الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 50034
تحميل: 5567

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50034 / تحميل: 5567
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وروى المفيد في مجالسه عن الأصبغ بن نباتة ، حديث الحارث الهمداني مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفيه قالعليه‌السلام :(وأبشِّرك ـ يا حارث ـ لتعرفني عند الممات ، وعن الصراط ، وعند الحوض ، وعند المقاسمة) ، قال الحارث : وما المقاسمة ؟ قال :(مقاسمة النار ، أُقاسمها قسمة صحيحة ، أقول هذا وليّي فاتركيه ، وهذا عدوّ فخذيه) (١) ـ الحديث .

وهو من مشاهير الأخبار(٢) ، رواه جمع من الرواة ، وصدَّقه بعض الأئمّة بعدهعليهم‌السلام .

وفي غيبة النعماني عن أمير المؤمنين ـ في حديث :(أمَا أنّه لا يموت عبد يحبّني فتخرج نفسه حتّى يراني حيث يحبّ ، ولا يموت عبد يبغضني فتخرج نفسه حتّى يراني حيث يكره) (٣) ـ الحديث .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(ما من أحد يحضره الموت إلاّ وكلّ به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ، ويشكّكه في دينه حتّى تخرج نفسه ، فمَن كان مؤمناً لم يقدر عليه فإذا حضرتم مَوْتَاكم ،فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، حتى يموت) (٤) ـ الحديث .

ومعناه مستفاد من قوله سبحانه :( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ ) (٥) ، وقوله سبحانه :( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ

ـــــــــــــ

(١) أمالي المفيد : ٦ .

(٢) وفي هذا المعنى بيت الشعر المنسوب لأمير المؤمنين مخاطباً الحارث الهمداني :

( يا جارَ هَمدانَ مَن يَمُت يَرَني

مِن مُؤمِنٍ أَو مُنافِقٍ قَبلا )

(٣) لم نعثر عليه في غيبة النعماني ، راجع بحار الأنوار : ٦ / ١٩١ ، كتاب العدل والمعاد ، الباب ٧ ، الحديث ٣٨ .

(٤) الكافي : ٣ / ١٢٤ ، الباب ٨٠ ، الحديث ٦ .

(٥) سورة إبراهيم : الآية ٢٧ .

٦١

إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (١) .

فظاهر الآية أنّ قوله :( اكْفُرْ ) ، وقوله :( إِنِّي بَرِيءٌ ) من جنس واحد ، ووقت واحد ، وليس من لسان الحال في شيء ، وهناك خطاب .

وفي تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(إنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن يساره ليصدّه عمّا هو عليه ، فيأبى الله ذلك ، وكذلك قال الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ) (٢) .

أقول : والروايات عن أئمة الهدى في هذه المعاني متظافرة متكاثرة ، رواها جمّ غفير من الرواة ، هذا كلّه ما يفيده الكتاب والسنّة ، والبرهان يفيده أيضاً ، ممّا يدلّ على تجرّد النفس وعدم انعدامها وبطلانها بانقطاع علاقتها عن البدن ، وسيجيء إشارة إليه في الفصل التالي إن شاء الله .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحشر : الآية ١٦ .

(٢) تفسير العياشي : ٢ / ٢٤٢ ، الحديث ١٦ .

٦٢

الفصل الثاني : في البرزخ

قد بُيّن في محلّه :

أنّ بين عالم الأجسام والجسمانيّات وبين أسمائه سبحانه عالمين :"عالم العقل" ، و"عالم المثال" .

وأنّ كلّ واحد من الموجودات يرجع بالضرورة إلى ما بدأ منه .

وأنّ [موجودات] العالم ـ آخذاً من الجسمانيّات إلى أن ينتهي إلى المبدأ الأوّل ومبدع الكلّ ـ مترتّبة في الكمال والنقص ، متطابقة في الوجود ، ومعنى ذلك تنزّل العالي إلى مرتبة السافل ، وظهوره كالمرآة تنعكس فيه صور ما يقابلها من الأضواء والألوان والمقادير ، فتظهر منها على قدر ما تقبله وتطيقه ، وتتكيّف بما في المرآة من الكيفيات تماماً ونقصاً .

