الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 49997
تحميل: 5565

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49997 / تحميل: 5565
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويشير سبحانه أيضاً بذلك أنّ اكتساب المعاصي يزيل حكم اليقين ، كما قال : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) (١) ، وقال :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (٢) ، بل لا بدّ مع اليقين من صالح العمل ، حتّى ينتج النتيجة ، ويسمح بالثمرة ، قال :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) .

هذا ، ولنعد إلى ما كنّا فيه ، ونقول :

ووعدهم سبحانه أنّه يبدّل حياتهم ، أي وجودهم ، فقال :( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) (٤) ، فبيّن أنّ لهم حياة معها نور يمشون به في النّاس ، أي يعاشرونهم والمعاشرة إنّما هي بالقوى والحواسّ ، فلهم حياة نورانيّة وحواسّ وقوى ربّانيّة .

وقال أيضاً :( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) (٥) ، فبيّن أنّ هذا النور روح عاقل فاهم من عالم الأمر ، كما قال :( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآية ١٤ .

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٣ .

(٣) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢٢ .

(٥) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

٢٤١

قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (١) .

ثمَّ أخبر سبحانه أنّه يهديهم لنوره جلّ وعزّ ، وهو النور على كلّ نور ، به يضيء السموات والأرض ، فقال سبحانه : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) .

ثمَّ مثّل بهذا النور الذي به يضيء السموات والأرض بقوله :( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) (٣) ، فلنوره حجابان من نور يستضيئان به ، وتستضيء بهما السموات والأرض : أحدهما المشكاة ، وهي الأقلّ ضياءً ، يستضيء بما فيه ، وهي الزجاجة ، وهي تستضيء بالمصباح فالمصباح هو القيّم بنور الزجاجة والمشكاة والزجاجة قيّم بنور المشكاة ، وهي آخر ما يضيء ويُستضاء به منها .

ولعلّ نور الأرض بها ، وفوقها الزجاجة ، ولعلّ نور السماء بها كما قال سبحانه :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ) الآية(٤) ولم يقع في الآية الشريفة لِمَا وراء السموات والأرض ذكر ، ولا للمصباح المذكور فيها بيان ، غير ما يلوح من قوله : ( يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ... ) ، فافهم .

ثمَّ ذكر سبحانه أنّ ما مثّل به من المشكاة مع ما فيه( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ

ـــــــــــــ

(١) سورة المجادلة : الآية ٢٢ .

(٢) و (٣) سورة النور : الآية ٣٥ .

(٤) سورة السجدة : الآية ٥ .

٢٤٢

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) (١) .

فعرّفهم سبحانه بأنّهم لا يغفلون عن الذكر والعمل الصالح ، فهؤلاء غير محجوبين عن ذكره تعالى ، ولا يلتفتون إلى غيره إلاّ به سبحانه ، فهم المخلصون له سبحانه وقد مرّ شمّةٌ من حال المخلَصين في الفصل السابق ، عند ذكر الآيات الواردة في حالهم ، قال تعالى :( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وقال تعالى :( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (٣) .

وقال تعالى :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٤) .

وقال تعالى :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٥) .

وقال تعالى :( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٦) .

فبيّن أنّه منزّه عن كلّ ثناء إلاّ ثناؤهم ، وأنّه يصرف السوء والفحشاء عنهم ، وأنّ وسوسة إبليس تمسُّ كُلاً إلاّ إيّاهم ، وأنّ أهوال الساعة ، من الصعقة وفزع الصور وإحضار الجمع وإعطاء الكتاب والحساب والوزن ، غير شاملة لهم ، وهم مستثنون منها ، وأنّ جزاؤهم ليس في مقابل الأعمال ؛ إذ لا عمل لهم .

فهذه نبذة من مواهب الله سبحانه في حقّ أوليائه .

وقد تحصّل من الجميع أنّ من مواهب الله في حقّهم إفناؤهم في أفعالهم وأوصافهم وذواتهم

ـــــــــــــ

(١) سورة النور : الآيتان ٣٦ و ٣٧ .

(٢) سورة الصافّات : الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ .

(٣) سورة يوسف الآية ٢٤ .

(٤) سورة ص : الآيتان ٨٢ و ٨٣ .

(٥) سورة الصافات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

(٦) سورة الصافات : الآيتان ٣٩ و ٤٠ .

٢٤٣

فأوّل ما يفنى منهم الأفعال ، وأقلُّ ذلك ـ على ما ذكره بعض العلماء ـ ستّة : الموت والحياة ، والمرض والصحّة ، والفقر والغنى فيشاهدون ذلك من الحقّ سبحانه في مقام أفعالهم ، فكأنّ فعلهم فعله سبحانه ، كما يشير إليه ما في (الكاف) و(التوحيد) عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (١) : (إنّ الله عزّ وجلّ لا يأسف كأسَفنا ، ولكنّه خَلَق أولياء لنفسه ، يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون ، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه ؛ لأنّه جعلهم الدُّعاة إليه ، والأدلاّء عليه ، فلذلك صاروا كذلك وليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك .

وقد قال أيضاً : (مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، ودعاني إليها) ، وقال أيضاً : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (٢) ، وقال أيضاً : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٣) .

فكلّ هذا وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك) (٤) ـ الحديث .

يشير عليه السلام بقوله :( ممّا يشاكل ...) إلى الآيات الكثيرة ، والأخبار الواردة في المقام ، كقوله تعالى :( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (٥) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : الآية ٥٥ .

(٢) سورة النساء : الآية ٨٠ .

(٣) سورة الفتح : الآية ١٠ .

(٤) الكافي : ١ / ١٦٤ ، باب النوادر ، الحديث ٣٥٦ / ٦ التوحيد : ١٦٤ ، باب معنى رضاه عزّ وجلّ وسخطه ، الحدث ٢ ، مع اختلاف يسير .

