حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي0%

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 200

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وليد الخزعلي
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 44480
تحميل: 7226

توضيحات:

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 44480 / تحميل: 7226
الحجم الحجم الحجم
حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والصابئون: هم مَن يتركون دينهم ويدينون بدين آخر، وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنّهم على ملّة نوح، وقِبلتهم مهبّ الشمال عند منتصف النهار(١) .

أقوال العلماء في الصابئة:

يقول العلاّمة الحلّي في (تذكرة الفقهاء): ( الصابئون منفردون بمذاهبهم ؛ لأنّ جمهورهم يوحّد الصانع في الأوّل، ومنهم مَن يجعل معه هيولى في القِِدَم صَنع منها العالم، فكانت عندهم الأصل، ويعتقدون في الفَلَك وما فيه الحياة والنطق، وأنّه المدبّر لِما في هذا العالم والدال عليه، وعظّموا الكواكب وعبدوها، وبُني لها بيوتاً للعبادة، فهم - على طريق القياس - إلى مشركي العرب وعبّاد الأوثان أقرب من المجوس وقال الشيخ (الطوسي) (ره): قد قيل إنّ السامري قوم من اليهود، والصائبون قوم من النصارى، والصحيح في الصابئة أنّهم غير النصارى ؛ لأنّهم يعبدون الكواكب )(٢) .

ولخّص الشيخ الجواهري القول فيهم، من خلال جرْد آراء بعض العلماء من الإمامية، من المتقدّمين والمتأخرّين، في كتابه (جواهر الكلام)، حيث قال: ( وأمّا الصابئون، فعن أبي علي: أنّهم قوم من النصارى، وعن (المبسوط): أنّ الصحيح خلافه ؛ لأنّهم يعبدون الكواكب، وعن (التبيان) و(مجمع البيان): أنّه لا يجوز عندنا أخذ الجزية منهم ؛ لأنّهم ليسوا أهل كتاب، وفي المحكي عن (الخلاف): نقل الإجماع على أنّه لا يجري على الصابئة حكم أهل الكتاب، وعن (العين): أنّ دينهم يشبه دين النصارى إلاّ أن قِبلتهم نحو مهبّ الجنوب حيال نصف النهار، يزعمون أنّهم على دين نوح، وقيل: قوم من أهل الكتاب يقرءون الزبور، وقيل: بين اليهود والمجوس، وقيل: قوم يوحّدون ولا يؤمنون برسول في القواعد: الأصل في الباب أنّهم - أي السامرة والصابئين -: إنْ كانوا إنّما يخالفون القبيلتين (أي اليهود والنصارى) في فروع الدين فهم منهم، وإن خالفوهم في أصله فهم ملحدة لهم حكم الحربيين وفي كشف اللثام: بهذا يمكن

____________________

١ - إبراهيم مصطفى و أحمد حسن الزيات و حامد عبد القادر و محمد علي النجار، المعجم الوسيط، ج١، ص٥٠٥.

٢ - تذكرة الفقهاء، ج٢، ص٦٤٥.

٤١

الجمع بين القولين ؛ لجواز أن يُعَدّوا منهم وإن خالفوهم ببعض الأصول، كما يُعدّ كثير من الفِرق من المسلمين مع المخالفة في الأصول )(١) .

نقل العلاّمةُ الحلّي عن ابن الجنيد (من العلماء المتقدّمين): ( أنّ الصابئة تؤخذ منهم الجزية ؛ لأنّهم من أهل الكتاب، وإنّما يخالفونهم في فروع المسائل، لا في الأصول )(٢) .

عقائد الصابئة:

١ - يعتقد الصابئة أنّ دينهم أقدم الأديان على وجه الأرض،( وأنّه أُنزل بأمر مَلَك النور على (آدم وحواء)، وهو باق منذ تلك الأزمنة إلى يومنا هذا )(٣) .

٢ - يعتقدون - من حيث المبدأ - بوجود الإله الخالق الواحد الأزليّ، الذي لا تناله الحواس ولا يُفضي إليه مخلوق، ولكنّهم يجعلون بعد هذا الإله (٣٦٠) شخصاً خُلقوا ليفعلوا أفعال الإله: من رعد وبرق ومطر وشمس وليل ونهار وهؤلاء يعرفون الغيب، ولكلّ منهم مملكته في عالم الأنوار(٤) .

٣ - بينهم وبين المسيحية عداء، ولكن عداءهم لليهود شديد لدرجة أنّهم يعتبرون موسىعليه‌السلام من رسل الروح الشريرة:

( وليس من المحتمل اعتبار العقيدة المندائية إحدى العقائد المسيحية المنشقّة ؛ لأنّ العداء للكنيسة المسيحية بالذات يبرهن العكس من ذلك، هذا من ناحية.

ومن الناحية أخرى فإنّ عداءهم الشديد لليهود واعتبارهم موسى من رُسل الروح الشريرة ؛ ممّا يدل على اعتبار العقيدة المندائية من العقائد الخارجة عن اليهودية الأُولى )(٥) .

____________________

١ - جواهر الكلام، ج٣٠، ص٤٥.

٢ - الحسن بن يوسف، الحلّي، تحرير الأحكام، ج٢، ص٢٠٠.

