حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي0%

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 200

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وليد الخزعلي
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 44066
تحميل: 7087

توضيحات:

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 44066 / تحميل: 7087
الحجم الحجم الحجم
حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أوّلاً: السلوك النبوي.

١ - مكّة في بداية الدعوة:

وممّا يؤسف أنّ المعاداة صدرت من داخل البيت الهاشمي، وذلك على يد عمّ النبيّ أبي لهب، واسمه (عبد العزَّى)، وإنّ امرأته هي أم جميلة، يقول محمّد عزّه دروزه في (سيرة النبيّ): ( إنّ كُنية عبد العُزّى عمّ النبيّ هي: أبو لهب، ويرجَّح أنّها قرآنية إسلامية على سببل التحقير وكان أبو لهب يمشي وراء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلّما حدّث النبيّ أحداً، أتى إليه فقال له: لا تصدّقه ! فإنّه فيه همساً أي جنوناً أمَّا أمّ جميل، فكانت تضع الأقذار في طريق النبيّ وأمام بيته الذي كان مجاوراً لبيت عمّه، وأنّها كانت تُشيع عنه الإشاعات المثيرة )(١) .

وقال دروزة: ( وأكثر الرواة والمفسّرين قالوا: إنّ سورة (تبّت) نزلت بمناسبة قول أبي لهب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( تبّاً لك ألهذا دعوتنا ؟! )، وذلك حينما نزلت آية (وأنذر عشيرتك الأقربين) في سورة الشعراء، حيث جمع النبيّ بني هاشم ودعاهم وأنذرهم )(٢) .

وكان ردّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الأفعال من أبي لهب وزوجته، الالتزام بالخُلُق العظيم تجاه رَحمِهِ، إلى أن نزلت سورة (تبّت) من الله عزّ وجلّ وفضحته.

أمَّا بقيّة قريش في تعاملهم مع دعوته النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدايتها، فكانت كلّ قبيلة تثِبُ على مَن فيها من المسلمين، يقول البلاذري في (أنساب الأشراف): ( كلّ قبيلة كانت تحبس المسلمين عندها وتعذبّهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكّة إذا اشتدّ الحرّ، وروى مجاهد: ( أنّ المستضعفين من المسلمين أُلبسوا دروع الحديد وصُيّروا في الشمس حتّى بلغ الجهد منهم ) هذا والنبيّ يُصبّرهم ويأمرهم به )(٣) .

____________________

١ - محمد عزة، دروزة، سيرة النبي، ج١، ص١٧٣.

٢ - نفس المصدر.

٣ - البلاذري، أنساب الأشراف، تحقيق: محمد حميد، ج١، ص١٥٨.

٦١

وذكر البلاذري كذلك: ( أنّ بني مخزوم يَخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأُمّه، إذا حمِيَت الظهيرة، يعذّبونهم في رمضاء مكّة، فيمرّ بهم الرسول فيقول: ( صبراً آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة ) وقُتلت أُمُّه وهي تأبى إلاّ الإسلام، وكان عمّار يُعذَّب حتّى لا يدري ما يقول )(١) .

وعن سعيد بن جبير، قال: ( قلتُ لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يُعذرَون به في ترك دينهم ؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويُجيْعونه ويعطّشونه، وما يقدر أن يستوي جالساً من شدّة الضرب الذي نزل به )(٢) .

وكان المسلمون المستضعفون ليتمنَّون الموت من شدّة ما ينزل بهم من تعذيب المشركين، يقول خباب ابن الأرت - أحد أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -: ( لقد رأيتني يوماً وقد أوقدوا لي ناراً ثمّ سلقوني فيها، ثمّ وضع رجلٌ رِجْله على صدري، فما أتيت الأرض إلاَّ بظهري ولولا أنّي سمعت رسول الله يقول: ( لا يتمنّيَنَّ أحدُكم الموت ) لتمنّيتُه )(٣) .

فعلى هذا أمَا كان بإمكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُجنّد أشخاصاً - ولو معدودين - في ذلك الوقت ؛ ليُرهبوا زعماء قريش خصوصاً وهو بيده أموال خديجةعليها‌السلام ؟ بإمكانه ذلك في وقت قصير لو أراد الزعامة و بسط نفوذه وتكوين دولة، لكن هذا من المحالات على شخصيّته الكريمة، بغضّ النظر عن كونه نبيّ ومبعوث من قِبل الباري عزّ وجلّ، ويتّبع ما يوحى إليه لكن من ناحية إنسانية ومن منطلق كونه قيادي مفكّر، يعلم أنّ المظلومية هي أداة للنصر، والخُلُق الإنساني الرفيع في التعامل مع العدوّ، هو أبلغ في كسْب الأنصار لدعوته وتفاني أتباعه في سبيل هذهِ الدعوة ؛ لهذا كان يدعوهم لبذل الجهد بالحسنى، ولم تُسجّل عليه أيّة شائبة في تعامله مع مشركي قريش، ففي الوقت الذي هو فيه مظلوم يتحمّل العذاب، هو صابر رابط الجأش مع أصحابه.

لذا فمن أقواله لزعماء قريش: ( ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولاً فإنْ تقبلوا منّي ما جئتكم به، فهو حظّكم في الدنيا

____________________

١ - نفس المصدر، ج١، ص١٥٩.

٢ - عبد السلام، هارون، تهذيب سيرة ابن هشام، ص٧٢.

٣ - أنساب الأشراف، ج ١، ص١٧٨.