وأنّ عالم المثال كالبرزخ بين العقل المجرّد والموجودات المادية ، فهو موجود مجرّد عن المادة ، غير مجرّد عن لوازمها ، من المقادير والأشكال والأعراض الفعليّة .

وبهذه المقدّمات يتبيّن تفصيل حال الإنسان في انتقاله من الدنيا إلى ما بعد الموت .

هذا ، وينبغي لك أن تثبت في تصوّر معنى المادة أنّها جوهر ، شأنُها قبول الآثار الجسميّة وتحقّقها في الأجسام ، مصحّحة الانفعالات التي ترد عليها ، وليست بجسم ولا محسوس وإيّاك أن تتصوّر أنّها الجسميّة التي في الموجودات الجسمانيّة ، فهذا هو الذي عزب عن جمع من علماء الظواهر ، فتلقّوا ما ذكر المتألّهون من أصحاب البرهان على غير وجهه ، وحسبوا أنّ قولنا : إنّ البرزخ لا مادة له مثلاً ، أو أنّ لذائذه خياليّة ، أو هناك لذّة عقليّة ، معناها أنّها وهمية سرابية غير موجودة في الخارج إلاّ في الوهم والتصوّر ، وذلك انحراف عن المقصود ، خاطئ من جهة المعنى .

وكيف كان ، فحال البرزخ ما عرفته ، والكتاب والسنة يدلاّن على ذلك ، لكن الأخبار حيث اشتملت على جُلِّ الآيات ، وضعنا الكلام فيها وتعرّضا للآيات التي تتحدّث عنها .

٦٣

ففي تفسير النعماني : بإسناده عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال :(وأمَّا الردّ على مَن أنكر الثواب والعقاب في الدنيا بعد الموت قبل القيامة ، بقول الله عزّ وجلّ : ( يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (١) ) (٢) ، يعني السماوات والأرض قبل القيامة ، فإذا كانت القيامة بدلت السماوات والأرض .

ومثل قوله تعالى :( مِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٣) ، وهو أمر بين أمرين : وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة .

ومثله قوله تعالى :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) (٤) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة هود : الآيات ١٠٥ ـ ١٠٨ .

(٢) راجع : تفسير القمّي : ١ / ٤٦ ، مقدّمة الكتاب .

(٣) سورة المؤمنون : الآية ١٠٠ .

(٤) سورة غافر : الآية ٤٦ .

٦٤

والغدو والعشي لا يكونان في القيامة التي هي دار الخلود ، وإنّما يكونان في الدنيا ، وقال الله تعالى في أهل الجنّة :( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (١) .

والبكرة والعشي إنّما يكونان من الليل والنهار في جنّة الحياة قبل يوم القيامة ، قال الله :( لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً ) (٢) .

ومثله قوله :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) (٣) الآية .

أقول : قوله سبحانه :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ) (٤) ، أُريد به نار الآخرة وأمّا المعرض عليها ، فهو في البرزخ ،؛ ودلّ على ذلك ذيل الآية ، وهو قوله سبحانه :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) (٥) .

وسيأتي نظير هذا التعبير في الروايات ، أنّه يفتح له إلى قبره باب من الحميم ، يدخل عليه منه اللهب والشرر ، فهناك نار مثال نار ، وعذاب مثال عذاب .

وقوله سبحانه :( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ ) (٦) ، أُريد به نار البرزخ .

وبما ذكر يتَّضح الجمع بين الكون في النار والمعرضون عليها .

ومثله قوله سبحانه :( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) (٧) ، فالسحب في الحميم ، وهو الماء الحارّ مقدّمة للإسجار في النّار ، وهو في القيامة ، وهذه المعاني مروية في تفسير العياشي أيضاً .

ـــــــــــــ

(١) سورة مريم : الآية ٦٢ .

(٢) سورة الإنسان : الآية ١٣ .

(٣) سورة آل عمران : الآيتان ١٦٩ و ١٧٠ .

(٤) سورة غافر : الآية ٤٦ .

(٥) سورة غافر : الآية ٤٦ .

(٦) سورة هود : الآية ١٠٦ .

(٧) سورة غافر : الآيتان ٧١ و ٧٢ .

