تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه0%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف: علي الزبيدي
تصنيف:

الصفحات: 249
المشاهدات: 90032
تحميل: 10327


توضيحات:

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90032 / تحميل: 10327
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

وقيل ـ القائل الأشاعرة وأكثر المعتزلة والمتكلّمين ـ: لا يصحُّ أنْ يكون (صلَّى الله عليه وآله) مأموراً بالاجتهاد في الأحكام الشرعية. ثمّ عن الجبائي وابنه: غير جائز عليه عقلاً، وعن غيرهما: جائز عقلاً، ولكنْ لم يتعبّد به شرعاً، وقيل: كان له الاجتهاد في الحروب فقط، وهو محكي عن القاضي والجبائي (١) .

وذكر الذبياني: أنَّ مذهب أكثر الأُصوليين أنَّ الاجتهاد واقع منه شرعاً، مستدلِّين بأدلَّة كتب أصول الفقه، وذكر العلماء أنَّ اجتهاده بمنزلة الوحي الثابت؛ لأنَّه لا يقرُّ على الخطأ فهو صواب لا محالة، بخلاف اجتهاد غيره مِن المجتهدين، فإنّه يحتمل الخطأ والإقرار عليه كما رأينا ذلك في مسألة أسرى بدر، ومسألة الإذن للمتخلِّفين في غزوة تبوك (٢) .

بلْ ذهب المجوِّزون لاجتهاده إلى أنّه (صلَّى الله عليه وآله) كان يستخدم القياس في استنباط الأحكام الشرعية، وذكروا بعض الحوادث ادَّعوا أنَّها تؤيِّد مذهبهم:

منها: أنّ امرأة جاءت إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله) وقالت: يا رسول الله، إنَّ أمِّي ماتت ولم تحجَّ أفأحجَّ عنها؟ قال: (أرأيت لو كان على أمِّك دَين أفتقضينه عنها؟) . قالت: نعم. قال: (فدَين الله أحقُّ أنْ يُقضى) . ومنها: أنّ رجلاً أنكر ولداً وضعته زوجته أسود، فقال الرسول (صلَّى الله عليه وآله): (هل لكَ إبل حُمر فيها أورَق (أسود)؟) . قال: نعم. فقال (صلَّى الله عليه وآله): (فمِن أين؟) . قال الرجل: لعلَّ نزعه عِرق! فقال (صلَّى الله عليه وآله): (وهذا لعلَّه أصابه عِرق) (٣) .

أدلَّة الذاهبين إلى جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله):

استدلَّ مَن جوَّز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بعدَّة أدلَّة:

منها: ظواهر بعض الآيات القرآنية والروايات، وبعض الوجوه الاستحسانية والعقلية:

____________________

(١) تيسير التحرير ٤: ١٨٥.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي للذبياني: ٣٧.

(٣) نفس المصدر.

٤١

أ ـ الاستدلال بالآيات القرآنية:

١. ( ... فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) (١) ، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أولى الناس بهذا الوصف الذي ذكره عند الأمر بالاعتبار، فعرفنا أنّه داخل في هذا الخطاب.

٢. قوله تعالى: ( ... وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ... ) (٢) ، وقد دخل في جملة المستنبطين مَن تقدَّم ذكره، فعرفنا أنّ الرسول مِن جملة الذين أخبر الله أنَّهم يعملون بالاستنباط.

٣. وقال تعالى: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ... ) (٣) ، والمراد أنّه وقف على الحُكم بطريق الرأي لا بطريق الوحي؛ لأنّ ما كان بطريق الوحي فداود وسليمان (عليهما السلام) فيه سواء، وحيث خصّ سليمان (عليه السلام) بالفهم عرفنا أنّ المراد به بطريق الرأي، وقد حكم داود بين الخصمين حين تسوّروا المحراب بالرأي، فإنّه قال: ( ... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ... ) ، وهذا بيان بالقياس الظاهر (٤) .

ب ـ الاستدلال بالروايات:

١. قضية تأبير النخل: ذكر في صحيح مسلم عن رافع بن خديج، قال قدم نبي الله (صلَّى الله عليه وآله) المدينة وهم يأبِّرون النخل – يقولون: يلقّحون النخل –

فقال: (ما تصنعون؟) .

قالوا: كنّا نصنعه.

قال: لعلَّكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه فنفضت أو فنقصت.

قال: فذكروا ذلك له، فقال: (إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء مِن دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء مِن رأيي فإنَّما أنا بشر) (٥) .

ويعلِّق بعضهم على هذا الحديث بقوله:

____________________

(١) الحشر:٢.

(٢) النساء:٨٣.

(٣) الأنبياء:٧٩

(٤) أصول السرخسي ٩٣:٢.

(٥) صحيح مسلم ٧: ٩٥.

٤٢

ظاهر الحديث: أنّه (صلَّى الله عليه وآله) كغيره مِن الناس في ذلك، بلْ فيه تصريح بأنّ أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجارتهم وزراعتهم قد يكونوا أعلم منه بدقائقها (١) .

٢. قضية إرادة النبي (صلَّى الله عليه وآله) المصالحة على ثمار المدينة مع المشركين:

قال ابن هشام في السيرة النبوية: فلمّا اشتدَّ على الناس البلاء، بعث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) - كما حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة ومَن لا أتَّهم، عن محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ـ إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرّي ـ وهما قائدا غطفان ـ فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أنْ يرجعا بمَن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، إلاّ المراوضة في ذلك، فلمّا أراد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنْ يفعل، بعث إلى سعد بن مُعاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبُّه فنصنعه؟ أمْ شيئاً أمرك الله به لابدَّ لنا مِن العمل به؟ أمْ شيئاً تصنعه لنا؟

قال: (بلْ شيء أصنعه لكم. والله، ما أصنع ذلك إلاّ لأنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالَبوكم مِن كلِّ جانب، فأردت أنْ أكسر عنكم مِن شوكتهم على أمر ما).

