تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه0%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف: علي الزبيدي
تصنيف:

الصفحات: 249
المشاهدات: 90031
تحميل: 10327


توضيحات:

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90031 / تحميل: 10327
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

وتدلُّنا صفحات التواريخ على تأثيرات تلك العوامل في البقاء، وأنّه مسبَّب عن قوَّة الأتباع والتلاميذ، وسلطة الملوك والخلفاء وغيرها (١) .

ومن أمثلة ذلك: ذكر المقريزي في الجزء الرابع من الخطط ما ملخَّصه: أنّه تولَّى القاضي أبو يوسف القضاء من قِبل هارون الرشيد، بعد سنة ١٧٠ إلى أن صار قاضي القضاة، فكان لا يولِّي القضاء إلاّ مَن أراده، ولمَّا كان هو من أخصّ تلاميذ الإمام أبي حنيفة، فكان لم ينصِّب للقضاء ببلاد خراسان والعراق والشام وغيرها، إلاّ مَن كان مقلِّداً لأبي حنيفة، فهو الذي تسبَّب نشر مذهب الحنفيّة في البلاد (٢) .

ويقول المقريزي: ثمَّ في عصر (بيبرس البندقداري) ولَّى مصر أربعة قضاة: شافعي، ومالكـي، وحنفي، وحنبلي (٣) .

وفي حدود سنة ٦٦٥ حكم الفقهاء بوجوب اتِّباع المذاهب الأربعة، وحرمة التمذهب بما عداها من سائر المذاهب.

قال المقريزي: فاستمرَّ ذلك - ولاية القضاة الأربعة - من سنة ٦٦٥ حتى لم يبقَ في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه الأربعة، وعودي مَن تمذهب بغيرها، وأنُكر عليه، ولم يولَّ قاضٍ، ولا قبلت شهادة أحد، ما لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب.

وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتِّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداهـا، والعمل على هذا إلى اليوم (٤) .

٢. ضعف الثقة بالقضاة؛ فقد كان القضاة ـ فيما قبل (هذا الزمن) ـ يختارون من العلماء القادرين على استنباط الأحكام من كتاب الله وسنّة رسوله، المشهورين بالتقوى والصلاح، والزهد والورع، فيقضون بما يتبيَّن لهم من الكتاب والسنّة وآثار السلف الصالح، وقد يسألون غيرهم من المفتين إذا لم يهتدوا

____________________

(١) تاريخ حصر الاجتهاد: ٩٨-٩٩.

(٢) تاريخ حصر الاجتهاد: ٩٩.

(٣) الخطط المقريزية ٢: ٣٤٤.

(٤) راجع الخطط المقريزية ٢: ٣٤٤.

٨١

بأنفسهم إلى الحكم، فمن ثمَّ كانت ثقة الناس بهم كاملة قويَّة، ثمّ ساءت حالتهم، وظهرت فيهم الرُّشا، وشاع الجَور، وأصبحت ولايات القضاء تُباع وتُشترى، ويفرض على متولِّيها ضرائب معيَّنة، وهذا من شأنه أن يدعو إلى ابتزاز أموال الناس بالباطل والحيف بالأحكام، فتزعزعت ثقة الناس بهم، ومالوا إلى أن يكون القضاة مقيَّدين بأحكام معروفة، حتى يسدّوا عليهم باب التلاعب بأموال الناس ودمائهم وأعراضهم، والحكم فيها وفق أطماعهم وأغراضهم، بتخيّرهم في كل حادثة من أقوال المفتين ما يصادف ويُشبع شهواتهم.

وفي ذلك الوقت كانت المذاهب قد دُوِّنت وانتشرت بالأقطار الإسلامية، فأحبَّ أهل كل قُطر أن يكون قاضيهم من أهل المذهب الذي يعتنقونه، يتّبع ذلك المذهب في قضائه ولا يحيد عنه (١) .

بلْ أصدر ولاة الأمور حكماً: بأنَّ تمذهب الرجل المسلم بغير المذاهب الأربعة من أعظم الكبائر والمنكرات، التي يجب على كلِّ قادر أن يمنعه عنه، بل هو ممّا يخرجه عن حدود الإسلام، فيُعزل عن القضاء ويردُّ شهادته.

٣. تدوين المذاهب، كان سبباً في نجاحها، وأخذ الجمهور بها، واستغنائهم عن تكلُّف البحث والتنقيب من جديد؛ إذ كان مقرِّباً لتناولها، وعاملاً قويّاً في انتشارها وبقائها، ألا ترى مذاهب أئمة الصحابة والتابعين، التي كانت نبراساً لمَن أتى بعدهم، وكان لها أجمل الآثار في التشريع الإسلامـي , كيف درست على كثرتها وعظم شأنها، ولم يبقَ لها من ذِكر إلاّ ما يُنقل أحياناً في بعض مسائل كتب الخلاف، ولم يوجد لواحد منها أتباع يلتزمونه ويقتصرون عليه، كما هو الحال في المذاهب المتداولة الآن؟ وليس ذلك إلاّ لأنّها لم تَسعد بالتدوين.

قال الشافعي (رحمه الله): كان الليث أفقه من مالك إلاَّ أنَّ أصحابه ضيَّعوه.

يريد أنّهم لم يعنوا بتدوين آرائه وبثِّها في الجمهور، كما قاموا هم أنفسهم بتدويـن آراء مالـك (٢) .

٤. تحاسد العلماء قعد بكثير منهم عن أن يظهر بمظهر المجتهد؛ مخافة أن يكيد له علمـاء وقتـه، ويرموه بالابتداع، فيتعرَّض بذلك لسخط الناس، ويُستهدف لأعظم الأخطار (٣) .