٦٥

وروى القمّي(١) والعيّاشي(٢) في تفسيريهما ، والكليني في (الكافي)(٣) ، والمفيد في (الأمالي) (٤) بأسانيدهم عن سويد بن غفلة ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال :(إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا ، وأوّل يوم من أيّام الآخرة ، مثُلَ له أهله وماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله فيقول : والله! إنِّي كنت عليك لحريصاً شحيحاً ، فما لي عندك ؟ فيقول : خذ منّي كفنك .

ثمَّ يلتفت إلى ولْده فيقول : والله! إنّي كنت لكم لمحبّاً ، وإنّي كنت عليكم لمحامياً ، فماذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤدّيك إلى حفرتك ونواريك فيها .

ثمَّ يلتفت إلى عمله فيقول : والله! إنّي كنت فيك لزاهداً ، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً ، فماذا عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ويوم حشرك ، حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك ، فإن كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً ، وأحسنهم منظراً ، وأزينهم رياشاً ، فيقول : أبشر برَوح من الله وريحان ، وجنّة ونعيم ، قد قَدِمتَ خير مقدَم ، فيقول : مَن أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنّة .

وإنّه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يعجّله ، فإذا أُدخل قبره أتاه مَلكان ، وهما فتَّانا القبر ، يجرّان أشعارهما ، وينحتان الأرض بأنيابهما ، وأصواتهما كالرعد العاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيقولان له : من ربّك ، ومن نبيّك ، وما دينك ؟ فيقول : الله ربي ، ومحمد نبيِّي ، والإسلام ديني فيقولان له : ثبّتك الله فيما تحبّ وترضى ، وهو قول الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٥) الآية، فيفسحان له في قبره

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمي : ١ / ٣٩٩ .

(٢) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٤٤ ، الحديث ٢٠ .

(٣) (الكافي) : ٣ / ٢٢١ ، الباب ١٥٨ ، أنّ الميّت يمثّل له ، الحديث ١ .

(٤) لم نعثر عليه في أمالي المفيد ، راجع : أمالي الطوسي : ٣٤٧ المجلس الثاني عشر ، الحديث ٧١٩ وسائل الشيعة : ١٦ / ١٠٥ ، باب ١٠٠ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١ .

(٥) سورة إبراهيم : الآية ٢٧ .

٦٦

ومدّ بصره ، ويفتحان له باباً إلى الجنّة ويقولان : نم قرير العين نوم الشاب الناعم ، وهو قوله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) (١) ) .

قال :(وإن كان لربّه عدوّاً ، فإنّه يأتيه أقبح خلق الله رياشاً ، وأنتنه ريحاً ، فيقول له : ابشر بنُزِلٍ من حميم ، وتصلية جحيم وأنَّه ليعرف غاسله ، ويناشد حامله أن يحبسه فإذا دخل قبره ، أتياه ممتحنا القبر فألقيا عنه أكفانه ، ثمَّ قالا له : من ربّك ، ومن نبيّك ، وما دينك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان له : ما دريت ولا هديت ، فيضربانه بمرزبة ضربةً ما خلق الله دابةً إلاّ وتذعر بها ، ماخلا الثقلان ثمَّ يفتحان له باباً إلى النار ، ثمَّ يقولان له : نم بشرِّ حال .

فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزجّ ، حتّى إنّ دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه ، ويسلّط الله عليه حيّات الأرض وعقاربها وهوامها ، فتنتهشه حتى يبعثه الله من قبره وإنَّه ليتمنى قيام الساعة ممّا هو فيه من الشرّ) ـ الخبر .

أقول : قولهعليه‌السلام :(وهو قول الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ ) ) ، يشير إلى قوله سبحانه :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) (٢) .

فقد بيّن سبحانه أنّ من الكلمات ما هي ثابتة الأصل قارة ، تفيد آثارها في جميع الأحوال ، ووصفها بالطيِّب ، وقد ذكر في موضع آخر أنّها تصعد إليه ويرفعها العملُ الصالح حتى تصل إلى السماء ، فقال سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الفرقان : الآية ٢٤ .

(٢) سورة إبراهيم : الآيات ٢٤ ـ ٢٧ .