٣ - د عبد الرزاق محمد، أسود، موسوعة الأديان والمذاهب، ص١١٦.

٤ - الموسوعة الميسّرة، ص٣١٩ - ٣٢٠.

٥ - الموسوعة الميسّرة، ص٣١٨.

٤٢

٤ - المندي: هو معبد الصابئة وفيه كُتبهم المقدّسة، ويجري فيه تعميد(١) رجال الدين(٢) .

٥ - الصلاة: تُؤدّى ثلاث مرّات في اليوم، فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود(٣) .

٦ - الصوم: صابئة اليوم يحرّمون الصوم ؛ لأنّه من باب تحريم ما أحلّ الله، لكنّهم يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة لمدّة(٣٦) يوماً متفرّقة على طول أيّام السنة(٤) .

٧ - يعتقدون بصحة التاريخ الهجري ويستعملونه ؛ وذلك بسبب اختلاطهم بالمسلمين، ولأنّ ظهور النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مذكوراً في الكتب المقدّسة الموجودة لديهم(٥) .

٧ - يعتقد الصابئة المندائيُّون بأنّهم يتّبعون تعاليم (آدم)، ولديهم كتاب (الكنزيرا) أي صحف آدم ثمّ جاء النبيّ (يحيى) لتخليص الدين من الأمور الدخيلة، وهو لم يكن رسولاً، بل نبيّاً لهم(٦) .

تواجد الصابئة:

الصابئة بفِرَقها المتعدّدة قد تلاشت ولم يبق منها إلاّ فرقة واحدة، هي (الصابئة المندائية)، والتي تعتبِر يحيىعليه‌السلام نبيّاً لها: ( والمندائيُّون ينقسمون إلى قسمين، الأوّل: فئة (الناموريين)، وهم مسئولون عن حفظ الدين وإقامة شعائره الثاني: هم المندائيُّون العامة )(٧) .

____________________

١ - التعميد: الغطس في الماء للتطهير.

٢ -. موسوعة الأديان والمذاهب، ص١٢٠.

٣ - نفس المصدر.

٤ - الموسوعة الميسرة، ص٣٢٠.

٥ - نفس المصدر، ص٣٢٣.

٦ - موسوعة الأديان والمذاهب، ص١٢١.

٧ - موسوعة الأديان والمذاهب، ص١٢٤.

٤٣

وينتشر الصابئة المندائيُّون اليوم على ضفاف الأنهار في جنوب العراق فهم يتمركزون في مناطق البصرة والناصرية والعمارة وفي الأهوار، وكذلك في جنوب إيران في مناطق الأهواز وخرمشهر وعلى ضفاف نهر الكارون.

ولهم أعياد خلال السنة، وأكبر عيد لهم هو عيد (مَلَك الأنوار) أو (عيد اليوم الجديد)، ومدّته أربعة أيّام، لا يشرب خلاله الكهّان والمتّقون الشاي الممزوج بالسكّر، ولا يشربون الماء المعقّم، إنّما يشربون ماء النهر مباشرة، ويكون الكهّان مستعدّين لتعميد الراغبين من أبناء الطائفة )(١) .

حكم الصابئة اليوم:

ورد ذِكر الصابئة في القرآن الكريم عدّة مرّات، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

وقال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٣) .

وورد في سورة الحج:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٤) .

فعلى هذا يتبيّن أنّ هناك ديانة لمجموعة من الناس يُدعَوْن بالصابئين، كانت موجودة عند بزوغ فجر الإسلام، ولهذا سوف نستعرض آراء علمائنا حول حكمهم في وقتنا المعاصر.

____________________

١ - نفس المصدر.

٢ - البقرة: ٦٢.

٣ - المائدة: ٦٩.

٤ - الحج: ١٧.

٤٤

السيّد الخامنئي (حفظه الله): ذهب إلى ( أنّهم ديانة مستقلّة، وإلى أنّهم من أهل الكتاب، بناءً على أنّ أهل الكتاب مفهوم عام، لا يختصّ باليهود والنصارى، بل يشمل كلّ مَن له كتاب سماوي مسموعة )(١) .

السيّد الخوئي (ره): يُشير على أنّهم من أهل الكتاب ؛ وذلك عندما استدلّ بقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) ، حيث يرى أنّها ديانة مستقلّة ؛ باعتبار أنّ هذه الآية جعلتهم في عِداد الديانات المعروفة، ولذا جعل السيّد الخوئي (ره) أهل الكتاب أربعة طوائف: اليهود، النصارى، المجوس، الصابئة(٣) .

الشيخ المنتظري: ذهب إلى أنّهم ديانة مستقلّة وأنّهم من أهل الكتاب: ( وأنّه كان يوجد لدينهم وجهة حقّ وارتباط بالوحي السماوي ؛ إمّا لارتباطهم بأحد الأنبياء السابقين، ويُعدَّون لذلك من أهل الكتاب، أو لكونهم من إحدى الفرق الثلاثة (النصارى، اليهود، المجوس) وإنّما ذُكروا بالخصوص من باب ذِكر الخاصّ بعد العام ؛ لرفع الشبهة وما ورد في تعليل أخذ الجزية من المجوس بأنّه كان لهم نبيّ وكتاب ؛ يقتضي إسراء الحكم إلى كلّ مَن له كتاب ونبيّ سماوي، وإن لم يكونوا من الفِرق الثلاث )(٤) .