٦٢

والآخرة، وإن تردّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم )(١) فالملاحظ من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله منتهى الرِفْق والشفقة عليهم، مع أنّهم قابلوه بالغلظة، وغلبّوا مصالحهم الشخصية على المصلحة العامّة هذا في الدنيا، أمّا الآخرة، فهم غير ناظرين إليها.

٢ - مكّة عند فتحها:

عندما فتح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة، ترك أهلها المشركين وشأنهم، ولم يكونوا أهل كتاب، ولم يدلّ دليل على أنّه أجبرهم على الإسلام، ولم يقتلهم، بل عفا عنهم جميعاً حتّى عن المجرمين منهم.

ونذكر في هذا المضمار هذه الرواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام بكاملها، والتي تبيّن مدى سماحة الإسلام المتمثّلة بشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( لمّا كان فتح مكّة، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : عند مَن المفتاح، قالوا: عند أمّ شيبة، فدعا شيبة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اذهب إلى أُمّك فقل لها ترسل المفتاح، فقالت: قُل له: قتلتَ مقاتلنا وتريد أن تأخذ منّا مكرمتنا، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لترسلنّ به أو لأقتلنّك - وهذا تهديد لها ؛ لأنّها قائمة بكلامها هذا على محاربة الرسول ومنعه عن إزالة الأصنام وتطهير البيت الحرام، ولا يُريد سلبها المكرمة حسب مدّعاها كما سيتبيّن - فوضعته في يد الغلام، فأخذه، وقال له: هذا تأويل رؤياي من قبل.

ثمَّ قامصلى‌الله‌عليه‌وآله ففتحه وستره، فمِن يومئذ يُستر، ثمَّ دعا الغلام فبسط رداءه فجعل فيه المفتاح، وقال: ردّه إلى أُمّك ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يُرفع عنهم، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله البيت وأخذ بعضادَتَي الباب، ثمَّ قال: لا إله إلاّ الله، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، ثمَّ قال: ما تظنّون وما أنتم قائلون ؟ فقال سُهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظنُّ خيراً أخٌ كريم وابن عمّ، قال: أقول لكم كما قال أخي يوسف:( لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ) (٢) )(٣) .

٣ - معاملتهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غير مشركي مكّة:

قد وردت النصوص التاريخية في هذا المجال، لكنّنا نكتفي بهذا الحديث الذي يذكره صاحب (مستدرك الوسائل)، حيث جاء فيه: ( أنّ رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل قِبَلَ نجد سريّة، فأسَروا

____________________

١ - تهذيب سيرة ابن هشام، ص٦٤ - ٦٧.

٢ - يوسف: ٩٢.

٣ - بحار الأنوار، ج٢١، ص١٣٢.

٦٣

واحداً اسمه ثمامة بن آثال الحنفي، سيّد اليمامة، فأتَوا به وشدّوه إلى سارية من سواري المسجد، فمرّ به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فقال: خير إن قتلتَ قتلتَ وارماً، وإن مننتَ مننتَ شاكراً، وإن أردتَ مالاً تُعطَ ما شئت فتركه ولم يقُل شيئاً، فمرّ بهِ اليوم الثاني فقال مثل ذلك، ثمَّ مرّ بهِ اليوم الثالث فقال مثل ذلك، ولم يقُل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً، ثمَّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أطلقوا ثمامة، فأطْلَقوه فمرّ واغتسل وجاء وأسلم، فكتب إلى قومه فجاءوا مسلمين )(١) .

نلاحظ هنا في هذه الرواية أن ثمامة لم يجبره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الإسلام، لكنّه لمّا رأى معاملة الرسول الكريم له من الخلُق العظيم والعطف الذي تجسّد فيه، حيث لمّا سأله النبيّ الأكرم: ( ما عندك يا ثمامة ؟ )، قال: ( خير، إن قتلتَ قتلتَ وارماً ) أي إن قتلتني فمِن حقّك ؛ لأنّك قد ورُمتَ وتألّمت مِن قتْلِنا أصحابك، فلم يُجبه النبيّ حينذاك حتّى أطلقه، وبإمكان ثمامة الرجوع إلى قومه ويبقى سيّدهم وعلى عقيدته من الشرك، لكنّه آثر الانضمام إلى ركْب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على السيادة والجاه في قومه ؛ لِما رأى من روح الإسلام العظيمة المتمثّلة في تعامل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثانياً: التوسّع الإسلامي ونشر الدعوة سِلمياً:

هل فرض المسلمون الإسلام بالإكراه على غيرهم بالسيف والسلاح، أم تُرك لهم الاختيار ؟ تتّضح الإجابة على هذا السؤال عِبر ثلاث نقاط:

١ - ما هو الأصل في الإسلام، السِلم أم القتال ؟

٢ - ما هو رأي شعوب البلدان المفتوحة ؟

٣ - بأي طريقة تمّ انتشار الإسلام في البلدان النائية ؟

١ - الأصالة للسِلْم والاستثناء للقتال.

الأصل في الإسلام هو السلام وليس القتال،على خلاف ما كانت عليه الدول آنذاك في حالة صِراع كصراع الغابات، فاختار الله الإسلام ؛ رأفةً ورحمةً من لدنه تعالى وشريعةً سمحاء لهم، على يد الرسول المصطفى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأداء هذه المهمّة المقدّسة في نشر الرحمة والسلام للبشرية كافّة.

____________________

١ - حسين، النوري، مستدرك الوسائل، ج٢، ص٥١٤، ح٢٥٩٨.

٦٤

حيث يقول تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (١) ، وهكذا كانت سيرة عترته الطاهرةعليهم‌السلام ، ( فلم يُعرف أنّه أعلن الحرب في بدايته المباركة وظلّ انتشاره إلاّ ما شرّعه دفاعاً)(٢) .

