الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 50012
تحميل: 5565

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50012 / تحميل: 5565
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإنّما غرضنا من الإيماء إلى بعض صفاته ، وبعض شئون حياته ، هو أن نلفت نظر الباحث الحصيف إلى أن يقوم ببحث نفسي وأخلاقي في جوامع صفاتهعليه‌السلام ، ثمّ يقيس بعضها إلى بعض ، ويقارن بينها ؛ ليستنتج أنّه كانعليه‌السلام قد أُوتي الكمال الحقيقي في قواه الجسميّة والروحيّة ، كما أنّه أيضاً منح كلّ الكمال لنفسه ، القيِّمة على إدراك الحقائق والتحصيل المعارف فإنّ هذا في الحقيقة هو غاية ما تشترطه الفلسفة ، وبشكل خاصّ الفلسفة الإلهية فمَن يحاول أن يتناولها بالبحث والتمحيص ، ويتعرّف فيها على الحقائق ، وينال المعارف فإنّها لا تنشد إلاّ إنساناً يبلغها نظره ، ويَسَعُها صدره ، وتحرسها تقواه ، وينثرها بيانه فيما ينثر من تعاليم ..

وإنّ العجيب في أمر الإمام عليعليه‌السلام أنّه بلغ الغاية في مختلف جهات الفضائل الإنسانية ، فهو بحقّ الإمام في كلّ باب ، والمثال الحقّ في كلّ غاية كريمة على خلاف ما نجده من حال النوابغ ، وشخصيات الأفذاذ من رجال التاريخ .

إنّنا نجد الرجل إذا كان شجاعاً باسلاً ، شديد البأس ، رابط الجأش ، لا تزعزعه الأهوال ، ولا تروّعه مقارعة الأبطال ، نجده ـ عادة ـ قصير الباع في التدبير والتفكير ، قليل الحظّ من الرأفة والرقّة .

ونجد الرجل العابد المتزهّد المتورّع ، مغرقاً في الزهد والعبادة ، وعارفاً بسبل رياضة بدنه ، ومجاهدة نفسه ، ولكنّه قاصر في سياسة الدولة وإدارة الأُمّة ، لا يقوى على تمييز النصيحة من الخديعة ، ولا يلتفت إلى المكائد ولطائف الحيل وهكذا في مختلف الموارد وسائر الأفراد ، فإنّك لا تكاد تجد مَن يجمع أكثر الصفات والخصال الحميدة ، فضلاً عن كلّها وليس ذلك إلاّ لأنّ النفس الإنسانيّة تمتلك قدراً محدوداً من الهمّة ، فإذا اجتمعت الهمّة على أمر ، ضعفت بطبيعة الحال في سائر

٢٦١

الأُمور الأخرى ، وإذا وزّعها على مقاصد شتّى ، وقسّمتها بينها ، ضعف الجميع ، ولم يكن الوصول في الكلّ إلى درجة الكمال المطلوب ؛ إذ( مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (١) .

أمّا الإمامعليه‌السلام ، فلم تكن فضائله النفسيّة ناشئة عن تهذيب سبقه تروٍّ وتأمّل فكريّان ، ولم يسلّم أمره إلى هوى نفسه ، لتختار له الجهة التي عليه أن يصرف همّته فيها وإنّما أخذته جذبة إلهيّة ، أنْسَته غيره سبحانه ، وأزالت من نفسه كلّ المآرب البشريّة التي تشدّه إلى نفسه ، وتقرّبه منها ، ولم تُبق منها شيئاً ، وانتُزعت كلّ الشهوات الغريزيّة ، التي توجّهه نحو الملذّات الآنيّة ؛ فلا شيء بعد شدّه نحو نفسه ، ولا شيء أيضاً يزيّن له الشهوات والملذّات الدنيويّة ، بل كلّ همّه هو الحقّ ، والحقّ فقط ، فهو الغاية وإليه سوف تكون النهاية ..

ـــــــــــــ

(١) سورة الأحزاب : الآية ٤ .

٢٦٢

وهذا هو الذي جعلهعليه‌السلام يعطي كلّ موقف حقّه ، وهداه إلى الحقّ فالتزمه وكان معه ، حتّى عند اختلاف الدواعي والبواعث(١) ..

ـــــــــــــ

(١) قد ذكرنا في بحث قرآني في كتابنا : تفسير الميزان : ١/ ٣٥١ ـ ٣٥٧ ، تفسير الآية ١٥٥ و١٥٦ سورة البقرة ، بتصرّف أنّ طرق الأخلاق المشروعة ثلاث :

الأوّل : طريق الحكماء الباحثين في الأخلاق ، ويتلخّص هذا الطريق : بتشخيص الأخلاق الفاضلة وتمييزها عن غيرها ، بواسطة ما هو شائع عند العقلاء تحسيناً وتقبيحاً أي أنّهم يستدلّون على الأخلاق الفاضلة بمدح العقلاء وثنائهم على المتخلّق بها ، وعلى الأخلاق الذميمة بذمّهم وزرايتهم عليه فإذا عرف الإنسان الأخلاق الفاضلة من غيرها بواسطة ذلك الميزان ـ وهو تحسين العقلاء وتقبيحهم ـ فما عليه إلاّ أن يتخلّق بالفاضلة منها ؛ إيثاراً للحسن العامّ الشائع والثناء الجليل ..

فالحكيم الباحث في الأخلاق يقول : الشجاعة والعفّة والصدق ـ مثلاً ـ أُمور يستحسنها العقل ، ويمدحها النّاس ، فعلى الإنسان العاقل ـ إذن ـ أن يتخلّق بها إيثاراً للحسن والكذب والنميمة والخيانة ـ مثلاً ـ يقبّحها العقل ، ويذمّها النّاس ، فعلى العاقل ـ إذن ـ أن يتجنّبها ويبتعد عنها .