وعلى أيّة حال، ذهب السيّد الخامنئي والشيخ المنتظري إلى ( أنّه مع بقاء الشكّ في حالهم، فالأحوط إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم حفظاً للدماء )(٥) .

من العلماء المتأخرّين المحقّق الثاني تطرّق لحكمهم حيث قال: ( ولو قيل بأخذ الجزية منهم تعويلاً على ما نُقل من كونهم من النصارى واليهود إلى أن يُعلم تكفيرهم إياهم وعدمه،

____________________

١ - علي، الخامنئي، الصابئة حكمهم الشرعي وحقيقتهم الدينية، ص ٣٤.

٢ - البقرة: ٦٢.

٣ - أبو القاسم، الخوئي، منهاج الصالحين، ج١، ص٣٩١.

٤ - حسين علي، المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه، ج٣، ص٤٠٩.

٥ - الصابئة حكمهم الشرعي وحقيقتهم الدينية، ص٣٤ و دراسات في ولاية الفقيه ج٣، ص٤١٠.

٤٥

أو رجوعاً إلى إخبارهم عن أنفسهم بذلك، وبأنّهم لا يكفّرونهم، لكان وجهاً ؛ لأنّ دعوى مَن ادّعى أنّه من أهل الذمّة مسموعة ما لم يُعلم خلافها )(١) .

والنتيجة سواء قلنا بأنّهم ديانة مستقلّة أم صنف من إحدى الديانات الثلاث (اليهود، النصارى، المجوس)، فهم يُعامَلون معاملة أهل الكتاب في الوقت الحاضر.

ب - مَن ليس لهم كتاب.

كما أسلفنا فإنّ قسماً من غير المسلمين ليس لهم كتاب سماوي معترف به في الإسلام، وبحثُنا كما هو واضح يخصّ غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، وفي هذا القسم من غير المسلمين - الذين لا يملكون كتاب سماوي - يتواجدون كأقليّات في بعض الدول ذات الغالبية الإسلامية، كما في دول شرق آسيا كإندونيسيا وماليزيا وغيرها من الدول التي تنتمي للمجتمع الإسلامي، حيث توجد فيها بعض الديانات غير الإسلامية وليس من أهل الكتاب كالهندوس والبوذِّيين وعبدت الأوثان وغيرها من الأديان على هذه الشاكلة.

ونحن في هذا القسم سوف نتطرّق بشكل إجمالي لعقائد بعض هذه الديانات وأصولها للتعريف بماهيّاتها بما يتناسب مع هذا الفصل من البحث:

١ - الهندوس:

الهندوسية: هي ديانة أكثر أهل الهند الآن، ولكن ليس لهم صانع لهذا الدين معيّن، وإنّما هي مجموعة من التقاليد والأوضاع وامتزجت فيما بينها وتطوّرت فأصبحت ديانة، يقول الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه (تاريخ الإسلام في الهند): ( الهندوسية: أسلوب في الحياة أكثر ممّا هي مجموعة من العقائد والمعتقدات، فهي خليط لشتّى المعتقدات والفرائض والسُنن، فليست لها صيَغ محدودة المعالِم ؛ لذا تشمل من العقائد ما يهبط إلى عبادة الأحجار والأشجار، وما يرتفع إلى التجريدات الفلسفية الدقيقة )(٢) .

____________________

١ - علي بن الحسين، الكركي، جامع المقاصد، ج٣، ص٤٤٩.

٢ - عبد المنعم، النمر، تاريخ الإسلام في الهند، ص ١٨.

٤٦

يُعدّ كتابهم المقدّس (الويدا) هو الأصل في اعتقاداتهم وأفكارهم في جميع مراحل الديانة الهندوسية، وأُنشأ هذا الكتاب ودُوِّن على يد أهل العلم والنظر، وهم المسمّون ب-: (البراهمة)، وهم رجال الدين الذين كان يعتقد أنّهم يتّصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي، فهم كهنة الأُمّة لا تجوز الذبائح إلاّ في حضرتهم وعلى أيديهم.

يقول الدكتور أحمد الشلبي في كتابه (مقارنة الأديان - أديان الهند): ( ظهر أهل العلم والنظر (وهم البراهمة) في القرن الثامن قبل الميلاد، وهذه المرحلة تمّ فيها تدوين (الويدا) وتأويلها على أيديهم وقام البراهمة بتأويل ما كتبوه لمصلحتهم ؛ ليجعلوا امتيازاتهم مقدّسة، فوضعوا نظام الطبقات ليحول من الامتزاج بينهم وبين العامّة، ففي هذه المرحلة بدأت الهندوسية التي لا تزال موجودة لحدّ الآن )(١) .

لكن هذه الديانة ضعفت بعد قرن من إنشائها، عندما ظهرت الديانة الجينية والبوذية وذلك في القرن السادس قبل الميلاد، ولكنّها عادت في القرن الثالث قبل الميلاد، يقول الدكتور أحمد الشلبي: ( ظهرت الديانة الجينية، والديانة البوذية، وضعفت الديانة الويدية (الهندوسية)، ولكن في القرن الثالث قبل الميلاد، ظهر العصر الويدي الثاني وانتصار الويدا على دين الإلحاد (بنظر أتباع الويدا)، وتوسّعت شروح الويدات، وبيان الخصائص الدينية والاجتماعية التي وردت بها، فاستقرّت واتّضحت الهندوسية معالمها )(٢) .