____________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد علي السايس: ١٣٧-١٣٩.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد علي السايس: ١٣٧-١٣٩.

(٣) نفس المصدر.

٨٢

ويذهب السيد محمّد تقي الحكيم (قدس سره) صاحب كتاب (الأُصول العامة للفقه المقارن) إلى أنّ ما ذُكر من الأسباب ـ بعد نقل بعض الأسباب التي أثّرت في سدِّ باب الاجتهاد ـ لا ترتقي لأن تكون العلّة التامَّة للانسداد، مع كون أكثرها لا يخلو من أصالة.

فيقول: والظاهـر أنّ سياسـة تلكم العصـور كانت تخشى من العلماء ذوي الأصالة في الرأي والاستقامـة في السلـوك، وهم لا يُهـادنـون على ظلم ولا يصبـرون على مفارقـة، فأرادت قطع الطـريق على تكـوين أمثالهم بإماتـة الحـركـة الفكرية من أساسها؛ وذلك بسدّها لأهمِّ منبع من منابعها الأصلية وهو الاجتهاد (١) .

ويقول الشيخ كاشف الغطاء صاحب كتاب (أدوار الفقه وأطواره): (كان بذرة انحصارها (المذاهب) هو القادر العباسي الذي تولَّى الخلافة الإسلامية سنّة ٣٨١ هـ؛ فإنّه كان ذا سياسة وكياسة، وظهر بمظهر الصلاح والتقوى، حتى عدّه ابن الصلاح من الفقهاء الشافعية، وأخذ الفقهاء يعقدون الاجتماعات برئاسته بصفة كونه زعيماً دينياً، فيُصدرون الفتاوى بتحريم حرِّية الرأي وتكفير بعض الطوائف، كالفاطميين، ومهاجمة المعتزلة وتكفير مَن يعتنقها، وأمر أربعة من الفقهاء أن يصنّف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه من المذاهب الأربعة، فصنّف المارودي الإقناع على مذهب الشافعي , وصنّف أبو حسين القدوري مختصراً على مذهب أبي حنيفة، وصنّف أبو محمّد عبد الوهاب مختصراً على مذهب المالكي , وصنّف آخر مختصراً على مذهب الحنبلي، وأمر الخليفة القادر العمل بها لأجل تقليل الآراء في الأحكام الشرعية.

ولا ريب أنّ هذا العمل من القادر يوجب اتّساع رقعة المذاهب الأربعة، وكثرة المتبوعية لها، وضعف باقي المذاهب السنِّيّة وقلّة متبوعيتها وندرة الدعاة لها؛ لأنّ الخلافة العباسية مهما تطوَّر الوضع بها وانحطّ نفوذها الزمنـي، فهي لم تفقد سيادتها الروحية، وبقيت تحتفظ بزعامتها الدينية عملاً وعقيدة، والخليفة العباسي، وإن فقد سُلطته الزمنية إلاّ أنّه لم يتجرَّد حتى عند رعيَّته عن كونه إماماً روحياً، وزعيماً دينياً، ومصدراً لجميع السلطات الإلهية، وأنّه الرئيس الفعلي للحكومة الدينيـة، فإذا صدر منه

____________________

(١) الأصول العامة للفقه المقارن: ٥٨٠-٥٨١.

٨٣

الأمر بالعمل بتلك المذاهب الأربعة، لا ريب كان معناه إلغاء العمل بما عداها من المذاهب بحكم الزعيم الديني، ولا ريب أنّ ذلك يوجب اضمحلالها شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى، وبالفعل أخذت باقي المذاهب بالتلاشي شيئاً فشيئاً

وفي سنة ٦٦٣هـ ـ وبعد أن امتدَّ النفوذ الديني للخليفة العباسي الحاكم بأمر الله أحمد المتقدِّم ذكره للعالم الإسلامي، حتى للحجاز بواسطة السلطان الملك الظاهر بيبرس ـ نصَّب الخليفة العباسي المذكور برعاية الملك الظاهر المذكور بالديار المصرية وبدمشق أربعة قضاة: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، وركّز العقيدة الأشعرية، فكان هذا العمل من الخليفة الذي يمثِّل المقام الديني مؤكِّداً لما صنعه الخليفة العباسي القادر من أمره بالعمل بالمذاهب الأربعة، فأخذ يتضائل ما تبقّى من غير المذاهب الأربعة، حتى لم يبقَ في سنة ٦٦٥ هـ في مجموع أمصار الإسلام مذهب لأهل السنّة يعرف غير هذه المذاهب الأربعة، ولا عقيدة غير عقيدة الأشعري، وعوديَ مَن تمذهب بغيرها، ولم يولَّ قاضٍ ولا تُقبل شهادة شاهدٍ، ولا يقدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد منهم، ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب الأربعة، خصوصاً وقد أخذ يقوى المركز الديني للخليفة المذكور، وطفق يتوسّع نفوذ السلطان الظاهر المذكور وهما يحملان الشعار بالتمسّك بالمذاهب الأربعة، فكانت النتيجة الحتمية هي حصول الإجماع والاتّفاق من علمائهم على اتِّباع المذاهب الأربعة، وعدم صحة تقليد ما عداها، والإجماع حجّة عند أهل السنّة، يوجب الفتوى بمقتضاه.

فأفتى الفقهاء منهم بوجوب اتّباع هذه المذاهب الأربعة وتحريم ما عداها، ولم تبقَ عقيدة عند أهل السنّة إلاّ عقيدة الأشعري، وأوجب ذلك عليهم أن يتّجه نشاطهم الفقهي في هذا الدور نحو تكميل المذاهب الأربعة الفقهية، من الترجيح لروايات الفتاوى المختلفة عن أئمتها الأربعة، والتخريج لعللها المسمَّى بتخريج المناط، والفتوى فيما لم يوجد فيه فتوى منهم بالقياس بواسطة تلـك العلـل) (١) .