الثاني : طريق الأنبياء : وهو الاستدلال على الأخلاق الفاضلة برضى الله سبحانه ، وعلى الأخلاق الرذيلة بسخطه وعقابه فرضى الله وسخطه هي المقياس للأخلاق الفاضلة والرذيلة فعلى الإنسان أن يؤثر منها ما يهدي إلى الجنّة ، ويحترز ممّا يؤدّي منها به إلى النار .

الثالث : الطريق الذي اختصّ به الإسلام ، وهو الاستدلال على الأخلاق الفاضلة بنور التوحيد الخالص ، فإنّ الإنسان إذا علم أنّ الوجود الحقّ هو الله سبحانه ، علم أنّه هو الربّ المالك لِمَا عند غيره من الوجود وآثار الوجود ، من دون أن يملك غيرُه شيئاً ، من ضرٍّ أو نفع ، أو موت أو حياة أو نشور وإذا علم ذلك وتيقّنه ، فلسوف لا يريد حينئذٍ إلاّ ما أراده الله ، ولا يكره إلاّ ما كره الله ؛ حيث إنّه يرى أنّ نفسه لا تملك شيئاً ، حتّى يشغل نفسه بعجب أو مرح أو حزن ، أو غير ذلك من مشتهيات النفوس ولا يرى أيضاً لغيره تعالى أثراً أو خطراً في هذا الوجود ، فلا أحد يملك له نفعاً ليرجوه ويطمع فيما عنده ، أو يدفعه لأن يذلّ له بغير حقّ ، أو أن يبغي عليه بغير الحقّ كما أنّه لا أحد يملك له ضراً لِيَخافه على نفسه فيذلّ له ، أو يبطل حقّاً ويحقّ باطلاً من أجله وعلى هذا القياس ..

فالتوحيد الخالص يعالج الداء ، وبه ومنه يكون الشفاء ، من غير حاجة إلى ما تقدّم في الطريقين السابقين من وسائط ووسائل .

والفرق بين الطريقين المتقدّمين يدفعان الداء ، بمعنى أنّهما يعالجانه بضدّه ، نظير العلاج الجسماني أمّا طريق الإسلام ، فإنّه يرتفع معه موضوع الرذيلة من أصله ، لا أنّها تكون موجودة ثمّ تدفع عن هذا الفرد أو ذاك (منه قُدِّس سِرُّه) .

٢٦٣

وهذا يتّضح لنا تماماً إذا راجعنا ما بأيدنا من سيرته وحياته ، كما أنّه يلوح ، بل يتّضح ، من أطراف ما بين أيدينا من كلامهعليه‌السلام ، فهو القائل : (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله) (١) ، والقائل :(لو كشفت الغطاء ما ازددت يقيناً) (٢) وهاتان الكلمتان من حيث

ـــــــــــــ

(١) شرح الأسماء الحسنى / الملاّ هادي السبزواري : ١ / ٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٠ / ١٥٣ ، باب ٩٣ ـ علمه ، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّمه ألف باب ، وأنّه كان محدّثاً ، الحديث ٥٤ غرر الحكم : ١١٩ ، الباب الخامس في الإمامة ، الفصل الثاني في عليعليه‌السلام ، فضائله ، الحديث ٢٠٨٦ .

٢٦٤

معناهما الفلسفي من أروع الكلام وأجمعه ، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تلوموا عليّاً فإنّه ممسوح في الله) (١) ، وقال أيضاً :(عَليٌّ مع الحقِّ ، والحقُّ مع عليٍّ) (٢) ، ونحن في غنى عن بيان أنّ هذا الوصف ـ أعني كون إنسان مع الحقّ والحقّ معه ـ إذا حصل عليه الإنسان ، كان خير وسيلة وأجّاها في وصوله إلى المعارف الحقيقيّة ، وحصوله على الفلسفة الإلهيّة .

ـــــــــــــ

(١) ورد الحديث : (لا تسبّوا عليّاً ؛ فإنّه كان ممسوحاً في ذات الله) انظر : ينابيع المودّة / القندوزي : ٢ / ٨٤ ، الحديث ١٤٥ .

وورد : (إنّه ممسوس) كما في كنز العمّال / المتّقي الهندي : ١١ / ٦٢١ ، الحديث ٣٣٠١٧ المعجم الأوسط / الطبراني : ٩ / ١٤٢ المعجم الكبير أيضاً : ٩ / ١٤٨ المناقب / ابن شهرآشوب : ٣ / ٢١ ، فصل في ظالميه ومقاتليه ، في سبّهم إيّاه (صلوات الله عليه) .

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب : ٣ / ٢٥٦ ، باب النكت واللطائف ، فصل في مساواته مع داود وطالوت وسليمانعليهم‌السلام . الفصول المختارة / المفيد : ٢ / ٣٣٩ .

٢٦٥

قياس المأثور من كلامهعليه‌السلام بكلام غيره

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصر سمّاه القرآن : ( عصر الجاهليّة) ، وما أحراه بهذا الاسم ! وكان عامّة العرب آنذاك أُميّيّن ، لا يقرءون ولا يكتبون ، ولم يكن فيهم أثر للعلم والثقافة ، وليس لديهم شيء من سنن المدنيّة ، بل كانت حياتهم حياة فوضى وهمجيّة ، يرتزقون من قطع الطرق ، وشنّ الغارات ، وينشدون الأشعار في المباهاة بسفك الدماء ، وهتك الحرمات ، والمفاخرة بآبائهم وأسلافهم وقد أثبتت البحوث والدراسات في (الأخلاق الإنسانية وأسبابها) ، أنّ الأُمّة التي هذه حالها ، وعلى ذلك جرت سنّتها ، تكون مرتعاً خصباً للعصبيّة الجاهليّة العمياء ، التي هي السمّ الناقع للفلسفة الإلهية ؛ فإنّ العصبية تذهب باستعداد النفس الإنسانيّة لتقبّل الحقّ ، ولا تبقي من ذلك الاستعداد شيئاً. ومن الصعب جدّاً أن يتهيّأ لأُمّة هذا حالها ظرف صالح ، يخرج تلك الأُمّة من ظلم الجهالة ، وينفي عنها رذائل الأعمال المهلكة ، ويعوّضها عنها :

أوّلاً : بالأعمال الصالحة ، ويلهمها .