فقال له سعد بن مُعاذ: يا رسول الله، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثـان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أنْ يأكلوا منها تمرة إلاّ قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك وبه، نُعطيهم أموالنا؟! والله، ما لنا بهذا مِن حاجة، والله لا نُعطيهم إلاَّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): فأنت وذاك.

فتناول سعد بن مُعاذ الصحيفة، فمحا ما فيها مِن الكتاب، ثمّ قال: ليجهدوا علينا (٢) .

ووجه الاستدلال بها واضح؛ حيث إنّ النبي اجتهد في عقد الصلح مع المشركين، ولم يكن مأموراً به مِن الله؛ ولذلك رجع عنه عندما استشار الأنصار.

____________________

(١) حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية: ٨٠، نقلاً عن أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام لمحمد سليمان الأشقر ١: ٢٤٣-٢٤٦.

(٢) سيرة النبي (صلَّى الله عليه وآله) لابن هشام ٣: ٧٠٧ – ٧٠٨.

٤٣

٣. قضية تشريع الأذان:

ثبت عند البخاري ومسلم والترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ والنسائي، مِن حديث عبد الله بن عمر قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيَّنون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلَّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: اتّخذوا قَرناً مثل قَرْن اليهود، قال: فقال عمر: ألا تبعثون رجلاً يُنادي بالصلاة؟ فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (يا بلال قمْ فناد بالصلاة)، وهذا أصحُّ ما ورد فـي تعيين ابتـداء وقت الأذان (١) .

ونُقِل ـ أيضاً ـ أنّ عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام وألقاه على النبي (صلَّى الله عليه وآلـه)، فقبِلَه وقال: (ألقِه على بلال) (٢) .

ويعلِّق السرخسي على هذه القضية فيقول: ومعلوم أنّه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحـي , ألا ترى أنّه لمَّا أتى عمر وأخبره أنّه رأى مثل ذلك قال: (الله أكبر، هذا أثبت)، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شكَّ أنَّ حكم الأذان ممَّا هو (مِن) حقّ الله، ثمَّ قد جوَّز العمل فيه بالرأي , فعرفنا أنَّ ذلك جائز (٣) .

ج - الاستحسانات والوجوه العقلية المستدلُّ بها على جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله):

واستدلُّوا ببعض الوجوه والاستحسانات التي ارتأوها مناسبة لمرادهم، منها:

١. كان النبي (صلَّى الله عليه وآله) يستشير أصحابه في الأحكام، كما مرَّ في الصلح على ثمار المدينة، أو في معركة بدر، حيث أشار اثنان منهم بترك الحرب لقوَّة قريش وعزّتها، وأشار المقداد بالتسليم المطلق لِما يريد الله عزَّ وجلَّ.

____________________

(١) نيل الأوطار ٢:٩.

(٢) نيل الأوطار ٤٢:٢.

(٣) أصول السرخسي ٢: ٩٤.

٤٤

قال السرخسي: (ولا معنى لقول مَن يقول: إنّه إنّما كان يستشيرهم في الأحكام لتطييب نفوسهـم؛ وهذا لأنّ فيما كان الوحي فيه ظاهراً معلوماً ما كان يستشيرهم، وفيما كان يستشيرهم الحال لا يخلو إمّا أنْ كان يعمل برأيهم أو لا يعمل، فإنْ كان لا يعمل برأيهم وكان ذلك معلوماً لهم فليس في هذه الاستشارة تطييب النفس، ولكنَّها مِن نوع الاستهزاء، وظنّ ذلك برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) محال، وإنْ كان يستشيرهم ليعمل برأيهم فلا شكّ أنّ رأيه يكون أقوى مِن رأيهم، وإذا جاز له العمل برأيهم فيما لا نصّ فيه فجواز ذلك برأيه أَولى.

ويتبيَّن بهذا أنّه إنّما كان يستشيرهم لتقريب الوجوه وتحميس الرأي , على ما كان يقول: (المشورة تلقيح العقول)، وقال: (مِن الحزم أنْ تستشير ذا رأي ثمّ تطيعه) (١) .

٢. الاستنباط بالرأي إنّما يبتني على العلم بمعاني النصوص، ولا شك أنَّ درجته في ذلك أعلى مِن درجة غيره، وقد كان يعلم بالمتشابه الذي لا يقف أحد مِن الأمَّة بعده على معناه؛ فعرفنا بهذا أنّ له مِن هذه الدرجة أعلى النهاية (٢) .

٣. إنّ الاجتهاد للنبي نوع إطلاق، والقول بمنعه عنه نوع حجْر، والثاني لا يليق بمقامه، فعلمنا أنّ الإطلاق وهو الاجتهاد جائز له.

يقول السرخسي: بعد العلم بالطريق الذي يوقف به على الحكم، المنع مِن استعمال ذلك نوع مِن الحجْر، وتجويز استعمال ذلك نوع إطلاق، وإنَّما يليق بعلوِّ درجته الإطلاق دون الحجْر (٣) .

٤. ما يعلم بطريق الوحي فهو محصور متناهٍ، وما يعلم بالاستنباط مِن معاني الوحي غيـر متنـاه، وقيل: أفضل درجات العلم للعباد طريق الاستنباط، ألا ترى أنّ مَن يكون مستنبطاً مِن الأمَّة فهو

____________________

(١) أصول السرخسي ٢: ٩٤.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

٤٥

أعلى درجة ممَّن يكون حافظاً غير مستنبط؟! فالقول بما يوجب سدَّ باب ما هو أعلى الدرجات في العلم عليه شبه المُحال (١) .

الذاهبون إلى عدم جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله):

ذهب جمع مِن علماء المسلمين ـ وهم الأشعرية وأكثر المعتزلة (٢) والمتكلمين (٣) ، فضلاً عن الشيعة الإمامية ـ إلى القول بعدم جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بالرأي لمعرفة الأحكام الشرعية.