(٥) سورة الأنفال : الآية ١٧ .

٢٤٤

وقوله تعالى :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (١) ، والضمير إلى النطق .

وقوله سبحانه :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) (٢) .

وكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فاطمة بضعة منّي : مَن آذاها فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذ الله) (٣) ـ الحديث ، وستأتي رواية الديلمي إن شاء الله .

ثمَّ تفنى منهم الأوصاف وأُصولها على ما يظهر من أخبار أهل البيتعليهم‌السلام ، [وهي] خمس : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر وقام الحقّ سبحانه في ذلك مقامهم .

ففي (الكافي) عن أبي جعفر ـ في حديث : (إنّ الله جلّ جلاله قال : ما تقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبّ عليّ ممّا افترضت عليه وإنّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته) (٤) ـ الحديث .

وهو من الأحاديث الدائرة بين الفريقين ، وتصديق ذلك من كتاب الله العزيز ، قوله :( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٥) ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٢٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٣٠ / ٣٥٣ ، تتمّة كتاب الفتن والمحن ، [٢٠] باب ، الحديث ١٦٤ عوالي اللآلي : ٤ / ٩٣ أمّا الخاتمة ، فتشمل جملتين ، الجملة الثانية المتعلّقة بالعلم وأهله وحامليه ، الحديث ١٣١ .

(٤) الكافي : ٢ / ٣٦٢ ، باب مَن آذى المسلمين واحتقرهم ، الحديث ٢٧٣١ / ٨ .

(٥) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

٢٤٥

وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (١) ، وتطبيق الآيتين بسياقيهما وهما يأمران بإتّباع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإيمان به ، وهما واحد يفيدان محبة الله سبحانه لعبده ، هي رحمة على رحمة ، ويورث له نوراً يمشي به في الناس ، أي يعاشرهم ويعيش فيهم ، وقد كان يعاشر ويعيش بقوى نفسه وأسبابها من سمع وبصر ويد ولسان ، فتبدّل إلى نور من ربّه .

هذا ، وفي (إثبات الوصيّة) للمسعودي ، عن أمير المؤمنين ـ في خطبة : (سبحانك ، أيُّ عين تقوم نصب بهاء نورك ، وترقى إلى نور ضياء قدرتك ؟! وأيّ فهم يفهم ما دون ذلك إلاّ أبصار كشفت عنها الأغطية ، وهتكت عنها الحجب العميّة فرّقت أرواحها إلى أطراف أجنحة الأرواح ، فناجوك في أركانك ، ووَلَجُوا [ألحُّوا ]بين أنوار بهائك ، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك فسمّاهم أهل الملكوت زوّاراً ، ودعاهم أهل الجبروت عمّاراً) (٢) ـ الخطبة .

وقد مرّ حديث هشام في الفصل الثالث(٣) .

وهذه المعاني كثيرة الورود في الأدعية ، ففي مناجاة عليّعليه‌السلام في أيّام شعبان :(إلهي وألهمني ولهاً بذكرك إلى ذكرك ، واجعل همّتي في روح نجاح أسمائك ومحلّ قُدسك) .

إلى أن قال :

(إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعز قُدسك .

إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سرّاً ، وعمل لك جهراً) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

وهذا النور روحٌ حيّ ، يحيي بها الإنسان كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى :( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الآية ؛ إذ ظاهر السياق أنّ قوله :( وَجَعَلْنَا لَهُ ... ) بيان لأحييناه .

(٢) بحار الأنوار : ٢٥ / ٣٠ ، أبواب خلقهم وطينتهم وأرواحهم (صلوات الله لعيهم) ـ باب ١ ـ بدو أرواحهم وأنوارهم وطينتهمعليهم‌السلام ، الحديث ٤٦ إثبات الوصيّة / المسعودي : ١٢٩ ، خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مع اختلاف يسير.

(٣) تقدّم في : الصفحة ٢٢٨ من هذا الكتاب ، فراجع .

٢٤٦

إلى أن قال :

(إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج ، فأكون لك عارفاً ، وعن سواك منحرفاً) (١) ـ المناجاة وهي جامعة للمقدمة وذي المقدّمة جميعاً ، أعني السلوك والشهود .

وفي (عدّة الداعي) لابن فهد ، عن وهب بن منبّه ـ فيما أوحى الله إلى داود :(يا داود ، ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وحبّي للمشتاقين ، وأنا خاصّة للمحبّين) (٢) .

ثمَّ تفنى منهم الذات ، وينمحي الاسم والرسم ، ويقوم الحقّ سبحانه مقامهم وقد ذُكر في آخر" رسالة التوحيد " أنَّ هذا المقام أجلّ من أن يقع عليه لفظ ، وأن تمسّه إشارة ، وأنّ إطلاق المقام عليه مجاز ، وأنّه ممّا فتحه الله لنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولحقه الطاهرون من آله .

وأقول الآن : أنّه يلحقهم أولياءٌ من أُمّته ؛ للروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الله سبحانه يلحق بهم شيعتهم بالدرجات العليا في الآخرة .

وفي رواية الديلمي الآتية :(وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن) ـ الحديث .

ومنه يظهر أنّ ما وعده الله سبحانه للأُمم من المقامات والكرامات في الآخرة ، مرزوق للأولياء في الدنيا ، وفيها اللحوق بإمامهم .

وهذا المقام الذي عرفت أنّه أجلّ من المقام ، قد عبّر عنه الأئمة في الأخبار المستفيضة النافية للصفات ، فللأولياء من الأُمّة اللحوق بهم بنحو الوراثة في ذلك ، فافهم .

ـــــــــــــ

(١) إقبال الأعمال / السيّد ابن طاووس الحلّي : ٦٨٧ ، فصل : فيما نذكره من الدعاء في شعبان مروي عن ابن خالويه .

