الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 49990
تحميل: 5565

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49990 / تحميل: 5565
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

استعانة بالخارج عنه ، ويتمّم ويستكمل هذه الجهات بأفعال وانفعالات ذاتية طبيعيّة بجذب ودفع ، ويديم بها أمره حتّى ينتهي إلى البطلان ، ونظامه طبيعي غير متوسّط غيره في جريانه وإذا رجعت إلى الإنسان ، وجدت هذا النظام الطبيعي منه محفوفاً بمعانٍ ليس لها وجود في الخارج ، وهميّة باطلة ، لا يحسّ الإنسان إلاّ بها ، ولا يماسّ الأُمور الطبيعيّة إلاّ من وراء حجابها ، فالإنسان لا يريد ولا يروم في دائرة حياته إلاّ إيّاها ، ولا ينسج إلاّ بمنوالها ، لكنّ الواقع من الأمر حين ما يقع هو الأُمور الحقيقيّة الخارجيّة .

هذا حال الإنسان في نشأة المادة والطبيعة ، من التعلّق التامّ بمعانٍ وهميّة سرابيّة ، هي المتوسّطة بين ذاته الخالية عن الكمالات وبين الكمالات الطارئة اللاحقة بذاته .

الفصل الثاني : حياة الإنسان ظرف نفسه

قال الله سبحانه :( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (١) ، فأخبر سبحانه أنّه بعد إتمام ذات كلّ شيء ، هداه إلى كماله المختصّ به هداية يتفرّع على ذاته ، وهو اقتضاؤه الذاتي لكمالاته وإيّاه يفصل سبحانه بقوله :( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (٢) .

فهو سبحانه بعد خلق الشيء وتسويته قدَّر هناك تقديراً ، وذلك بتفصيل خصوصيّات وجوده ، كما قال :( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ) (٣) ، واتّبع هذا التقدير والتفصيل بهدايته إلى الخصوصيات التي قدّرها له ، وذلك بإفاضة الاقتضاء الذاتي منه لجميع ما يلزمه في وجوده ، ويتمّ به ذاته من كمالاته ، وهذا هو النظام الحقيقي الذي في كلّ واحد ، وفي المجموع من الموجودات ، ومنها الإنسان الذي هو أحدها .

ثمّ ذكر سبحانه الإنسان ، فقال :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ

ـــــــــــــ

(١) سورة طه : الآية ٥٠ .

(١) سورة الأعلى : الآيتان ٢ و٣ .

(١) سورة الإسراء : الآية ١٢ .

٤١

أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (١) ، فأخبر أنّه بعد تماميّة خلقه مردود إلى أسفل سافلين ، واسثتنى المؤمنين الصالحين ، حيث إنّه عقَّب بقوله :( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) .

والأجر بظاهره غير متحقّق في الدنيا بعد ؛ يدلّ على انقطاع الاستثناء ، وأنّهم مرفوعون بعد الردّ ، وقد قال سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٢) ، وقال سبحانه :( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (٣) ، وقال سبحانه :( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ) (٤) ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (٥) .

فحكم الردّ شامل لنوع الإنسان ، لا يشذّ عنه شاذّ منهم ، وقد قال سبحانه أيضاً :( اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٦) ، وعقبه تفسيراً بقوله :( فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (٧) ، وقال :( إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ) (٨) ؛

ـــــــــــــ

(١) سورة التين : الآيات ٤ ـ ٦ .

(٢) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٣) سورة مريم : الآيتان ٧١ و ٧٢ .

(٤) سورة المجادلة : الآية ١١ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ١٧٦ .

(٦) سورة البقرة : الآية ٣٦ .

(٧) سورة الأعراف : الآية ٢٥ .

(٨) سورة غافر : الآية ٣٩ .

٤٢

فبيّن أنّ الذي ردّ إليه الإنسان هو الحياة الدنيا ، وهو أسفل السافلين ، ثمّ وصف الحياة الدنيا فقال سبحانه :( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) (١) .

واللعب هو الفعل الذي لا غاية له إلاّ الخيال ، واللهو هو ما يشغلك بنفسه عن غيره ، فأشار إلى أنّ هذه الحياة ، وهي تعلّق النفس بالبدن وتوسيطه إيّاه في طريق كمالاته ، شاغلة له بنفسه عن غيره ؛ وذلك لأنّ ذلك يوجب أن تتوهّم الروح أنّها عين البدن لا غير ، وحينئذٍ ينقطع عن غير عالم الأجسام ، وينسى جميع ما كان عليه من الجمال والجلال والبهاء ، والسناء والنور ، والحبور والسرور ، قبل نشأة البدن المادية ، ولا يتذكّر ما خلفه من مقامات القرب ومراتب الزلفى والرفقة للطاهرين ، وفضاء الأُنس والقدس ، فيتقلّب في أمد حياته للَّعب ، لا يستقبل شيئاً ،ولا يواجهه شيءٌ من محبوب أو محذور ، إلاّ لغاية خياليّة وأمنية وهميّة ، إذا بلغها لم يجد شيئاً موجوداً قال سبحانه : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ) (٢) .

