الحمد لله الذي السماوات والأرض خَلْقه، قضى فيهنَّ أمره، ووسِع كرسيّه عِلْمه، ولم يكن شيء قط إلاّ من فضله، ثمّ كان من فضله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلْقه رسولاً: أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأفضلهم حسباً

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد، وأجابه حسّان بن ثابت.

فلمّا فرِغ حسّان من قوله، قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا.

فلمّا فرغوا، أجازهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأحسن جوائزهم وأسلموا )(١) .

وعليه ؛ فحرّية الأديان تعدّ من الحرّيات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً مع الحرّيات السياسية، وتشمل هذه الحرّية: حرّية البقاء على الدين، وحرّية إظهار الدين والعقيدة، وممارسة الطقوس والفرائض الدينية.

وفي هذا المجال نودّ ذكر وجهة نظر الإمام الخميني (ره) في ذلك:

١ - يرى الإمام الخميني (ره): أنّ الأقليّات الدينية تتمتّع بحريّة أداء شعائرها في الحكومة الإسلامية، ولهم أن يؤدّوا طقوسهم الدينية بحريّة: ( يحقّ لجميع الأقليّات الدينية أن تمارس جميع شعائرها الدينية بحرّية وفي ظلّ الحكومة الإسلامية )(٢) .

٢ - يرى الإمام الخميني (ره): أنّ للأقليّات الدينية الحقّ في إظهار عقيدتها والإعلان عنها، لكن ليست حرّة في القيام بأعمال تخريبية.

يقولرحمه‌الله : ( لقد حفظ الإسلام دوماً الحقوق المشروعة للأقليات الدينية، وهم أحرار في الجمهورية الإسلامية، ويتابعون شؤونهم بحرّية، وأحرار في الإعلان عن معتقداتهم في ظلّ الحكومة الإسلامية كباقي الأفراد )(٣) .

____________________

١ - مجمع البيان، ج٥، ص١٣٠ مصدر سابق.

٢ - مجلة " الحياة الطيبة "، العدد الرابع، السنة الثانية، ١٤٢٠ه-، قم: معهد الدراسات الإسلامية، نقلاً عن: " صحيفة نور " ( هذا الكتاب يحتوي على جميع كلمات وخطب ورسائل الإمام الخمينيرحمه‌الله )، ج٣، ص٧٥.

٣ - نفس المصدر، ص٣٣.

١٢٠