وقد نُسب هذا المذهب إلى الفخر الرازي، ومحمّد بن إسماعيل البخاري، وإمام الحرمين الجوينـي (٤) .

بل حكم ابن حزم الأندلسي صاحب المذهب الظاهري في كتاب الأحكام بكفر مِن أجاز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله).

قال: (فلو أنّه (صلَّى الله عليه وآله) شرّع شيئاً لم يوحَ إليه به؛ لكان مبدّلاً للدين مِن تِلقاء نفسه، وكلُّ مَن أجاز هذا فقد كفر وخرج عن الإسلام) (٥) .

أدلَّة الذاهبين إلى عدم جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله):

وقد استدلَّ القائلون بعدم جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) ـ بعد المناقشة في أدلَّة المجيزين ـ بجملة أدلة منها:

أ. الآيات القرآنية:

١. قوله تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) .

____________________

(١) أصول السرخسي ٢: ٩٤.

(٢) فواتح الرحموت ٢: ٤١٨.

(٣) وقد مرّ هذا القول عن كتاب تيسير التحرير لمحمد أمين ٤: ١٨٥.

(٤) حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية: ٩٢، عن أدوار اجتهاد للجناتي بالفارسي: ٥٨.

(٥) الإحكام في أصول الأحكام ٥: ١٢٧.

(٦) النجم ٣-٤.

٤٦

٢. قوله تعالى: ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

يقول الرازي: ( ... أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ... ) ظاهره يدلُّ على أنّه لا يعمل إلاّ بالوحي , وهو يدلُّ على حكمين:

الأول: أنّ هذا النص يدلّ على أنّه (صلَّى الله عليه وآله) لم يكن يحكم مِن تلقاء نفسه في شيء مِن الأحكام، وأنّه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرة عن وحي، ويتأكَّد هذا بقوله تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

الثاني: أنّ نُفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النصّ أنّه (صلَّى الله عليه وآله) ما كان يعمل إلاّ بالوحي النازل عليه، فوجب أنْ لا يجوز لأحد مِن أمَّته أنْ يعملوا إلاّ بالوحي النازل عليه؛ لقوله تعالى: ( ... فَاتَّبِعُوهُ... ) (٢) وذلك ينفي جواز العمل بالقياس، ثمّ أكد هذا الكلام بقوله ( ... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ... ) (٣) ؛ وذلك لأنّ العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى، والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير (٤) .

٣. قوله تعالى: ( ... قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ... ) (٥) .

وتقرير الاستدلال بالآية: أنَّ اتِّباع النبي (صلَّى الله عليه وآله) الاجتهاد والرأي لأخذ الأحكام الشرعية أخذٌ لها مِن غير الوحي، وقد أمره الله بالقول: ( ... قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ... ) ، فلو أنّه (صلَّى الله عليه وآله) شرَّع شيئاً لم يوح إليه به، لكان مبدِّلاً للدين مِن تلقاء نفسه، وكل مَن أجاز هذا فقد كفر وخرج عن الإسلام، وبالله تعالى نعوذ مِن الخذلان (٦) .

____________________

(١) الأنعام ٥٠.

(٢) يريد الآية ١٥٥ مِن سورة الأنعام: ( وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .

(٣) الأنعام: ٥٠.

(٤) التفسير الكبير ١٢: ٢٣٢.

(٥) يونس: ١٥.

(٦) الإحكام ٥: ٧٠٢.

٤٧

٤. قوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ) (١) .

تقرير الاستدلال بهذه الآية، خلاف ما قُرِّر مِن قِبل المجيزين لاجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، حيث ذهبوا إلى أنّ ما أراه الله هو الرأي والاجتهاد، فأصحاب هذا المذهب يقولون: إنّ ما أراه الله هو الوحي والذِكر.

يقول الرازي مستدّلاً بهذه الآية منتصراً لرأيه: قال المحقِّقون هذه الآية تدلُّ على أنّه عليه (الصلاة والسلام) ما كان يحكم إلاّ بالوحي والنص (٢) .

ب. الاجتهاد حسب تعريفه لا يناسب مقام النبي (صلَّى الله عليه وآله):

إنّنا لو أخذنا تعريفات الاجتهاد نجده عملية يصل مِن خلالها المجتهد للظنّ بالحكم الشرعي، كما مرَّ تعريفه في الفصل الأول.

فمثلاً أعتمد العلاّمة الحلِّي (قُدِّس سِرُّه) والحاجبي تعريف الاجتهاد بأنّه: (استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظن بحكمٍ شرعي) (٣) .

وهذا التعريف لا يتناسب مع المقام السامي للنبي ـ ألا وهو التبليغ عن الله ـ فكيف يمكن تصوّر أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) يبلّغ الأحكام الظنيّة؟!

ولو أخذنا التعريف المتطوّر الذي تبنَّته مدرسة النجف الحديثة في علم الأُصول ـ وهو أنّ الاجتهاد: (ملَكةُ تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية، أو الوظائف العملية شرعية وعقلية) (٤) ـ نجد أنّنا لا يمكن أنْ ننسب مثله للنبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، مع خلوّه مِن نسبة الظن له في الوصول للحكم الشرعي.

يقول صاحب كتاب حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية ـ الشيخ عدنان فرحان ـ: مع هذا لا يمكن أنْ ننسب هكذا اجتهاد بحدوده وقيوده المختلفة إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله)؛ وذلك لأنّ في كلِّ هذه التعريفات الاصطلاحية يفترض:

____________________

(١) النساء: ١٠٥.

(٢) التفسير الكبير ١١: ٣٣.

(٣) معالم الدين:٢٧٥.

(٤) الأصول العامة للفقه المقارن:٥٤٥.

٤٨

أولاً: مجتهد له ملَكة الاجتهاد إلاَّ أنّه جاهل بالحكم الشرعي.