____________________

(١) أدوار الفقه وأطواره ٢١١-٢١٥.

٨٤

رابعاً: فتح باب الاجتهاد من جديد:

وهو دور الدعوة إلى انفتاح باب الاجتهاد من جديد، وفي الواقع لا ينبغي أن نجعل هذا الدور دوراً خاصاً؛ لأنّ هناك مَن كان يدعو إلى فتح باب الاجتهاد، والاعتراض على سدّه منذ القرون التي أُعلن فيها انسداد بابه حتى يومنا هذا، أمثال أبي الفتح الشهرستاني المتوفَّى سنة ٥٤٨، وأبي إسحاق الشاطبي المتوفَّى سنة ٧٩٠، والسيوطي المتوفَّى سنة ٩١١، وقد ألَّف السيوطي رسالة سمّاها (الردُّ على مَن أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الاجتهاد في كل عصر فرض)، وقدَّم لهذه الرسالة بقوله: (إنّ الناس قد غلب عليهم الجهل، وأعماهم حبُّ العناد وأصمّهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد وعدُّوه منكراً بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أنّه فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قُطر (١) .

وقال الشوكاني: ومَن حصر فضل الله على بعض خلْقه، وقصر فهْم هذه الشريعة على مَن تقدّم عصره، فقد تجرّأ على الله عز وجل، ثمَّ على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثمّ على عباده الذين تعبَّدهم الله بالكتاب والسنّة (٢) .

وقال أبو محمّد البغوي: وفرض الكفاية هو: أن يتعلَّم ما يبلغ رتبة الاجتهاد ومحلَّ الفتوى والقضاء ويخرج من عداد المقلّدين، فعلى كافَّة الناس القيام بتعلّمه، غير أنّه إذا قام من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين، فإذا قعد الكل عن تعلُّمه عصوا جميعاً؛ لما فيه من تعطيل أحكام الشرع، قال الله تعالى: ( ... فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٣) .

إلى غير هؤلاء من العلماء الكبار، الذين كانوا يدعون إلى فتح باب الاجتهاد، ويقفون أمام غلقـه.

واستمرَّ هذا الصمود أمام غلق باب الاجتهاد إلى القرون المتأخِّرة، حيث ظهر في العلماء من يدعو

____________________

(١) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي:٩٤.

(٢) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي:٩٤.

(٣) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي:٩٥، والآية ١٢٢ التوبة.

٨٥

إلى فتح بابه من جديد، أمثال السيد جمال الدين الأسدآبادي (المشهور بالأفغاني) الذي كان يقول: ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟! وبأيِّ نصٍّ سُدَّ؟! وأيُّ إمام قال: لا يصحُّ لمَن جاء بعدي أن يجتهد ليتفقَّه في الدين ويهتدي بهدْي القرآن وصحيح الحديث، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه؟! (١) .

ومثلهما محمّد رشيد رضا حيث يقول: لا إصلاح إلاّ بدعوة، ولا دعوة إلاّ بحجَّة، ولا حجَّة مع بقاء التقليد. فإغلاق باب التقليد الأعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كل إصلاح، والتقليد هو الحجاب الأعظم دون العلم والفهْم (٢) .

كان السيد جمال الدين الأفغاني (ت: ١٣١٥ هـ) ثائراً مُصلحاً، ومفكِّراً مجدّداً، وسياسيّاً شريفـاً، راعه أن يجد المسلمين متخلّفين في كلّ مجال من مجالات الحياة، وأنَّهم قد ركنوا إلى حياة الذلّ والضّعف، وأنَّ حكامهم قد استبدُّوا بهم، فثار ثورة شاملة، وجاب البلاد الإسلامية وغيرها داعياً إلى الإصلاح والتجديد، لا يهاب سلطاناً فاسداً، أو حاكماً مستبدَّاً، أو مستعمراً متسلِّطاً، فخافته الدولة والسلاطين، وبثّت وراءه العيون، ووضِعت أمامه العراقيل، غير أنَّ كلّ هذا لم يثْنه عن آماله الكبيرة، أو يؤثِّر في روحه الثائرة، ومن ثَمَّ كان له أثره في كلّ أرض حلَّ بها، كمصر وفارس والآستانة.

ومن المهمِّ هنا، الإشارة إلى أرائه في الاجتهاد والتقليد، وهي آراء تتَّسم بالعمق والغيرة الشديدة على الدين وتصحيح مفاهيمه، والثورة العارمة على أولئك الذين ارتضوا التقليد مذهباً، ودافعوا عنه وتعصبوا له.

لقد نفر جمال الدين من التقليد والجمود، وكان ينظر في آراء السابقين من المجتهدين فيردّ الضعيف منها، ويأخذ الأقرب للصواب، وما يقبله العقل الصريح، ويتَّفق مع النقل الصحيح.

ذكروا له يوماً قولاً للقاضي عياض (ت: ٥٤٤هـ) واتَّخذوه حجّة واشتدَّ تمسُّكهم به حتى أنزلوه منزلة الوحي فقال جمال الدين:

____________________

(١) المصدر السابق:٣٥٦.

(٢) المصدر السابق:٣٩٠.

٨٦

(يا سبحان الله! إنَّ القاضي عياض قال ما قال على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه وناسب زمانه، فهل لا يحقّ لأحد غيره أن يقول ما هو أقرب للحقّ، وأوجه وأصحّ من قول القاضي عيـاض، أو غيره من الأئمة؟! وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال الناس؟! إنَّهم أنفسهم لم يقفوا عند حدِّ أقوال مَن تقدّمهم، لقد أطلقوا لعقولهم سراحها، فاستنبطوا وقالوا، وأدلوا دلوهم في الدلاء في ذلك البحر المحيط من العلم، وأتوا بما ناسب زمانهم، وتقارب مع عقول جيلهم).