(٢) عدّة الداعي : ٢٥٢ ، الباب الخامس : فيما أُلحق بالدعاء ، وهو الذكر ، الحديث ١٥ .

٢٤٧

ومن المواهب سيرهم في خلال العوالم المتوسّطة بينهم في الدنيا وبين ربّهم عزّ اسمه كما مرّ .

ففي (البحار) عن (إرشاد) الديلمي ، وذكر سندين لهذا الحديث ، وفيه :

(قال الله تعالى : يا أحمد ، هل تدري أيُّ عيش أهنأ ، وأي حياة أبقى ؟

قال : اللهمّ لا .

قال : أمّا العيش الهنيء ، فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ، ولا ينسى نعمتي ، ولا يجهل حقّي يطلب رضاي في ليله ونهاره .

أمّا الحياة الباقية ، فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا ، وتصغر في عينه [عينيه ]، وتعظُم الآخرة عنده ، ويؤثر هواي على هواه ، ويبتغي مرضاتي ، ويعظّم حقّ عظمتي ، ويذكر عملي به ، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية ، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً .

فإذا فعل ذلك ، أسكنتُ قلبه حبّاً ، حتى أجعل قلبه لي ، وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه ، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي وأُضِيق عليه الدنيا ، وأُبغّض إليه ما فيها من اللّذات ، وأُحذّره من الدنيا وما فيها ، كما يحذر الراعي [على ]غنمه من مراتعَ الهلكة فإذا كان هكذا ، يفرُّ من الناس فراراً ، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن .

يا أحمد ، ولأزيّنّنه بالهيبة والعظمة .

فهذا هو العيش الهنيء ، والحياة الباقية ، وهذا مقام الراضين .

فمَن عمل برضاي ، أُلزمه ثلاث خصال : أُعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين فإذا أحبّني أحببته ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا أُخفي عليه خاصّة خَلقي ، وأُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، ومجالسته معهم ، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأُعرّفه السرّ الذي سترته عن خَلقي ، وأُلبسه الحياء ، حتّى يستحيي منه الخَلق كلُّهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا أُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار ، واعرّفه ما يمرُّ على الناس في يوم القيامة من الهول والشدّة ، وما أُحاسب الأغنياء والفقراء ، والجهّال والعلماء ، وأُنوِّمه في قبره ، وأُنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه ، ولا يرى غمرة الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطّلع .

٢٤٨

ثمَّ أنصب له ميزانه ، وأنشر ديوانه .

ثمَّ أضع كتابه في يمينه ، فيقرؤه منشوراً .

ثمَّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً .

فهذه صفات المحبّين .

يا أحمد ، اجعلْ همّك همّاً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حيّاً لا تغفل عني مَن يغفل عنّي لا أُبالي بأيِّ واد هلك) (١) ـ الحديث .

وفي (البحار) ، عن (الكافي) و(المعاني) و(نوادر) الراوندي ، بأسانيد مختلفة ، عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ واللفظ المنقول هاهنا كما عن (الكافي) ـ قال :

(استقبل رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟

فقال : يا رسول الله ، مؤمن حقّاً .

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلّ شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك ؟ فقال : يا رسول الله ، عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرتُ ليلي ، وأظمأت هواجري ، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وُضع للحساب ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنة ، وكأنّي أسمع عُواء أهل النار في النار .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٤ / ٢٨ ، أبواب المواعظ والحكم ـ باب ٢ : مواعظ الله عزّ وجلّ في سائر الكتب السماوية ، الحديث ٦ إرشاد القلوب : ١ / ٢٠٤ ، الباب الرابع والخمسون : فيما سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ليلة المعراج .

٢٤٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عبدٌ نوّر الله قلبه ، أبصرت فاثبتْ) (١) ـ الحديث .

ولو تدبّرت جيّد التدبّر في هذه الآيات والأخبار التي نقلناها ، وما تركناها اختصاراً أكثر منها ، وأخذت بالإشارات من العبارات ، شاهدت من أنبائهم عجائب يضيق عنها التعبير ، ويقصر دونها باع التوصيف .

والله الهادي وهو المستعان

ولنقطع الكلام في هذا المقام

والحمد لله على الإتمام

وعلى سيّدنا محمّد وآله الصلاة والسلام

عليٌعليه‌السلام والفلسفة الإلهية

العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ علي الأسدي

مكتبة فدك

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٢ / ١٢٦ ، باب ٣٧ ـ ما جرى بينه وبين أهل الكتاب والمشركين بعد الهجرة ، الحديث ٩٨ الكافي : ٢ / ٨٠ ، باب حقيقة الإيمان واليقين ، الحديث ١٥٤٦ / ٣ معاني الأخبار : ١٨٧ ، باب معنى الإسلام والإيمان ، الحديث ٥ النوادر / الراوندي : ٢٠ ، باختلاف يسير .

٢٥٠

تقديمٌ : ما معنى الفلسفة الإلهية ؟

الحمد لله ، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين .

كان الإنسان ، ولسوف يبقى ، محبّاً للوجود الخارجي ، بخارجيّته وواقعيّته ، لا يهمّه شيء سواه ، ولا يلتفت عنه إلى غيره ، ولا غير هناك .

ومن الواضح ـ بعد هذا ـ أنّ قضاء العقل وحكم الوجدان بالواقعية ، والإذعان بالوجود الخارجي (أن هناك موجوداً خارجاً) هو من العلوم الأوّليّة ، والمعارف الأصليّة ، تتطابق فيه جميع صفات البداهة ، وشرائطها .