ولا يمكن أنْ نتصوّر ذلك في حقّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) الذي يتَّصل مباشرة بالوحي ويأخذ مِن هذا المصدر مباشرة.

فليس حال النبي (صلَّى الله عليه وآله) حال المجتهد الذي يسعى في سبيل تحصيل المعرفة بحكم ما بواسطة الاجتهاد.

يقول العلاّمة الحلِّي (قُدِّس سِرُّه): (فالاجتهاد إنّما يفيد الظن وهو (صلَّى الله عليه وآله) قادر على تلقّيه مِن الوحي) (١) (٢) .

ج- انتظار النبي (صلَّى الله عليه وآله) في بعض الوقائع والقضايا للوحي:

وهذا الدليل مأخوذ مِن سيرته (صلَّى الله عليه وآله)، حيث إنّه في بعض الوقائع لا يُفتي، وإنّما يبقى منتظراً للوحي للبتِّ في الحكم والفصل فيه، ويظهر ذلك في قضية اللعان والظهار، والتي لم يُفتِ فيها النبي (صلَّى الله عليه وآله) حتى نزل الوحي، ولو كان الاجتهاد جائزاً له لَفَعَـل، ويقول العلاّمة الحلِّي: وأنّه (صلَّى الله عليه وآله) كان يتوقّف في كثير مِن الأحكام حتى يرد الوحي، ولو ساغ له الاجتهاد لصار إليه؛ لأنّه أكثر ثواباً (٣) .

* اجتهاد الصحابة:

بعد أنْ ثبت اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) عند بعض المسلمين، ونفاه البعض الآخر، لم يُختلف في مسألة اجتهاد الصحابة بعد زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، فالكلُّ يذهب إلى أنّ الاجتهاد قد وقع مِن الصحابة، ولكنْ أُختلف في بعض جزئيَّات اجتهادهم في زمن حياته (صلَّى الله عليه وآله).

اجتهاد الصحابة في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله):

قال العظيم آبادي:

____________________

(١) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ٢٤٠.

(٢) حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية: ٩٨.

(٣) مبادئ الوصول:٢٤ مع الحاشية. وللتوسُّع يراجع كتاب حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية: ١٠٧ – ١١٧، وقد مرَّ تفصيل قول العلاَّمة تحت عنوان تعريف الاجتهاد اصطلاحاًً في صفحة ١٤ مِن هذا البحث.

٤٩

وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كثير مِن الأحكام، ولم يعنِّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أنْ يصلِّوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاّها في الطريق، وقال: لم يُرد منّا التأخير وإنّما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّروها إلى بني قريظة فصلّوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وأُولئك سلف أصحاب المعاني والقياس... (١) .

وقال الآمدي:

اتَّفقوا على جواز الاجتهاد بعد النبي (عليه السلام)، واختلفوا في جواز الاجتهاد لمَن عاصره، فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلاً، ومنع منه الأقلّون، ثمّ اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أُمور:

الأول: منهم مَن جوّز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره، ومنهم مَن جوَّزه مطلقاً.

الثاني: أنّ منهم مَن قال بجواز ذلك مطلقاً إذا لم يوجد مِن ذلك منع، ومنهم مَن قال: لا يُكتفى في ذلك بمجرد عدم المنع، بل لا بدَّ مِن الإذن في ذلك، ومنهم مَن قال: السكوت عنه مع العلم بوقوعه كافٍ.

الثالث: اختلفوا في وقوع التعبّد به سمعاً: فمنهم مَن قال: إنّه كان متعبِّداً به، ومنهم مَن توقّف في ذلك مطلقاً كالجبائي , ومنهم مَن توقّف في حقِّ مَن حضر، دون مَن غاب، كالقاضي عبد الجبار.

والمختار جواز ذلك مطلقاً، وأنَّ ذلك ممَّا وقع مع حضوره وغيبته ظنّاً لا قطعاً.

أمَّا الجواز العقلي، فيدلُّ عليه ما دلّلنا به على جواز ذلك في حقِّ النبي (عليه السلام)، في المسألة المتقدّمة.

وأمّا بيان الوقوع: أمّا في حضرته فيدلُّ عليه قول أبي بكر (رضي الله عنه) في حقِّ أبي قتادة ـ حيث قتل رجلاً مِن المشركين، فأخذ سلْبه غيره ـ: لا نقصد إلى أسد مِن أُسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلْبه.

فقال النبي (عليه السلام): (صدق وصدق في فتواه)، ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد.

____________________

(١) عون المعبود ٩: ٣٧١.

٥٠

وأيضاً ما روي عن النبي (عليه السلام) أنّه حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكَم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي، فقال (عليه السلام): (لقد حكمتَ بحُكم الله مِن فوق سبعة أرقعة) .

وأيضاً ما روي عنه (عليه السلام) أنّه أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني أنْ يحكما بين خصمين، وقال لهما: (إنْ أصبتما، فلكما عشر حسنات، وإنْ أخطأتما، فلكما حسنة واحدة).

وأمّا في غيبته، فيدلُّ عليه قصَّة معاذ وعتاب بن أسيد، حين بعثهما قاضيين إلى اليمن.

فإنْ قيل: الموجود في عصر النبي (عليه السلام) قادر على معرفة الحكم بالنصِّ وبالرسول (عليه السلام)، والقادر على التوصّل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ، إذا عدل إلى الاجتهاد الذي لا يؤمن فيه الخطأ، كان قبيحاً، والقبيح لا يكون جائزاً.

وأيضاً، فإنَّ الحكم بالرأي في حضرة النبي (عليه السلام) مِن باب التعاطي والافتيات على النبي (عليه السلام)، وهو قبيح فلا يكون جائزاً، وهذا بخلاف ما بعد النبي (عليه السلام).

وأيضاً، فإنّ الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي (عليه السلام)، ولو كان الاجتهاد جائزاً لهم لم يرجعوا إليه.