والهندوس بجميع طبقاتهم، المعتقدة بالآلهة، كلّها تُقدّس البقرة، وكلّها تخضع للنظام الطبقي، والبراهمة هم ملجأ الجميع في حالات الميلاد والزواج والوفاة.

أمّا عبادة البقرة، فقد حظِيَت في الهند بأسمى مكانة، ففي الويدا حديث عن قدسيتها والصلاة لها، وهناك مقالة للمهاتما غاندي بعنوان (أُمّي البقرة) يُظهر فيها قدسية للبقرة: ( إنّ حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هديّة الهند للعالَم، حيث البقرة خير رفيق للمواطن الهندي، وعندما أرى البقرة لا أعِدُني أرى حيواناً، لأنّي أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام

____________________

١ - مقارنة الأديان، ص٢٧.

٢ - نفس المصدر، ص٣٦.

٤٧

العالَم أجمع وأُمّي البقرة تفضُل أُمّي الحقيقية، فالأُمّ الحقيقية ترضعنا مدّة عام أو عامين، وتطلب منّا خدمات طول العمر، ولكن أُمّنا البقرة تعود علينا بالنفع ؛ لأنّنا ننتفع بكلّ جزء من جسمها حتّى العظم والجلد والقرون )(١) .

٢ - البوذية:

وهي ديانة ظهرت في الهند بعد الديانة البراهمية (الهندوسية)، عندما ضعفت في مراحلها الأُولى نتيجة لتذمّر الناس من الطبقية التي سادت في ذلك الوقت، فظهر الأمير (سيدهاتا) والملقّب ببوذا - والتي تعني المستنير - والذي قضى طفولته في ترف، حيث كان والده ملكاً، لكن لمّا كبر ورأى الطبقية السائدة في المجتمع آنذاك، ورأى تعاليم الكُتُب الهندوسية غريبة وباطلة، فعزم على تخليص الناس من آلامهم، فانتهج لنفسه منهجاً تقشّفياً وخرج من القصر وأصبح راهباً.

يقول سليمان مظهر في (قصّة الديانات): ( عندما رأى تقسيم الناس إلى طبقات وطوائف غير عادل، ورأى الكتب الهندوسية المقدّسة باطلة ومنبعها الشهوات، اتّخذ منهج التقشّف وفارق زوجته وأصبح راهباً يتنقّل من مكان إلى مكان، ومن خلال عزلته وتفكّره، توصّل بوذا إلى أنّ الآلهة ليس لها القدرة على تغيير الظواهر الطبيعية، وأنكر أنّ البراهما هو خالق كلّ شيء، ثمّ اتّخذ طريقاً ذي ثمان قواعد للحياة هي:

١ - الإيمان بالحقّ. ٢ - القرار الحقّ. ٣ - الكلام الحقّ. ٤ - السلوك الحقّ.

٥ - العمل الحقّ. ٦ - الجُهد الحقّ. ٧ - التأمّل الحقّ. ٨ - التركيز الحقّ.

فانتشرت هذه التعاليم في مملكة أبيه، واستمرّ بوذا في نشرها حتّى تعدّت حدود الهند )(٢) .

وقد نصّت تعاليم البوذية على مجموعة من الوصايا يبلغ عددها (٢٥٠) وصية، منها عشر جوهرية - كما جاءت في دائرة معارف البستاني - وهي: ( لا تقتل، لا تسرق، كُن عفيفاً، لا

____________________

١ - نقلاً عن مقارنة الأديان، ص٣٧، مقالة للمهاتما غاندي في مجلّة ( Bhavan's journal ) التي تصدر في بومباي في الهند.

٢ - سليمان مظهر، قصّة الديانات، ص٩٤ - ١١٨.

٤٨

تكذب، لا تسكر، لا تأكل بعد الظهر، لا تُغنِّ ولا ترقص، وتجنّب ملابس الزينة، لا تستعمل فراشاً كبيراً، لا تَقْبَل معادن كريمة.

وخمس تتعلّق بما يجب أن يُقدّم من الاحترام لبوذا، والشريعة والكهنوت، والسيرة الجيّدة، والصحّة الجيّدة، والعِلم القليل ؛ صفات كافية للدخول إلى الرهبانية، ويؤمر المبتدئ أن لا يُأكل إلاّ فضلات أطعمة العوام، وأن يستعمل بول البقر دواءً، وأن يلبس رداءً من الخرق ملطخاً )(١) .

وخلاصة الأدب البوذي إنّما هي في اجتناب كلّ شي رديء، وعمل كلّ شيء صالح، وتهذيب العقل أمّا ما كان من الخرافات والذبائح والكهنوت والفلسفة والأسرار، فقد أُضيفت إليها مع تمادي الزمان في بلدان وأحوال مختلفة.