والعمل ما يعمله الإنسان من شيء ، وقال سبحانه :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٣) ، فبيّن أنّ أعمالهم وغاياتهم منها ، كالسراب بالقاع يقصده الضمآن ، فلمّا بلغه لم يجد ما قصده ، ووجد ما لم يقصده ، وينكشف حينها أنّ ما قصده كان غير مقصوده( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (٤) .

وهو الذي يشير إليه سبحانه بقوله : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ

ـــــــــــــ

(١) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآية ٣٦ .

(٢) سورة الفرقان : الآية ٢٣ .

(٣) سورة النور : الآية ٣٩ .

(٤) سورة يوسف : الآية ٢١ .

٤٣

أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ) (١) ؛ فإنّ الزينة هي الشيء الجميل المحبوب بنفسه وبذاته ، يصحبه شيء آخر ، ليكسب منه الحسن ، أي يقع في القلب مع وقوع الزينة ، فيجلب الرغبة فتكون هي المقصودة ، والمتزيّن بها هو الواقع ، فجعل ما على الأرض زينة لها ليقصدها القاصدون ويبلغوا الأرض بقصدهم ، وهي غير مقصودة ، وقال سبحانه : ( أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ) (٢) الآية .

فبيّن أنّها مؤلّفة من أمور خيالية تحتها أمور حقيقية ، فالإنسان بعد كمال خلقته يبدأ بتكميل جهات الحياة الدنيا بتحصيل مقصد بعد آخر ، وهو يريد تكميل ما يظنّه كمالاً من اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ، وليست إلاّ أُموراً وهميّة فإذا تمّمها وكمّلها ، بدا له بطلانها وفنائها عند موته ، ووداعه للحياة الدنيا .

ومن الممكن أن يكون قوله سبحانه في ذيل الآية :( وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (٣) الآية ، معطوفاً على قوله في صدر الآية : ( لَعِبٌ ) إلخ ، فيكون خبراً بعد خبر ، لقوله :( إِنَّمَا الحَيَاةُ ) إلخ ؛ ويؤيّد ذلك ـ بعض التأييد ـ الآية التالية لهذه الآية(٤) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الكهف : الآيتان ٧ و ٨ .

(٢) سورة الحديد : ٢٠ .

(٣) سورة الحديد : الآية ٢٠ .

(٤) وقد نقل عن شيخنا البهائي (رضوان الله عليه) في معنى الآية : أنّ هذه الأمور مترتّبة بحسب مدارج عمر الإنسان ، فهو يشتغل أوّلاً باللعب ، وذلك في أوان الصبا ، ثمّ باللهو ، وهو في أوان البلوغ ، ثمّ بالزينة ، وهو عند كمال الشباب ، ثمّ بالتفاخر ، وهو عند منتصف العمر ، ثمّ بالتكاثر في الأموال والأولاد ، وهو في أوان الشيخوخة ، فهي مقسومة على مدارج عُمر الإنسان) (منه قدس سره) .

٤٤

فتبيّن بذلك أنّ الحياة الدنيا بجهاتها المقصودة ، من اللعب واللهو والزينة وغير ذلك ، أمر موهوم ، وسراب خيالي ، وهي بعينها في الحقيقة وباطن الأمر عذاب ومغفرة ورضوان ؛ يظهر ذلك بظهور أنّ جهات الحياة الدنيويّة كانت باطلة موهومة كالحطام للنبات ، وهو قوله سبحانه :( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (١) .

فالآيتان كما ترى في الموت ، وما ينفصل الإنسان عن حياته الدنيا ، فيقول سبحانه فيها : إنّ الإنسان سيقبل راجعاً إليه سبحانه فرداً كما خُلق أوّل مرّة ، ويترك الأعضاء والقوى والأسباب التي كان يعتقدها لنفسه أركاناً يعتمد عليها ، وأعْضَاداً يتقوّى بها ، وأسباباً يتوصّل بها ويطمئنّ إليها ، وسيتقطع ما بين الإنسان وبينها ، أي الروابط التي كان الإنسان يسكن إليها ويباهي بها من اعتباراته الوهمية ، وحينئذٍ ذاك ضلال الكلّ ، وزوال الجميع ، وفقدانه ومشاهدته عياناً أنّه كان مغروراً بذلك كلّه ، وقد قال سبحانه :( فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) (٢) ، وقال سبحانه :( إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) (٣) ، وقال سبحانه :( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) .