ثانياً : الحكمة والموعظة الحسنة ، ثمّ ينتهي الأمر بها .

ثالثاً : إلى الفلسفة الإلهية ، وعند ذلك يتمّ الكمال الإنساني ، وتلتقي سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وإلى ربّك المنتهى ..

وإذا تتبّع الباحث الناقد ما وصل إلينا من أخبار ، تفصّل لنا أحوال صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحكي أقوالهم يرى هذه الحقيقة التي أشرنا إليها رأي العين ، فإنّ أغلب هذا الأخبار قد تضمّنت عرضاً لأعمالهم الصالحة ، التي يلوح منها اتّباعهم للسنّة النبويّة ، أو متضمّن أحداثاً ترتبط بالدعوة الدينيّة وشؤونها ، وقليل من هذا الأخبار ما يشتمل على الحكمة والموعظة الحسنة وتعاليم الدين وأمّا الذي يشير منها إلى معارف حقيقيّة ، ويرمز إلى فلسفة إلهيّة ، تأخذ الألباب ، وتشدّ القلوب ، وتربطها بسرادق العزّة والكبرياء ، وساحة العزّة والبهاء ، أمّا هذا النمط منها ، فهو أشدّ وأندر ، بل لعلّ الحديث الذي يتعرّض لذلك ـ رغم أنّه غريب في محتواه ومضمونه ـ لا يتجاوز عدد أصابع اليدين ، أو حتّى لا يبلغه وليس فيما ورثناه منهم من الكلام في المعارف ، إلاّ أخبار التجسيم والتشبيه أو التنزيه ، وبعض الأخبار المشتملة على معارف ساذجة وبسيطة ، ومعانٍ عادية ومبتذلة مع أنّ عدد مَن تُرجم له من الصحابة يبلغ الاثني عشر ألف نسمة ولم تأل الأُمّة جهداً في النقل عنهم ، وإحصاء أقوالهم ورواياتهم ..

٢٦٦

لكنّنا نجد كلام الإمام علي بن أبي طالب (عليه أفضل السلام) الذي كان يفيض بالمعارف الحقيقية ، وتحار فيه النفس الوالهة الخائضة في الفلسفة الإلهية ، نجد كلامهعليه‌السلام يلتقي معه الفكر الإنساني ، ويرتقي معه إلى أن يصل الفكر إلى أوج مرتقاه ، حتّى إذا كلَّ ووقف كان كلامهعليه‌السلام السائر وحده في مراقي الحقائق ، لا يشقّ له غبار ، ولا تناله الأوهام ولا الأفكار ..

ولسنا نعني بذلك توحّد كلامه في بلاغته ، أو تفرّده في حلاوته ، أو غير ذلك ، فإنّ ذلك وإن كان حقّاً إلاّ أنّه خارج عمّا نحن بصدده وإنّما نعني كلامه الذي يزخر بالمعارف الحقيقية ، والفلسفة الإلهية نلفت نظر الباحث المتعمّق في الفلسفة الإلهية ، الخائض في معرفة اللاهوت (ونوجّه الكلام إليه) إلى نظير قولهعليه‌السلام في بعض كلامه ـ وكم له في كلامه من نظير ـ :

(فَمَنْ وَصَفَ الهَ سُبْحانَهُ فَقَدْ قَرَنَه ، ومَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، وَمَنْ جَزَّأُهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، ومَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ) (١)

وقولهعليه‌السلام :(كُلُّ مُسمّىً بِالوَحْدَةِ غَيْرَهُ ، قَلِيلٌ ، وَكُلُّ عَزيز غَيْرَهُ ذَلِيلٌ ، وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ ، وَكُلٌّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ ، وكُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ) .

إلى أن قال :(وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ بَاطِنٌ ، وَكُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ) (٢) .

وقوله في صفة العالم العلوي :(صور عارية عن المراد ، خالية عن القوّة والاستعداد) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٣٩ ، الخطبة الأُولى : يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدم بحار الأنوار: ٤ / ٢٤٧ ، الحديث ٥ ، باب ٤ ـ جوامع التوحيد .

(٢) نهج البلاغة : ٩٦ ، الخطبة ٦٥ ـ وفيها مباحث لطيفة من العلم الإلهي بحار الأنوار : ٧٤ / ٣٠٦ ، باب ١٤ ـ خطبه (صلوات الله عليه) المعروفة ، الحديث ٩ .

(٣) ورد الحديث : (صور عارية عن المواد ، عالية عن القوّة والاستعداد) ، كما في غرر الحكم : ٢٣١ ، الحديث ٤٦٢٢ ، الفصل الأوّل في النفس ، شرافة النفس المناقب / ابن شهرآشوب : ٢ / ٤٩ ، باب درجات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فصل في المسابقة بالعلم .

ورد أيضاً : (صور عارية من المواد ، عالية عن القوّة والاستعداد) . انظر : بحار الأنوار : ٤ / ١٦٥ ، تتمّة كتاب تاريخ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أبواب كرائم خصاله ومحاسن أخلاقه ، الباب ٩٣ ـ علمهعليه‌السلام ، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّمه ألف باب ، وأنّه كان محدّثاً .