(٣) سورة فاطر : الآية ١٠ .

٦٧

ثمَّ بيّن الطريق إليها ، فقال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (١) .

ثمَّ بيّن سبحانه أنّ هذه الكلمة الطيبة ، الثابتة الأصل ، تثبّت الذين آمنوا بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة والقول يتّصف بالثبات وإفادته ؛ باعتبار الاعتقاد والنيّة ، ففي الآخرة مورد يثبت فيه الإنسان أو يضلّ بالقول الثابت وعدمه وإذ ليس هناك اختيار واستواء لطرفي السعادة والشقاوة ، فثباته وتثبيته إنّما هو بالسؤال ، وهو واضح عند التدبّر وقد أخبر سبحانه أنّ هذا القول الثابت والشجرة الطيّبة تؤتي أُكلها ومنافعها كلّ حين بإذن ربّها ، فالآية تدلّ على وقوع الانتفاع به في جميع الأحوال وكلّ المواقف ، ففي الجميع سؤال ، وفي الآية الشريفة مزايا معان أُخر .

ويمكن أن يستشمّ من تمسّكهعليه‌السلام بالآية ، أنّه جعل البرزخ من تتمّة الحياة الدنيا ، وهو كذلك بوجه .

وقولهعليه‌السلام :(وهو قوله : ( أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ... ) ) ، يشير إلى قوله سبحانه :( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) (٢) .

والآيات في البرزخ هي من أصرح الآيات فيه .

والمقيل هو النوم للقيلولة ومن المعلوم أن لا نوم في جنّة القيامة ، إلاّ أنّ البرزخ وإنْ لم يكن فيه شيء من منامات الدنيا ، لكنّه بالنسبة إلى القيامة نوم بالقياس إلى اليقظة ؛ ولذلك وصف سبحانه الناس بالقيام للساعة ، ولذلك وصفعليه‌السلام الحال بأنّه يفتح للميّت باب إلى الجنّة ويقال له :(نم قرير العين) ، أو باب إلى النّار ويقال له :(نم بشرّ حال) .

ـــــــــــــ

(١) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٢) سورة الفرقان : الآيات ٢١ ـ ٢٤ .

٦٨

وهذا المعنى كثير الورود في الأخبار ، فلم يصرّح خبر بوروده الجنّة ، بل الجميع ناطقة أنّه يفتح له باب إلى الجنّة ، ويرى منزله فيها ، ويدخل عليه منها الرَوح ، ويقال له : نم قرير العين ، نم نومة العروس ، وقد مرّ الحديث عن الباقرعليه‌السلام حيث سُئل : ما الموت ؟ فقال :(هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة ، إلاّ أنّه طويل مدّته ، لا يُتنبه منه إلاّ يوم القيامة) (١) .

فما البرزخ إلاّ مثال للقيامة ، وإليه التلميح اللطيف بقولهعليه‌السلام ـ كما في عدّة أخبار أُخر أيضاً ـ :(ثمَّ يُفسح له في قبره مدّ بصره ) .

فما المثال إلاّ القدر الذي يفهم من الممثَّل فما بعد مدّ البصر شيء ، وقوله سبحانه :( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى ... ) الآية ، يراد به أوّل يوم يرونهم ، هو بقرينة قولهم :( لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ) الآية ، وهو البرزخ ، وفيه البشرى واللاَّبُشرى .

واعلم أنّ الذي تُشعر به الآية هو : السؤال عن المؤمنين والظالمين وأمّا المستضعفون والمتوسّطون ، فمسكوت عنهم ، وهو الذي يتحصَّل من الروايات ، ففي (الكافي) : عن أبي بكر الحضرمي ، قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(لا يُسأل في القبر إلاّ من محضَ الإيمان محضاً ، أو محض الكفر محضاً ، والآخرون يُلهَون عنهم) (٢) .

أقول : والأخبار عنهمعليهم‌السلام في هذا المعنى مستفيضة متكاثرة .

وفي تفسير القمّي مسنداً عن ضريس الكناسي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّد من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ، ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال :(أمّا هؤلاء ، فإنّهم في حُفَرهم لا يخرجون منها ، فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة ، فإنّه يخدّ له

ـــــــــــــ

(١) راجع الصفحة : ٦٥ .