أمّا تواجدهم اليوم:

حيث يذكر السمحراني في (قاموس الأديان): ( أنّ عدد البوذيين اليوم يتجاوز الأربعمئة مليون نسمة، وهم يتواجدون في الهند والنيبال والصين واليابان وإندونيسيا وماليزيا، ولكنّهم يشكّلون الأغلبية السكانية في الدولة التالية: بورما، بوتان تايلند، تايوان، سريلانكا، سنغافورة، فيتنام، كميوديا، كوريا الشمالية والجنوبية، لاوس ومنغوليا )(٢) وعلى هذا يكوّن البوذيّون نسبة من مجتمع بعض الدول الإسلامية كإندونيسيا وماليزيا التي غالبية سكانها من المسلمين، وهذا ممّا دعانا إلى التعرّض لديانتهم والاطّلاع عليها بشكل إجمالي.

الآلهة عند البوذِّيين:

لم يعتني بوذا بالآلهة، ( وكان ينهى أصحابه وزوّاره عن الخوض في هذا الاتّجاه، فكان سبباً قوياً لانتشار البوذية ؛ وذلك لعدم تعارضها مع آلهة الهنود، فكان كثير من الهنود يتّبعون البوذية في أخلاقها، ومع ذلك يحافظون على ولاءهم لآلهتهم )(٣) لكن بعد موت بوذا أخذت البوذية تنكمش في الهند ؛ لوجود الفراغ الإلهي في موقعهم، ممّا دعا أتباع بوذا بعد مرور سنوات

____________________

١ - بطرس، البستاني، دائرة المعارف، ج٥، ص٦٦٨ و ج٢، ص٧١٦.

٢ - د. أسعد، السحمراني، قاموس الأديان (بحث البوذية)، ص٧١ - ٨١.

٣ -. د. عمارة نجيب، الإنسان في ظلال الأديان، ص٢١٣.

٤٩

طويلة إلى التوجّه إلى هذا النقص، يقول سليمان مظهر في (قصّة الديانات): ( اتّجه أتباع بوذا إلى تأليه بوذا ونَسَوا تعاليم بوذا، وأقاموا له التماثيل بعد أن كان بوذا ينهى عن الأصنام )(١) .

وعندها أصبحت البوذية مندمجة مع الديانة الهندوسية في الهند، وقلّ أتباع بوذا في الهند بشكل كبير كما يقول الدكتور عمارة نجيب: ( أصبح بوذا إلهً بجانب آلهة الهندوس المتعدِّدة، وعادت الديانة الهندوسية إلى قوّتها، ولم يعد يوجد في الهند من أتباع بوذا إلاّ عدد قليل، إلاّ أنّ البوذية انتشرت شرقاً في الصين واليابان وجنوباً في بورما وسيلان )(٢) .

فِرق البوذية:

للبوذية فرقتين: ( ١- هنيايانا: أي العجلة الصغيرة، وهؤلاء كهّانها يرتدون الثوب الأصفر محلّقي رءوسهم، وهم يعتبرون بوذا ليس إلاّ مجرّد رجل وضع بعض القواعد للسلوك، وهو ليس إلهاً يُعبد.

٢ - ماهيانا: أي العجلة الكبيرة، وهي شكل منحرف للبوذية، وأتباعها يعتبرون بوذا إلهاً، ويعبدون الروح التي ألهمت بوذا، وهم يؤمنون بالملائكة، والشياطين )(٣) .

أهمّ الكتُب عندهم هي:

١ - قوانين البوذية ومسالكها.

٢ - خُطَب بوذا التي ألقاها.

٣ - الكتاب الذي يحوي أصل المذهب والفكرة التي نبع منها(٤) .

٣ - المشركون:

الشرك: أشرك بالله: جعل له شريكاً في مُلكه تعالى الله عن ذلك.

والاسم الشرك: قال تعالى:( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٥) .

____________________

١ - سليمان مظهر، قصّة الديانات، ص١٢٣.

٢ - د. عمارة نجيب، الإنسان في ظلال الأديان، ص٢١٥.

٣ - فوزي محمد، حميد، عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة، ص٢٠١.

٤ -. موسوعة الأديان والمذاهب، ص١١٠.

٥ - لقمان: ١٣

٥٠

والشرك: أن يجعل لله شريكاً في ربوبيّته.

ودخلت التاء في قوله:( لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ) ؛ لأنّ معناه لا تعدل به غيره، فتجعله شريكاً له، ومَن عدَل به شيئاً من خلْقِه، فهو كافر مشرك ؛ لأنّ الله وحده لا شريك له ولا ندّ(١) .

والمشركون القدماء في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم مشركوا الجاهلية الذين كانوا يعبدون الأصنام، وقد اندرسوا بعد العهد الأوّل للدعوة الإسلامية، فلا يوجد اليوم في المجتمع الإسلامي أيّ ذِكرٍ لهم، إلاّ ما ذكرنا من أصناف المشركين من الهندوس والبوذيين الذين يعيش بعضهم في دول شرق آسيا الإسلامية.

وأُلحق بالمشركين بعض الفِرق التي كانت في المجتمع الإسلامي كالغُلاة، الذين يألِّهون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض الأئمّةعليهم‌السلام ، وكذلك ذُكر الخوارج بأنّهم كفروا بالدين الإسلامي، ونحن نذكر موجزاً عنهم:

الغُلاة:

هم الذين يألِّهون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أو بعض الأئمّةعليهم‌السلام ، فقد حُكم عليهم عند الإمامية بأنّهم مشركون، كما في الروايات وفتاوى العلماء.