وأمّا ما ذكرتموه مِن أدلَّة الوقوع فهي أخبار آحاد، لا تقوم الحجّة بها في المسائل القطعية، وبتقدير أنْ تكون حجّة، فلعلَّها خاصة بمَن وردت في حقِّه غير عامة.

والجواب عن السؤال الأول: ما مرَّ في جواز اجتهاد النبي (عليه السلام):

وعن الثاني: أنّ ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه، فيكون ذلك مِن باب امتثال أمره، لا مِن باب التعاطي والافتيات عليه.

وعن قولهم: إنَّ الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي (عليه السلام). يمكن أنْ يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد، وإنْ ظهر، غير أنّ القادر على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى الآخر، ولا يخفى أنّه إذا كان الاجتهاد طريقاً يتوصّل به إلى الحكم، فالرجوع إلى النبي (عليه السلام) أيضاً طريق آخر.

وما ذكروه مِن أنّ الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد، فهو كذلك، غير أنّ المدَّعى إنّما هو حصول الظنّ بذلك دون القطع.

٥١

قولهم يحتمل أنْ يكون ذلك خاصاً بمَن وردت تلك الأخبار في حقّه، قلنا: المقصود مِن الأخبار المذكورة إنّما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي (عليه السلام) ممَّن عاصره، لا بيان وقوع الاجتهاد مِن كلِّ مَن عاصره (١) .

اجتهاد الصحابة بعد زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله):

كان بعض الصحابة إذا عرضت لهم مسألة حاولوا أنْ يجدوا حلّها مِن الكتاب أو السنّة، فإنْ وجدوا حلّها فيها وإلاَّ كانوا يعملون بما وصل إليه رأيهم في المسألة ـ وإنْ كان هناك مَن يتوقّف مِن الإفتاء بالرأي ـ كما تدلُّ على ذلك نصوص كثيرة، ففي حديث ميمون بن مهران:

(كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإنْ وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإنْ لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في ذلك الأمر سُنّة قضى بها، فإنْ أعياه خرج فسأل المسلمين، فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قضى في ذلك بقضاء؟ فربَّما اجتمع إليه النفر كلُّهم يذكر عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا مَن يحفظ علينا علم نبيِّنا، فإنْ أعياه أنْ يجد فيه سنّة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) (٢) .

أمّا إذا تعارض الكتاب الكريم مع ما سُمع مِن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فربَّما قدَّم ما سمع عنه (صلَّى الله عليه وآله) وإنْ كان برواية واحدة، إذا كانت المصلحة في الأخذ بها، كما منع أبو بكر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مِن إرث أبيها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) برواية أوس بن الحدثان: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركناه صدقة)، ودُفعت دعوتها بفدك نحلة - لأسباب ليس مجالها هنا - وإرثاً استناداً على هذه الرواية، مع تعارضها مع صريح القرآن الكريم: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (٣) . وأيضاً قوله تعالى: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (٤) .

____________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤: ١٧٥- ١٧٦.

(٢) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف نقلاً عنه دائرة المعارف لفريد وجدي: ٣: ٢١٢.

(٣) النمل: ١٦.

(٤) مريم: ٦.

٥٢

وفي تعاليم عُمر لشريح كما يؤثَر عنه: (فإنْ جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولم يتكلَّم فيه أحد قبلك، فاختر أيَّ الأمرين شئت، وإنْ شئت أنْ تجتهد برأيك لتقدم فتقدَّم، وإنْ شئت أنْ تتأخَّر فتأخَّر، ولا أرى التأخُّر إلاّ خيراً لك) (١) .

وعن ابن مسعود أنّه قال: (مَن عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإنْ لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيُّه (صلَّى الله عليه وآله)، فإنْ جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقضِ فيه نبيّه ولم يقضِ به الصالحون فليجتهد برأيه، فإنْ لم يُحسن فليقم ولا يستحي) (٢) .

هذا، وكان في الصحابة مَن يُفتي في المسألة بالرأي مع وجود النصّ الصريح فيها، وإليك بعض النماذج مِن فتاواهم مخالفة للنصِّ.

اجتهاد الصحابة مُقابل النصّ:

ومعنى الاجتهاد مقابل النصّ هو: إعمال الرأي في التماس الحكم الشرعي، مع إغفال النصّ القائم على خلافه (٣) .

وكثيراً ما نجد بعض الصحابة استعملوا هذا النوع مِن الاجتهاد المذموم، ونذكر منها:

١ـ قام أبو بكر بإحراق الفجاءة السلمي بالنار، وهو رجل طلب مِن أبي بكر أنْ يُعينه بالظَهر والسلاح لقتال أهل الردَّة، فاستجاب له، فإذا به يستعرض المسلم وغير المسلم ويقتل كلَّ مَن خالفـه، فبعث إليه أبو بكر ببعث وأسره، فأمر به أنْ يُلقى في النار مقموطاً (مقيّد اليدَين والرجْلين) فرُمي فيها واحترق (٤) ، وهذا الفعل مخالف لصريح القرآن الكريم الناصّ على جزاء المفسد: ( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٥) .

____________________

(١) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، نقلاً عنه دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢.

(٢) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: ١٧٧، كما عن مقدّمة النصّ والاجتهاد.

(٣) مقدّمة كتاب النصّ والاجتهاد للسيد شرف الدين، بقلم السيد محمد تقي الحكيم: ١٤.

(٤) راجع للتفصيل تاريخ الطبري ٢: ٤٩٢-٤٩٣.

(٥) المائدة: ٣٣.

٥٣

وصرّح النبي (صلَّى الله عليه وآله) في كثير مِن الروايات أنّه: (لا يُعذِّب بالنار إلاَّ ربُّ النار) (١) .

٢ ـ أقدم عمر بن الخطاب على منع الخُمس ـ الذي أوجبه الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم ـ عن أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بينما كان يُعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم كلّ سنة (٢) .