والمتاع ما يتمتّع وينتفع به لغيره في الحياة الدنيا ، إنّما يتوصّل به لغرور الإنسان

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنعام : الآيتان ٩٣ و ٩٤ .

(٢) سورة لقمان : الآية ٣٣ .

(٣) سورة غافر : الآية ٣٩ .

(٤) سورة آل عمران : الآية ١٨٥ .

٤٥

بها ليلهو بها عن غيرها ، وهي كماله الأقصى في مبدئه ومعاده ، وقال سبحانه :( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ) (١) .

والأخبار في المعاني السابقة كثيرة جدّاً ، نقتصر منها بجملة من كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام قالعليه‌السلام في بعض خطبه على ما في النهج :(عباد الله ، إنّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين) ، إلى أن قال :(فمَن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات ، وارتبك في الهلكات ، ومدّت به شياطينه في طغيانه ، وزيّنت له سيِّئ أعماله فالجنّة غاية السابقين ، والنار غاية المفرّطين) ، إلى أن قال :(وكأنّ الصيحة قد أتتكم ، والساعة قد غشيتكم ، وبرزتم لفصل القضاء قد زاحت عنكم الأباطيل ، واضمحلَّت عنكم العلل ، واستحقّت بكم الحقائق ، وصدرت بكم الأمور مصادرها فاتّعظوا بالعبر ، واعتبروا بالغير ، وانتفعوا بالنذر) (٢) .

وقوله عليه السلام :( فمن شغل ) إشارة إلى قوله تعالى :( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٤) ، وقوله :( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآية ٢٤ .

(٢) نهج البلاغة : ٢٢١ ، الخطبة ١٥٧ ، يحثّ النّاس فيها على التقوى .

(٣) سورة المائدة : الآية ١٠٥ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ٣٩ .

٤٦

لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) (١) .

فالإنسان لا حياة له في غير ظرف نفسه ، ولا معاش له دون وعاء وجوده فإذا نسي نفسه ووقع في غيرها ، وقع في الضلال البحت والبوار ، وبطلت أعمال قواه ، فلا يعمل منه سمع ولا لسان ولا بصر ، فهو في الظلمات ليس بخارج منها ، وصار كلّ ما قصده سراباً ، وكلّ ما صنعه بائراً هالكاً فإذا برز إلى اليوم الحقّ ، برز صفر اليد خفيف العمل ، وقد زاحت عنه أباطيله ، واستحقّت حقائقه ، والله وليّ الأمر كلّه .

والكلام ذو شجون ، وإيثار الاختصار مانع عن الإطناب والتعرّض بأزيد من التلويح والإشارة ، على ما هو الدأب في هذه الرسالة وأخواتها من الرسائل السابقة ، فالحقّ سبحانه خيرُ دليل ، وهو الهادي إلى سواء السبيل(٢) .

الإنسان بعد الدُّنيا

العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ صباح الرُّبيعي

مكتبة فدك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أوليائه المقرّبين ، سيّما محمّد وآله الطاهرين .

ـــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : الآيتان ٣٦ و ٣٧ .

(٢) وقد ذكر المؤلّفقدس‌سره وقت الفراغ من كتابه هذه الرسالة ، قائلاً : (تمّت والحمد لله ، والصلاة على محمّد وآله ، رابع الربيع الأوّل من سنة واحد وستّين وثلثمئة وألف هجريّة قمريّة على هاجرها التحيّة ، ووقعت الكتابة في قرية شادآباد من أعمال بلدة تبريز) .

٤٧

هذه" رسالة في المعاد " نشرح فيها ـ بعون الله سبحانه ـ حال الإنسان بعد حياته الدنيا ، على ما يقوم عليه البرهان ، ويستخرج من الكتاب ، وتكشف عنه السُّنَّة غير أنّا آثرنا فيها الاختصار والاقتصار على كلّيات المعاني ، فإنّ المسلك الذي نستعمله من تفسير الآية بالآية ، والرواية بالرواية ، بعيد الغور ، منيع الحريم ، وسيع المنطقة ، لا يتيسّر استيفاء الحظّ منه في رسالة واحدة ، يقاس فيها النظير بالنظير ، والشبيه بالشبيه ، والأطراف بالنسب ، ويؤخذ بها الجار بالجار ، وستقف إن شاء الله العزيز على صحّة قولنا هذا .

ومن الإنصاف أن نعترف أنّ سلفنا ، من المفسّرين وشرّاح الأخبار ، أهملوا هذا المسلك في استنباط المعاني واستخراج المقاصد ، فلم يورثونا فيه ولا يسيراً من خطير ، فالهاجم إلى هذه الأهداف والغايات ، على صعوبة منالها ودقّة مسلكها ، كساع إلى الهيجاء بغير سلاح والله المستعان .