ولمّا قيل له: إنَّ ذلك يعدُّ اجتهاداً، وباب الاجتهاد عند أهل السنّة مسدود، لتعذُّر شروطه. تنفَّس الصعداء وقال:

ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأيِّ نصٍّ سدَّ باب الاجتهاد؟ وأيُّ إمام قال: لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد؛ ليتفقّه في الدين، أو أن يهتدي بهدى القرآن وصحيح الحديث، أو أن يجدّ ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية ولا ينافي جوهر النص؟

إنّ الله بعث محمّداً رسولاً بلسان قومه العربي ليُفهمهم ما يريد إفهامهم، وليفهموا منه ما يقوله لهم، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ... ) (١) ، وقال: ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٢) ، وقال: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٣) ، فالقرآن ما أُنزل إلاّ ليُفهم، ولكي يُعمل الإنسان عقله لتدبُّر معانيه وفهم أحكامه.

فمَن كان عالماً باللسان العربي، وعاقلاً غير مجنون، وعارفاً بسيرة السلف، وما كان من طرق الإجماع من الأحكام مُطبقاً على النصّ مباشرة، أو على وجه القياس وصحيح الحديث، جاز له النظر في أحكام القرآن، وتمعُّنها والتدقيق فيها واستنباط الأحكام منها، ومن صحيح الحديث والقياس.

____________________

(١) إبراهيم: ٤.

(٢) الزخرف: ٣.

(٣) يوسف: ٢.

٨٧

ولا أرتاب في أنّه لو فُسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وعاشوا إلى اليوم لداموا مجدّين مجتهدين، ويستنبطون لكلّ قضية حكماً من القرآن والسنّة (١) .

وسلك طريق جمال الدين في الدعوة إلى الاجتهاد وترك التقليد تلميذه الإمام محمّد عبده (ت: ١٣٢٣ هـ) فقد قال:

وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين:

الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمَّة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأُولى، واعتباره ـ الدين ـ من ضمن موازين العقل البشري، التي وضعها الله لتردّ من شططه، وتقلّل من خلطه وخبطه. وإنَّه على ذلك الوجه يعدُّ صديقاً للعلم باعثاً على البحث في أسرار الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.

أما الأمر الثاني: فهو إصلاح اللغة العربية (٢) .

وكان يقول أيضاً: إنّ الحياة الإنسانية للمجتمع الإنساني حياة متطوّرة، ويجد فيها من الأحداث والمعاملات اليوم ما لم تعرفه أمس هذه الجماعة، والاجتهاد هو الوسيلة المشروعة الملائمة بين أحداث الحياة المتجدِّدة وتعاليم الإسلام، ولو وقف الأمر بتعاليم الإسلام عند تفقُّه الأئمة السابقين، لسارت الحياة الإنسانية في الجماعة الإسلامية في عزلة عن التوجيه الإسلامي، وبقيت أحداث هذه الحياة في بُعد عن تجديد الإسلام إيَّاها، وهذا الوضع يُحرج المسلمين في إسلامهم (٣) .

وقد حمل الإمام محمّد عبده على التقليد والمقلِّدين؛ لأنّ التقليد وقف بالعقل الإنساني عند حدِّ معيَّن، وذلك يتنافى مع طبيعة العقل ذاته، كما يتنافى مع طبيعة الحياة وطبيعة المبادئ الإسلامية وخصائصها.

والمقلِّدون قوم عطَّلوا عقولهم، وعكفوا على كتب معيَّنة، وأخذوا باتِّجاهات فقهية خاصّة، أضفوا عليها قداسة وسلطاناً، ويقول الإمام محمّد عبده عن هؤلاء المقلّدين:

____________________

(١) انظر جمال الدين الأفغاني للشيخ محمود أبو ريَّة:١٨٩.

(٢) انظر زعماء الإصلاح في العصر الحديث:٣٢٧.

(٣) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي:٣٧٧.

٨٨

وإذا وصل إلى أيدي هؤلاء العلماء كتاب فيه غير ما يعلمون لا يعقلون المراد منه، وإذا عقلوا منه شيئاً يردّونه ولا يقبلونه، وإذا قبلوه حرّفوه إلى ما يوافق علمهم وحزبهم، كما جرُّوا عليه في نصوص الكتاب والسنّة (١) .

لقد حارب الإمام محمّد عبده دعاة التقليد والجمود، ودعا إلى الاجتهاد، وقد خاض من أجل ذلك معارك مختلفة بعضها يتَّصل بإصلاح الأزهر وتطويره لينهض برسالته على خير وجه.

وإذا كان كلّ داعية إلى إصلاح وتغيير لا يسلم من الهجوم عليه، وتوجيه شتّى التُّهم إليه، فإنّ هؤلاء المصلحين تعرّضوا لكثير من الأذى، من قِبل دعاة الجمود وجهلة الفقهاء المقلّدين، ولكنّهم ساروا في طريقهم على الرغم من الأشواك التي وضِعت فيه، وأخذوا يجهرون بما يؤمنون به، لا تزيدهم مواقف المتحاملين إلاّ إصراراً على أداء واجبهم والنصح لأمَّتهم.