٣ ـ أخرج الشيخان في صحيحيهما عن نافع عن ابن عمر ـ واللفظ لمسلم ـ قال: صلَّى رسول الله بمِنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً مِن خلافته. ثمّ إنّ عثمان صلّى بعدُ أربعاً... (٣) .

٤ ـ قتل خالدُ بن الوليد عاملَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على صدقات قومه مالكَ بن نويرة اليربوعي التميمي , وبات مُعرساً بزوجته في نفس الليلة، فما عمل بآيات القرآن التي شدَّدت النكير على قتل المؤمن، ولا عمل بصريح آياته التي تحرِّم نكاح المعتدَّة عن موت زوجها، واعتذر عنه أبو بكر: (ما كنت أرجمه، فإنّه تأوّل فأخطأ) (٤) .

تطوُّر مصطلح الاجتهاد:

مرَّ مصطلح الاجتهاد بعدّة مراحل، ولم يكن يعبّر عمّا يدلّ عليه الآن مِن معنى، فقد استعمل في بداية عصر الإسلام والعصر الذي تلاه في التعبير عن معناه اللغوي وهو (بذْل الجهد في طلب الأمر):

يروي النسائي في سُننه أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: (صلّوا عليَّ واجتهدوا في الدعاء) (٥) .

ويُروى أنّه (صلَّى الله عليه وآله) قال: (فضل العالم على المجتهد مئة درجة) (٦) ، والمراد بالمجتهد هنا المجتهد بالعبادة.

وقد ذكرنا نماذج منها في أوّل هذا الفصل، تحت عنوان النصوص المشتملة على مصطلح الاجتهاد.

____________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٣: ٤٩٤.

(٢) راجع شرح نهج البلاغة ١٢: ٢١٠.

(٣) صحيح البخاري ٢: ١٥٤، مسند أحمد ٢: ١٤٨، صحيح مسلم ١: ٢٦٠ سنن البيهقي ٣: ١٢٦، الغدير ٨: ٩٨.

(٤) كنز العمال ٥: ٦١٩، الإصابة ٥: ٥٦١، أُسد الغابة ٤: ٢٩٥. ومَن أراد فليراجع مجمل قصة قتل خالد لمالك في كتاب النصّ والاجتهاد، للسيد عبد الحسين شرف الدين (قُدِّس سِرُّه).

(٥) سنن النسائي ١: ١٩٠.

(٦) مقدّمة سنن الدارمي ١: ١٠٠.

٥٤

ورُويت بعض الأحاديث، استُعمل فيها لفظ الاجتهاد للدلالة على بذل الجهد في تحصيل الحكم الشرعي بالخصوص، وادُّعي أنَّها تدلُّ على أمر النبي (صلَّى الله عليه وآله) بالاجتهاد الذي يرادف القياس ومعرفة الحكم الشرعي باستعمال الرأي:

‌أ. أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عندما أراد أنْ يبعث معاذاً إلى اليمن، قال: (كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟). قال: أقضي بكتاب الله. قال: (فإنْ لم تجد في كتاب الله؟). قال: فبسنّة رسول الله. قال: (فإنْ لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟). قال: اجتهد برأيي ولا ألوِ، فضرب رسول الله صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله) (١) .

‌ب. ينقل عمرو بن العاص: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله). فقال (صلَّى الله عليه وآله) لي: يا عمرو، اقض بينهما. فقلت: أنت أولى بذلك منِّي يا نبيَّ الله. قال: وإن كان، قلت على ماذا أقضي؟ قال: إنْ أصبت القضاء فيهما فلَكَ عشر حسنات، وإنْ اجتهدت فأخطأت فلكَ حسنة (٢) .

‌ج. أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال لعقبة بن عامر ولرجل مِن الصحابة: اجتهدا، فإنْ أصبتما فلكما عشر حسنات، وإنْ أخطأتما فلكما حسنة (٣) .

والناظر المتأمّل في هذه الأحاديث ـ بغضِّ النظر عن محاكمتها مِن حيث الصحَّة والضعف ـ يجد أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) يأمر بالاجتهاد، وهو بذل الجهد في طلب الحكم الشرعي، وليس فيها ما يدلّ على استعمال الرأي بعيداً عن الكتاب والسنّة عدا حديث معاذ.

وإنّما استُخدمت لفظة الاجتهاد في زمن متأخِّر عن زمن الصحابة والتابعين؛ للاعتذار عن مخالفة بعضهم للحكم الشرعي الصادر عن مصدر التشريع.

وكانت لفظة التأويل هي المستعملة في هذا المجال، فقد مرّ: أنّ خالد بن الوليد قتل عامل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على صدقات قومه، مالك بن نويرة اليربوعي التميمي , وبات مُعرساً بزوجته في نفس الليلة،

____________________

(١) مسند أحمد ٥: ٢٣٠.

(٢) الإحكام ٦: ٧٦٦.

(٣) نفس المصدر.

٥٥

وعندما يعتذر خالد عند أبي بكر عن قتله لرجل مسلم، وأخذ زوجته بأنّه تأوّل وأخطأ يقبل منه تأوّلـه، حيث يردّ على عمر بن الخطاب الذي يُشير على الخليفة بإقامة الحدِّ على خالد، حيث يقول له: (إنَّ خالداً زنى فارجمه)، فيردّه الخليفة قائلاً (ما كنت أرجمه، فإنّه تأوّل فأخطأ) (١) .

وعندما يروي عروة بن الزبير للزهري عن عائشة: (أنّ الصلاة أوّل ما فُرضت ركعتين، فأُقرَّت الصلاة في السفر وأُتمَّت صلاة الحضر)، يسأله الزهري: ما بال عائشة تتمُّ في السفر؟ قال: إنَّها تأوّلت كما تأوّل عثمان.

ففي هذه العصور كان التعبير عن هذه المخالفة للأحكام الشرعية، والعمل بالرأي الشخصي المخالف للنصِّ الصادر عن الشارع بلفظة التأويل، وفيما بعد تحوّل العلماء للاعتذار عن هذه المخالفات بلفظة الاجتهاد.