(٢) الكافي : ٣ / ٢٢٤ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ١ .

٦٩

خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الرَوح في حُفرته إلى يوم القيامة ، حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيّئاته ، فأمّا إلى الجنّة ، وأمّا إلى النار ، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله) ، قال :(وكذلك يُفعل بالمستضعفين ، والبُله ، والأطفال ، وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحِلْم) (١) الخبر .

أقول : يشرعليه‌السلام بقوله :(فهؤلاء الموقوفون) إلى قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٢) .

وبالجملة : فغير المستضعفين ومن يلحق بهم مسئولون ، ثمَّ منعّمون أو معذّبون بأعمالهم .

روى المفيد في (الأمالي) عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث ـ قال :(فإذا قبضه الله إليه ، صيّر تلك الروح إلى الجنّة في صورة كصورته في الدُّنيا ، فيأكلون ويشربون فإذا قدِم عليهم القادم ، عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا) (٣) .

وفي (الكافي) عن أبي ولاّد الحنّاط ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ؟ فقال :(لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم) (٤) .

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام :(أنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنّة تعارف وتساؤل ، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنّها أقبلت من هول عظيم ، ثمَّ يسألونها : ما فعل فلان وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّاً ، ارتجوه ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمي : ٢ / ٢٦٤ .

(٢) سورة التوبة : الآية ١٠٦ .

(٣) لم نعثر عليه في أمالي المفيد ، راجع : أمالي الطوسي : ٤١٨ ، المجلس ١٤ ، الحديث ٩٤٢ .

(٤) الكافي : ٣ / ٢٣١ ، الباب ١٦٢ ، الحديث ١ .

٧٠

وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا قد هوى ، هوى) (١) ـ الخبر .

وهذا المعنى وارد في أخبار كثيرة ، لكنّها بأجمعها في المؤمنين وأمّا حال الكافرين فسيأتي .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ، ويستر عنه ما يكره ، وإنَّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ، ويستر عنه ما يحب) (٢) .

وفيه أيضاً : عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(ما من مؤمن ولا كافر إلاّ وهو يأتي أهله عند زوال الشمس ، فإذا رأى أهله يعملون بالصالحات حمد الله على ذلك ، وإذا رأى الكافر أهله يعملون بالصالحات كانت عليه حسرة) (٣) .

وفيه أيضاً : عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّلعليه‌السلام ، قال : سألته عن الميّت يزور أهله ؟ قال :(نعم) فقلت : في كم يزور ؟ قال : (في الجمعة ، وفي الشهر ، وفي السَّنة ، على قدر منزلته) ، فقلت : في أيّة صورة يأتيهم ؟ قال :(في صورة طائر لطيف ، يسقط على جُدُرهم ويشرف عليهم فإذا رآهم بخير فرح ، وإن رآهم بشرّ وحاجة حزن واغتمّ) (٤) .

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة مرويّة وأمّا تصوّره بصورة الطائر ، فهو تمثّل .

ويمكن أن يستشعر هذا المعنى بقوله سبحانه :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٣ / ٢٣١ ، الباب ١٦٢ ، الحديث ٣ .

(٢) المصدر المتقدّم : ٢٢٠ ، الباب ١٥٧ ، الحديث ١ .

(٣) المصدر المتقدّم : الحديث ٢ .

(٤) المصدر المتقدّم : الحديث ٣ .

٧١

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

فالاستبشار تلقّي البشارة والفرح بها ، وقوله : ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ ) الآية ، بيان لقوله :( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ ) الآية .

فالآيات تفيد أنّهم يستبشرون ويفرحون بما يتلقُّون ممَّن خلفهم من النعمة والفضل ، وانتفاء الخوف والحزن عنهم ، وهو الولاية ، وأنّهم يعملون الصالحات ، واللهُ لا يضيع أجر المؤمنين ، فيحفظ حسناتهم ، ويعفو عنهم سيّئاتهم ، ويفيض عليهم بركاته ، فيرون منه ذلك كلّهن فافهم .