وعليه فإنّ مواجهة الأخطار والذَود عن القِيَم السامية، يستدعي الدفاع - كالدفاع عن النفس والعِرض والمال والوطن - في حالة الاعتداء عليها من قِبل أعداءه المناوئين له، وفي سبيل الدفاع عن المستضعفين الرازحين تحت نِير الظلام وأعداء الإنسانية، كما في قوله تعالى:( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ) (٣) ، وهي حروب مشروعة عقلائياً، وليس لها مثيل في العالم في حاضره وماضيه في شدّة مراعاتها للحقوق الإنسانية، وهي حروب كانت ممّا لا مناص منها عقلاً للدفاع عن الرسالة ومواجهة المعتدي والتصدّي له، أو لأجل الذود والدفاع عن النفس وغيرها من مسوّغات الحرب ؛ لذا فالقاعدة والأساس في الإسلام هو السلام، والحرب ما هي إلاّ استثناء وعند الضرورات، ولكنّنا نلاحظ الحضارة الغربية منذ أن انبثقت وأمسكت بمقاليد الأمور، استعرت الأُمّة العالمية بحروب دامية لا مثيل لها في التاريخ، وتجاوزت كلّ المبادئ والقِيَم الإنسانية، كما في الحربين العالميتين الأُولى والثانية، وما نتج عنهما من آثار سيّئة على شعوب العالم إلى اليوم، من الفقر والاستعمار والتشتّت والضغائن ما بين بني البشر.

وعلى هذا فالفتوحات الإسلامية تُعتبر قضاء على الظلم والطغيان الحاصل من المتسلّطين على الشعوب، وهي مع ذلك دعوة للمجتمعات في اعتناق الدين الإسلامي باختيارهم من دون إكراه بمبادئه السمحاء( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ ) (٤) ، وسبيله العقل والتفكّر بهذا الدين( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْ‏ءٍ وَأَنْ عَسَى‏ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (٥) .

____________________

١ - الأنبياء: ١٠٧.

٢ - محمد، الشيرازي، لأوّل مرّة في تاريخ العالم، ج١، ص٢.

٣ - النساء: ٧٥.

٤ - البقرة: ٢٥٦.

٥ - الأعراف: ١٨٥.

٦٥

من ناحية أخرى فالديانات الموجودة آنذاك لم يبدأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم بالحرب أو يقتل أحداً منهم، بل أرسل رُسُله إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام (دين المبادئ السامية لإنقاذ الشعوب)، وعليه فلا تُعتبر فتوحات الإسلام توسّعية واستعمارية، بل دعوة إلى دين الإنسانية المتكامل.

وفي المقابل إذا وقف أحد بأساليب عدوانية أمام هذه الدعوة المسالمة، كأن يكون عذّب مَن آمن بها، أو خطّط لهدمها أو صدّ عن الدخول بها، فيقتضي الأمر هنا (استثناءً) إشهار السيف لإزالة هذهِ العقبة فقط، فعلى سبيل المثال: ( قتال الروم في مؤتة بقيادة جعفر ابن أبي طالبعليه‌السلام كان ذلك لمّا شَرَع الروم بقتل مَن أسلم واضطهادهم )(١) .

إذن، تبيّن أنّ الإسلام لم يأذن بالقتال إلاّ درءاً للعدوان، وتصدّياً للاضطهاد، والتماساً لحريّة الدين وحمايةً للدعوة ؛ فيكون دفاعاً عن بيضة الإسلام، ويُعدُّ عندها فرضاً من فرائض الدين، وهو (الجهاد).

٢ - رأي شعوب البلدان المفتوحة:

كانت الشعوب الكافرة في البلاد المفتوحة قد رحبّت بالفاتحين المسلمين ؛ لِما لاحظوا من السلوك الذي اتّسم به الفاتح، والتغيّر الذي طرأ عليهم بمرور الأيّام في حياتهم الاجتماعية، وذلك بسبب عدّة عوامل:

أ - بثّ الأخلاق الفاضلة ونشر الحرية: حيث كان المسلمون في تعاملهم مع غير المسلمين، أفضل مِن تعامل بعضهم مع بعض داخل مجتمعهم ؛ لأنّ دعاة الإسلام كانوا ينشرون دينهم داخل المجتمعات مستندين على قاعدة، وهي قول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق )، وكذلك لقاعدة( لا إكراه في الدين ) ، فلهم مطلق الحريّة في اعتناق الإسلام وعدمه.

ب - حرمة الغدر والتخريب الاقتصادي أثناء الفتح:

لاحظ الكفّار في البلدان المفتوحة مدى التعامل الحَسَن من المسلمين الداخلين عليهم، وحسب الشريعة المقدّسة التي أَوصت المسلمين في هذا المجال، ممّا سحرت شعوب هذهِ البلدان، ومن ذلك وصايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأُمراء الجيش: ( سيروا بسم الله وبالله، وعلى ملّة

____________________

١ - أحمد بن علي بن أبي طالب، الطبرسي، الاحتجاج، ج١، ص١٦٦.

٦٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا، ولا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطرّوا إليها ...)(١) ، وقال أبو صلاح الحلبي: ( ولا يجوز حرق الزرع، ولا قطع شجرة الثمر، ولا قتل البهائم، ولا خراب المنازل، ولا التهتّك بالقتل )(٢) ، وقال الشهيد الأوّل: ( ولا يجوز التمثيل ولا الغدر ولا الغلول )(٣) .