الفصل الأوّل : في الموت والأجل

قال الله سبحانه :( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (١) ، فبيّن أنّ كلّ موجود من السماء والأرض وما بينهما وجوده محدود بأجل ، سمّاه سبحانه ، أي قدره وعيَّنه ، لا يتعدّى وجودٌ عن أجله كما قال سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (٢) ، وقال سبحانه : ( مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) (٣) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .

وأَجَلُ الشيء ، هو : الوقت الذي ينتهي إليه فيستقرّ فيه ، ومنه أجَل الدين وتسميته .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأحقاف : الآية ٣ ، والآية ـ كما ترى ـ مثل نظائرها ، ساكتة عن ضرب الأجل لِمَا وراء السموات والأرض وما بينهما ممّا هو خارج عنها ، وليس في كلامه سبحانه ما يدلّ على ابتداء خلق هذا النوع إلاّ على فنائه وزواله ، بل ربّما يستفاد العكس من قوله : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (سورة الحجر : الآية ٢١) ، وقوله :( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) (سورة النحل : الآية ٩٦) ، بل نفس الآية ـ أعني قوله : ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ ... ) الآية ـ دالة على أنّ الحقّ والأجل المسمّى خارجان عن هذا الحكم ، وهما الواسطتان (منه قدس سره).

(٢) سورة الأعراف : الآية ٣٤ .

(٣) سورة المؤمنون : الآية ٤٣ .

٤٨

وبالجملة : هو الظرف الذي ينتهي إليه الشيء ؛ ولذلك عبّر عنه باليوم في قوله سبحانه :( قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ) (١) .

ثمّ إنّه قال سبحانه :( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (٢) ، فأخبر بأنّ الأجل المسمّى عنده ، وقد قال سبحانه :( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) (٣) ، فأخبر بأنّ ما هو موجود عنده حاضر لديه ، لا يتطرّقه النفاد ، ولا يلحقه تغيّر ، ولا يعرضه كون ولا فساد فلا يعتوره الزمان وطوارق الحدثان ، فالأجل المسمّى ظرف محفوظ ، ثابت يثبت فيه مظروفه من غير تغيّر ولا نفاد .

وقال سبحانه :( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ) (٤) ، فأخبر سبحانه بالأجل الذي لزينة الأرض ، وأنّه يتحقّق بالأمر الإلهي ، وكذلك الحياة الدنيا ، فهناك أمر إلهي يتحقَّق به الأجل الدنيوي فالأجل أجلان ، أو أجل واحد ذو وجهين : أجل زماني دنيوي ، وأمر إلهي ، كما يومي إليه قوله سبحانه :( ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (٥) .

فالأجل المسمّى من عالم الأمر ، وهو عنده سبحانه ، فلا حاجب هناك أصلاً ،

ـــــــــــــ

(١) سورة سبأ : الآية ٣٠ .

(٢) سورة الأنعام : الآية ٢ .

(٣) سورة النحل : الآية ٩٦ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ٢ .

٤٩

كما يفيد لفظ (عند) و(إيّاه) يفيد قوله سبحانه :( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) (١) ؛ ولذلك أيضاً عبّر عنه بالرجوع إلى الله ، والمصير إليه في آيات كثيرة .

ثمّ إنّ هذا الرجوع ، وهو الخروج عن نشأة الدنيا والورود في نشأة أُخرى ، هو الموت الذي وصفه سبحانه ، لا ما يتراءى لظاهر أعيننا من بطلان الحسّ والحركة وزوال الحياة ، وبالجملة فناء الشيء قال سبحانه :( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (٢) فوصفه بالحقّ فلا يكوننّ باطلاً وعدماً .

وقال سبحانه :( كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ ) (٣) ، إلى أن قال :( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) (٤) فيوم الموت يوم الرجوع إلى الله والسوق إليه .

ويدلّ على ما مرّ ما رواه الصدوق وغيره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(وما خُلقتم للفناء ، بل خُلقتم للبقاء ، وإنّما تنتقلون من دار إلى دار) (٥) .

وفي العلل عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث :(فهكذا الإنسان خُلق من شأن الدنيا وشأن الآخرة فإذا جمع الله بينهما ، صارت حياته في الأرض ؛ لأنّه نزل من شأن السماء إلى الدنيا فإذا فرّق الله بينهما ، صارت تلك الفِرقة الموت ، ترد شأن الأُخرى إلى السماء فالحياة في الأرض والموت في السماء ؛ وذلك أنّه يفرّق بين الروح والجسد ،

ـــــــــــــ

(١) سورة العنكبوت : الآية ٥ .

(٢) سورة ق : الآية ١٩ .

(٣) سورة القيامة : الآية ٢٦.

(٤) سورة القيامة : الآيتان ٢٩ و ٣٠ .