وقريب منه قوله سبحانه :( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

وفي (الكافي) عن أبي بصير ، عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث سؤال المَلكين ـ قال :(فإذا كان كافراً ، قالا : مَن هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم ؟ فيقول : لا أدري ، فيخليان بينه وبين الشيطان) (٣) ـ الخبر .

وروي هذا المعنى أيضاً في حديث آخر ، عن بشير الدهّان(٤) .

ورواه العيّاشي في تفسيره(٥) عن محمد بن مسلم ، عن الباقرعليه‌السلام ، وهو قوله سبحانه : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) إلى قوله تعالى:( حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآيات ١٦٩ ـ ١٧١,.

(٢) سورة التوبة : الآية ١٠٥ .

(٣) الكافي : ٣ / ٢٢٦ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ١٠ .

(٤) الكافي : ٣ / ٢٢٥ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ٧ .

(٥) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٤٤ ، الحديث ١٩ .

(٦) سورة الزخرف : الآيات ٣٦ ـ ٣٨ .

٧٢

واعلم أنّ البرزخ عالم أوسع من عالم الدنيا ؛ لكون المثال أوسع وأوسط من الجسم المادي ، وقد عرفت معنى المادة ، فالوارد من تفصيله بلسان الكتاب والسنّة كلّيات واردة في سبيل الأُنموذج دون الاستيفاء .

واعلم أنّ تعيين الأرض في الأخبار محلّلاً لجنّة البرزخ وناره ، ومجيء الأموات لزيارة أهليهم ، وغير ذلك ، منزَل على عدم انقطاع العُلقة المادية بكمالها ، وهو كذلك كما مرّ .

وقد ورد في أخبارٍ : أنّ جنّة البرزخ في وادي السلام(١) ، وأنّا نار البرزخ في وادي برهوت(٢) ، وأنّ صخرة بيت المقدس مجتمع الأرواح(٣) . وفي روايات أُخر : مشاهدة الأئمّة للأرواح في أمكنة مختلفة ، وروي ذلك في كرامات الصالحين بما هو فوق حدّ الحصر ، وكلّ ذلك أُمور جائزة تكشف عن علقة (لشرافة) مكان أو زمان أو حال .

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٣/٢٣٠ ، باب ١٦١ في أرواح المؤمنين ، الحديث ١ تهذيب الأحكام : ١/٤٧١ ، الباب ٢٣ في تلقين المحتضرين ، الحديث ١٥٢٥ .

(٢) بحار الأنوار : ٦/٢٨٧ ، وانظر الكافي : ٣/٢٣٣ ، الباب ١٦٣ في أرواح الكفّار ، الحديث ٣ .

(٣) تحف العقول : ١٧٣ ، جواب الإمام الحسينعليه‌السلام عن مسائل سأله عنها مَلِك الروم الفصول المهمّة في أُصول الأئمة : ٣٣٦١ ، الحديث ٤١٣ .

٧٣

الفصل الثالث: في نفخ الصُّورِ

قال سبحانه :( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) (١) ، وقال سبحانه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) (٢) .

وقد ورد في رواية عن السجّادعليه‌السلام :(أنّ النفخات ثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة الصعقة ، ونفخة الإحياء) (٣) ، ويمكن تنزيل ذلك إلى ما سيأتي من معنى قوله سبحانه : ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) (٤) الآية ، والله أعلم .

فالنفخة نفختان : نفخة للإماتة ونفخة للإحياء ، ولم يرد في كلامه سبحانه ما يمكن أن يفسّر به معنى الصُّور من حيث اللفظ وهو في اللغة : القَرْن(٥) ، وربّما كان يثقب وينفخ فيه .

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآية ٨٧ .

(٢) سورة الزمر : الآية ٦٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٦/٣١٨ .

(٤) سورة يس : الآية ٤٩ .

(٥) لسان العرب : ٤ / ٤٧٥ ، مادة صور .

٧٤

ولا ورد في النفخة الأُولى إلاّ الآيتان في سورة النمل والزُّمر ، إلاّ أنّه سبحانه عبّر عن معناه في مواضع أُخر بالصيحة وبالزجرة ـ وهي الصيحة ـ ، وبالصاخّة ـ وهي الصيحة الشديدة ـ ، وبالنقر قال سبحانه :( إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (١) ، وقال سبحانه :( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) (٢) ، وقال سبحانه : ( فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) (٣) الآيات ، وقال سبحانه :( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) (٤) ، وقال سبحانه : ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) (٥) .