وهكذا سارت النهضة ضدَّ إغلاق باب الاجتهاد والدعوة إلى فتحه من جديد، بيد الأعلام والمفكرين من علماء السنّة (٢) ، ولكن في مقابل هذه الصيحات بقي حجاب الجمود والتقليد الأعمى يؤثّر تأثيره عند مَن لا تروق له هذه الدعوة، فانظر إلى هذه الوثيقة المهمّة والقرار التاريخي، الذي صدر عن المجمع الفقهي الإسلامي بمكَّة المكرَّمة، والذي يدعو إلى نبذ الاجتهاد تحت ذريعة أنّه دعوة من قِبل فئة تريد أن تحمل الناس على خطٍّ جديد، وتنبذ التقليد للأئمة الأربعة:

(فإنّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت (٢٤) صفر (١٤٠٨ هـ) الموافق (١٧) أكتوبر (١٩٨٧م) إلى يوم الأربعاء (٢٨) صفر (١٤٠٨ هـ) الموافق (٢١) أكتوبر (١٩٨٧م)، قد نظر في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبَّعة، وفي التعصّب الممقوت من بعض أتباع المذاهب، تعصّباً يخرج عن حدود الاعتدال، ويصل بأصحابه إلى الطعن في المذاهب الأُخرى وعلمائها.

____________________

(١) انظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار:١٤٦.

(٢) انظر مقدّمة تاريخ حصر الاجتهاد:٢٧-٢٩.

٨٩

واستعرض المجلس المشكلات التي تقع في عقول الناشئة العصرية، وتصوّراتهم حول اختلاف المذاهب، الذي لا يعرفون مبناه ومعناه، فيوحي إليهم المضلّلون بأنّه ما دام الشرع الإسلامي واحـداً، وأصوله من القرآن العظيم والسنّة النبوية الثابتة متّحدة أيضاً، فلماذا اختلاف المذاهب؟! ولِمَ لا توحَّد حتى يصبح المسلمون أمام مذهب واحد، وفهم واحد لأحكام الشريعة؟!

كما استعرض المجلس ـ أيضاً ـ أمر العصبية المذهبية، والمشكلات التي تنشأ عنها، ولا سيّما بين أتباع بعض الاتجاهات الحديثة اليوم في عصرنا، حيث يدعو أصحابها إلى خطٍّ اجتهادي، ويطعنون في المذاهب القائمة التي تلقَّتها الأمَّة بالقبول من أقدم العصور الإسلامية، ويطعنون في أئمّتها أو بعضهم ضلالاً، ويوقعون الفتنة بين الناس.

وبعد المداولة في هذا الموضوع ووقائعه وملابساته، ونتائجه في التضليل والفتنة، قرَّر المجمع الفقهي توجيه البيان التالي إلى كلا الفريقين، المضلِّلين والمعصِّبين، تنبيهاً وتبصيراً.

أولاً: اختلاف المذاهب:

إنَّ اختلاف المذاهب الفكرية القائمة في البلاد الإسلامية نوعان:

١ ـ اختلاف في المذاهب الاعتقادية.

٢ ـ اختلاف في المذاهب الفقهية.

فأمّا الأول ـ وهو الاختلاف الاعتقادي ـ فهو في الواقع مصيبة جرَّت إلى كوارث في البلاد الإسلامية، وشقّت صفوف المسلمين وفرّقت كلمتهم، وهي ممّا يؤسف له، ويجب أن لا يكون، وأن تجتمع الأمَّة على مذهب أهل السنّة والجماعة، الذي يمثَّل الفكر الإسلامي النقي السليم في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعهد الخلافة الراشدة، التي أعلن الرسول أنّها امتداد لسنّته بقوله: (عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ).

وأمّا الثاني ـ وهو اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل ـ فله أسباب علمية اقتضته، ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة، ومنها الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثمّ هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية وتشريعية، تجعل الأمَّة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصراً، لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمَّة مذهب أحد الأئمة

٩٠

الفقهاء في وقت ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقاً ويسراً، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة، أم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء على ضوء الأدلّة الشرعيّة.

فهذا النوع من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي ليس نقيصة ولا تناقضاً في ديننا، ولا يمكن أن لا يكون، فلا يوجد أمَّة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده، ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي.

فالواقع أنّ هذا الاختلاف لا يمكن أن لا يكون؛ لأنّ النصوص الأصلية كثيراً ما تحتمل أكثر من معنى واحد، كما أنّ النصّ لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة؛ لأنّ النصوص محدودة، والوقائع غير محدَّدة ـ كما قال جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى ـ فلا بدّ من اللجوء إلى القياس والنظر إلى علل الأحكام، وغرض الشارع والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الوقائع والنوازل المستجدَّة، وفي هذا تختلف فهوم العلماء، وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد، وكلّ منهم يقصد الحقّ ويبحث عنه فمَن أصاب فله أجران، ومَن أخطأ فله أجر واحد؛ ومن هنا تنشأ السعة ويزول الحرج.

فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي، الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة، وأنّه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين، وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى، ومزيّة جديرة بأن تتباهى بها الأمَّة الإسلامية؟!

ولكنَّ المضلّلين من الأجانب، الذين يستغلّون ضعف الثقافة الإسلامية لدى بعض الشباب المسلم، ولا سيّما الذين يدرسون في الخارج، فيصوِّرون لهم اختلاف المذاهب الفقهية هذا كما لو كان اختلافاً اعتقادياً؛ ليوحُوا إليهم ـ ظلماً وزوراً ـ بأنّه يدلّ على تناقض الشريعة، دون أن يتنبّهوا إلى الفرْق بين النوعين وشتَّان ما بينهما.