فالوليد الحديث السنّ ، بشعوره الطريّ الموهوب له ، إذا تعمّقنا في حالاته ، نرى أنّه أوّل الأمر يتناول الثدي ليتغذّى باللبن المعدّ له فيه تارةً ، ويتناول غير الثدي ـ للغرض نفسه ـ تارةً أُخرى ولكنّه بعد تعدّد ذلك منه ، يقتصر على الثدي في ذلك ويعرض عن غيره ثمَّ بعد ذلك نراه يتناول المأكول ، من فاكهة أو خبزٍ أو نحوهما ، ويتناول غير المأكول كالحصاة والخشبة ونحوهما ، ويلتقم ويمضغ هذا ، كما يلتقم ويمضغ ذاك ثمَّ ـ وبعد تعدّد ذلك منه ـ لا يتناول إلاّ ما يصح أكله ، ويجتنب غيره .

وليس ذلك منه إلاّ لأنّ تصديقه الأوّلي بالواقعيّة الخارجية والوجود الحقّ ، يضطرّه إلى تمييز الحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ وبالجملة : تمييز كلّ واقعيّة من غيرها ، ثمَّ التزام الواقعيّة ، والإعراض عن غيرها .

وإذا توسّعنا في الملاحظة والبحث ، وتصفّحنا أحوال أبناء نوعنا ، أينما كانوا ، وحيثما وجدوا ، وأيّاً كانت الحالة التي هم عليها ، وجدنا أنّهم يسلكون عين هذا المسلك ، ويسيرون في نفس هذا الطريق فلا يدّخرون وسعاً ، ولا يألون جهداً في التمييز بين الحقّ والباطل ، والصواب من الخطأ ، في جميع شئون حياتهم ، التي تنال عنايتهم وتحظى باهتمامهم فلا همّ للإنسان إلاّ أن يحفظ نفسه من الوقوع في الخطأ والغلط ، ومن أن يأخذ غير الواقع على أنّه الواقع ، أو العكس .

وهكذا كان أيضاً حال الأُمم والشعوب الخالية ، فرادى وجماعات ، فإنّهم كانوا يبحثون دائماً عن واقعيّة الأشياء بهدف تمييزها من غيرها ممّا يشتبه بها ، ثمَّ يأخذون بما يرونه حقّاً وصواباً ، بحسب طلبتهم ، وعلى وفق بغيتهم ، ويظهر ذلك بجلاء لكلّ مَن راجع ما يصفه التاريخ من سيرهم وسننهم ، ولاحظ آثارهم العمرانيّة ، وغيرها من أعمالهم .

٢٥١

هذا ، ولم يزل الإنسان محبّاً ، بل ومغرماً ، بهذا النوع من البحث ـ وهذا هو بالذات ما نسمّيه بحثا فلسفيّاً ـ في جميع ما يرتبط به وجوده ، ومختلف شئون حياته ، وإن لم يشعر هو بذلك تفصيلاً ، ويلتفت إليه بالفعل ، فإنّ ذلك الدافع النفسي نحو التمييز ـ والذي يرتبط في الحقيقة بإنسانية الإنسان ـ يقوم بعمله بانتظام ، ومن دون أي عيءٍ أو كلل ويسير الإنسان قُدماً في هذا الخطّ ، في جزئيات مقاصده ومبتغياته ، وما يرتبط بشئون حياته المحدودة لكنّه ربّما عمّم البحث بما جُبل عليه من قريحة التعميم ؛ ليبحث عن الوجود وأنواعه وخواصّه وأحكامه من جهة عامّة ، فيفكّر في العلّة والمعلول ، والإمكان والوجوب ، والقوّة والفعل ، والقِدم والحدوث .

وهذه الأبحاث والدراسات ، وإن كانت ليست بعيدة كلّ البعد عن شعور الإنسان ، حيث إنّه يحسّ ويشعر بها إجمالاً ، إلاّ أنّها هي التي نبّهت الإنسان إلى الانتقال في البحث من عالم الطبيعة إلى ما ورائها كما أنّها هي التي حملته على التوغّل في البحث عن أوائل الوجود ، عندما وجد أنّ العالم المادي في نفسه محتاج ، ومفتقر إلى غيره ، أي لا يقوم وجوده بنفسه من أن يعتمد على ما يدفع عنه حاجته وخلّته ، حيث كان استقلاله في وجوده دائماً محتاجاً ومنتهياً ، إلى ما لا يكون استقلاله في الوجود محتاجاً ومنتهياً إلى شيء آخر وهذه هي الفلسفة الباحثة عن الله عزّ اسمه ؛ لأنّه هو الذي لا يحتاج استقلاله في الوجود إلى أي شيء آخر ، وتحتاج جميع الأشياء إليه في وجودها المستقلّ .

وهذا وإن كان في نفسه واحداً من تلك الموضوعات الكثيرة ، التي تطرح للبحث في الفلسفة العامّة ، إلاّ أنّ الأهمّية التي له تفوق أهمّية أي بحث فلسفي آخر ؛ من حيث إنّه ترك أثراً ظاهراً وهامّاً جدّاً في كلّ الأبحاث والدراسات الفلسفيّة العامّة الأُخرى من دون استثناء ؛ إذ إنّ الحصول على النتيجة فيه ـ وهو التوحيد ـ يحوِّل الأبحاث الفلسفيّة من حال التفرّق والتشتّت إلى حال التوحّد والترابط والتآلف ، ويبرزها في حلّة أبهى ، وزينة أكثر جاذبيّة ، وجمال أشدّ سحراً عندما يربط جميع الموجودات على كثرتها بموجود واحد ، هو باريها ومبديها .

وهذه الحقيقة يجدها الباحث المتتبّع واضحة جليّة فيما ورثه من الأقوال الفلسفية ، من (الهند) و(مصر القديمة) و(بابل) و (الروم) و(اليونان) وأيضاً في المأثور من كلمات المحصّلين من فلاسفة الإسلام .

٢٥٢

هذه من جهة ...