٢٦٧

فليتأمّل الباحث في الفلسفة الإلهيّة في سلوكه الفنّي ، وهو ينضّد مسائل التوحيد ، ويرتّب بعضها على بعض . وليتأمّل أيضاً في سيره على طريق البرهان الساطع ، وهو يأخذ بمجامع المواد في كلّ برهان يقيمه ، وحجّة يحتجّ بها ثمّ في دقّة ما كشف عنه من غوامض مسائل اللاهوت ، وبعد مرماه فيها ..

وتفرُّدُ كلامه في هذا المضمار ، وسموّه إلى المنزلة التي يقصر عن الاطّلاع عليها كثير من الأفهام ، دعا بعض المتعصّبين إلى إنكار صدوره كلّه ، أو أكثره منهعليه‌السلام أو دعا بعض المحدِّثين إلى أن يتمجمج في بعض كلامهعليه‌السلام قائلاً : إنّه لا يشبه كلامه ..

مع أنّ المنقول من كلامهعليه‌السلام ذو سياق واحد ، منسجم كلّ الانسجام ، مترابط كلّ الترابط ، يلتوي بعض أطرافه على البعض الآخر ، ويصدِّق بعض أجزائه البعض الآخر كما أنّ أكثر كلامهعليه‌السلام مرويّ مسند ، مودع في كتب التاريخ وجوامع الحديث .

يضاف إلى ذلك أنّ كلامهعليه‌السلام لا يشبهه شيء من كلام غيره ، فها نحن بين أيدينا الشيء الكثير من كلام غيره ، من مختلف الطبقات الفاضلة في هذه الأُمّة ، كالصحابة وكبار التابعين والمتكلّمين والحكماء والعرفاء والأُدباء والعادة قاضية بأنّ مَن يقدر أن يضع مثل هذا الكلام الزاخر بالعلم والحكمة والثقافة ، المهيمن على سائر الكلام ، وينسبه إلى رجل ليرفع به قدره ، ويشهر أمره ـ العادة قاضية ـ بأن يصدر منه في مختلف أحواله ، وجاري أيّامه ، ما يماثل ذلك الكلام الذي صنعه ونسبه إلى غيره مع أنّ مثل هذا الكلام لم يُنسب ، ولا أُثر عن أحد من هذه الأُمّة على الإطلاق على أنّ مَن يستطيع أن يصنع مثل هذا الكلام ، والذي له هذه القَدَم الثابتة في العلم بالله وآياته ، كيف تطاوعه نفسه أن يحلّى بمثل هذا الكلام غيره ويعطّل نفسه ، بحيث يبقى هو مهملاً ، وفي زوايا الخمول ، إلاّ أن يكون مصاباً في عقله ، والمصاب في عقله عن صنع مثل هذا الكلام ووضعه أعجز ، وعن الورود في شرعة هذه الفلسفة المتعالية أبعد .

٢٦٨

على أنّ في كلامهعليه‌السلام جملاً وفصولاً لم تكن العلوم الاستدلاليّة التي كانت دائرة بين السلف من علماء المسلمين ، من متكلّميهم وفلاسفتهم وغيرهم ، قادرة على تفسيرها وتوجيهها ، إلاّ بضروب من التأويل واللفّ والدوران ، إلى أن تمكّن العلماء في العصور الأخيرة من حلّ عُقَد عدّة من المسائل الحقيقيّة وكشف القناع عن كثير منها وذلك ككلامهعليه‌السلام في أنّ كمال التوحيد نفي الصفات(١) ، وأنّ الله لا يحيط به عقل ، وأنّ الله ليس بواحد بالعدد ، وأنّ الله هو الدليل على نفسه ، لا يُعرف بغيره ، وكلّ ما سواه معروف به وغير ذلك .

وإذا كان الأمر كذلك ، فمَن هو الذي يُتوقّع منه ، أو يؤمَّل فيه ، من قدّماء الباحثين أو الرواة في صدر الإسلام ، أن يكون محيطاً بعامّة الحقائق ، ومدركاً لها بهذا العمق ، يودّعها في أوجز كلام ، ثمّ ينسبها إليهعليه‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) راجع ما تقدّم في : الصفحة ٣٠٠ ، الهامش ١ .

٢٦٩

نماذج من كلامهعليه‌السلام في الفلسفة الإلهيّة

إنّ الباحثين في الفلسفة العامّة ، والفلسفة الإلهيّة بالخصوص ـ وأُوجّه كلامي إليهم ـ يعلمون أكثر من أي شخص آخر أنّ البحث الفلسفي لا يتيسّر إلاّ بالاستنتاج من البراهين المحضة وهذه البراهين عبارة عن تأليف خاصّ بين مقدّمات بديهيّة وقضايا ضروريّة ، يضطرّ الإنسان إلى التصديق بها اضطراراً مطلقاً ، أو مقدّمات نظريّة مستنتجة من البديهيّة ومنتهية إليها .

فالباحثون ـ على هذا ـ يعلمون أنّ البحث الصحيح عن مواد المسائل في هذا الفن ، إنّما يؤتي ثماره عندما يتجرّد الإنسان عن جميع معلوماته التي اكتسبها عن طريق التقليد ، وسائر الأبواب الاتّفاقية والتي تترك بها آثاراً في الإنسان ، وينفعل معها بما يلائمها من أنواع الانفعالات ، من عادةٍ أو تخيّل أو أي عاطفة من سائر عواطفه الكامنة فيه .