فمن هنا يعلم أنّ مَثَل الصُّور مع نفختيه مثل ما يُصنع في العساكر المعدّة للحضور إلى غاية ، فينفخ في الصور مرّة : أن اسكتوا وتهيّؤا للحركة ، وينفخ ثانية : أن قوموا وارتحلوا واقصدوا غايتكم فالصور موجود حامل لصيحتين : صيحة مميتة وصيحة محيية ، (وهو ذان) لم نجد له تفسيراً وافياً من الكتاب ، إلاّ أنّه معبّر بلفظة فيه في اثني عشر مورداً أو أزيد ، فلا شكّ هو ذو معنى أصيل محفوظ.

وقد عبّر عنه بالنداء أيضاً ، ولا يكون النداء إلاّ ذا معنى مقصود ؛ ووصفهم سبحانه بسَمْع الصحية بالحقّ ، ولا يسمع إلاّ الموجود الحي ، وقد أخبر بصعقتهم ، فليس إلاّ أنّ اتّصافهم بالحياة .

ـــــــــــــ

(١) سورة يس : الآية ٥٣ .

(٢) سورة النازعات : الآيتان ١٣ و ١٤ .

(٣) سورة عبس : الآيتان ٣٣ و ٣٤ .

(٤) سورة المدّثر : الآيات ٨ ـ ١٠ .

(٥) سورة ق : الآيتان ٤١ و ٤٢ .

٧٥

والموجود عين استماعهم وسمعهم ؛ إذ إسماعهم للصيحة المحيية لهم بعد اتّصافهم بالحياة غير معقول ، فليس إلاّ كلمة إلهية يميتهم ويحييهم ، وقد قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

فالنفختان كلمتان إلهيّتان : كلمة مميتة وكلمة محيية ، لكنّه سبحانه لم يُعبّر بالموت ، وإنّما عبر بالصعقة ؛ ولعلّ ذلك لأنّ الموت يطلق على خروج الروح من البدن ، وقد شمل حكم النفخة من في السموات والأرض ، وفيها الملائكة والأرواح ، وفي قوله سبحانه في وصف أهل الجنّة :( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) (٢) تلميحٌ إلى ذلك .

نعم ، وقع في قوله سبحانه حكاية عن قول أهل النار :( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) (٣) ، لو لم تكن التثنية للتكرار أو لتغليب إطلاق الموت على صعقة النفخة ، ثمَّ إنّه سبحانه قال :( بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٤) .

فأفاد شمول حكم البرزخ على الجميع ، فالمراد بمَن في الأرض في آيتي الفزع والصعقة ، ليس مَن على ظهر الأرض ممّن هم في قيد الحياة الدنيا قبل البرزخ ، بل الذين قال فيهم سبحانه :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ* وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة غافر : الآية ٦٨ .

(٢) سورة الدخان : الآية ٥٦ .

(٣) سورة غافر : الآية ١١ .

(٤) سورة المؤمنون : الآية ١٠٠ .

(٥) سورة الروم : الآيتان ٥٥ و ٥٦ .

٧٦

وقال سبحانه :( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١) .

وقال سبحانه :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) (٢) ، إلى أن قال :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) (٣) ، فهؤلاء أهل الأرض وإن حلّوا البرزخ وأمّا من في السموات ، فهم الملائكة وأرواح السعداء ، وقد قال سبحانه :( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (٤) ، وقال : ( لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ ) (٥) ، وقال :( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٦) الآية، وقال :( أَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (٧) ، وقال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (٨) ، وقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٩) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة المؤمنون : الآيات ١١٢ ـ ١١٤ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٤٠ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

(٤) سورة الذاريات : الآية ٢٢ .

(٥) سورة سبأ : الآية ٣٠ .

(٦) سورة المائدة : الآية ٩ .

(٧) سورة الأنعام : الآية ٢ .

(٨) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٩) سورة المجادلة : الآية ١١ .

٧٧

وقال :( تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) (١) ، إلى غير ذلك من الآيات .