ثانياً: وأمّا تلك الفئة الأُخرى التي تدعو إلى نبذ المذاهب، وتريد أن تحمل الناس على خطِّ اجتهاد جديد لها، وتطعن في المذاهب الفقهية القائمة وفي أئمتها أو بعضهم، ففي بياننا الآنف عن المذاهب الفقهية، ومزايا وجودها وأئمتها، ما يوجب عليهم أن يكفُّوا عن هذا الأسلوب البغيض، الذي ينتهجونه ويضلِّلون به الناس، ويشقّون صفوفهم، ويفرِّقون كلمتهم في وقت نحن أحوج ما نكون إلى جمع

٩١

الكلمة في مواجهة التحدِّيات الخطيرة من أعداء الإسلام، بدلاً من هذه الدعوة المفرّقة التي لا حاجة إليها.

وصلَّى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً، والحمـد لله ربّ العالَميـن (١) .

____________________

(١) مقدّمة في دراسة الفقه الإسلامي: ٢٠٥-٢٠٦. نقلاً عن مجلَّة منار الإسلام عدد رمضان سنة ١٤٠٩ هـ ص٨٤.

٩٢

الفصل الرابع:

أدوار الاجتهاد عند الشيعة الإمامية

الدَور الأول ـ مرحلة التأسيس.

· الدَور الثاني ـ مرحلة الانطلاق.

· الدَور الثالث ـ مرحلة الاستقلال.

· الدَور الرابع ـ مرحلة الإفراط والتفريط.

· الدَور الخامس ـ مرحلة الاعتدال.

· الدَور السادس ـ مرحلة الكمال.

٩٣

الدَور الأول:

يُطلق على هذا الدور (مرحلة التأسيس)، وأهمُّ مدرسة فقهية ظهرت في هذا الدور هي مدرسة قم ورَي الأُولى، ظهرت في الربُع الأول من القرن الرابع، واستمرّت إلى النصف الأول من القرن الخامس (أيَّام المرتضى والطوسي) (١) .

التحديد الزمني لهذا الدور:

تبدأ هذه المرحلة أواخر الغيبة الصغرى، وتحديداً بالشيخ الكليني محمّد بن يعقوب أو الصدوق الأول علي بن الحسين القمّي (توفِّيا٣٢٩هـ)، وتنتهي بحمزة بن عبد العزيز الديلمي، المعروف بسلاّر (ت ٤٤٨ أو ٤٦٤ هـ) (٢) .

أهمُّ ملامح الدور الأول:

١. في هذا الدور شرع الفقهاء في جمع ما صدر عن المعصومين (عليه السلام) وتصنيف المجاميع الحديثيّة والتمهيد لما نصطلح عليه بالفقه الاجتهادي , حيث انتهت فرصة الرجوع للمعصوم وأخذ الحكم عنـه، وكان الحديث في عصر الأئمة (عليه السلام) متناثراً في عدّة مساند دوَّنها الأصحاب عن الأئمة (عليه السلام)، وفي هذا الدور تمّ تدوين موسوعتين حديثيتين فقهيتين هما: (الكافي) للكليني (رحمه الله) المتوفّى (٣٢٩هـ)،

____________________

(١) عندما نذكر المدارس التي نضجت في دورٍ معيّن، ليس بالضرورة أن تتطابق بداية ظهور المدرسة ونهايتها مع بداية الفترة الزمنية التي تمَّ التقسيم على ضوئها ونهايتها، فيمكن أن تبدأ ـ مثلاً ـ في منتصف الدور وتمتدُّ إلى بدايات الدور الذي بعده، كما في هذا الدور، فلكل تقسيم خصوصياته.

(٢) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٤: ١٤٥.

٩٤

و (مَن لا يحضره الفقيه) للصدوق (رحمه الله) المتوفَّى (٣٨١هـ)، وبهذا توفّرت أهمُّ أدوات الاستنباط (١) .

٢. عُرِف الفقه الإمامي بفقه النصِّ، حيث كان الاجتهاد عند الإمامية هو الاجتهاد في فهم النص وتطبيقه على موارده ومصاديقه، خلافاً لاجتهاد الرأي الذي كان يبتني على تجاوز النصوص وتجاوز دلالاتها إلى موارد لا تمتُّ إليها بصلة، إلاّ على أساس الاستحسان والقياس.

وتوسّع الفقهاء في عمليات الاستنباط، متجاوزين النصوص إلى اكتشاف موارد التطبيق، وهذه هي عمليه التفريع أو إرجاع الفروع إلى الأُصول، وذلك على أساس موازين علمية تبتني على أصول التفاهم العرفي، والأُصول العقلية المنطقية المتداولة في عملية التشريع، وعملية التبيين والتفسير.

ومن هنا نلاحظ نوعين من كتب الفقه في هذه المرحلة: كتب الفقه المأثور، وكتب فقهية أُضيفت إليها مسائل فقهية غير موجودة في نصوص الأحاديث (٢) .

٣. وقد بدأ في هذا الدور تدوين أُصول الفقه (٣) ، وفصل قواعدها الكلية الأدبية أو العقلية أو الشرعية عن المسائل والفروع الفقهية، وقد تمثَّل ذلك بتأليف كتابين مهمَّين هما (التذكرة بأصول الفقه) للشيخ المفيد (٤١٣هـ) و (الذريعة إلى أصول الشريعة) للسيد المرتضى (٤٣٦هـ) (٤) .

والحقُّ أنّ الشيخ المفيد أوّل مَن صنّف كتاباً جامعاً في أُصول الفقه، مشتملاً على جميع الأبـواب، فإنّ مَن تقدّمه من العلماء ألّفوا رسائل خاصة في بعض موضوعات علم الأُصول، ولم يصل إلينا كتاب جامع لجميع أبوابه، وكانت تأليفاتهم لا تعدو أن تكون في نطاق مسائل خاصة من علم أُصول الفقه، وقد قام المفيد بتأليف كتابه الجامع لمباحث علم الأُصول الدارجة في تلك الأزمنة (التذكرة بأُصول الفقه)،

____________________

(١) راجع مقدِّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩-٥١.