(٥) بحار الأنوار : ٦ / ٢٤٩ ، كتاب العدل والمعاد ، الباب ٨ ، الحديث ٨٧ .

٥٠

فردّت الروح والنور إلى القدس الأُولى ، وترك الجسد لأنّه من شأن الدنيا) (١) ـ الحديث .

وفي (المعاني) عن الحسن بن عليّ ، قال : دخل عليّ بن محمّد على مريض من أصحابه وهو يبكي ويَجْرَجُ من الموت ، فقال له :(يا عبد الله ، تخاف من الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتّسخت وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمام يزيل ذلك كلّه أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك ، أو تكره أن تدخل فيبقى ذلك عليك ؟) ، قال : بلى يا بن رسول الله ، قالعليه‌السلام :(فذلك الموت هو ذلك الحمّام ، وهو آخر ما يبقى عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيّئاتك فإذا أنت وردت عليه وجاورته ، فقد نجوت من كلّ غمّ وهمّ وأذى ، ووصلت إلى كلّ سرور وفرح) فسكن ذلك الرجل ونشط واستسلم وغمّض عين نفسه ومضى لسبيله(٢) .

وفي (المعاني) عن الجوادعليه‌السلام ، عن آبائه ، في حديث ، قال : وقال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) :(لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، نظر إليه مَن كان معه فإذا هو بخلافهم ؛ لأنّه كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين عليه‌السلام وبعض مَن معه من خصائصه ، تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم .

فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت .

فقال لهم الحسينعليه‌السلام : صبراً بني الكرم ، فما الموت إلاّ قنطرة يُعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟! وما هو لأعدائكم إلاّ كمَن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب .

إنّ أبي حدّثي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الدنيا سجنُ المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى

ـــــــــــــ

(١) علل الشرائع : ١ / ١٣٢ ، الباب ٩٦ ، الحديث ٥ ، وقد وردت كلمة (القدرة) بدل (القدس) .

(٢) معاني الأخبار : ٢٩٠ ، باب معنى الموت ، الحديث ٩ .

٥١

جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذب ولا كُذّبت) (١) .

وقال محمّد بن عليّعليهما‌السلام : (قيل لعليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ما الموت ؟ قال :للمؤمن : كنزع ثياب وسخة قَمِلَة ، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطئ المراكب ، وآنس المنازل ، وللكافر : كخلع ثياب فاخرة ، والنقل من منازل أنيسة ، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، أوحش المنازل ، وأعظم العذاب) (٢) .

وقيل لمحمّد بن عليعليهما‌السلام : ما الموت ؟ قال :(هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة ، إلاّ أنّه طويل مدّته ، لا يُنتبه منه إلاّ يوم القيامة فمَن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره ، ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره ، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه ، هذا هو الموت فاستعدّوا له) (٣) .

أقول : عدّعليه‌السلام الموت من نوع النوم مستفادٌ من قوله سبحانه :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ) (٤) ؛ حيث عدّ الأمرين جميعاً توفّياً ، ثمّ عبّر بالإمساك دون القبض .

وكذلك عدّهعليه‌السلام الموت ـ كما في سائر الأحاديث ـ وصفاً للروح ، وأنّه يترك به الجسد ويمضي لسبيله، هو المستفاد من قوله سبحانه :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) .

حيث نسب التوفّي ـ وهو أخذ الحقّ من المطلوب بتمامه ـ إلى الأنفس ، كما نسبه

ـــــــــــــ

(١) معاني الأخبار : ٢٨٨ ، باب معنى الموت ، الحديث ٣ .

(٢) المصدر المتقدّم : ٢٨٩ ، الحديث ٤ .

(٣) المصدر المتقدّم : الحديث ٥ .

(٤) سورة الزُّمر : الآية ٤٢ .

٥٢

في قوله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم ) (١) إلى لفظ (كم) ، وهو الأمر الذي يعبّر عنه الإنسان (بأنّا) ، وقد شرحناه في رسالة الإنسان قبل الدنيا(٢) .

وبالجملة ، فالوارد في النشأة الأُخرى من الإنسان ، نفسه وروحه ، وعليه يدلّ قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (٣) .

والكدح هو السعي إلى الشيء ، والإنسان كادح إلى ربّه لأنّه لم يزل سائراً إلى الله سبحانه منذ خلَقه وقدره ؛ ولذلك عبّر عن إقامته في هذه الدار باللبث في آيات كثيرة ، قال سبحانه : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) (٤) .

ثم إنّه سبحانه قال :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) فنسب التوفّي إلى نفسه .

وقال سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (٥) فنسبه إلى مَلك الموت .