وعلى هذا فالآيات الدالّة على وقوع الصيحة على أهل الأرض، وفناء الدنيا وخرابها، مُنزَلة على انطواء نشأة الدنيا وانقراضها وأهلها ، كقوله تعالى : ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) ، وقوله سبحانه : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) (٣) ، وقال سبحانه :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ) (٤) .

فهناك صيحة ينطوي بها بساط الدنيا وينقرض أهلها ، ونفخ يموت به أهل البرزخ ، ونفخ تقوم به القيامة ويبعث به الناس .

نعم ، قوله سبحانه :( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٥) ، وقوله : ( أَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (٦) ، قد جمع الجميع تحت الأجل ، فلا موت حتف أنفساً أو قتلاً ، ولا بصيحة ولا بنفخ صور إلاّ بأجل .

وأمّا قوله سبحانه في آيتي النفخ :( إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) ، فالاستثناء الذي في قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) (٧)

ـــــــــــــ

(١) سورة المعارج : الآية ٤ .

(٢) سورة يس : الآيتان ٤٩ و ٥٠ .

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٨٥ .

(٤) سورة الرحمن : الآية ٢٦ .

(٥) سورة الأحقاف : الآية ٣ .

(٦) سورة الأنعام : الآية ٢ .

(٧) سورة النمل : الآية ٨٧ .

٧٨

فيفسّره ما بعده من الآيات ، وهي :( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

لكنّ الحسنة أُريدت بها المطْلَقة ؛ لمكان الأمن ، وقرينة مقابلتها بالسيّئة والإيعاد عليها ، فالمختلط عمله منهما لا يأمن الفزع ؛ لمكان السيّئة ، فالأمن من الفزع طيب ذاته وطيّب عمله من السيّئات ، وقد عدّ سبحانه سيّئات الأعمال خبائث ، فقال :( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) (٢) .

وقد عدّ من الرجس الكفر والنفاق والشرك، فقال :( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٤) ، وقال :( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (٥) .

وعدّ من الشرك بعض مراتب الإيمان، فقال :( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (٦) .

فطيب الذات من الشرك : أن لا يؤمن بغيره سبحانه ، ولا يطمئنّ إلاّ إليه ، أي لا يرى له سبحانه شريكاً في وجوده وأوصافه وأفعاله ، وهو الولاية ، وإليه يرجع معنى قوله

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآيتان ٨٩ و ٩٠ .

(٢) سورة الأنفال : الآية ٣٧ .

(٣) سورة النور : الآية ٢٦ .

(٤) سورة التوبة : الآية ١٢٥ .

(٥) سورة التوبة : الآية ٢٨ .

(٦) سورة يوسف : الآية ١٠٦ .

٧٩

سبحانه : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ) (١) ، أي من حيث الذات بالولاية :( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) (٢) ، والسلام هو الأمن .

فقد ظهر بما وجّهنا به معنى الآية : أنّ الحسنة فيها هي الولاية وبه يُشعر قوله سبحانه :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (٣) .

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ) (٤) ، قالعليه‌السلام : (الحسنة ـ والله ـ ولاية أمير المؤمنين ، والسيّئة ـ والله ـ اتّباع أعدائه) (٥) .

وفي (الكافي) عن الصادق ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنينعليهم‌السلام ، قالعليه‌السلام :(الحسنة معرفة الولاية وحبّنا أهل البيت ، والسيّئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت) ، ثمَّ قرأ الآية(٦) ـ الحديث .

وبما مرّ من البيان يتبيّن الحال في الآية الأُخرى ، وهي قوله سبحانه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) (٧) .

فظاهر الآية أنّ الذين صُعقوا من النفخة هم الذين قاموا لله يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، وهم المحضَرون ؛ لقوله سبحانه :( إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (٨) .

ـــــــــــــ

(١) و (٢) سورة النحل : الآية ٣٢ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٢٣ .

(٤) سورة القصص : الآية ٨٤ .

(٥) تفسير القمّي : ٢ / ١٣٢ .

(٦) الكافي : ١ / ٢٠٧ ، الباب ٦٤ ، الحديث ١٤ .

(٧) سورة الزُّمر : الآية ٦٨ .

(٨) سورة يس : الآية ٥٣ .

٨٠