ومن جهة ثانية فإنّ ما بأيدينا من الكتب السماوية المنسوبة إلى (موسى) و (عيسى) وغيرهماعليهم‌السلام ، ثمَّ ما حكاه الله في كتابه العزيز عن الأنبياءعليهم‌السلام على اختلاف طبقاتهم ، ثمَّ ما ختم به (عزّ وجلّ) ذلك ممّا أوحاه على خاتمهم ، كلّ ذلك إذا تأمّل الباحث فيه وتعمّق في درسه ، يرى أنّ البحث في اللاهوت ـ كان ولا يزال ـ ينمو ويتطوّر ويتكامل في الصفاء والجلاء ، ويتدرّج في درجات الكمال وكلّما زاد في الوضوح والصفاء ، كلّما اتّسع أُفقه ، وانحلّت به مبهمات ، واتّضحت به مجاهيل ، بل وتقوّمت به مطالب ساذجة ناقصة وسنزيد هذا المعنى إيضاحاً فيما يأتي إن شاء الله .

الدين والفلسفة

حقّاً لظلم عظيم أن يفرّق بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية ، فهل الدين ـ على اختلاف الأديان سعةً وضيقاً ـ إلاّ مجموعة معارف اعتقادية إلهية يعبّر عنها بالأُصول ، وأُخرى فقهيّة وأخلاقيّة يعبّر عنها بالفروع ؟

هل الأنبياء إلاّ رجال يهدون ـ بأمر الله ـ المجتمع البشري إلى الحياة الفضلى والسعادة الحقيقية؟

وهل السعادة البشرية الحقيقية إلاّ أن ينال الإنسان حقائق المعارف ، بما منحه الله من جهاز دقيقٍ لفهمها وإدراكها ، جهاز مرتبط بأصل خلقة الإنسان وهو جزء من وجوده وأن يصير بعد نيله تلكم المعارف ـ في حياته العمليّة ـ على طريق العدل والاستقامة ؟ وهل له مناص في تحصيل تلك المعارف عن الالتجاء إلى الاستدلال وإقامة البرهان ؟

وإذا كان الحال على ما تقدّم ، فكيف يسوغ للأنبياء أن يدعوا الناس إلى السمع والقبول بلا بيّنة ، وأن يطلبوا منهم السير على غير طريق الاستدلال وإقامة البرهان ، مع أنّ ذلك مخالف لجبلّتهم ، ومنافٍ لما جُهِّزوا به في أصل خلقتهم وبُنية وجودهم .

٢٥٣

والأنبياء وإن كانوا قد استمدّوا معارفهم ومبادئ دعوتهم من المبدأ الغيبي ، وارتضعوا ذلك من ثدي الوحي ، إلاّ أنّ الحقيقة هي أنّه لا فرق بين مسلك الأنبياء في دعوتهم إلى صريح الحقّ وبين الحقّ ، سلوك الإنسان بشعوره الفطري إلى نيل المعارف الإلهيّة ، حيث إنّهم على رفعة مكانتهم ، وإشرافهم على الأُفق الأعلى ، قد تنزّلوا إلى مستوى الأفهام البشريّة ، وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم) (١) .

وحاشا ساحة الأنبياءعليهم‌السلام أن يحملوا النّاس على أن يخبطوا خبط عشواء ، وأن يسوقوهم سوق البهيمة العمياء ، فإنّهمعليهم‌السلام كانوا على عكس ذلك تماماً إذا خاطبوهم خاطبوهم بما يفهمون ، وإذا أتوه بآية معجزة فإنّما يكون ذلك بعد أن تكون أُممهم (الأنبياء) قد اعتبرتها صالحة للدلالة على صدق الدعوى ، فيحتجّ بها الأنبياء على تلك الأُمم التي اعترفت ، بل وقرّرت وأثبتت دلالتها على صدق دعوتهم الحقّة .

وهو ذا القرآن أعدل شاهد على ذلك فيما يدعو إليه المجتمع الإنساني ، من معارف المبدأ والمعاد وكلّيات المعارف الإلهية ، فهو لا يأخذ إلاّ عن حجّة بيّنة ، ولا يدع إلاّ عن حجّة بيّنة ، ولا يمدح إلاّ العلم والاستقلال في الفهم ، ولا يذمّ إلاّ الجهل والتقليد ، قال تعالى :( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٢) .

وخلاصة القول : إنّ الدين لا يدعو الإنسان إلاّ إلى نيل الحقائق الإلهية بشعوره الاستدلالي ، الذي جُهِّز به ، وهذا هو بالذات ما يعبّر عنه بـ : (الفلسفة الإلهية) ، فكيف صحّ ـ بعد هذا ـ الفصل بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية ، مع أنّهما شيء واحد ، لا تعدُّد فيه ولا اختلاف ؟!

فلا قيمة إذن لِمَا أصرّ عليه جمع من الباحثين الأوربيّين ، واستحسنه آخرون من المسلمين ، من أنّ الدين يقابل الفلسفة ، وأنّهما معاً يقابلان العلم المعتمد على الحسّ والتجربة وأنّ النوع الإنساني قد مرّ في أربعة أطوار : طور الأساطير ، وطور الدين ، وطور الفلسفة ، وطور العلم .

ـــــــــــــ

(١) أُصول الكافي : ١ / ٣٨ ، الحديث ١٥ / ١٥ ، كتاب العقل والجهل بحار الأنوار ١ / ٨٥ ، باب ١ ـ فضل العقل وذمّ الجهل ، الحديث ٧ .

(٢) سورة يوسف : الآية ١٠٨ .

٢٥٤

لا قيمة لأقاويلهم ، فإنّهم أُناس قد استحوذت المادة على عقولهم ، واستأثرت الطبيعة بكلّ تفكيرهم ، فلم يرفعوا أنظارهم عن الأبحاث الماديّة ، ولم يخلعوا عن أنفسهم جلباب الطبيعة ، حتّى ولو سويعة واحدة ثمَّ حكموا من خلال المادة والطبيعة على ما ورائها ، ونفوا كلّ ما لم يتكرّر على حواسّهم ؛ فزعموا أنّ الدين تقليد في أمر منظوم ، وأنّ الفلسفة استدلال على أمر موهوم ، فلا في قضائهم عدلوا ولا في مزعمتهم أصابوا .