فالمسلمين جسّدوا هذهِ المعاني التي نطق بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصاياه للسرايا، وتلك الشعوب تُلاحظ هذا السلوك على الفاتحين، فاستبشرت خيراً، وقارنت بينها وبين حكّامها السابقين ؛ فكان هذا السلوك باباً لانتشار الدعوة الإسلامية بين تلك الشعوب كيف لا، ووصايا الرسول تُتلى على المقاتلين المسلمين بين حين وآخر، ووصاياه المباركة كانت شاملة حتّى للمحافظة على الحيوانات والنباتات، وهذا ما يرويه الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال: ( إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بعث أميراً له على سرية، أمره بتقوى الله عزّ وجلّ في خاصّة نفسه، ثمَّ في أصحابه عامّة، ثمَّ يقول: اُغزُ بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا متبتّلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تُغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تحرقوا زرعاً ؛ لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه، ولا تغرقوا من البهائم ما يُؤكل لحمه، إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله )(٤) .

ج - الوفاء بالعهد: كانت سيرة المسلمين قائمة على الوفاء بالعهد، فلم ينكثوا العهد بعد إتمامه، ولم يحدّثنا التاريخ أنّهم نقضوا العهد مع المعاهدين، ووجوب الوفاء بالعهد حتّى لو كان فيه ضرر على المسلمين: ( فحينما عاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المشركين بتسليم مَن جاءه من قريش مسلماً، وَفَى بذلك، وسلّم اثنين من المسلمين إليهم وفاءً منه بالعهد )(٥) ، وبهذا الأسلوب

____________________

١ - محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج٥، ص٣٠، ح٩، باب: وصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسرايا.

٢ - أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه، ص٢٥٦.

٣ - محمد بن مكي العاملي (الشهيد الأوّل)، غاية المراد، ج١، ص٤٨٢.

٤ - الكافي، ج٥، ص٢٩، ح ٨، باب وصايا الرسول للسرايا.

٥ - الفضل بن الحسن الطبرسي، إعلام الورى، ص١٠٦.

٦٧

تجسّدت السماحة والسلام وحقن الدماء، وأثبت الإسلام بأنّه لا يقاتل إلاّ دفاعاً عن المقدّسات، وعن النفس ونشر الحرية والسلام وردع العدوان.

٣ - المبادئ الإسلامية هي الفاتحة بذاتها:

وهذهِ هي النقطة الثالثة في السؤال عن طريقة انتشار الإسلام، فعند المراجعة للفتوحات الإسلامية والتدبّر بها، نجد أنّ الإسلام لم ينتشر بقوّة السلاح، وإلاّ ففي ذلك الوقت كانت الإمبراطوريات أكثر عِدّة وعدداً من المسلمين الفاتحين، كما في الإمبراطورية الفارسية والرومية وإنّما انتشر الإسلام بقوّته الذاتية ومبادئه المنسجمة مع الفطرة الإنسانية، وما يتضمّن من قوانين حيوية تدخل في كلّ ما يحتاجه بني البشر.

ومن جهة أخرى الذين دخلوا في الإسلام لم يدخلوه مكرَهين تحت طائل السيف، وإنّما اُستخدم السيف لإزالة الحاكم الظالم وتحرير البلاد من الاضطهاد، وكان دخولهم أفواجاً في دين الإسلام لِما يرَون من مبادئ الإسلام السمحاء والمطابِقة لفطرتهم الإنسانية، وهذا ما أكّدته النصوص القرآنية، ففي تفسير الطبرسي لقوله تعالى:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ) (١) ( أي أنّ لينك لهم ممّا يوجِب دخولهم في الدين، (ما زائدة)،( وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً ) أي جافياً سيّء الخُلُق،( غَلِيظَ الْقَلْبِ ) أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة،( لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) لتفرّق أصحابك عنك،( فَاعْفُ عَنْهُمْ ) ما بينك وبينهم،( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ما بينهم وبيني )(٢) .

ثالثاً: دوافع القتال وأهدافه:

من الآيات القرآنية نستلهم السيرة التاريخية لدوافع القتال وأهداف نشر الدعوة الإسلامية:

أ - دفع العدوان:

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ

____________________

١ - آل عمران: ١٥٩.

٢ - الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج٢، ص٤٢٨.

٦٨

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى‏ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِن انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) ، وفي كتاب ( الميزان في تفسير القرآن ) للسيّد محمّد حسين الطباطبائي: ( القتال محاولة الرجل قتل مَن يحاول قتله، وكونه في سبيل الله ؛ إنّما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى، دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم، فإنّما هو الإسلام دفاع يحفظ به حقّ الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة، فإنّ الدفاع محدود بالذات، والتعدّي خروج عن الحدّ والنهي عن الاعتداء مطلق يُراد به كلّ ما يصدق عليه أنّه اعتداء، كالقتال قبل أن يُدعى إلى الحقّ، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان وعدم الانتهاء إلى العدو )(٢) .

وهناك آية صريحة ببيان سبب القتال ؛ وهو الظلم الشديد والجور الذي نزل بالمسلمين من قِبَل المشركين وأعوانهم، حتّى أخرجوهم من ديارهم جَوراً وعدواناً، وهي قوله تعالى:( أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنا اللّهُ ) (٣) .

ب - نصرة المظلومين والمستضعفين:

قال الله تعالى:( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً ) (٤) فالآية صريحة في نصرة المستضعفين والمظلومين.

وقال تعالى: (وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْر إِلاّ عَلَى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )(٥) .