فقد قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( ما نحن إلاّ عبيد الذي خلَقَنا واصطفانا والله، ما لنا على الله حجّة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميّتون وموقوفون ومسئولون، مَن أحبَّ الغُلاة فقد أبغضنا، ومَن أبغضهم فقد أحبّنا، الغلاة كفّار، والمفوِّضّة مشركون، لعن الله الغُلاة، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدرية، ألا كانوا مُرجئة، ألا كانوا حرورية )(٢) .

كما أنّ المسلمون يرِثون الغلاة، والغلاة لا يرِثون المسلمين، والإمامية لا يُغسِّلون موتى الغلاة ولا يدفنونهم، ويحرّمون تزويجهم وإعطاءهم الزكاة، وهذا مفصّل في الكتُب الفقهية للإمامية.

يقول الشهيد الأوّل والثاني في (اللمعة وشرحها) في باب الوقف، عند تعريف

____________________

١ - لسان العرب ج١٠، ص٤٤٨.

٢ - محمد باقر، المجلسي، بحار الأنوار، ج٣، ص٥١.

٥١

المسلمين: ( والمسلمون مَن صلّى إلى القِبلة، أي اعتقد الصلاة إليها وإن لم يُصلّ، لا مستحلاًّ، إلاّ الخوارج والغلاة، فلا يدخلون في مفهوم المسلمين وإن صلّوا إليها للحكم بكفرهم )(١) .

ووصفهم كذلك الإمام الصادقعليه‌السلام بالمشركين عندما قال لمرازم - أحد أصحابه -: ( قُل للغالية: توبوا إلى الله فإنّكم فُسّاق مشركون )(٢) .

وقد استعرض الدكتور أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) حركة الغلاة، فقال: ( إنّ أفراداً بسطاء هم الغلاة الذين يؤلِّهون عليّاً، وإنّ الشيعة تبرأ منهم، ولا يجوز عندهم الصلاة عليهم )(٣) .

ولكن هذه الفِرق التي تنحو منحى المغالاة، قد اندثرت وبادت وكذلك آراؤهم، ولا يوجد اليوم منهم أحد إلاّ في بطون الكتُب(٤) .

الخوارج:

هم فئة خرجت على الإمام عليعليه‌السلام في وقته ؛ نتيجة رفضهم لنتيجة التحكيم في معركة صِفّين، فرفعوا شعار: ( لا حكم إلاّ لله ) وصار رمزاً لهم ( وكان أوّل قائد لهم هو عبد الله بن وهب الراسبي، عندما خرجوا على الإمام عليعليه‌السلام وتجمّعوا في حَرَوراء - منطقة قرب المدائن في العراق - فقاتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فنجا منهم عشرة وتفرّقوا في البلدان، وبدأت بِدَع الخوارج تنموا في تلك المناطق التي هاجروا إليها )(٥) .

عقائدهم:

ومن معتقداتهم تكفير الإمام عليعليه‌السلام وعثمان والحَكَمَين وأصحاب الجَمَل، وكلّ مَن رضيَ بتحكيم الحَكَمَين، وأباحوا قتْل أطفال المخالفين لهم ونسائهم(٦) .

____________________

١ - زين الدين، (الشهيد الثاني)، شرح اللمعة الدمشقية، ج١، ص٢٢٨.

٢ - أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج٤، ص١٥٠.

٣ - أحمد أمين، فجر الإسلام، ص٢٣٧١.

٤ - د أحمد، الوائلي، هوية التشيّع، ص١٦٧.

٥ - محمد خليل، الزين، تاريخ الفِرق الإسلامية، ص ١٠٢.

٦ - ابن حزم، الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج٢، ص٣٦٠.

٥٢

وعلى كلّ حال، فالخوارج ليس لهم تواجد في المجتمع الإسلامي يُعتدُّ به، وإلاّ لكانت المعاملة معهم كالحربيين الذين يُبيحون قتْل المسلمين لسبب عدم موافقتهم في الرأي.

النتيجة:

قد تبيّن من هذا الفصل أنّ غير المسلمين إمّا أهل كتاب أو ليسوا بأهل كتاب، فأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأُلحق بهم المجوس والصابئة، وذكرنا لكلّ منهم نشأته وعقائده وكتبه والفِرق.

وأمّا مَن ليس لهم كتاب، فهُم: المشركين (عَبَدَة الأصنام ) على نسق مشركي الجاهلية - الذين انقرضوا في العهد الأوّل من الإسلام - والهندوس والبوذيين في دول شرق آسيا، وتعرّضنا كذلك لعقائدهم ونشأتهم وتواجدهم، واستطّردنا في ذِكر الغلاة والخوارج كفرق إسلامية، لكنّها عُدّت مُشركة ومحاربة للإسلام.

٥٣

الفصل الثاني:

التعامل التاريخي مع غير المسلمين

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: التعامل مع المشركين.

المبحث الثاني: التعامل مع أهل الكتاب.

المبحث الثالث: مكاتيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥٤

الفصل الثاني:

التعامل التاريخي مع غير المسلمين.