ودع عنك أيضاً ما نهج به جمع من الباحثين المسلمين من أنّ الدين يرفض الفلسفة ويبطلها ، ولا ينسجم معها ، وأنّ الموقف الديني هو غير الموقف الفلسفي ، وهدف هذا غير هدف ذاك ...

فهؤلاء يفسّرون الفلسفة على أنّها مجموعة منظّمة من أقاويل رجالٍ ، من يونانيّين وغير يونانيّين ، وفيهم الملحد والمتّقي ، والكافر والمؤمن ، ومنكر الصانع ومثبته ، والمخطئ والمصيب لا يراد من التعرّض بالبحث لهذه الأقاويل إلاّ التشبّه بهم ، ولا من التعلّق بها إلاّ تقليد الجمهور من مشاهيرهم .

ولو كانت الفلسفة هي التي فسّروا ، وحقيقتها هي التي ذكروا ، لكان الأجدر بها أن لا تكون ، ولكان الأحرى بكلّ مَن يحترم نفسه أن لا يتعرّض لها ، ولا يمارسها ، وأن ينكرها الدين ، ويتبرّأ منها ، براءة الذئب من دم يوسف .

ولكنّ الحقيقة هي ـ تماماً ـ خلاف ما زعموا وأمّا ما ذكروه ، فهو طريقة تتبع في بعض الصناعات ، التي طمئنّ فيها إلى إجماع الرجال وشهرتهم ، وتُستقرأ المذاهب فيها وتستقصى ليكون ذلك دليلاً على التلازم بين مسائل متشتّتة ، لا دليل لها إلاّ اتّفاق الباحثين عليها .

وأمّا الفلسفة ـ التي قدّمنا أنّها البحث الاستدلالي عن الحقائق ـ فإنّها لا تعتني بالرجال وأقاويلهم ، و بإجماع العلماء وشهرتهم ، ولا يجوز لها أبداً أن تعتني ؛ إذ كيف يصحّ الاكتفاء عن معرفة الحقّ الصريح وأعيان الأُمور ، بمعرفة ما قيل فيها وعنها ؟! وكيف يجدي في الحصول على سكون النفس واطمئنانها إلى الحقائق والواقعيات ، الالتجاء إلى آراء الناس ومذاهبهم فيها ؟َ

فدع عنك هذه الأقاويل ، وتيقّن أنّ الدين لا يدعو إلاّ إلى الفلسفة الإلهيّة ، وهي الحصول على المعارف الإلهية عن حجّة عقليّة .

٢٥٥

فلسفة الإسلام الإلهية ، أو كمال الفلسفة

استمرّت الفلسفة الإلهيّة في الاتّساع ، والقيام بعمليّة الجمع والربط بين مختلف المسائل والموضوعات التي تبحث عنها الفلسفة العامّة ـ على شدّة تفرّقها وتشتّتها ـ باللاهوت حتّى ظهر الإسلام ، وأخذ على عاتقه مهمّة تعليم وتثقيف البشريّة ، فسما بالفلسفة الإلهية إلى أوج كمالها ، وانتهى بها إلى غاية عظمتها .

ولعلّ البعض يحمل كلامنا هذا على نوع من المبالغة والغلوّ في حقّ هذا الدين القويم ، وأنّه إغراق لا مبرّر له في مدحه ، وأنّه إبراز له في حلّة مدلّسة لا قيمة لها إلاّ في سوق التخيّل الشعري ، الذي يبتعد كثيراً عن واقع القضية وحقيقة الأمر .

ولكنّنا بدورنا نقول لهؤلاء ـ بكلّ ثقة واعتزاز ـ : ما عليكم إلاّ أن تختبروا صحّة ما نقول ؛ وذلك بأن تقوموا بالدراسة والبحث والتمحيص لتعاليم الدين الإسلامي فإنّا لا نشكّ أنّ أي باحث منصف ، يحسن الورود والصدور ، لا يلبث أن يرى أنّ الدين الإسلامي في فلسفته الإلهية قد عمّم البحث ، إلى حدّ أنّه لا يشذّ عنه أي شيء في الوجود من الأشياء العينية ، سواء كان ذلك البحث في ذاتها أو صفاتها أو أفعالها ، (ومن تلك الأشياء الإنسان ، في جميع شئون وجوده) ويمضي الإسلام في طريقه هذا ، ولا يقف في بسط البحث اتّساعاً وشمولاً عند حدّ ، حتّى يربط كلّ شيء باللاهوت ، على نحو يليق بساحته تعالى ، ثمَّ يعود فينعطف إلى عالم الحياة الإنسانية ؛ ليعالج جميع شئونها الخُلقيّة والعمليّة فقد جعل المعارف الإلهية أساساً وقاعدة للأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة ، ثمَّ جعل الأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة أساساً للتشريع .

فمن تعاليم الإسلام [إذن] تنبثق الصفات الفاضلة ، وتتميّز بها عن الصفات الرذيلة ، فيدعو إلى تلك ، ويزجر عن هذه ثمَّ يجعل الصفات الفاضلة هذه أساساً لتشريع القوانين والأنظمة ، التي تنظّم أفعال الإنسان وسلوكه ، وتضمن له الحياة الفاضلة السعيدة بمعناها الشامل .

وبذلك يصير (التوحيد) وحده هو الأصل الحاكم في جميع شئون عالم الوجود بحسب تعاليم الإسلام ، حيث إنّ الإسلام يربط كلّ شيء ـ كما قلنا ـ باللاهوت ، ويُنهي كلّ شيء إليه في مختلف مجالات الحياة ، وجميع أحوالها وشئونها .