وفي تفسير هذه الآية الأخيرة يقول السيّد الطباطبائي: ( نفت هذه الآية الولاية ما بين المؤمنين المهاجرين والأنصار

____________________

١ - البقرة: ١٩٠ - ١٩٢.

٢ - محمد حسين، الطباطبائي، تفسير الميزان، ج٢، ص٦١.

٣ - الحج: ٣٩ - ٤٠.

٤ - النساء: ٧٥.

٥ - الأنفال: ٧٢.

٦٩

من جهة، وبين المؤمنين غير المهاجرين من جهة أخرى، إلاّ ولاية النصرة إذا استنصروهم، بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق )(١) وعليه فنصرة المظلومين المستضعفين والدفاع عنهم أمر مشروع ومرغوب فيه، تُبيحه جميع الديانات السماوية.

ج- - قتال مَن نكث الأَيْمان والعهود:

قال تعالى:( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ) (٢) .

يقول صاحب تفسير الميزان: ( فالآية فيها تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ؛ ببيان ما أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحقّ والحقيقة، وعَدَّ خطاياهم وطغيانهم: مِن نكث الإيمان، والهمّ بإخراج الرسول، والبدء بالقتال أوّل مرّة )(٣) .

واختلفت الأقوال في هوية هؤلاء الذين نكثوا الأيمان، وذكر الأقوال الطبرسي في تفسيره للقرآن (مجمع البيان): ( فقيل: هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب ؛ وهمّوا بإخراج الرسول من المدينة كما أخرجه المشركون من مكّة وقيل: هم مشركوا قريش وأهل مكّة،( وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي بنقض العهد وقيل: بدءوكم بقتال حلفاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من خزاعة وقيل: بدءوكم بالقتال يوم بدر )(٤) .

د - التصدّي للعدوان المحتمل الوقوع وتحصين العقيدة:

قال تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ‏ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ ) (٥) .

يقول السيّد الطباطبائي في (تفسير الميزان) في هذه الآية: ( نازلة في المشركين،

____________________

١ - تفسير الميزان، ج٩، ص١٤٢.

٢ - التوبة: ١٣.

٣ - تفسير الميزان، ج٩، ص١٥٩.

٤ - الفضل بن الحسن، الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج٥، ص٢٢.

٥ - البقرة: ١٩٣.

٧٠

والمراد بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا تُعبد الأصنام، وأن يحصل الإقرار بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرّون به )(١) .

أمّا بالنسبة للتصدّي للعدوان المحتمل الوقوع، فقد دعا القرآن الكريم لذلك حتّى لا يُعتدى على المسلمين بفتنة على حين غرّة، ممّا يؤدي إلى تهديد الدولة الإسلامية بالفناء، قال الله تعالى:( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) (٢) ، وتفسير هذه الآية: ( عند احتمال الخيانة منهم يجب إبلاغهم بإلغاء العهد، ولا يجوز قتالهم قبل الإبلاغ ؛ لأنَّ ذلك خيانة أمّا إذا لم يحتمل الخيانة، فلا يجوز نقض العهد معهم )(٣) .

وعلى هذا فقد صار من الواضح أنّه حتّى الجهاد الابتدائي هو في النتيجة جهاد دفاعي عن بيضة الإسلام ؛ وذلك لأنّ الجهاد الابتدائي كان مترتّباً على ردّ عدوان محتمل الوقوع من قبل أعداء الإسلام ؛ لأنّهم كانوا يتربّصون الدوائر بالدعوة الفتيّة وإجهاضها بشتّى السبُل، وهذا ما حكاه التاريخ الجليّ في حقّ المشركين في مكّة واليهود في المدينة، ما تركوا وسيلة للقضاء على دولة الرسول إلاّ واستخدموها.

ومن جهة أخرى نلاحظ التاريخ ينقل لنا أنّ بعض المشركين - أو اليهود والنصارى بأجمعهم - في الجزيرة العربية، الذين لم يقاتلوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يتربّصوا به، كان تعامله معهم غاية اللطف والعيش بأمان، بل وحمايتهم من كلّ اعتداء، كما قال تعالى:( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) (٤) .

ه- - المبادئ الإنسانية والأخلاقية في القتال:

الدين الإسلامي هو خاتم الأديان، وهو ينطوي على عصارة المبادئ السامية التي وهبها ربّ العزّة لآخِر رسالة سماوية بواسطة رائدها المصطفى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والهدف هو الهداية للعالم أجمع،

____________________

١ - تفسير الميزان، ج٢، ص٦٢.

٢ - الأنفال: ٥٨.

٣ - تفسير الميزان، ج١٠، ص١١٤.

٤ - الممتحنة: ٨.

٧١

وإنقاذهم من الضلال والرقّ بكلّ أنواعه، ومن كلّ ظلم وجَور وانحطاط، ويسعى إلى إقامة الحقّ والعدالة في كلّ المجتمعات، فالقتال الذي يجري على يد حماة هذا الدين ودعاته ضدّ المعتدين والمتربّصين به، ليس عدواناً أو بدافع الحقد أو الطمع، وهذا المبدأ القتالي اتّضح من خلال التأكيد على إشاعة القيَم السامية التي يمتلكها من العفو والرأفة والسماحة في ميادين القتال، وعليه فهذه المبادئ تجسّدت في القتال عِبر المظاهر التالية:

١ - حرمة القتال قبل الدعوة للإسلام:

القتال مهما كان نوعه ولأيّ سبب من أسبابه المشروعة، فهو محرّم ما لم تُلقى الحجّة على أعداء الإسلام، حيث أوحى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك قائلاً: ( يا عليّ، لا تقاتل أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وايم الله لأن يهدي الله عزّ وجلّ على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه )(١) .