فهذا ابن حزم المتوفّى ٤٥٦ هـ يصف قتل أبي الغادية لعمار بن ياسر (رضي الله عنه) صاحب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالاجتهاد، حيث يقول: فأبو الغادية (رضي الله عنه) متأوّل مجتهد مخطئ باغٍ عليه (على عمّار) مأجور أجراً واحداً... (٢) .

وقال ابن حجر المتوفّى ٨٥٢ هـ في الإصابة: والظن بالصحابة في كلِّ تلك الحروب أنّهم كانوا فيها متأوّلين، وللمجتهد المخطئ أجر... (٣) .

وقد اعتذر القوشجي في (شرح التجريد) عن الخليفة أبي بكر، فقال: (إحراقه الفجاءة بالنار مِن غلطة في اجتهاده، فكم مثله للمجتهدين).

واعتذر ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي عن منع الخليفة عُمر الخمس ـ الذي أوجبه الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم ـ عن أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بينما كان يُعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف

____________________

(١) انظر كنز العمال ٥: ٦١٩، الإصابة ٥: ٥٦١، أُسد الغابة ٤: ٢٩٥.

(٢) الفصل لابن حزم ٤: ١٦١.

(٣) الإصابة ٧: ٢٧٠.

٥٦

واستمـرَّ هـذا الاصطلاح في كلمـة الاجتهاد بعـد ذلك أيضاً، فالشيخ الطوسي الذي تـوفِّي في أوسـاط القـرن الخـامس يكتب في كتـاب (العـدَّة) قائلاً: (أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشـريعـة استعمالهما).

وفي أواخـر القـرن السادس يستعـرض ابن إدريس في مسألـة تعـارض البيِّنتين مِن كتابه (السرائر) عدداً مِن المرجِّحات لأحدى البيِّنتين على الأُخرى، ثمّ يعقِّب ذلك قائلاً: (ولا ترجيح بغير ذلك عنـد أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عنـدنا).

وهكـذا تـدلُّ هـذه النصـوص بتعاقبها التاريخي المتتابـع، على أنّ كلمـة الاجتهاد كانت تعبيراً عن ذلك المبـدأ الفقهي المتقـدّم إلى أوائل القـرن السابع، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمـة لـوناً مقيتاً وطابعاً مِن الكـراهيـة والاشمئـزاز في الذهنية الفقهية الإمامية، نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والإيمان ببطلانـه.

ولكنَّ كلمـة الاجتهاد تطوّرت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا، ولا يـوجـد لـدينا الآن نصٌّ شيعي يعكس هذا التطوّر أقدم تاريخاً مِن كتاب المعارج للمحقِّق الحلِّي المتوفَّى سنّة ٦٧٦؛ إذ كتب المحقِّق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: (وهو في عـرف الفقهاء: بـذل الجهـد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخـراج الأحكام مِن أدلَّـة الشـرع اجتهاداً؛ لأنّها تبتني على اعتبارات نظريـة ليست مستفادة مِن ظـواهـر النصـوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياساً أم غيره؛ فيكون القياس على هذا التقريـر أحـد أقسام الاجتهاد. فإنْ قيل: يلزم ـ على هذا ـ أنْ يكون الإمامية مِن أهل الاجتهاد، قلنا: الأمـر كـذلك، لكنْ فيـه إيهام مِن حيث إنّ القياس مِن جملـة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنَّا مِن أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطـرق النظـريـة التي ليس أحدها القياس).

ويلاحظ على هذا النصّ بـوضـوح، أنَّ كلمـة الاجتهاد كانت لا تـزال في الذهنية الإمامية مُثْقلـة بتبعـة المصطلح الأول؛ ولهـذا يُلمِّح النصّ إلى أنّ هناك مَن يتحرَّج مِن هذا الـوصف، ويثقل عليـه أنْ يسمِّي فقهاء الإماميـة مجتهـدين.

٥٧

ولكنَّ المحقِّق الحلِّي لم يتحرَّج عن اسم الاجتهاد، بعد أنْ طوَّره أو تطوّر في عرف الفقهاء تطويـراً يتَّفق مع مناهج الاستنباط في الفقـه الإمامي؛ إذ بينما كان الاجتهاد مصـدراً للفقيـه يصـدر عنه، ودليلاً يستدلُّ به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجـديـد يعبـِّر عن (الجهد الذي يبذله الفقيه في استخـراج الحكم الشرعي مِن أدلَّتـه ومصادره)، فلم يعـد مصـدراً مِن مصادر الاستنباط، بلْ هـو عمليـة استنباط الحكم مِن مصادره التي يُمارسها الفقيه.

والفرق بين المعنيين جوهـري للغايـة؛ إذ كان للفقيـه على أساس المصطلح الأول للاجتهاد أنْ يستنبط مِن تفكيره الشخصي وذوقه الخاص، في حالة عدم توفُّـر النصِّ، فإذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدلَّ بالاجتهاد وقال: الـدليل هـو اجتهادي وتفكيري الخاص. وأمّا المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أنْ يبـرِّر أيَّ حكم مِن الأحكام بالاجتهاد؛ لأنّ الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصـدراً للحكم، بـلْ هـو عمليـة استنباط الأحكام مِن مصادرها، فإذا قال الفقيه: (هـذا اجتهادي) كان معناه أنّ هـذا هو ما استنبطه مِن المصادر والأدلَّة، فمِن حقِّنا أنْ نسألـه ونطلب منـه أنْ يُـدلَّنا على تلك المصادر والأدلَّة التي استنبط الحكم منها...