وقال سبحانه :( حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) (٦) فنسبه إلى الملائكة الرُّسل ، ومرجع الجميع واحد ؛ لِمَا عرفت في محلّه أنّ الأفعال كلّها لله ، وهي مع ذلك ذات مراتب ، تقوم بكلّ مرتبة من مراتبها طائفة من الموجودات على حسب مراتبها في الوجود .

والأخبار أيضاً شاهدة بذلك ، ففي (التوحيد) عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(قيل لمَلك الموت : كيف تقبض الأرواح وبعضها في المغرب وبعضها في المشرق ، في ساعةٍ واحدة ؟ فقال : أدعوها فتجيبني) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنعام : الآية ٦٠ .

(٢) راجع الصفحة : ٢٥ .

(٣) سورة الانشقاق : الآية ٦ .

(٤) سورة المؤمنون : الآية ١١٢ .

(٥) سورة السجدة : الآية ١١ .

(٦) سورة الأنعام : الآية ٦١ .

٥٣

قال :(وقال مَلك الموت : إنّ الدنيا بين يديّ كالقصعة بين يدي أحدكم يتناول منها ما شاء ، والدنيا عندي كالدرهم في كفِّ أحدكم يقلّبه كيف شاء) (١) .

وفي (الفقيه) عن الصادقعليه‌السلام أنّه سئل عن قول الله عزّ وجلّ : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، وعن قول الله :( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ، وعن قول الله :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ) (٢) ،( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ) (٣) ، وعن قول الله :( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (٤) ، وعن قول الله :( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ ) (٥) ، وقد يموت في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلاّ الله عزّ وجلّ فكيف هذا ؟

فقال :(إنّ الله تبارك وتعالى جعل لمَلك الموت أعواناً من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة ، له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجهم ، فتوفّاهم الملائكة ويتوفّاهم مَلك الموت مع ما يقبض هو ، ويتوفّاه الله عزّ وجلّ من مَلك الموت) (٦) .

وفي (التوحيد) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام مثله ، وزاد في آخره :(وليس كلّ العلْم يستطيع صاحب العلْم أن يفسّره لكلّ النّاس ؛ لأنّ منهم القويّ والضعيفِ ؛ ولأنّ منه ما يطاق حمله ومنه لا يطاق حمله ، إلاّ مَن يُسهّل الله له حمله ، وأعانه عليه من خاصّة أوليائه وإنّما يكفيك أنْ تعلم أنّ الله المحيي المميت ، وأنّه يتوفّى الأنفس على يدي

ـــــــــــــ

(١) لم نعثر عليه في التوحيد ، راجع : مَن لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٠ ، باب ٢٣ غسل الميّت ، الحديث ١٢ .

(٢) سورة النحل : الآية ٢٨ .

(٣) سورة النحل : الآية ٣٢ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ٦١ .

(٥) سورة الأنفال : الآية ٥٠ .

(٦) مَن لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٢ ، الباب ٢٣ غسل الميّت ، الحديث ٢٦ .

٥٤

مَن يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم) (١) ـ الحديث .

أقول : قولهعليه‌السلام :(وغيرهم) ظاهره أنّه سبحانه ربّما توفّاها على يدي غير الملائكة من خلقه ، فهو معنى غريب ، ويمكن أن يراد به بعض المقرّبين من الأولياء العالين درجة من الملائكة ، المتمكّنين في مقام الأسماء كالقابض والمميت ، ويمكن أن يراد به ما يتوفّاه سبحانه بنفسه من غير توسّط الملائكة ، وإن كان مرجع المَعْنَيين واحداً .

فقد روى في (الكافي) عن الباقرعليه‌السلام : كان عليّ بن الحسينعليهما‌السلام يقول :(إنّه يسخى نفسي في ساعة الموت والقتل فينا قول الله : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (٢) ، وهو ذهاب العلماء) (٣) .

والظاهر ـ على ما ذكره بعض العلماء ـ أنّهعليه‌السلام أخذ الأطراف ( جمع طرف ، بتسكين الراء ) بمعنى العلماء والأشراف ، كما ذكره في (الغريبين) (٤) .

وبالجملة ، فكما أنّ حال الأنفس في القرب من الله سبحانه على مراتب حقيقيّة ، كذلك حال المتوفّى :

فمن نفسٍ يتوفّاها الله بنفسه تعالى ، لا تحسّ ولا تشعر بغيره سبحانه .

ومن نفسٍ يتوفّاها مَلك الموت ، لا تشعر بمَن دونه ، كما يشير إليه الصادقعليه‌السلام بقوله ـ في الرواية السابقة ـ :(مع ما يقبض هو) .

ومن نفسٍ تتوفّاها الملائكة عَمَلة مَلك الموت .

والمأخوذ (المتوفى) على كلّ حال هو النفس دون البدن كما مرِّ ، وهو سبحانه أقرب إلى النفس من نفسه وملائكته من عالم الأمر وبأمره يعملون ، والنفس أيضاً من هناك .