وقد أفتى فقهاء الإمامية القدماء بحرمة القتال قبل الدعوة إلى الإسلام، قال الشيخ الطوسي: ( لا يجوز قتال أحد من الكفّار إلاّ بعد دعائهم إلى الإسلام )(٢) ، وأفتى أبو صلاح الحلبي: ( بعدم البدء بالقتال حتى بعد إلقاء الحجّة، حتى يكون الأعداء هم الذين يبدءون )(٣) .

٢ - النهي عن قتل النساء والأطفال والشيوخ وحرمة المُثلة والغدر:

نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصاياه للسرايا عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، وفي ما تقدّم ذكرنا رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال فيها: ( كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يبعث سرية، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثمّ يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صيباً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرةً إلاّ أن تضطرّوا إليها )(٥) .

____________________

١ - الكافي، ج٥، ص٣١، ح٢، باب الدعاء إلى الإسلام، كتاب الجهاد.

٢ - محمد بن الحسن، الطوسي، النهاية، ص٢٩٢، بدون تاريخ.

٣ - أبو الصلاح، الحلبي، الكافي في الفقه، ص٢٥٦.

٤ - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج ١٦، ص٥٨، باب١٥، كتاب الجهاد.

٧٢

وهذا الحكم هو محلّ إجماع للفقهاء، فقد قال الشهيد الأوّل: ( ولا يجوز قتل المجانين والصبيان والنساء وإن ْعاوَنَّ، إلاّ مع الضرورة )(١) .

وقال الشيخ محمّد حسن النجفي: ( ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونتهم، إلاّ مع الاضطرار، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك )(٢) .

فالإسلام كما بيّنا لا يهدف إلاّ إلى الهداية والإصلاح للأُمم والشعوب، وقتاله اضطراراً ؛ لذا نهى عن قتل المذكورين، بل حثّ على الدفاع عنهم وحفظهم.

٣ - تحريم إلقاء السمّ في بلاد المشركين:

لم يكن هدف الإسلام هو الانتقام أو الإفساد كما ذكرنا سابقاً، بل الهداية والإصلاح وحفظ النظام الكوني، ودفع كلّ ما من شأنه إفساد النظام ؛ لذا فالإسلام حرّم بدستوره كلَّ أسلوب في القتال لا يمتّ للإنسانية بصلة ومن هذه الأساليب التي نهى عنها نهياً شديداً هو إلقاء السمّ فقد ورد عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال: ( نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُلقى السمّ في بلاد المشركين)(٣) .

والمقصود هنا من السمّ مطلقاً: كلّ ما هو سام، وسواء أُلقي في الماء أو في الهواء، فيشمل كلّ ما هو مبيد لبني البشر الذي باستخدامه يودي بحياة الأبرياء من الأطفال والنساء، وكذلك كل ما يعرّض البيئة للخطر من قتل الحيوانات وإبادة النبات كما هو اليوم ،وما يحصل من استخدام الأسلحة الذرّية والجرثومية.

٤ - وجوب إجارة المستجير:

حَقْن الدماء غاية نبيلة يسعى إليها الشرع الإسلامي، ولتحقيق هذه الغاية يتشبّث الإسلام بشتّى السُبُل، فيوجب كلّ مقدّماتها، ومن تلك المقدّمات هي الاستجارة من قِبَل المعتدي بالمسلم وطلب الأمان منه، كما في قوله تعالى:( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى‏ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (٤) .

____________________

١ - محمد بن مكي، العاملي (الشهيد الأوّل)، غاية المراد، ج١، ص٤٨٢.

٢ - الشيخ محمد حسن، النجفي، جواهر الكلام، ج٢١، ص٧٣.

٣ - الكافي، ج٥، ص٢٨، ح٢، باب الوصايا في السرايا، كتاب الجهاد.

٤ - التوبة: ٦.

٧٣

وما ورد كذلك في رواية الإمام الصادقعليه‌السلام : ( كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعث سرية دعا بأميرها ...)، إلى قولهعليه‌السلام : ( وأيّما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم، نظر إلى أحد المشركين، فهو جار حتّى يسمع كلام الله فإذا سمع كلام الله عزّ وجلّ، فإن تبعكم فأخوكم في دينكم وإن أبى، فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه مأمنه )(١) .

ولا يختصُّ أن يكون المجير حرّاً أو شريفاً، بل حتّى لو كان عبداً مملوكاً، فحُكم إجارته للعدوّ نافذ على الجميع، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: ( إنّ عليّاً ( صلوات الله وسلامه عليه ) أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون، وقال: هو من المؤمنين )(٢) ، وقال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : ( ما من رجل آمن رجلاً على ذمّةٍ ثمّ قتله، إلاّ جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر )(٣) .

هذا هو القانون السامي الأصيل الذي عبّر عنه أهل البيتعليهم‌السلام في التعامل مع الأعداء، فما ظنّك مع مَن لم يقاتلهم من غير المسلمين، بل ويذهب السموّ في التعامل إلى مراتب جليلة، كما توضّحه رواية الإمام الصادقعليه‌السلام : ( لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم، كانوا آمنين )(٤) .

٥ - معاملة الأسرى:

انسجاماً مع غايات وأهداف الدين الإسلامي في نشر الصورة الإنسانية الحميدة المتجسّدة في سلوك دُعاته، تبرز مسألة حُسن معاملة الأسرى على سطح التطبيق لهذا المفهوم في التعامل.