على هذا الضوء يمكننا أنْ نفسِّر موقف جماعة مِن المحدِّثين عارضوا الاجتهاد، وبالتالي شجبوا علم الأُصول، فإنّ هؤلاء استفـزَّتهم كلمة الاجتهاد ـ لما تحمل مِن تـراث المصطلح الأول الذي شنَّ أهلُ البيت (عليهم السلام) حملة شديدة عليـه ـ فحـرّمـوا الاجتهاد الذي حمل المجتهـدون مِن فقهائنا رايتـه، واستدلُّوا على ذلك بموقف الأئمة (عليهم السلام) ومدرستهم الفقهيـة ضـدَّ الاجتهاد، وهم لا يعلمون أنَّ ذلك المـوقف كان ضـدَّ المعنى الأول للاجتهاد، والفقهاء مِن الأصحاب قالوا بالمعنى الثاني للكلمة (١) .

____________________

(١) المعالم الجديدة للأصول: ٣٨ فما بعدها.

٥٨

الاجتهاد في عصر الأئمة:

لا شكَّ في أنّ الاجتهاد في عصر الأئمة (عليهم السلام) لم يظهر بالشكل الذي ظهر به بعد زمن الغيبة للإمام الثاني عشر عجل الله فرجه، حيث لم يبرح فقهاء عصر الأئمة (عليهم السلام) يعيشون عصر النصّ الشرعي، وإمكان الرجوع لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأخذ الحكم منهـم، ولكنْ في بعض الأحيان ـ وبحثٍّ وتشجيع مِن الأئمة (عليهم السلام)؛ لأجل تعليم شيعتهم وتدريبهم على الاجتهاد ـ نرى محاولات مِن قِبل الأئمة (عليهم السلام) للتعليم والتدريب، ومحاولات للتفريع على الأُصول مِن قِبل أصحابهم.

إرساء الأئمة قواعد الاجتهاد:

حثَّ أهل البيت (عليهم السلام) أصحابهم على التفكُّر في أمر الدين، والوصول إلى الحكم الشرعي عن طريق بعض القواعد الكلية التي تؤخذ عنهم (عليهم السلام).

فها هو الإمام الصادق (عليه السلام) يقول لأصحابه: (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنـا، إنَّ الكلمة لتُصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب) (١) .

وطالما صرَّحوا لأصحابهم: (إنّما علينا إلقاء الأُصول، وعليكم التفريع) (٢) .

واستثاروا هِمَم الأصحاب للتأمّل والتدبُّر والفكر العميق في فَهم كلامهم صلوات الله عليهم، بقولهم: (إنّ في أخبارنا مُحكماً كمُحكم القرآن، ومُتشابهاً كمُتشابه القرآن، فردُّوا مُتشابهها إلى مُحكمها، ولا تتَّبعوا مُتشابهها دون مُحكمها فتضلّوا) (٣) .

فنجد الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عندما يجد كفاءة الإفتاء عند أحد مِن أصحابه، يأمره بالتصدِّي لذلك، فيقول مثلاً لأبان بن تغلب: (اجلس في المسجد وافْتِ الناس؛ فإنِّـي أُحبُّ أنْ يُرى في شيعتي مثلك) (٤) .

____________________

(١) الوسائل: ج١٨، الباب ٩ مِن أبواب صفات القاضي , الحديث ٦.

(٢) الوسائل: ج١٨، الباب ٦ مِن أبواب صفات القاضي , الحديث ٥٢.

(٣) الوسائل: ج١٨، الباب ٩ مِن أبواب صفات القاضي , الحديث ٢٢.

(٤) النجاشي ١: ٧٣، في ترجمة أبان بن تغلب.

٥٩

ويحرص الأئمة (عليهم السلام) على شرح وتبيان كيفيَّة استلال الحكم وتصيُّده مِن النصوص لشيعتهم وحملة علومهم، فهذا زُرارة بن أعين، حينما يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن مقدار المسح الواجب على الرأس عند الوضوء، فقال له: ألا تخبرني مِن أين علمت؟ وقلت: إنَّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجْلين؟ فضحك، وقال: (يا زُرارة، قاله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ونزل به الكتاب عن الله عزّ وجلّ، قال: ( ... فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ... ) فعرفنا أنّ الوجه كلَّه ينبغي أنْ يُغسل، ثمَّ قال: ( ... وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... ) فوصل اليدين إلى المرافق بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أنْ يُغسلا إلى المرفقين، ثمَّ فصل بين الكلام، فقال: ( ... وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ... ) فعرفنا حين قال: برؤوسكم أنَّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمَّ وصل الرجْلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ( ... وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ... ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنَّ المسح على بعضها، ثمَّ فسَّر ذلك رسول الله، فضيَّعوه) (١) .

وروي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب فقال: (يا أيُّها الناس، إنّ آدم لم يلِد عبداً ولا أمَة، وإنّ الناس كلُّهم أحرار، ولكنَّ الله خوَّل بعضكم بعضاً، فمَن كان له بلاء فصبر في الخير، فلا يمُنَّ به على الله عزّ وجلّ، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوُّون فيه بين الأسود والأحمر) ، فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما! قال: فأعطى كلَّ واحد ثلاثة دنانير، وأعطى رجلاً مِن الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء بعدُ غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني وإيَّاه سواءً؟! فقال (عليه السلام): (إنّي نظرت في كتاب الله، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً) (٢) .

فقد بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) سبب مخالفته لمَن سبقه في تقسيم الأموال بالتمايز، وأنَّ الجدير بالمُعترض أنْ ينظر في كتاب الله تعالى، ويتدبَّر ليرى أنْ لا دليل على التفاضل بالعطاء بين المسلمين مِن بيت المال.

وحين يسأل عبد الأعلى ـ مولى آل سام ـ الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية المسح على الظفر الذي أصابه الجرح وجعل عليه جبيرة، يُتحفه الإمام (عليه السلام) بقاعدة كلّية، يمكن استعمالها لمعرفة الحكم

____________________

(١) الوسائل: ج١، الباب ٢٣ مِن أبواب الوضوء، الحديث ١. والآية ٦ مِن سورة المائدة.

(٢) الكافي ٨:٦٩.

٦٠