ولا حجاب في الأمر بشيء من الأزمنة والأمكنة ، فالتوفّي من باطن

ـــــــــــــ

(١) التوحيد : ٢٦٢ ، الباب ٣٦ ، الحديث ٥ .

(٢) سورة الرعد : الآية ٤١ .

(٣) الكافي : ١ / ٥٦ ، كتاب فضل العلم ، الباب ٧ ، الحديث ٦ ، وفيه : (فينا) بدل (فيها)).

(٤) تفسير الصافي : ٣ / ٧٦ .

٥٥

النفس وداخلها ، دون الخارج عنها وعن البدن ، وقد قال سبحانه :( إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) (١) ، وقال سبحانه :( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ) (٢) .

ثمّ إذا كانت النفس المتوفّاة ، وهي الإنسان ، حقيقة لا تبطل بالموت ، وقد سكنت في الدنيا وسكن إليها ، وعاش في دار الغرور واستأنست بها ، فأوّل ما ينكشف له حين الموت بطلان ما فيها ، وانمحاء الرسوم التي عليها ، وتبدّل الأعمال والغايات التي فيها بالسراب ، بتقطّع ظواهر الأسباب قال سبحانه : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (٣) .

فالإنسان إنّما يختلط في هذه الدار الدنيا بقسمين من موجوداتها وشؤونها :

أحدهما : ما يزعم أنّه يملكه من زينة الحياة الدنيا وزخرفها ، ويستعين به في آماله وأمانيه ، وأغراضه وغاياته .

والثاني : ما يرتبط به ممّا يزعمه شفيعاً ، لا يتمكّن من بلوغ المآرب إلاّ بشراكته وتأثيره ، من أزواج وأولاد وأقارب وأصدقاء ومعارف من أُولي القوّة والبأس .

فأشار سبحانه إلى بطلانهما بالجملة بقوله :( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ) الآية ، وإلى زوال القسم الأوّل بقوله : ( وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ ) الآية ، وإلى زوال القسم الثاني بقوله :( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ ) الآية ؛ وإلى سبب البطلان بقوله : ( لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) الآية ، وإلى نتيجته بقوله :( وَضَلَّ عَنكُم ) الآية .

ـــــــــــــ

(١) سورة سبأ : الآية ٥١ .

(٢) سورة الواقعة : الآيات ٨٣ ـ ٨٥ .

(٣) سورة الأنعام : الآيتان ٩٣ ـ ٩٤ .

٥٦

وبالجملة ، فيبقى ما في الدنيا في الدنيا ، وتشرع من حين الموت حياة أُخرى للإنسان فاقدة لجميع ما في الدنيا ؛ ولذلك سمّي الموت بالقيامة الصغرى ، فعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :(مَن مات فقد قامت قيامته) (١) .

ثمَّ إنّ النفس إذا فارقت الجسد ، فقدت صفة الاختيار والتقوى على كلا طرفي الفعل والترك ، وحينئذٍ يرتفع موضوع التكليف ، قال سبحانه :( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (٢) .

وعند ذلك يقع الإنسان في أحد الطريقين : السعادة والشقاوة ، ويُحتَّم له إمّا السعادة أو الشقاء ، فيتلقّى إمّا بشرى السعادة ، أو وعيد الشقاوة ، قال سبحانه :( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) (٣) الآية ، وقال سبحانه : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه :( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٠/٦٧ .

(٢) سورة الأنعام : الآية ١٥٨ .

(٣) سورة الأنعام : الآية ٩٣ .

(٤) سورة النحل : الآية ٣٢ .

(٥) سورة فصّلت : الآية ٣٠ .

٥٧

وقوله :( كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) مشعرٌ بكون البشارة بعد الدنيا ، وهي الآخرة ، ومن المعلوم أنّ البشارة بالشيء قبل حلوله ، فالبشرى بالجنّة قبل دخولها ، وهي إنّما تكون بأمر قطعي الوقوع ، فلا تتحقّق في الدنيا حتّى الموت ؛ لبقاء الاختيار ، وإمكان انتقال الإنسان من أحد سبيلي السعادة والشقاوة إلى الآخر .

ومن هنا ما ترى أنّه سبحانه في قوله : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) (١) حيث أثبت في حقّ المؤمنين أنّهم مأمونون من الخوف والحزن ، وأنّ لهم البشرى في الحياة الدنيا ، أثبت قبل ذلك الولاية في حقّهم ، وهي أن يكون سبحانه هو الذي يلي أُمورهم ، من غير دخالة اختيارهم وآنية أنفسهم في التدبير ، وعند ذلك تصحّ البشرى ؛ لعدم إمكان شقاء في حقّهم ما ولي أمرهم الحقّ سبحانه ؛ ولذلك غيّر السياق في وصف تقواهم ، فقال :( وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ... ) .