فلا يباح قتل الأسير من قِبل أيّ مسلم، بل مرجع أمر الأسير إلى إمام المسلمين، وليس لآحادهم واجتهاداتهم الشخصية التي لا تصيب الواقع في أغلب الظروف، وهذا ما وضّحته الوصايا الصادرة من مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد ورد أنّ الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قال: (إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي، وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه )(٥) .

____________________

١ - الكافي، ج٥، ص٣٠، ح٩، باب الوصايا للسرايا.

٢ - وسائل الشيعة، ج١٥، ص٦٧، باب ٢٠، كتاب الجهاد.

٣ - وسائل الشيعة، ج١٥، ص٦٨، ح٤، باب جواز إعطاء الأمان ووجوب الوفاء، كتاب الجهاد.

٤ - الكافي، ج٥، ص٣٥، ح ١، باب الرفق بالأسير وإطعامه، كتاب الجهاد.

٥ - الكافي، ج٥، ص٣٥، ح٢.

٧٤

ومن ناحية أخرى، فالأسير ينبغي إطعامه وإشباع حاجاته، وإن كان حكمه القتل لضرورة خاصّة، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( إطعام الأسير حقّ على مَن أسره، وإنْ كان يُراد من الغد قتله، فأنّه ينبغي أن يُطعم ويُسقى ويُرفق به، كافراً كان أو غيره )(١) ، والمراد من أنّه يُقتل من غد: في الأسير الذي عليه قصاص.

وأمّا حكم الإمامعليه‌السلام في الأسير، فتُنبيء عنه بعض الروايات المستنبطة له من الآيات القرآنية: فقد قال الإمام الباقرعليه‌السلام : ( إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها، فكلّ أسير أُخذ على تلك الحال فكان في أيديهم، فالإمام فيه بالخيار: إن شاء منَّ عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيداً )(٢) .

وهذا ما عليه مشهور الفقهاء ؛ استناداً إلى هذه الرواية وغيرها من الروايات بهذا المضمون، فالإمام المفترض الطاعة أو مَن يوكِلُه، يكون مخيّراً بين إطلاق الأسير بدون فداء وهو المَنّ، أو إطلاقه مقابل جزء من المال وهو الفداء وأمّا القتل، فلا والقرآن الكريم صرّح بهذا في قوله تعالى:( حَتّى‏ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّوا الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمّا فِدَاءً حَتّى‏ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (٣) ، لكن السُنّة الشريفة ذكرت الأمر الثالث - وهو الاسترقاق - إضافة إلى المنّ والفداء.

____________________

١ - نفس المصدر، ح٢.

٢ - نفس المصدر، ح١، باب إعطاء الأمان، كتاب الجهاد.

٣ - محمّد: ٤.

٧٥

المبحث الثاني:

التعامل مع أهل الكتاب.

٧٦

تمهيد:

أهل الكتاب كمّا مرّ في الفصل الأوّل هم اليهود والنصارى، وأُلحق بهم المجوس من باب أنّ لهم شبهة كتاب، وكذلك ألحق بعض الفقهاء الصابئة لكننّا في هذا المبحث سوف نتعرّض إلى اليهود بشكل موسّع ؛ لاحتكاك المجتمع الإسلامي آنذاك بهم أكثر من غيرهم، بل لا يكاد يذكر شيء من تعامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تاريخياً مع غير اليهود من أهل الكتاب وأمّا النصارى، ففي حوادث معدودة، وسوف نأتي عليها في نهاية هذا المبحث.

فعلى هذا سوف يكون الكلام حول معاملة اليهود في المدينة وخارجها، من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليه‌السلام من الناحية التاريخية.

أوّلاً: اليهود في المدينة.

قال ابن إسحاق: ( إنَّ اليهود في المدينة لمّا رأوا أنّ الله أختار رسوله من العرب دونهم، حسدوه فكذّبوه وجحدوه وعادوه وكان أحبارهم من بني النضير: حيي بن أخطب، وأخواه جدي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وابنا أخيه الربيع بن أبي الحقيق وغيرهم.

ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شموئيل وكعب بن أسد وغيرهم.

ومن يهود بني قينقاع: زيد بن اللصيت، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعبد الله بن صيف وغيرهم، فيَصل عددهم إلى مئة تقريباً، من وجهاء بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع )(١) .

وجّه القرآن الخطاب لليهود بتعبير (بني إسرائيل)، كما نعى عليهم مواقف اليهود الأقدمين مع موسى والنبيينعليهم‌السلام من بعده، وما كان منهم من تعجيز وإحراج، وكفر وتكذيب وغدر، ونقض للشرائع وتحريف للكلام عن مواضعه، في صدد التنديد في موقفهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله موقفاً مماثلاً لذلك الموقف فيقصّ ما كان من الأقدمين وما كان من المعاصرين، بأسلوب يُرجَّح أنّ المقصود به تقرير اللُّحمة النَّسَبية بين هؤلاء وأولئك، وربط ما بدا من أخلاق المعاصرين ومواقفهم بما كان من أخلاق القدماء، كأنّ الجميع يصدرون عن جبلّة وخصائص واحدة كما سيأتي.

____________________

١ - محمد، ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج٢، ص١٦٠ - ١٦٢.

٧٧

من هذه الآيات التي تبيّن ما قلناه: منها:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ، وَآمِنُوْا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ ) (١) .

ومنها:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) (٢) .

ومنها:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (٣) .