(٢) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٧٧.

(٣) لا يخفى أنَّ تدوين بعض مسائل علم الأصول كان في زمن الأئمة (عليهم السلام)، وبإرشاد منهم، وقد سبق الشيعة غيرهم بذلك، بالرغم من أنّ باب الاجتهاد قد أُشرع في الأفق السنّي، والشيعة بعدُ يعيشون عصر النص بوجود أئمتهم (عليهم السلام)، ولكنَّ تدوين هذه المسائل ما كان المراد منه الاستنباط للأحكام الشرعية، كما هو عند السنّة، بلْ إنَّ اشتغال الشيعة بالمسائل الأصولية كان غرضه الدفاع عن عقائدهم الخاصة في مقابل أهل السنّة، راجع نظرة في تطوُّر علم الأصول:٣٠.

(٤) راجع مقدِّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩-٥١. نظرة في تطوُّر علم الأصول:٣٩.

٩٥

وقد ذكره النجاشي باسم كتاب (أُصول الفقه)، وقام تلميذه الكراجكي بتلخيصه في كتابه (كنز الفوائد)، ثمّ توالى التأليف في أُصول الفقه بعد الشيخ المفيد، فألّف تلميذه المرتضى (الذريعة) في جزءين، كما ألّف تلميذه الآخر الطوسي كتاب (العُدّة)، وألّف تلميذه الآخر سلاّر الديلمي كتاب (التقريب في أُصول الفقه) (١) .

٤. البدء بالبحث الفقهي المقارن في مسائل الخلاف مع المذاهب الأُخرى، وقد ظهر ذلك في كتابي الانتصار والناصريات للسيد المرتضى، والإعلام للشيخ المفيد (٢) .

يقول المحقِّق السبحاني: إنَّ الفقيه تارةً يستعرض آراءه الشخصية أو آراء إمام نحلته ويستدل عليها، دون أن يستعرض آراء فقهاء بقيَّة النِحَلْ، وهذا هو النمط السائد في أكثر الكتب الفقهية.

وأُخرى يستعرض آراءه الشخصية وآراء إمامه، مع ذِكر آراء فقهاء سائر النِحل وذِكر حججهم والمناقشة فيها، وهذا اللون من التأليف يتوقّف على مقدرة علمية فائقة؛ ليكون الممارس لها قادراً على عرض الآراء وترجيح بعضها على بعض.

والشيخ المفيد أوّل مَن فتح هذا الباب على مصراعيه، فألّف كتابه (الإعلام فيما اتَّفقت عليه الإمامية من الأحكام)، وجعله ذيلاً لكتاب أوائل المقالات، الذي ذكر فيه ما اتّفقت عليه الإمامية من الأُصول مع الإشارة إلى آراء المخالفين، فبالإمعان في هذين الكتابين، يقف القارئ على آراء الإمامية في الفقه والعقائد.

وقد ورث تلميذاه هذا اللون من التأليف عنه في الفقه.

____________________

(١) انظر تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره:٢٥٠-٢٥١. نظرة في تطوُّر علم الأصول:٤٠-٤١.

(٢) راجع مراحل تطوُّر الاجتهاد، منذر الحكيم/ مجلَّة فقه أهل البيت ١٤: ١٧٨-١٧٩. مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩-٥١. ويظهر ذلك جليَّاً بالنظر في الكتب المذكورة.

٩٦

فألّف السيد المرتضى (الانتصار) في ما انفردت به الإمامية مع ذكر آراء الآخرين، كما تبع الشيخ الطوسي أثر أُستاذه، فألّف كتاب (الخلاف) حيث ذكر فيه آراء الفقهاء الإسلاميين وناقشها، ورجّح منها المذهب المختار.

نعم، تكامل ما ابتكره الشيخ المفيد على يد تلميذه الشيخ الطوسي بتأليف كتاب (الخلاف) الذي تمتَّع بالدَّقة والعمق والأمانة في نقل الأقوال الفقهية من مصادرها الموثوقة، حتى إنَّ وفداً مصريَّاً من الجامع الأزهر زار سيدنا المحقِّق البروجردي حوالي سنّة ١٣٧٧هـ، فأهدى السيد لهم كتاب (الخلاف)، وقد أعربوا عن رأيهم وإعجابهم بالكتاب بعد مطالعته بدقَّة وإمعان، وأذعنوا بأمانة الشيخ في نقل أقوالهم والأسلوب الدقيق المتَّبع فيه (١) .

٥. عرْض الأحكام الفقهية، على شكل جوابات على مسائل واستفتاءات كانت ترد على الفقهاء من الأقطار (٢) ، كما أنَّ طابع البحث والجدل المذهبي والكلامي ظاهرة واضحة في مؤلفات هذا العصر الفقهية (٣) .

٦. ظهور مباني أصولية تحدُّ من انطلاق الاجتهاد وتمثّلت في:

‌أ- برزت ظاهرة إدانة العمل بأخبار الآحاد، بالرغم من اعتماد الفقه على الأخبار الحاكية عن السنّة بشكل واسع (٤) .

‌ب- اهتمام الفقهاء بالإجماعات واعتمادهم عليها أصبح أمراً ملفتاً للنظر (٥) .

____________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره: ٢٥٢.

(٢) انظر جوابات المسائل النيسابورية والمسائل التي سألها أبو جعفر الطوسي، في مؤلفات الشيخ المفيد ورسائل السيد المرتضى.

(٣) كما هو الكافي في الفقه لأبي الصلاح الحلبي، راجع مقدِّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩-٥١.

(٤) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة ٢: ٥٢٨-٥٥٤.