وكان حقّ ظاهر السياق أن يقول : (آمنوا واتّقوا) إشارة إلى أنّ إيمانهم هذا مكتسب بالتقوى بعد إيمان سابق عليه ، وهذا صفاء الإيمان من شائبة الشرك المعنوي بالاعتماد على غيره سبحانه ، فهو في مساق قوله سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٢) .

وهذا هو الذي امتنّ سبحانه به فسمّاه (نعمة) ، فقال :( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (٣) ، فأرجعوا الأمر إليه سبحانه ، وسلبوا تدبير أنفسهم واختيارها ، فقال سبحانه :

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآيات ٦٢ ـ ٦٤ .

(٢) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٧٣ .

٥٨

( فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) (١) .

فنفى مسّ السوء عنهم بنعمةٍ أفاضها عليهم ، وليست إلاّ الولاية بتولّيه سبحانه أُمورهم ، ودفعه السوء عنهم بتدبيره ، وكفايته لهم ، ووكالته عنهم ومثله قوله تعالى :( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ) (٢) فسمّى ذلك نعمة .

ثمَّ ذكر سبحانه أنّه سيلحق المطيعين بأوليائه المنعّمين بهذه النعمة ، فقال سبحانه : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ) (٣) ، فإنّ المطيع من حيث إرادته لا إرادة له غير إرادة المطاع ، فالمطاع هو القائم مقام نفس المطيع في إرادتها وأفعالها ، فالمطاع وليّه وكلّ مَن كان لا نفس له إلاّ نفس المطاع ، فهو أيضاً وليّ للمطيع ؛ إذ ليس هناك إلاّ المطاع ، ولذلك قرّر سبحانه بعض أوليائه المقرّبين وليّاً لآخرين ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٤) .

والآية منزّلة في أمير المؤمنينعليه‌السلام وليس المراد بالولاية في الآية هو المحبّة قطعاً ؛ لمكان ( إِنَّمَا ) ، وكون المورد مورد بيان الواقع ؛ لمكان قوله سبحانه :( وَلِيُّكُمُ اللّهُ ) ، بخلاف قوله :(وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٥) ، قوله تعالى :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ) (٦) .

وبالجملة ، فعند ذلك يتّضح وجه إلحاقه سبحانه المطيعين بأوليائهم ؛ فهو سبحانه وليّ الجميع ، وبعضهم ـ وهم الأقربون إليه ـ أولياء لبعض آخر ممّن دونهم ، وجميعهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، يُبشَّرون بالجنّة والرفقة الصالحة عند الموت .

ـــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٧٤ .

(٢) سورة إبراهيم : الآيتان ٢٧ و ٢٨ .

(٣) سورة النساء : الآية ٦٩ .

(٤) سورة المائدة : الآية ٥٥ .

(٥) سورة المائدة : الآية ٥٦ .

(٦) سورة التوبة : الآية ٧١ .

٥٩

ويدلّ أيضاً على هذه المعاني أخبار كثيرة ، ففي (الكافي) عن سدير الصيرفي قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا بن رسول الله ، هل يُكره المؤمن على قبض روحه ؟ قال :(لا والله ، إذا أتاه مَلك الموت لقبض روحه ، جزع عند ذلك ، فيقول له مَلك الموت : يا وليّ الله ، لا تجزع ! فوالذي بعث محمّداً ، لأنا أبرُّ بك وأشفق عليك من والد رحيم ، افتح عينيك فانظر قال : ويَمثُل له رسول الله ، وأمير المؤمنين ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، والأئمة من ذرّيتهم ، فقال له : هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة رفقاؤك ، فقال : فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحه منادٍ ارجعي إلى ربك راضية بالولاية ، مرضية بالثواب ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ، فما من شيء أحبُّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي) (١) .

وروى العياشي في تفسيره ، عن عبد الرحيم الأقصر ، قال أبو جعفرعليه‌السلام :(إنّما أحدكم حين يبلغ نفسه هاهنا فينزل عليه مَلك الموت ، فيقول : أمّا ما كنت ترجوه فقد أعطيته ، وأمّا ما كنت تخافه فقد أمنت منه ، ويُفتح له باب إلى منزله من الجنّة ، ويقال له : انظر إلى مسكنك في الجنّة ، وانظر إلى رسول الله وعليّ والحسن والحسين رفقائك ، وهو قول الله : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) (٢) ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٣ / ١٢٨ ، الباب ٨٣ ، الحديث ٢ .

(٢) سورة يونس : الآيتان ٦٣ و ٦٤ .

(٣) تفسير العيَّاشي : ٢ / ١٣٣ ، الحديث ٣٢ .

٦٠