وكثير من هذه الآيات التي تُعرِّض بهم، وتذكر الصلة فيما بينهم (المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ) وما بين الأقدمين، وإنّهم على نسق واحد إلاّ مَن رحِم، ومن هذه الآيات (البقرة ٨٣، ٨٧، ٢١١ النساء ١٥٣ المائدة ٧٨ إلى ٨١) والكثير غيرها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ يهود يثرب ناداهم القرآن ب-: (بني إسرائيل)، فاليهود في الحجاز هم طارئون، وليس هم من القبائل العربية واعتنقت دين اليهود إلاّ أفراداً وليس قبائل محسوسة، والقرآن صريح بأنّهم أقوام من بني إسرائيل استوطنوا الحجاز، وممّا يشير إلى ذلك بعض أسماء آبائهم كعبد الله بن صوريا، وثعلبة بن شعيا، ونعمان بن آضا

كان لليهود كيان طائفي وديني، وكان لهم معابد ومدارس وأحبار وربّانيون، ولكن كان أكثر أحبارهم لا يقومون بواجبهم في منع العامّة من ارتكاب الآثام والمنكرات، بل اتّخذوا المنصب الديني وسيلة لاكتناز الذهب والفضة، كما ذُكر هذا الجوّ من طبيعتهم في القرآن الكريم، وبشكل واضح في سورة التوبة:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ

____________________

١ - البقرة: ٤٠ - ٤١.

٢ - البقرة: ٤٧ - ٥٠.

٣ - البقرة: ٧٢ - ٧٦.

٧٨

النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (١) .

ومع هذا كلّه، فإنّهم قد اندمجوا في حياة العرب الاجتماعية كما يذكر ذلك الأستاذ محمّد دروزة في كتابه (عصر النبي وبيئته قبل البعثة) حيث قال: ( دخلت قبائلهم وبطونهم في المحالفات مع بطون الأوس والخزرج، وكان كلّ فريق يتضامن من حليفه في المسؤوليات القَبَلية المشتركة، بما فيها النصرة في القتال، حتّى إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعد الهجرة - عندما كتب صحيفة العهد معهم، كان يطلب منهم حصّتهم في ديّة القتلى حسبما كانت تقضي به تقاليد الحلف العربي الاجتماعي )(٢) .

لكن للأسف كانت حالة اليهود في يثرب مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي المجاهرة في معاداة النبيّ ودعوته، والتآمر عليه عن طريق تحالفهم مع المشركين تارة - خصوصاً في الأحزاب - وأخرى مقاتلته من داخل حصونهم، والأدهى من ذلك التآمر عليه من خلال الصلة الوطيدة بينهم وبين منافقي المدينة كما تشير إليه آية(١١) وما بعدها من سورة الحشر:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتّى‏ ذلِكَ بَأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ) (٣) وكان هذا الأمر غير خافٍ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يستخدمون كلّ وسيلة في سبيل إجهاض الدعوة الإسلامية والقضاء عليها، مهما كانت من الشناعة بمكان.

يقول الأستاذ محمد دروزة: ( حيث سألهم مشركو مكّة رأيهم في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا: إنّهم أهدى سبيلاً منه وحيث طلب منهم زعماء المشركين أن يُقسموا على الوفاء بالحَلْف عند أصنامهم في فناء الكعبة، وأن يبتهلوا عندها معهم لينصروهم فيما اعتزموا عليه، ففعلوا )(٤) وهذا هو الكُفر الصريح الذي كان ينفونه عن دينهم، وأشار القرآن الى ذلك قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ

____________________

١ - التوبة: ٣٤.

٢ - محمد عزة، دروزة، عصر النبي وبيئته قبل البعثة، ص١٨٣

٣ - الحشر: ١١ - ١٤.

٤ - عصر النبي وبيئته قبل البعثة، ص١٨٤.

٧٩

إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَى‏ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) (١) .

مع أنّهم لمّا التقوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل مرّة، صدرت منهم التعهّدات بعدم التعرّض له ولدعوته، وذلك عندما آمن الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واليهود بعضهم كان محالفاً للأوس، وبعضهم الآخر من حلفاء الخزرج ؛ فبسبب إيمان الأوس والخزرج، جعلهم يلجئون إلى الاتّفاق مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابة معاهدة معه، كما روى ذلك الطبرسي في (إعلام الورى) عن علي ابن ابراهيم القمّي قال:

( وجاءه اليهود: قريظة والنضير وقينقاع، فقالوا: يا محمّد، إلى مَ تدعو ؟ قال: ( شهادة أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله الذي تجدونني مكتوباً في التوراة، والذي أخبركم به علماؤكم: أنّ مخرجي بمكّة ومهاجري بهذه الحرّة (أي المدينة)، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام، فقال: تركت الخمر والخمير وجئتُ إلى البؤس والتمور، لنبيٍّ يُبعث في هذه الحرّة، مخرجه بمكّة ومهاجره ها هنا إلى أن قال: ويبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر، فقالوا له: قد سمعنا ما تقول، وقد جئناكم لنطلب منكم الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك، ولا نُعين عليك أحداً ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا، حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك )(٢) .

فأجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً، وهو الوثيقة التاريخية المعروفة التي سيأتي ذكرها في المبحث الثالث إنشاء الله.

لكن حيي بن أخطب بعد حضوره هذه الوثيقة والمعاهدة قال: ( لا أزال له عدوّاً ؛ لأنّ النبوة خرجت من وُلد إسحاق وصارت في وُلد إسماعيل، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً )(٣) .

____________________

١ - النساء: ٥١.

٢ - إعلام الورى، ج١، ص١٥٧ - ١٥٨.

٣ - نفس المصدر، ص١٥٨.

٨٠