(٥) انظر كتاب الخلاف يظهر ذلك جليَّاً.

٩٧

‌ج- اجتناب التوغُّل في الاعتماد على العقل، بالرغم من تأكيد القرآن الكريم على أهمِّية التعقُّل والاستفادة من العقل، نجد عمليات استنباط الأحكام في الفقه الشيعي لا تفسح المجال لتدخُّل العقل في التشريع (١) .

٧. تبلورت في هذا الدور ثلاثة اتجاهات فقهية، تمثّلت في الاتجاه الروائي البحت، والاتّجاه العقلي , والاتجاه الذي يحاول التأليف بينهما، ويهتم بالعقل والنقل معاً، ويقوم بتحديد المسار لكل اتّجاه من الاتجاهين ومورد الاعتماد عليه، وقد مثّل المفيد والمرتضى الاتجاه الثالث، وقد غلب هذا الاتجاه على المدرسة الفقهية الشيعية بعد المرتضى حتى يومنا هذا (٢) .

____________________

(١) انظر مراحل تطوُّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٤: ١٧٨-١٧٩. مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩-٥١.

(٢) المصدر السابق.

٩٨

فقهاء الدور الأول وآثارهم الفقهية:

١. الكليني محمّد بن يعقوب (ت٣٢٩هـ) (١) .

الحافظ الكبير والمحدِّث الجليل، محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي البغدادي , أبو جعفـر، يُنسب إلى بيت طيِّب الأصل في (كُلَين).

تخرَّج على يده عدَّة من أفاضل رجالات الفقه والحديث، منهم: خاله علاّن الكليني.

كان شيخ الشيعة في وقته في الري ووجههم، ثمّ سكن بغداد بباب الكوفة، وحدَّث بها سنة (٣٢٧هـ)، بعد ما طاف الشام ونزل بعلبك وحدَّث بها، كما ذكره ابن الجوزي في المنتظم، وقد أدرك زمان سفراء المهدي عجل الله فرجه، وجمع الحديث من شِرَعه وموردِه، وقد انفرد بتأليف كتاب الكافي في أيامهم، ألّفه في مدَّة قاربت العشرين سنة، وكان مجلسه مثابة أكابر العلماء الراحلين في طلب العلم، كانوا يحضرون حلقته لمذاكرته ومفاوضته والتفقُّه عليه، وقد قام بترجمته كثير من الرجاليين والمؤلّفين في التراجم (٢) .

هذا وقد تضافر الثناء على الكليني منذ عصره إلى يومنا هذا من السنّة والشيعة، وإليك بعض ما قيل فيه:

قال الشيخ الصدوق في ترجمته: الشيخ الفقيه محمّد بن يعقوب الكليني (٣) .

وقال النجاشي: شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديـث وأثبتهـم (٤) .

وقال الطوسي: ثقة عارف بالأخبار، جليل القدر (٥) .

____________________

(١) في عدِّ الكليني (رحمه الله) من الفقهاء أو من المحدّثين خلاف، وقد اعتمدنا في ذكر الفقهاء وآثارهم الفقهية على كتاب مقدِّمة على فقه الشيعة، وما سرده السيد منذر الحكيم في بحثه الموسوم مراحل تطوّر الاجتهاد في مجلَّة فقه أهل البيت، وكتاب شناسي تفصيلي مذاهب إسلامي.

(٢) له ترجمة في الكامل لابن الأثير٨: ١٢٧.

(٣) مَن لا يحضره الفقيه ٤: ٤٥ ح٥٧٨.

(٤) رجال النجاشي برقم ١٠٢٦..

(٥) فهرست الطوسي برقم ٥٩١.

٩٩

وأثنى عليه الذهبي بقوله: شيخ الشيعة وعالم الإمامية، صاحب التصانيف، أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني (١) .

قال النجاشي: مات (رحمه الله) ببغداد (سنّة ٣٢٩هـ) سنة تناثر النجوم، وصلَّى عليه محمّد بن جعفر الحسني، ودُفن في باب الكوفة (٢) .

آثاره:

* الكافي , وهو أحد الكتب الأربعة وأهمُّها، وقسّم الكتاب إلى أُصول وفروع وروضة، حيث جعل الأُصول في العقائد والأخلاق، وجعل الفروع في الفقه، وجعل الروضة شبيهاً بالكشكول.

ويكفي في جلالة هذا الجامع أنَّ الشيخ المفيد يصفه ـ في كتابه تصحيح الاعتقاد بقوله ـ: من أجَلِّ كتُب الشيعة وأكثرها فائدة.

وقال الشهيد محمّد بن مكي ـ في إجازته لابن الخازن ـ: كتاب الكافي في الحديث، الذي لم يعمل للإمامية مثله (٣) .

وقد شرحه كثير من العلماء، وهو بين مطبوع ومخطوط، كما وتُرجم إلى لغات مختلفة.

٢. والد الصدوق علي بن الحسين بن بابويه القمّي (ت٣٢٩هـ).

· كتاب الشرائع، (وهو رسالة إلى ولده) لم يصل إلينا إلاَّ ما نقله ابنه في كتابه (المقنع).

· مناسك الحج.

· كتاب المواريث.

٣. العماني الحسن بن عليّ بن أبي عقيل الحذَّاء (ت٣٦٨هـ).

· المستمسك بحبل آل الرسول، لم يصل إلينا ولكن نقل عنه العلاّمة في (المختلف) كثيراً، وأخيراً جمعت فتاواه في كتاب.

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٥: ٢٨٠.

(٢) رجال النجاشي ٢: ٢٩٢.

(٣) بحار الأنوار:١٠٤ـ١٩٠، الإجازات.

١٠٠