وهكذا يشاهد الباحث عن كثب ، أنّ كلّ قضيّة ـ علميّة كانت أو عمليّة ـ في الإسلام ، هي : (التوحيد) قد تلبّس بلباسها ، وظهر في زيّها ، وتنزّل في منزلها فبالتحليل ترجع كلّ مسألة وقضيّة إلى (التوحيد) ، وبالتركيب يصيران شيئاً واحداً ، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما .

٢٥٦

وهذا معنى ما قدّمناه من أنّ الإسلام قد انتهى بالفلسفة الإلهية إلى أوج كمالها المتصوّر ؛ إذ إنّ ما أتى به من شأنه أن يُسري حكم اللاهوت إلى كلّ علم وعمل ، و(ليس وراء عبادان قرية) .

وهذا في الحقيقة قوّة هائلة جهّز الله بها دينه القويم ، فبها أقام صرحه ، وشيّد بنيانه فإنّ العلم لا يحفظ ، ولا يتربّى ، ولا يتكامل إلاّ مع العمل ، فما لم يرتبط العلم بالعمل ، فلا مناص لبقائه ، ولا كافل لنمائه على أنّه قد تقرّر في الأبحاث النفسية أنّ الإنسان ـ وهو موجود فعّال ، بقاؤه وكماله مرهونان بفعله ـ بحسب صنعه وتكوينه ، قد صُنع وكوِّن بحيث يهتدي إلى أفعاله عن طريق شعوره بها ، وحاجته إليها ، فيشتاق إلى شيء فيريده ، ويكره شيئاً فيمسك عنه هذا بالنسبة إلى الجزئيّات المحسوسة ، ومنها ينطلق إلى التعميم والتوسعة لكلّ شيء ، وفي كلّ شيء يناله فهمه ، ويقع عليه إدراكه .

فالإنسان يسير ـ بحسب تكوينه وصنعه ـ إلى نيل ما يحتاج إليه في حركاته الجسميّة والروحية من العلوم والمعارف ، فلا حاجة للإنسان إلى ما لا تعلّق له في عمله ، ولا يرتبط به ، ولا يدركه إدراكاً تامّاً ، ولا يصفوا له علم شيء إذا فارق العمل ، وإلى ذلك يشير قول عليّعليه‌السلام :(العلم مقرون بالعمل : فمَن عَلِمَ عمِلَ ؛ ومَن عمل علِمَ والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه) (١) .

ويظهر ذلك بوضوح إذا قايسنا حال الفلسفة الإلهية ، التي ربّما يوجد شيء منها لدى الشعوب المتمدّنة اليوم ، بحالها في الإسلام حيث إنّ أُولئك ـ أعني الشعوب المتمدّنة ـ اليوم ، قد فصلوا بين الفلسفة الإلهيّة وبين الأعمال ، فاستقلّت القوانين العملية السائدة بينهم عن الدين استقلالاً تامّاً أمّا الإسلام ، فقد وضع قوانينه العملية على أساس الأخلاق المبنيّة على أصل التوحيد ومن هنا ، فإنّك ترى عياناً أنّ الفضلاء والمفكّرين من أُولئك ، لا يكادون يفقهون حتى المسائل البسيطة من الفلسفة الإلهيّة وأمّا المسلم الواعي المحترم لشئون دينه ، فإنّ لله عزّ اسمه نصيباً في قيامه وقعوده ، ونومه ويقظته ، وحياته وموته ، وظاهر شخصيّته وباطنها ، وهذه الإحاطة التامّة ، ومن أجل سراية التوحيد إلى جميع شئون الرجل الإلهي ، تسنّى له الوقوف في موقف التألّه ، وثبتت له قَدَم صدق في معرفة اللاهوت ، التي أحاط حكمها بكلّ

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٦٣ ، الحديث ١٠٨ / ٢ ، باب استعمال العلم ، بحار الأنوار : ٢ / ٤٠ ، الحديث ٧١ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ومثله ما ورد في نهج البلاغة : ٥٣٩ ، الحكمة ٣٦٦ ، حِكَم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومثله ما ورد في غرر الحِكم : ٤٥ ، الحديث ١٤٢ ـ ١٤٣ ، ثمرةَ العلم العمل به .

٢٥٧

شيء ؛ إذ لولا هذه الإحاطة ، ولولا سراية اللاهوت إلى جميع شئون الرجل الإلهي ، لم يتهيّأ له ذلك بديهة ؛ إذ كيف يتمّ الفصل والقضاء فيها مع عزل الأشياء عن حكمها ؟! وكيف عرف الله مَن أنكر أو أهمل سلطانه في شيء من مملكته ؟!

القضاء قضاءان : حقوقي وعلمي

ليس على القاضي في الحقوق إلاّ أن يعرف ماهيّة الموضوع الذي وقع فيه الشجار والخلاف ، وهي قضية جزئية حيّة ، من شأنها أن يتصوّرها كلّ مَن اطّلع على أطرافها وجوانبها ثمّ يقضي بما يتلائم مع القوانين الموضوعة والمتّبعة ، وليس عليه إلاّ أن يتّبع العدل في قضائه ، ولا يفرّق بين ما يراه وبين ما يقضي به وهو إنّما يقضي في أمر اعتباري وضعي ، ويتَّبع في قضائه جريان الأحداث في الخارج ..

وأمّا القاضي في مسألة علميّة ، فإنّه أشدّ محنة وأعظم بلاءً ، ولا سيّما إذا كانت تلك المسألة فلسفية ..