تمهيد:

اتّسم تاريخ الإسلام بالمبادئ السمحاء، التي صارت مناراً لتعامل المسلمين في مجتمعاتهم ومع غيرهم من الديانات، وصارت هذه المبادئ دستوراً ينطلق من خلاله كلّ مَن ينتمي انتماءً حقيقياً لهذا الدين، وهو دين الفطرة وإنْ كان هناك خللاً في التطبيق من بعض المسلمين، لكنّ هذا يُعدُّ خرقاً من الناحية التطبيقية لمواد هذا الدستور الذي جاء به سيّد الأنامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتبعه في صيانته و نشره خلفاؤه الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام فالقرآن كتاب الله المنزَل على نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واضح المعالم في أحكامه ووصاياه في التعامل الإنساني، وكذلك سيرة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة أهل بيته الأطهارعليهم‌السلام .

فالخارج في تعامله عن هذه الركائز الدستورية ؛ بسبب جهله بها، أو لاجتهاده الشخصي، أو لهوىً في نفسه، فهو مأثوم ؛ لذا فالخلل في التطبيق هو أمرٌ طبيعي في عالم الدنيا، ما دام الدستور لا تشوبه شائبة ومنسجم مع الفطرة الإنسانية. لكن للأسف أنّ المبادئ التي تُذكر في دساتير بقيّة الأديان المطروحة اليوم، بعيدة كلّ البُعد عن مقتضيات الفطرة الإنسانية، فهي كثيراً ما تتَّسم بالعنف والإرهاب، ولم تستطع تلك المبادئ من إنجاز هدف الإنسان في تهذيبه وتحقيق الأمن و السلام له ؛ وذلك بسبب التحريف المقصود الذي طرأ على الكتُب المقدّسة كالتوراة والإنجيل.

فنجد - على سبيل المثال لا الحصر - في (العهد القديم) للديانة اليهودية، يقول في الكتاب المقدّس: ( وإذا اقتربتم من مدينة لتحاربوها، فاعرضوا عليهم السِلْم أوّلاً، فإذا استسلمت وفتحت لكم أبوابها، فجميع سكّانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم، وإن لم تُسالمكم، بل حاربتكم، فحاصرتموها فأسْلَمها الربّ - إلهكم - إلى أيديكم، فاضربوا كلّ ذَكر فيها بحدّ السيف وأمّا النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغنموها لأنفسكم، هكذا تفعلون في المدن البعيدة عنكم أمَّا مدن هؤلاء الأُمم التي يُعطيها لكم الربّ - إلهكم - مِلكاً، فلا تُبقوا أحداً منهم حيّاً، بل تحلّلون إبادتهم )(١) .

____________________

١ - الكتاب المقدّس، مجمع الكنائس الشرقية، فصل الحرب المقدّسة، ص٢٣٩.

٥٥

وكذلك ورد فيه (فصل: داود عند فلسطين): ( كان داود يغزو البلاد فلا يُبقي على رجُل ولا امرأة، ويأخذ الغنم والبقر والحمير والجمال والثياب )(١) .

أمَّا بالنسبة للديانة النصرانية، فإنّها كذلك لم تستطع تحقيق الأمن والسلام للإنسان، ولم تتمكّن من تهذيبه، وقد ورد في (بشارة متّى) المتداول بأيدي المسيحيين، بعد أن طرأت عليه التحريفات المقصودة: ( لا تظنّوا أنّي جئتُ لأحمل السلام إلى العالَم، ما جئتُ لأحمل سلاماً، بل سيفاً، جئتُ لأفرّق بين الابن وأبيه والبنت وأُمّها، والكَنّة وحماتها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته مَن أحبّ أباه أو أُمّه أكثر ممّا يُحبّني، فلا يستحقّني ومَن أحبّ ابنه أو ابنته أكثر ممّا يحبّني، فلا يستحقّني ومَن لا يحمل صليبه ويتّبعني، فلا يستحقّني ومَن حفظ حياته يخسرها، ومَن خسر حياته من أجلي يحفظها )(٢) .

والواضح من عقيدتنا في النبيّ موسى والنبيّ عيسى أنّهما من أُولي العزم من الرُّسُل، وأنّهما مبعوثان من عند إلهٍ حكيم رؤوف رحيم، وبُعثا للعالَم بما يقتضي السِلم والسلام ويُمهّدا لخاتم الأديان (الدين الإسلامي)، قال تعالى:( وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٣) .

فلا نعتقد بمزاعم هذين الكتابين، فلا شكّ أنّ النصوص محرّفة حتماً عن التعاليم السمحاء الواردة في الكتب المقدَّسة الأصلية (التوراة والإنجيل).

ومن خلال المقارنة بين ما ورد في (العهد القديم) و(بشارة متّى)، نجد أنّ الأوّل أشدُّ خطراً على الإنسانية من كُتُب النصارى ؛ فإنّه يتحدّث عن القتل والإبادة والإرهاب خلافاً لمفهوم الرحمة والشفقة والأمن والسلام، لكنّ المؤسف كذلك أنّ النصرانية، باعتبار أنّها تُؤمن بالدين اليهودي الذي قبلها، فهي تؤيّد ما كان في كُتُبهم ؛ ولذا يتّبع النصارى كِلا الكتابَين معاً (العهد القديم، وبشارة متّى) ويسمّونهما (الكتاب المقدّس).