نعم ، إنّ على الإنسان أن يتجرّد من ذلك كلّه ويلقيه جانباً ، بمحض توجّهه نحو البديهيّات والتصديقات التي لا يمكن لأيّ شيء آخر أن يصرف نفسه عنها إذا توجّهت إليها ، وليستنتج منها ـ من ثَمّ ـ أوّل معلوم نظري مكتسب ، ثمّ ينتقل منه إلى الذي قبله ، ثمّ إلى الأقدام فالأقدم ، وهكذا حتّى يبلغ ما هو بالغه من حقائق المعارف .

هذا النوع من الدراسة والبحث لا يؤتي ثماره إلاّ بالتزام بالترتيب والتدرّج في السير العلمي ، من السابق رتبة إلى لاحقه ولا يستقيم البحث إلاّ على هذا النحو ، وإلاّ عاد البحث البرهاني بحثاً جدليّاً ، مبنيّاً على التسليم لأُمور مسلّمة من الفرضيّات والأُصول الموضوعة .

هذا ، ولا يسعنا في هذا المختصر أن نستوفي تفسير ما سوف نورده من نماذج كلامهعليه‌السلام ، ولا أن نعطيه حقّه من الدراسة والبحث الفلسفي ، الذي لا بدّ فيه من استفراغ الوسع ومزيد من الجهد ؛ فإنّ كلامهعليه‌السلام زاخر بالمقاصد الفلسفيّة الدقيقة وحقائق المعارف الإلهيّة السامية غير أنّنا سوف نشير بعض الإشارة ـ في ضمن ما يأتي ـ إلى مكانة المسألة التي يتعرّض لها في كلامهعليه‌السلام ، وموقعها من الأنظار الفلسفيّة(١) ، حتّى يراجعه المراجع إن شاء ، ثمّ يقيس مستوى كلامهعليه‌السلام بمستوى كلام غيره ..

ـــــــــــــ

(١) وهذا غاية ما يمكن القيام به في مجال تفسير كلا أحد رجالات العلم من خلال ترجمته .

٢٧٠

أُسلوب التحقيق العلمي ، وطريق السير إلى الحقيقة

من كلامهعليه‌السلام :(رأس الحكمة لزوم الحقّ) (١) .

وفي هذا المعنى قولهعليه‌السلام : (عليكم بموجبات الحقّ فالزموها ، وإيّاكم ومحالات الترَّهات) (٢) .

فيشيرعليه‌السلام بذلك إلى طريقة البحث العلمي عن الحقائق ، والطريق الذي من شأنه أن يوصل إليها فقرّرعليه‌السلام أنّ ذلك الطريق هو البرهان ، والدليل الذي لا يعبأ معه باتّفاق الرجال على قول ، أو كونه مسلّماً لدى العظماء منهم ، أو مشهوراً بينهم فالحقّ حقّ أنكره النّاس أو عرفوه ، والباطل باطل قبله النّاس أو رفضوه .

ومن لطيف البيان في هذا الباب ، قول السابع من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في وصيّة منه لهشام :

(يا هشام ، لو كان في يدك جوزة ، وقال الناس : لؤلؤة ، ما كان ينفعك وأنت تعلم

ـــــــــــــ

(١) غرر الحكم : ٥٩ ، الحديث ٦٣١ ، وكذلك الحديث ٦٣٢ ، ولكن بزيادة : (وطاعة المحقّ) ، الفصل السادس في الحكمة ، علائم الحكيم .

(٢) المصدر المتقدّم : ٦٩ ، الحديث ٩٦٨ ، الفصل الرابع عشر : في الحقّ والباطل / في العمل بالحقّ .

٢٧١

أنَّها جوزة ولو كان في يدك لؤلؤة ، وقال الناس : إنّها جوزة ، ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة) (١) الحديث .

ومن كلامهعليه‌السلام الذي يرتبط بما نحن فيه ، ما شاع عنه مرسلاً : (لا تنظر إلى مَن قال ، وانظر إلى ما قيل) (٢) وقولهعليه‌السلام :(لا علم كالتفكير) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٨٣ ، وصيّتهعليه‌السلام [الإمام الكاظمعليه‌السلام ] لهشام ، وصفته للعقل .

(٢) غرر الحكم : ٤٣٨ ، الحديث ١٠٠٣٧ ، الباب الثالث : في المصاحبة والعاشرة ، الفصل السادس : مواعظ في المعاشرة ، ولكن ورد : (وانظر إلى ما قال) ، شرح مئة كلمة / ابن ميثم البحراني : ٦٨ ، الكلمة العاشرة ، وورد أيضاً : (وانظر إلى ما قال) .

(٣) نهج البلاغة : ٤٨٨ ، الحديث ١١٣ ، حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولكن ورد فيها : (كالتَّفكُّر) .

بحار الأنوار : ١ / ١٧٩ ، الحديث ٦٣ ، باب ١ ـ فرض العلم ووجوب طلبه ، وورد أيضاً : (كالتَّفكُّر) .

٢٧٢

المراحل الخمس لمعرفة الله تعالى

ومن كلامهعليه‌السلام :

(أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخْلاصُ لَهُ ، وكَمَالُ الإخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ ؛ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ ، ومَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، ومَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، ومَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، ومَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ ، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ، ومَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ) (١) .

هذا بيان واف لمراتب معرفة الله وبالتعبير الاصطلاحي : شرح لمراتب التفكير الباحث في الفلسفة الإلهيّة ، من حيث سذاجته إلى أن ينتهي الأمر إلى عمقه ودقّته ، كما هو الحال في كلّ ما يتناوله الإنسان في دراساته العلميّة ، حيث بدأ بالسهل الساذج ثمّ يتدرّج في مراتب الدقة والإتقان ، في حدود طاقاته الفكريّة والعقليّة .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : شطر من الخطبة الأُولى : ٣٩ ، يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدمعليه‌السلام .