فمن جهة يجذبه الحسّ إلى المحسوسات الجزئيّة المتشخّصة في الخارج ، ولا يدعه يتوجّه إلى الكلّيات والأُمور الخارجة عن حومة المادة والطبيعة ، والتي لا تنفع فيها مقاييس المادة ، ولا تجدي معها الشواهد الطبيعية الجزئية ، بل وتعجز في التعبير عنها اللغات المبيِّنة للمقاصد ، والكاشفة عمّا في الضمائر ؛ حيث إنّ الألفاظ إنّما وضعت لتعبّر عن حوائج مادّية جزئية ، وليست إلاّ قوالب لها ، وإذا ما استعملت في الفلسفة ، فإنّما يكون ذلك بعد تجريدها عن غواشي المادة ، واستبعاد المشخّصات التي توجب جزئيّتها .

وعليه ، فكلّ مكان تستعمل فيه الألفاظ يكون معرضاً للخطأ والالتباس ، ومن ثمّ للزلل والخطل في المعارف التي تؤدّيها تلك الألفاظ وتُجعل قوالب لها .

ومن جهة ثانية تحرفه عواطفه الباطنة ، الداعية له إلى إتّباع الهوى ، فتصرفه عن الحقّ ، الذي هو بغيته ومنيته ، وتحوّل نظره عن هدفه الأسمى هذا إلى أغراض تافهة أُخرى ، تقرّبها منه وتزيّنها له ..

٢٥٨

ولهذا فإنّ من الطبيعي أن لا يصل إلى المعارف الحقيقيّة إلاّ أفراد قلائل قد تجرّدوا من جلباب المادة والطبيعة ، وأفلتوا من شراك الهوى ، وتخلّوا عن زبارج وبهارج هذا العرَض الأدنى وإن شئت فقُلْ : لا يصل إليها إلاّ مَن تبرّأ من سيّئات الأعمال ، وتنزّه عن رذائل المَلكات والأحوال ، ونذر نفسه ووجوده لله ، لا همّ له إلاّ الحقّ الصريح ، ولا ينشد إلاّ الواقع الأصيل والصحيح .

هذا وإنّ ثَمَّة مثالاً حيّاً تمثّلت به الفلسفة الإلهية ، التي نعنيها بالكلام المتقدّم ، هذا المثال هو الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الذي هو المثال الحقيقي البارز للفلسفة الإلهية ، والذي لا يخطئ المتمثِّل به ولا يضلّ ..

ومن أجل إدراك هذه الحقيقة ، فما على الباحث إلاّ أن يجيل نظره فيما يذكره التاريخ الصحيح ، ممّا يتعلّق بحياته الحافلة بالفضل والفخار ، وأيضاً الزاخرة بالمحن والبلاء في جنب الله عزّ اسمه ، ثمّ يقيس ـ لو جاز القياس ـ المأثور من كلامهعليه‌السلام في المعارف الإلهية ، بالمأثور من كلام غيره من صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيرهم من علماء التابعين ، ومَن دونهم ثمّ يتعمّق في البحث ، في غرر كلامه في الفلسفة الإلهية ؛ فإنّه سوف يجد ـ دون أدنى شكّ وشبهة ـ صدق ما ذكرنا ، وحقيقة ما إليه أشرنا .

فقد ولدعليه‌السلام قبل البعثة ، وكان أبوه شيخ بني هاشم ، أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم وأُمّه : فاطمة بنت أسد ثمّ تربّى في حجر النبوّة ولم يزل على ذلك حتّى بُعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكان أوّل مَن آمن به ، وهو لم يبلغ الحلم ، وقَبِل النبي ذلك منه أحسن القبول .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شرط لأوّل مَن آمن به الخلافةَ والوصاية في ملأ من قومه ثمّ لم يزلعليه‌السلام ملازماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازمة الظلّ لديه ، قبل الهجرة وبعدها ، إلى حين وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان هوعليه‌السلام آخر مَن فارق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فارقه حينما وضعه في ملحود قبره الشريف ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخصّه من خلوته وجلوته ، ومسارّته ومحاضرته ، بما لا يخصّ به أحداً سواه ..

٢٥٩

وكانعليه‌السلام أخطب العرب بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفصحهم ، كما أنّه كان أعلم الأُمّة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القائل :(علّمني رسول الله ألف باب من العلم ، ينفتح من كلّ باب ألف باب) (١) .

وكان أورع الناس ، وأزهدهم في دنياه ، وأرأف الناس نفساً بالضعفاء والأرامل والأيتام ، وأرقّ الناس للفقراء والمساكين ، وكان لا يختلف عنهم في حياته وزيّه ، حتى في أيّام حكمه وتسلّمه لزمان الخلافة الإسلامية العامّة ..

وهو الشجاع ذو النجدة ، الذي لا يذكر التاريخ مَن يعدله ويدانيه ، وبه وبسيفه قام عمود الدين ، كما أنّه كان أشدّ الناس في جنب الله ، لم يترفّع عن حقّ قطّ ، ولم يهو إلى باطل قطّ ..

وليس غرضنا هنا الثناء عليه ، وبيان فضائله ، فهو لعمري المقياس الذي يقاس به الفضل ، والميزان الذي توزن به الأعمال فإنّ البحث الفلسفي يتجنّب التعرّض لمدح الرجال أو قدحهم ، والثناء عليهم أو الإزراء بهم ، كما أنّنا ليس لنا غرض آخر من ذلك ، كالاحتجاج لمذهب معيّن أو غيره ..

ـــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة / ابن جرير الطبري : ١٠٥ ، ذكر معجزاته [الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ] ، ومثله ما في بحار الأنوار : ٢٦ / ٢٩ ، الحديث ٣٦ ، أبواب علومهم ، باب ١ ـ جهات علومهم الاختصاص : ٢٨٣ ، حديث في زيارة المؤمن لله الأمالي / الصدوق : ٧٣٢ ، الحديث ١٠٠٤ / ٦ ، المجلس الثاني والتسعون ، ولكنّ الثلاث الأخيرة وردت فيها كلمة (يفتح) بدل (ينفتح) ، فلاحظ .

٢٦٠