____________________

١ - الكتاب المقدّس، ص ٣٦٧، فصل: داود عند فلسطين.

٢ - الكتاب المقدّس، بشارة متّى، ص١٨، فصل: يسوع والعالم.

٣ - آل عمران: ٨٤.

٥٦

فشتّان ما بين الدستور الإسلامي ودساتيرهم وعليه نحن ذكرنا هذهِ المقدّمة ؛ لأجل التوضيح للقارئ، قبل الدخول في هذا الفصل في تاريخ التعامل الإسلامي مع غير المسلمين.

الجزيرة العربية محطّ الرسالة الإسلامية:

في الجزيرة العربية آنذاك، يوجد بصيص من النور في ظلمة الجاهلية الحالكة، وهو الإيمان عند بعض أهل الكتاب ومَن بقيَ متمسّكاً بالحنَفِيّة - ملّة إبراهيم - من العرب.

بالنسبة لأهل الكتاب يقول تعالى:( لَيْسُواْ سَوَاء ) (١) ، أي أنّهم جميعاً ليسوا في التديّن مثل بعضهم، وإن كانوا جميعاً أتباع دين واحد هو الكتاب المقدّس الحقّ - الذي نزل القرآن الكريم يؤيّده ويصدّقه - لكنّهم في التديّن والتطبيق لم يكونوا سواء.

وتطبيق الدين بصدق يعني التقوى وتطبيق أوامره ونواهيه، مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحرمة القتل والزنا والسرقة وإلى آخره من الواجبات والمحرّمات وهنا يختلف الناس حسب الإيمان والسلوك برغم الشعارات المرفوعة، بعضهم سابق بالخير وبعضهم متوسّط وبعضهم ضلّ وفسد، وتتحدّث الآية الآتية عن الصِنف المفلح من أهل الكتاب، فتُخبر عنهم بصيغة الجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والدوام في كلّ عصر وأوان:( مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) (٢) أي قائمة بالدين إيماناً وسلوكاً ؛ لذلك فأنّهم( يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ ) (٣) ، وعليه فإنّ الله تعالى لن يُضيع أجرهم، فالمتّقون هم أصحاب الجنّة:( مَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالمُتّقِينَ ) (٤) .

وبعضهم مَن حارب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوته، وكانوا يعملون الموبقات، وهذا ما صرّح به القرآن المجيد في كثير من آياته المباركة، وهؤلاء هم الأكثرية، حيث غلبت عليهم أهواءهم

____________________

١ - آل عمران: ١١٣.

٢ - آل عمران: ١١٣.

٣ - آل عمران: ١١٤.

٤ - آل عمران: ١١٥.

٥٧

ومصالحهم الشخصية، وإلاّ فالوحي واحد لكلّ الأنبياء:( إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً ) (١) .

لكنَّهم تفرّقوا عن الديانات الحقّة والصحيحة، والتي اجتمعت في الإسلام خاتم الأديان، لكنّهم تمسّكوا ببعض الشكليّات الفارغة من محتواها:( وَمَا تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ ، وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيّمَةِ ) (٢) .

أمَّا بالنسبة لغير أهل الكتاب في الجزيرة، فهناك من العرب مَن ظلّ متمسّكاً بالحنفِيّة، تاركاً للظلم والعصيان وعبادة الأصنام، وهم الحُنفاء كآباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمّا المسلمون، فقد فعلت قريش بمَن بقيَ منهم في مكّة بعد هجرة أغلب المسلمين إلى المدينة، فمنعوهم المشركون في دخول المسجد الحرام قال تعالى:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى‏ فِي خَرَابِهَا أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٣) .

وهذا أيضاً ما حصل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله معه في مكّة قبل هجرته، حين منعوه من الصلاة في البيت طالما يكفر بالأصنام، قال تعالى:( أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى‏، عَبْداً إِذَا صَلّى ) (٤) ، حيث قام طواغيت قريش في اضطهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذوا يُكرهونه على عبادة غير الله تعالى، فأمره الصلى‌الله‌عليه‌وآله له عزّ وجلّ بالرفض لمطالبهم، تاركاً لهم حريّة الاختيار في عبادة غير الله جلّ وعلا، حيث لا إكراه في الدين، قال عزّ مِن قائل:( قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِن دُونِهِ (٥) قُلْ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونّي أَعْبُدُ أَيّهَا الْجَاهِلُونَ ) (٦) .

____________________

١ - النساء: ١٦٣.

٢ - البينة: ٤ - ٥.

٣ - البقرة: ١١٤.

٤ - الفلق: ٩.

٥ - الزمر: ١٣ - ١٤ - ١٥.

٦ - الزمر: ٦٤.

٥٨

وعلى هذا فنحن نبدأ إنشاء الله في التفصيل في مبدأ تعامل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله آنذاك عبر النصوص التاريخية، وما ورد من سيرته وسيرة أهل بيته الكرامعليهم‌السلام تجاه المشركين في الجزيرة العربية، وخصوصاً مَن له تماسّ معهم، وهم مشركوا قريش.

٥٩

المبحث الأوّل:

التعامل مع المشركين.

٦٠