٢٧٣

ومراتب معرفة الله تعالى على ما بيّنه الإمامعليه‌السلام خمس :

الأُولى : معرفة الله والإقرار بإلوهيته ، وهي : الاعتقاد النظري بأنّ للعالم إلهاً والاعتقاد النظري هذا يشترك فيه المشرك والموحّد ، كالوثنيّة والثنوية وأهل الكتاب والمسلمين .

وكذلك يدخل مع هؤلاء كلّ مَن اعترف بالإله ، وأذعن بوجوده وصدّق به وخضع له ، أو اقتصر على مجرّد العلم النظري ، مع تكبّره واستنكافه عن عبادته تعالى فمرادهعليه‌السلام من (الدين) في قوله :(أوَّل الدين معرفته) ، مطلق الدين المقابل للزندقة والإلحاد .

الثانية : التصديق به ، والتصديق هذا هو الذي يوجب خضوع الإنسان له في عبوديّته ، وبهذا التصديق يرسخ الاعتقاد ويثبت ؛ ولذلك كان هذا التصديق كمال المعرفة .

ومن كلامهعليه‌السلام في هذا الباب أيضاً قوله :(لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكّاً إذا علمتم فاعملوا ، وإذا تيقّنتم فأقدموا) (١) .

وقوله : (العلم مقرون بالعمل) (٢) ، وبذلك ـ أي بالعمل ـ يمتاز الموحّد المتعبّد عن الملحد المتكبّر.

الثالثة : توحيده تعالى ، هو : إثبات أنّه تعالى واحد لا شريك له ؛ وبذلك يمتاز دين التوحيد عن أديان الشرك التي تثبت مع الله آلهة أُخرى (تعالى الله عن ذلك) والتوحيد هو كمال التصديق كما قالعليه‌السلام :(وكمال معرفته التصديق به) .

الرابعة : الإخلاص له تعالى بالإعراض عمّا سواه علماً وعملاً ، وقصر الوجود الحقّ وحصره فيه تعالى ، وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل .

وإذا كان ذلك ، انتفى عنه تعالى كلّ حدّ واقع أو متوهّم أو مفروض ، فيكون واحداً بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ؛ إذ لا يمكن حتّى فرض شريك أو شركاء له ، فإنّ ذلك (فرض محال ، لا فرض المحال) وقد تكرّر في كلامهعليه‌السلام أنّه تعالى واحد لا بالوحدة العدديّة ، التي تقتضي أنّه لو فرض من نسخه آخر صار اثنين ، بل وحدته بحيث لو فرض معها ثانٍ ، لم يحصل التعدّد ، بل كان هذا المفروض الثاني عين ذلك المفروض الأوّل .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٥٢٤ ، الحكمة ٢٧٤ ، حِكم أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٢) قد أشرنا إلى مصدر هذا الحديث فيما سلف ، فراجع الصفحة ٢٨٩ من هذا الكتاب .

٢٧٤

توضيح ذلك : أنّ فرض الإله تعالى يستلزم ـ بحكم العقل ـ فرض وجوده على أي تقدير مفروض فلو فرض هو ولا شيء معه ، كان حقّاً متوحّداً ثابت الوجود ولو فرض ومعه شيء ، كان أيضاً ثابت الوجود ولو فرض غيره فقط ، ولا شيء مفروضاً معه ، كان تعالى أيضاً ثابت الوجود ، وهو ظاهر واضح .

الله تعالى حقّ ثابت على أي تقدير مفروض ، وما كان هذا شأنه لم يكن لوجوده الحقّ قيدٌ أو شرط كيفما فرض ؛ وإلاّ لم يكن ثابت الوجود مع زوال ذلك الحدّ ، وارتفاع ذلك القيد أو الشرط فوجوده تعالى محض الثبوت الحقّ الذي ليس معه حدّ من الحدود العقليّة والوهميّة والخارجيّة ، فهو حقّ غير محدود ، وكلّ ما سواه من الأشياء فهو محدود لا محالة ، وإلاّ لكان موجوداً على أي تقدير كان ، وهذا معناه أنّه واجب الوجود بالذات .

وإذا كان تعالى هو محض الحقّ الذي لا حدّ لوجوده ، ولا نهاية لذاته ، لم يكن للعقل أن يفرض من سنخه موجوداً آخر ، يكون هو الثاني لذلك الأوّل ؛ إذ إنّ (حرف الشيء) لا يتكرّر .

وهذا سنخ من الواحد غير الواحد العددي الذي للعقل أن يفرض معه آخر(١)

(وإن لم يكن في الخارج) فيصير اثنين وهكذا .

وهذا هو الذي يرمي إليهعليه‌السلام في قوله :(وكمال توحيده الإخلاص له) ، وقد بيّنهعليه‌السلام بياناً برهانيّاً في آخر كلامه .

ـــــــــــــ

(١) ونظير ذلك ما رواه المجلسيرحمه‌الله في بحار الأنوار (عن التوحيد) : ٣ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، كتاب التوحيد ، باب ٦ ـ التوحيد ونفي الشريك ، ومعنى الواحد والأحد ، من أنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتقول : إنّ الله واحد ؟ فحمل النّاس عليه ، وقالوا : يا أعرابي ، أمَا ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين : (دعوه ، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم) .

ثمَّ قال : (يا أعرابي ، إن القول في أنّ الله واحد ، على أربعة أقسام : فوجهان لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه :

فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أمَا ترى أنّه كفر مَن قال : إنّه ثالث ثلاثة .

وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجو عليه ؛ لأنّه تشبيه ، وجلّ ربُّنا عن ذلك وتعالى وأمّا الوجهان اللَّذان يثبتان فيه :

فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربُّنا .

وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديُّ المعنى ، يُعنى به : أنّه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وهمٍ ، كذلك ربُّنا عزّ وجلّ) .

انظر التوحيد : ٨١ ، باب معنى الواحد والتوحيد والمُوحّد ، الحديث ٣ .

٢٧٥

وبعد هذا تأتيالمرتبة الخامسة : فإنّه تعالى إذا كان حقّاً على الإطلاق ، ووجوده غير محدود ، فلا يمكن للمفاهيم الذهنيّة أن تحيط به ، ولا أن تنطبق عليه تعالى حقّ الانطباق ؛ لأنّ المفاهيم محدودة في أنفسها ، ولذا ترى أنّ مفهوم العلم يمتاز عن مفهوم القدرة ، وليس في أحدهما أي شيء ، بل أي خبر ، عن الآخر ومفهوم القدرة لا ينطبق على مفهوم الحياة ، ومفهوم الحياة منفصل عن مفهوم العلم ، فكلّ مفهوم لا يسع إلاّ لنفسه ، وليس فيه من المفاهيم الأُخرى أي أثر أو خبر وكذلك ليس في المفاهيم الأُخرى عنه أي خبراً أو أثر (وإن كان ربّما تتّحد مصاديق هذا المفهوم وتتطابق مع مصاديق المفهوم الآخر ، لكنّ الكلام ليس في المصاديق) .

وإذا كان الإله سبحانه ـ على كلّ تقدير ـ غير محدود بحدّ موجود ، وهو حقّ على الإطلاق ، فإنّ المفاهيم الذهنيّة التي يصف العقل بها كل ما أراد أن يَعْرِفَه أو يعرِّفه ، لا تستطيع أن تتناوله فتحيط به ، وتنطبق عليه وهكذا نرى أنّ التعمّق في معنى الإخلاص قد أدّى إلى نفي الصفات عنه تعالى ، فيصحّ ـ إذن ـ أن يقال : إنّ نفي الصفات عنه تعالى هو كمال الإخلاص له وهي المرتبة الخامسة ـ كما قلنا ـ من معرفة الله تعالى ، وقد عناهاعليه‌السلام بقوله :(وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة) (١) .

فهو تعالى ـ كما ورد ـ له الأسماء الحسنى والأمثال العليا ولو لم يكن تعالى يملكها ، لم يمكن أن يجود بها على مَن سواه ، ولم يملكها غيره ، لكنّه أجلُّ من أن يناله إدراك غيره بوصف أو أن يحيط به نعت ، فكلّ مَن وصفه بوصف قد جهله فعند هذا الإخلاص يدرك العقل النظري قصوره وعجزه عن إدراكه تعالى والإحاطة به ؛ فإنّ وسيلة العقل الوحيدة إلى توصيف الأشياء هي المفاهيم والمعاني الذهنيّة ، وقد قدّمنا أنّها ـ أي المفاهيم ـ متمايزة بحسب ذواتها ، منفصل بعضها عن البعض الآخر ، ومن لوازمها المحدوديّة فالعقل عندما يسبغ عليه تعالى وصفاً ما ، فإنّه بنفس حكمه بالاتّحاد بينهما ، يحكم ـ من جهة التوصيف والإثبات ـ بنحو من المغايرة بينهما ، فإذا وصفه فقد قرنه بالوصف ، ولا يتمّ قرنه به إلاّ بالتثنية ، ولا تتمّ التثنية إلاّ بالتجزئة ، ولا تتمّ التجزئة إلاّ بإشارة عقليّة إلى هذا وذاك ، ولا تتمّ الإشارة إلاّ بضرب حدٍّ فاصلٍ بينهما ، يمتاز به أحدهما من الآخر ، ولا يتمّ التحديد إلاّ بعروض الوحدة العددية ، وانتفاء التوحيد الحقّ .

ـــــــــــــ

(١) فمرادهعليه‌السلام بيان أنّ مفاهيم الصفات لا تنطبق عليه تعالى على نحو الحقيقة وأمّا مصاديق المفاهيم ، فهي تشهد أنّها هي الموصوفات وبالعكس .

٢٧٦

وعند ذلك يتحيّر العقل في قضائه ، ولا يجد مناصاً من أنّ يجلّه تعالى عن التوصيف ، وينفي عنه ثانياً ما وصفه به أوّلاً ، بل وينفي حتماً هذا النفي ، الذي هو توصيف بنحوٍ .

وهذا هو الذي أشار إليهعليه‌السلام بقوله قبل هذا الكلام :(الذي لا يُدركه بُعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حدٌّ محدودٌ ، ولا نعتٌ موجودٌ ، ولا وقتٌ معدودٌ ، ولا أجلٌ ممدودٌ) (١) .

ومن أجمل وألطف كلامه في هذا الباب قوله الآتي نقله :(لا يُشمل بحدٍّ ، ولا يُحسب بعدٍّ ، وإنّما تحدُّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلات إلى نظائرها) (٢) .

فمثل العقل بالنسبة إلى معرفة الله سبحانه ، كمثل الإنسان يغترف ماء البحر بكفّه ، فالكفّ في اغترافها لا تريد إلاّ الماء من غير أن تحدّه بحدّ ، لكنّها لا تنال إلاّ ماء بقدرٍ .

وقد عدّعليه‌السلام عجز العقل هذا معرفة ؛ إذ بدأ بالمعرفة ، وختم بهذه المرحلة .

ـــــــــــــ

(١) شطر من الخطبة الأُولى في نهج البلاغة : ٣٩ ، خطبة يذكر فيا ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدمعليه‌السلام ، وفي غرر الحكم : ٨١ ، الحديث ١٢٨٠ ، الفصل الأوّل في معرفة الله تعالى ، في حقيقته تعالى ، ولكن ورد : (لا يدركه ، وبُعد الهمم لا يبلغه) .

(٢) نهج البلاغة : ٢٧٢ ، الخطبة ١٨٦ ، في التوحيد .

٢٧٧

في تحقيق معنى التوحيد

ومن كلامهعليه‌السلام في مجال التوحيد أيضاً قوله :

(بَانَ من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له ، والرجوع إليه من وصفه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله) (١) .

فنرى أنّهعليه‌السلام في كلامه هذا قد بنى نفيه للوحدة العدديّة عن الله تعالى على كونه تعالى أزليّاً ، بيان ذلك : أنّ الأزل هو الوجود غير المسبوق ، والوجود الذي هذا شأنه غير محدود بحدٍّ ، وليس معنى نفي الحدّ عنه أن يكون موجوداً في أزمنة غير متناهية سابقة ؛ إذ إنّ لازم وجوده في أزمنة سابقة غير متناهية هو انطباقه على الزمان ، ولازم الانطباق على الزمان كون الشيء حركة ، أو ذا حركة ، متغيّراً بتغيّرها ، متحوّلاً بتحوّلها ، تعالى الله عن ذلك لا ليس معناه ذلك ، وإنّما معنى نفي الحدّ عن الوجود غير المسبوق أنّ الشيء ذو حقّ من دون أي قيدٍ أو شرط ، أي ثابتاً على كلّ تقدير ، واقعٍ أو مفروضٍ ، لا يطرأ على ثبوته الحقّ تغيّر ولا تبدّل على الإطلاق والوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يكون في عرض وجوده موجود حقّ آخر ؛ إذ لو كان ، لكان لا بدّ من امتيازه عنه بحدّ فاصلٍ مميّز بينهما ، وهذا يعني أنّ الوجود الحقّ المطلق يصير مقيّداً .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٢١٠ ، الرقم ١٥٢ ، في صفات الله جلّ جلاله ، وصفات أئمّة الدين .

٢٧٨

فتكون النتيجة أنّ وجوده الحقّ غير متناه ، وكلّ موجود سواه باطل في نفسه ، أي لا يقوم إلاّ بالله سبحانه ، متناهٍ في ذاته ، مفتقر إليه فكلّ شيء غير الله يُفرض وجوده متّصفاً بأحد صفات الكمال ، كالوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة ونحوها ، لا بدّ وأن يكون خاضعاً له تعالى ، مفتقراً إليه ذليلاً لديه ؛ بسبب قيامه به تعالى ومحدوديّته التي تكشف عنها حدوده ، والله سبحانه هو القاهر له ؛ لكونه الحقّ المطلق ..

وهذا ما يرمي إليهعليه‌السلام بقوله :(بان من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له ، والرُّجوع إليه) .

ثمّ إنّه استنتج من ذلك ورتّب عليه نفي الصفات عنه تعالى ، فراجع عبارته المتقدّمة .

وقد قالعليه‌السلام في كلام آخر له في معنى الأزل :(واحد لا بعدد ، ودائم لا بأمدٍ ، وقائم لا بعَمَد) (١) ، فبيّنعليه‌السلام بهذا الكلام أنّ دوامه تعالى دوام غير زماني .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٦٩ ، باب التوحيد وفي التشبيه ، الحديث ٢٦ ، ولكن ورد : (واحدٌ لا من عدد) ، وفي نهج البلاغة : ٢٦٩ ، الخطبة ١٨٥ ، حمد الله تعالى ، فراجع ، ورواه الصدوق في العيون أيضاً : ١ / ١٢١ ، الحديث ١٥ ، باب ما جاء عن الرضا عليّ بن موسىعليه‌السلام ، من الأخبار في التوحيد ، ولكن ورد : (لا من عدد) .

٢٧٩

عدّة مسائل : فلسفية غامضة في كلام لهعليه‌السلام في التوحيد

ومن كلام لهعليه‌السلام في التوحيد :

(دليله آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تميّزه من خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفةٍ ، لا بينونة عزلةٍ إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق ، كلّ ما تصوّر فهو بخلافه) .

ثمّ قال بعد ذلك :

(ليس بإله مَن عُرف بنفسه ، هو الدالّ بالدليل عليه ، والمؤدّي بالمعرفة إليه) (١) .

ولعمري إنّ هذا الكلام ليدهش اللُّب ، ويبهر العقل ، ويتضمّن عدّة مسائل من الفلسفة الإلهيّة ، بأوجز بيان ، وأقوم برهان ..

منها : أنّ الواجب (تعالى) يمتنع أن يُعرَف بغيره ، بل هو الدليل على نفسه ، وعلى كلّ شيء ؛ إذ إنّ من الضروري أن تكون دلالة الدليل وتأدية المعرفة مستندة إليه تعالى ، وإلاّ لكان الدليل في خصوص دلالته ، والمعرفة في خصوص تأديتها ، مستقلّين عنه تعالى ـ تعالى الله عمّا يقوله الجاهلون ـ وهذا هو الذي يشير إليهعليه‌السلام بقوله :(الدالّ بالدليل عليه) .

ـــــــــــــ

(١) رواه الطبرسي في الاحتجاج : ١ / ٢٠١ ، احتجاجهعليه‌السلام فيما يتعلّق بتوحيد الله وتنزيهه ممّا لا يليق به ، ولكن ورد : (تمييزه من خلقه) ، بحار الأنوار : ٤ / ٢٥٣ ، الحديث ٧ ، تتمّة كتاب التوحيد ، أبواب أسمائه تعالى وحقائقها ، باب ٤ ـ جوامع التوحيد .

٢٨٠